شغلت عوالم الحيوانات والطيور الكتاب والشعراء والفنانين على مر التاريخ، وتعددت دلالاتها ورموزها على مختلف المستويات الفنية والإنسانية، وفي سياقات من «الفانتازيا» تستدعي تراث الأساطير والخرافة، رابطة إياه بما يحدث في عالمنا الراهن.
«الشرق الأوسط» تستطلع في هذا التحقيق آراء عدد من الكتاب شكلت هذه الرمزية دلالة مركزية في أعمالهم.
*الروائي أحمد الفخراني: «بدائل لعالم مأزوم»
لا توجد أعمال كثيرة في الأدب العربي المعاصر استخدمت الحيوان بشكل مركزي على حد علمي، ولكن مؤخراً قرأت العمل الأدبي المذهل «بنات آوى والحروف المفقودة» لهيثم الورداني، وهو يعتمد على كتاب «كليلة ودمنة» لعبد الله بن المقفع، ليذكرنا في الأساس بأن الأدب الذي يعتمد على الحيوان شيء أصيل في ثقافتنا العربية، ومن أهمها أيضاً كتاب «الحيوان» للجاحظ، الذي يتجاوز فكرة المقفع الذي يستخدم الحيوان إنساناً يجري على لسانه الحكمة المفقودة في أزمنة الصمت والاستبداد، فيقدم الجاحظ الإنسان نفسه بوصفه حيواناً، يمكن له أن يتناص في أجزاء كثيرة من سلوكه، على الأقل الجانب المبدئي منها والمتعلق بالغرائز والصفات مع سلوك وصفات بعض الحيوانات. الفكرة الفلسفية المهمة هنا أنه لا فرار من تلك الطبيعة، وغاية ما يملكه الإنسان هو ترشيد تلك الطبيعة والسيطرة عليها لا كبتها، فمن يستطيع أن يكبت طبيعة الافتراس عند الذئب مثلاً؟
في روايتي «إخضاع الكلب»، كنت منشغلاً بتلك العلاقة التي لكي تستقيم عليها أن تكون بين سيد صِرف وعبد صِرف، لكنها تُغلف بالحب والعاطفة، فماذا لو كانت الشخصية الروائية ترى في هذا الإخضاع الكامل وسيلتها الوحيدة للسيطرة على واقعها المأزوم، وعلى فشلها، وتجعل من الكلب نفسه محل إسقاط لقصته الشخصية وهزائمه؟ ماذا لو فشلت تلك الشخصية في ترويض كلبها، فتعقد واقعه أكثر، لأن رغبته هي الطاعة الكاملة غير المشروطة، مما ساعدني في نقل الصراعات الداخلية بين الأنا والأنا العليا، وانقساماتها بين الحب والكراهية، الشفقة والقسوة؟ لكن الأهم أن الكلب يُجبر بطل الرواية على النظر إلى داخله المُعقد، وألا يشيح النظر واختلاق قصة هروب من نفسه وذاكرته.
*الروائي محمد أبو زيد: مكون أساسي للخيال
منذ عرف الإنسان الخيال، استخدم الحيوان أداة للسرد، في بعض الأحيان لم يكتفِ بالحكايات عما يعرفه من حيوانات استأنسها ورسمها على جدران المعابد والكهوف، فاختلق حيوانات جديدة، مثل الغول والعنقاء والحية ذات الـ3 رؤوس، والآلهة التي تحمل رؤوس حيوانات، ومن هنا بدأ معظم الأساطير.
الحيوان يحضر منذ طفولة الحضارة، ومنذ تعلم الإنسان الحكي، وتعلم الإنصات في طفولته إلى عالم السرد السحري في حكايا الجدات والأمهات. كما يحضر الحيوان في القص القرآني بشكل كبير، فهناك كلب أهل الكهف، وناقة صالح، وحمار العزير، ونملة سليمان، وبقرة آل إسرائيل، بالإضافة إلى سفينة نوح التي ملأها بكل زوجين اثنين من الحيوانات.
حضر الحيوان في البداية كقناع ببعض الأحيان كما في حكايات «كليلة ودمنة»، وقصص الحكيم إيسوب، أو للتسلية في بعض حكايات «ألف ليلة وليلة»، لكنه أصبح يحمل أبعاداً فلسفية وسياسية في العصر الحديث، مثل «المسخ» لدى كافكا، أو «مزرعة الحيوان» لدى جورج أورويل، و«دون كيخوته» لدى ثربانتس.
لقد استفدت من هذا الحضور الطاغي للحيوان، في الثقافة الإنسانية، وإن كان يستوقفني دائماً الحضور الكبير له في الحضارة الفرعونية، بوصفه جزءاً من حياتهم، فالمصريون القدماء هم أول من استأنس القطط على سبيل المثال، وكانوا يرون أن الرفق بالحيوانات واجب مقدس. ويمكنني أن أقول إن بطل روايتي «ملحمة رأس الكلب» استلهام للإله «أنوبيس»، إله الموتى عند الفراعنة، والذي يُصوّر على شكل إنسان برأس ابن آوى، وهو مرشد للأرواح في الحياة الآخرة، كما يحضر فعاليات الميزان، التي يتم خلالها «وزن القلب»، وتحديد ما إذا كان سيتم السماح للروح بإكمال الرحلة، أم لا.
رحلة «رأس الكلب» في الرواية ما بين عالمين، وهي أشبه بما يقوم به أنوبيس، ومن هنا يمكن إعادة النظر إلى رحلته مع «دو» بطلة الرواية، والقول إنه ساعدها بأن تنتقل من حياتها القديمة، إلى أن تجد ذاتها، وتعرف طريقها عن طريق الحب.
القطة أيضاً مكون أساسي في الثقافة الشعبية المصرية، وكانت مقدسة لدى الفراعنة، وحضورها في الرواية كان استلهاماً لهذا البعد الشعبي والتاريخي، وفي الأمثال «للقط 7 أرواح»، تغادرها واحدة تلو الأخرى، وهو ما حدث في الرواية. وبالنسبة لي، الحيوان مُكون أساسي للخيال، ليس بوصفه قناعاً، بل بوصفه عالماً حقيقياً قائماً بذاته، يثير دهشتي على الدوام. ورغم كل ما كتب عنه، فهو لم يُكتشف بعد.
*القاص أحمد عبد المنعم رمضان: «الغابة ومتاهتها»
منذ طفولتي المبكرة اعتاد والداي أن يصطحباني سنوياً إلى معرض الكتاب، وكانت بمثابة رحلة بالنسبة لي، ومن ضمن طقوسها المرور على جناح دار «الفتى العربي» التي أغلقت أبوابها قبل أكثر من 20 عاماً، أو «دار المعارف»، أو جناح «ليدي بيرد» للكتب الإنجليزية، وكانت الحيوانات تسيطر بشكل كبير على أغلفة القصص وكتب التلوين ومتنها في هذه الدور، أذكر «الوزة البيضاء» للفنان التشكيلي عدلي رزق الله، و«ما حدث لدجاجة لا تفكر» للقاص السوري زكريا تامر، كما أذكر قصة أخرى له عن ذئب يقلد صوت القطط. تزامن هذا مع مشاهداتي لسلاحف النينجا وأفلام الديناصورات وكارتون بعنوان «الفيل بابار» عن أساليب الحكم والديمقراطية في مملكة الأفيال! ولذا كوّنت الحيوانات جزءاً مبكراً من مخيلتي، ولكنها في أغلب الأحيان حيوانات تخرج بشكل ما عن طبيعتها، لتصبح كائناً مختلفاً وجديداً؛ مثل فيل ديمقراطي وذئب يقلد صوت القطط وسلاحف تحارب الشر.
ستتوالى قراءاتي وسيصبح زكريا تامر من كتابي القصصيين المفضلين، سأقرأ له «صهيل الجواد الأبيض» ضمن قصص أخرى، سأقرأ لمحمد المخزنجى وكافكا وجورج أورويل. جميعهم لعبوا مع الحيوانات، أما همنغواى فطاردها واصطادها، سأقرأ لجون شتاينبك أيضاً، سيبهرني وسأنتبه لوجود الحيوانات الدائم في رواياته، ليس فقط في «فئران ورجال»، ولكن في «عناقيد الغضب»، وفي «البحث عن إله مجهول»، بل حتى في خطاب تسلمه جائزة نوبل.
لا أعلم بمن تأثرت، ربما بهم جميعاً، وبآخرين لا أذكرهم، وبحيوانات بشرية صادفتها هنا أو هناك، ولكني في كل الأحوال أدعي أن مشاهداتي الطفولية وقراءاتي المبكرة كانت أعمق أثراً في نفسي من كل هذا رغم بساطتها، أو ربما بسببها.
لم أخطط للكتابة عن الحيوانات أو لاستخدامها في مؤلفاتي، تسللت القطط والأسود والببغاوات والقردة إلى قصصي على مر السنين دون ترتيب مسبق. وذات يوم تأملت كتاباتي ولاحظت الوجود البارز للحيوانات فيها، شعرت وأنا أنظر إلى قصصي بأنني تائه في قلب غابة، أبحث عن معانٍ لحياتي ووجودي بينما تحيط بي الحيوانات، أو بشر يتصرفون بوحشية وقسوة أكثر من الحيوانات، وهنا تشكل في خيالي هيكل لمجموعة قصصية تضم هذه في قسمين: «حيوانات المدينة»، و«تائه في الغابة».
أعتقد أن الحيوانات في تلك المجموعة لا تشبه في رمزيتها أو استخدامها «كليلة ودمنة»، ولا «حيوانات أيامنا» للمخزنجي، أو «مزرعة الحيوان» لأورويل، فالحيوانات هنا تتصرف بغرابة أحياناً، لا تشبه خيالنا عنها، لها سمات وخصائص مختلفة، الببغاء يتوقف عن الكلام والخنزير يتمتع باستنشاق الروائح الجميلة والقردة تجلس على المقاهي، هذه الكتابة التي تصنف كتابة خيالية هي أكثر واقعية مما تبدو، حيث تعطيني مساحة واسعة للنظر إلى العالم بعيون مفتوحة وقادرة على رؤية الأشياء على حقيقتها، أو ما أظنه ذلك، ولكن هذا لا يمنع أننا، أنا والراوي، لا نزال تائهين في هذه الغابة.
*الناقد د. سيد ضيف الله: «فواعل سردية»
الحيوانات والطيور كانت فواعل سردية مهمة في الموروث الديني على اختلاف الأديان، ولعل أشهر الأدوار السردية التي لعبها حيوان كان دور بقرة بني إسرائيل، بحسب الرواية القرآنية وتفاسيرها التي تجعل للبقرة دوراً بعد ذبحها في إثبات نبوة نبي من ناحية ـ وفي الكشف - من ناحية ثانية - عن قاتل مجهول بطريقة إعجازية؛ لا أظن أن سرداً بشرياً حديثاً حاول تقديمها ولو على سبيل «الفانتازيا»، وهي طريقة إحياء الميت للإخبار عن قاتله. إضافة للبقرة، نجد اليمام في الأثر بطلاً في حكاية حماية النبي محمد صلى الله عليه وسلك من أعدائه المتتبعين له، ونجد الناقة حكماً بين فريقين من المسلمين يتنازعان لتحديد مكان النبي في المدينة باعتباره ضيفاً، فتحدد الناقة المكان (المسجد) باعتباره نواة الدولة الناشئة (الخلافة الإسلامية).
ومن ثم، استند توظيف الحيوان في الموروث الديني على إيمان المتلقين بقدرة إلهية على توجيه الحيوان والطير والجماد، باعتبارها كائنات مأمورة ومسخرة لا إرادة مستقلة لها ولا عقل مكلفاً بالاختيار وتحمل المسؤولية عن تصرفاتها مثلما حال الإنسان. أظن أن دور الطير والحيوان في هذا السياق كان داعماً للبطل، وهو غالباً البطل النبي، أو البطل المؤمن في مواجهة فريق الكافرين أو الظالمين. ويصعب أن نجد في هذا السياق تمثيلاً لحيوان بوصفه كائناً شريراً، لأن الاختيار بين الشر والخير ليس من صفات الحيوانات والطير في الموروث الديني. فأدوار الشر تؤديها الحيوانات طاعة لله في هذه المتخيلات السردية الجمعية.
في عصرنا الحديث... صارت ثنائية الشر والخير التي تتصارع داخل النفس البشرية هي ما طبقها المبدعون على عالم الحيوان والطير لتمثيل الواقع الإنساني
أما في عصرنا الحديث، فقد صارت ثنائية الشر والخير التي تميز بين البشر، وتتصارع داخل النفس البشرية الواحدة، هي ما طبقها المبدعون على عالم الحيوان والطير لتمثيل الواقع الإنساني عبر الإسقاط، وباستخدام الأمثولة مثلما فعل ابن المقفع في «كليلة ودمنة»، وجورج أورويل في «مزرعة الحيوانات». وهذه النماذج كاشفة عن نموذج لمبدع يتخفى من مواجهة الحاكم ويُسرب رأيه انتصاراً للعدل والحرية، وهي القيم العابرة للأوطان، وقد أعاد أورويل توظيف الحيوانات انتصاراً لهم أيضاً. والمدهش أننا نكاد لا نعثر على توظيف للحيوانات لتمثيل الصراعات الحضارية في العالم القديم؛ حيث الصراع بين الإمبراطوريات على أساس عقائدي أو حضاري. وفي عصرنا الحديث، عُدّ أن محمد المخزنجي في كتابه الممتع «حيوانات أيامنا» قد أبدع في إعادة توظيف ثنائية الخير والشر وتمثيل عالم الحيوانات على أساسها، ليُسرب رؤيته للصراع بين الحضارات الإنسانية في العصر الحديث، كما نجد إبراهيم الكوني في روايته «ناقة الله» يجسد الهوية الوطنية من موقع الطوارق الذين هجّروا في الستينات بالكشف عن عمق العلاقة بين الناقة والراعي والوطن. إن سقوط السرديات الكبرى ومنها سردية الوطن لدى كثير من المبدعين، أدخلنا نفق الاغتراب وانتهاج الغرائبية للتعبير عن أزمة الإنسان، وكذلك توظيف محمد أبو زيد في «ملحمة رأس الكلب» للحيوان بعقد تصالح بين واقعه والأسطورة.
«الشرق الأوسط» تستطلع في هذا التحقيق آراء عدد من الكتاب شكلت هذه الرمزية دلالة مركزية في أعمالهم.
*الروائي أحمد الفخراني: «بدائل لعالم مأزوم»
لا توجد أعمال كثيرة في الأدب العربي المعاصر استخدمت الحيوان بشكل مركزي على حد علمي، ولكن مؤخراً قرأت العمل الأدبي المذهل «بنات آوى والحروف المفقودة» لهيثم الورداني، وهو يعتمد على كتاب «كليلة ودمنة» لعبد الله بن المقفع، ليذكرنا في الأساس بأن الأدب الذي يعتمد على الحيوان شيء أصيل في ثقافتنا العربية، ومن أهمها أيضاً كتاب «الحيوان» للجاحظ، الذي يتجاوز فكرة المقفع الذي يستخدم الحيوان إنساناً يجري على لسانه الحكمة المفقودة في أزمنة الصمت والاستبداد، فيقدم الجاحظ الإنسان نفسه بوصفه حيواناً، يمكن له أن يتناص في أجزاء كثيرة من سلوكه، على الأقل الجانب المبدئي منها والمتعلق بالغرائز والصفات مع سلوك وصفات بعض الحيوانات. الفكرة الفلسفية المهمة هنا أنه لا فرار من تلك الطبيعة، وغاية ما يملكه الإنسان هو ترشيد تلك الطبيعة والسيطرة عليها لا كبتها، فمن يستطيع أن يكبت طبيعة الافتراس عند الذئب مثلاً؟
في روايتي «إخضاع الكلب»، كنت منشغلاً بتلك العلاقة التي لكي تستقيم عليها أن تكون بين سيد صِرف وعبد صِرف، لكنها تُغلف بالحب والعاطفة، فماذا لو كانت الشخصية الروائية ترى في هذا الإخضاع الكامل وسيلتها الوحيدة للسيطرة على واقعها المأزوم، وعلى فشلها، وتجعل من الكلب نفسه محل إسقاط لقصته الشخصية وهزائمه؟ ماذا لو فشلت تلك الشخصية في ترويض كلبها، فتعقد واقعه أكثر، لأن رغبته هي الطاعة الكاملة غير المشروطة، مما ساعدني في نقل الصراعات الداخلية بين الأنا والأنا العليا، وانقساماتها بين الحب والكراهية، الشفقة والقسوة؟ لكن الأهم أن الكلب يُجبر بطل الرواية على النظر إلى داخله المُعقد، وألا يشيح النظر واختلاق قصة هروب من نفسه وذاكرته.
*الروائي محمد أبو زيد: مكون أساسي للخيال
منذ عرف الإنسان الخيال، استخدم الحيوان أداة للسرد، في بعض الأحيان لم يكتفِ بالحكايات عما يعرفه من حيوانات استأنسها ورسمها على جدران المعابد والكهوف، فاختلق حيوانات جديدة، مثل الغول والعنقاء والحية ذات الـ3 رؤوس، والآلهة التي تحمل رؤوس حيوانات، ومن هنا بدأ معظم الأساطير.
الحيوان يحضر منذ طفولة الحضارة، ومنذ تعلم الإنسان الحكي، وتعلم الإنصات في طفولته إلى عالم السرد السحري في حكايا الجدات والأمهات. كما يحضر الحيوان في القص القرآني بشكل كبير، فهناك كلب أهل الكهف، وناقة صالح، وحمار العزير، ونملة سليمان، وبقرة آل إسرائيل، بالإضافة إلى سفينة نوح التي ملأها بكل زوجين اثنين من الحيوانات.
حضر الحيوان في البداية كقناع ببعض الأحيان كما في حكايات «كليلة ودمنة»، وقصص الحكيم إيسوب، أو للتسلية في بعض حكايات «ألف ليلة وليلة»، لكنه أصبح يحمل أبعاداً فلسفية وسياسية في العصر الحديث، مثل «المسخ» لدى كافكا، أو «مزرعة الحيوان» لدى جورج أورويل، و«دون كيخوته» لدى ثربانتس.
لقد استفدت من هذا الحضور الطاغي للحيوان، في الثقافة الإنسانية، وإن كان يستوقفني دائماً الحضور الكبير له في الحضارة الفرعونية، بوصفه جزءاً من حياتهم، فالمصريون القدماء هم أول من استأنس القطط على سبيل المثال، وكانوا يرون أن الرفق بالحيوانات واجب مقدس. ويمكنني أن أقول إن بطل روايتي «ملحمة رأس الكلب» استلهام للإله «أنوبيس»، إله الموتى عند الفراعنة، والذي يُصوّر على شكل إنسان برأس ابن آوى، وهو مرشد للأرواح في الحياة الآخرة، كما يحضر فعاليات الميزان، التي يتم خلالها «وزن القلب»، وتحديد ما إذا كان سيتم السماح للروح بإكمال الرحلة، أم لا.
رحلة «رأس الكلب» في الرواية ما بين عالمين، وهي أشبه بما يقوم به أنوبيس، ومن هنا يمكن إعادة النظر إلى رحلته مع «دو» بطلة الرواية، والقول إنه ساعدها بأن تنتقل من حياتها القديمة، إلى أن تجد ذاتها، وتعرف طريقها عن طريق الحب.
القطة أيضاً مكون أساسي في الثقافة الشعبية المصرية، وكانت مقدسة لدى الفراعنة، وحضورها في الرواية كان استلهاماً لهذا البعد الشعبي والتاريخي، وفي الأمثال «للقط 7 أرواح»، تغادرها واحدة تلو الأخرى، وهو ما حدث في الرواية. وبالنسبة لي، الحيوان مُكون أساسي للخيال، ليس بوصفه قناعاً، بل بوصفه عالماً حقيقياً قائماً بذاته، يثير دهشتي على الدوام. ورغم كل ما كتب عنه، فهو لم يُكتشف بعد.
*القاص أحمد عبد المنعم رمضان: «الغابة ومتاهتها»
منذ طفولتي المبكرة اعتاد والداي أن يصطحباني سنوياً إلى معرض الكتاب، وكانت بمثابة رحلة بالنسبة لي، ومن ضمن طقوسها المرور على جناح دار «الفتى العربي» التي أغلقت أبوابها قبل أكثر من 20 عاماً، أو «دار المعارف»، أو جناح «ليدي بيرد» للكتب الإنجليزية، وكانت الحيوانات تسيطر بشكل كبير على أغلفة القصص وكتب التلوين ومتنها في هذه الدور، أذكر «الوزة البيضاء» للفنان التشكيلي عدلي رزق الله، و«ما حدث لدجاجة لا تفكر» للقاص السوري زكريا تامر، كما أذكر قصة أخرى له عن ذئب يقلد صوت القطط. تزامن هذا مع مشاهداتي لسلاحف النينجا وأفلام الديناصورات وكارتون بعنوان «الفيل بابار» عن أساليب الحكم والديمقراطية في مملكة الأفيال! ولذا كوّنت الحيوانات جزءاً مبكراً من مخيلتي، ولكنها في أغلب الأحيان حيوانات تخرج بشكل ما عن طبيعتها، لتصبح كائناً مختلفاً وجديداً؛ مثل فيل ديمقراطي وذئب يقلد صوت القطط وسلاحف تحارب الشر.
ستتوالى قراءاتي وسيصبح زكريا تامر من كتابي القصصيين المفضلين، سأقرأ له «صهيل الجواد الأبيض» ضمن قصص أخرى، سأقرأ لمحمد المخزنجى وكافكا وجورج أورويل. جميعهم لعبوا مع الحيوانات، أما همنغواى فطاردها واصطادها، سأقرأ لجون شتاينبك أيضاً، سيبهرني وسأنتبه لوجود الحيوانات الدائم في رواياته، ليس فقط في «فئران ورجال»، ولكن في «عناقيد الغضب»، وفي «البحث عن إله مجهول»، بل حتى في خطاب تسلمه جائزة نوبل.
لا أعلم بمن تأثرت، ربما بهم جميعاً، وبآخرين لا أذكرهم، وبحيوانات بشرية صادفتها هنا أو هناك، ولكني في كل الأحوال أدعي أن مشاهداتي الطفولية وقراءاتي المبكرة كانت أعمق أثراً في نفسي من كل هذا رغم بساطتها، أو ربما بسببها.
لم أخطط للكتابة عن الحيوانات أو لاستخدامها في مؤلفاتي، تسللت القطط والأسود والببغاوات والقردة إلى قصصي على مر السنين دون ترتيب مسبق. وذات يوم تأملت كتاباتي ولاحظت الوجود البارز للحيوانات فيها، شعرت وأنا أنظر إلى قصصي بأنني تائه في قلب غابة، أبحث عن معانٍ لحياتي ووجودي بينما تحيط بي الحيوانات، أو بشر يتصرفون بوحشية وقسوة أكثر من الحيوانات، وهنا تشكل في خيالي هيكل لمجموعة قصصية تضم هذه في قسمين: «حيوانات المدينة»، و«تائه في الغابة».
أعتقد أن الحيوانات في تلك المجموعة لا تشبه في رمزيتها أو استخدامها «كليلة ودمنة»، ولا «حيوانات أيامنا» للمخزنجي، أو «مزرعة الحيوان» لأورويل، فالحيوانات هنا تتصرف بغرابة أحياناً، لا تشبه خيالنا عنها، لها سمات وخصائص مختلفة، الببغاء يتوقف عن الكلام والخنزير يتمتع باستنشاق الروائح الجميلة والقردة تجلس على المقاهي، هذه الكتابة التي تصنف كتابة خيالية هي أكثر واقعية مما تبدو، حيث تعطيني مساحة واسعة للنظر إلى العالم بعيون مفتوحة وقادرة على رؤية الأشياء على حقيقتها، أو ما أظنه ذلك، ولكن هذا لا يمنع أننا، أنا والراوي، لا نزال تائهين في هذه الغابة.
*الناقد د. سيد ضيف الله: «فواعل سردية»
الحيوانات والطيور كانت فواعل سردية مهمة في الموروث الديني على اختلاف الأديان، ولعل أشهر الأدوار السردية التي لعبها حيوان كان دور بقرة بني إسرائيل، بحسب الرواية القرآنية وتفاسيرها التي تجعل للبقرة دوراً بعد ذبحها في إثبات نبوة نبي من ناحية ـ وفي الكشف - من ناحية ثانية - عن قاتل مجهول بطريقة إعجازية؛ لا أظن أن سرداً بشرياً حديثاً حاول تقديمها ولو على سبيل «الفانتازيا»، وهي طريقة إحياء الميت للإخبار عن قاتله. إضافة للبقرة، نجد اليمام في الأثر بطلاً في حكاية حماية النبي محمد صلى الله عليه وسلك من أعدائه المتتبعين له، ونجد الناقة حكماً بين فريقين من المسلمين يتنازعان لتحديد مكان النبي في المدينة باعتباره ضيفاً، فتحدد الناقة المكان (المسجد) باعتباره نواة الدولة الناشئة (الخلافة الإسلامية).
ومن ثم، استند توظيف الحيوان في الموروث الديني على إيمان المتلقين بقدرة إلهية على توجيه الحيوان والطير والجماد، باعتبارها كائنات مأمورة ومسخرة لا إرادة مستقلة لها ولا عقل مكلفاً بالاختيار وتحمل المسؤولية عن تصرفاتها مثلما حال الإنسان. أظن أن دور الطير والحيوان في هذا السياق كان داعماً للبطل، وهو غالباً البطل النبي، أو البطل المؤمن في مواجهة فريق الكافرين أو الظالمين. ويصعب أن نجد في هذا السياق تمثيلاً لحيوان بوصفه كائناً شريراً، لأن الاختيار بين الشر والخير ليس من صفات الحيوانات والطير في الموروث الديني. فأدوار الشر تؤديها الحيوانات طاعة لله في هذه المتخيلات السردية الجمعية.
في عصرنا الحديث... صارت ثنائية الشر والخير التي تتصارع داخل النفس البشرية هي ما طبقها المبدعون على عالم الحيوان والطير لتمثيل الواقع الإنساني
أما في عصرنا الحديث، فقد صارت ثنائية الشر والخير التي تميز بين البشر، وتتصارع داخل النفس البشرية الواحدة، هي ما طبقها المبدعون على عالم الحيوان والطير لتمثيل الواقع الإنساني عبر الإسقاط، وباستخدام الأمثولة مثلما فعل ابن المقفع في «كليلة ودمنة»، وجورج أورويل في «مزرعة الحيوانات». وهذه النماذج كاشفة عن نموذج لمبدع يتخفى من مواجهة الحاكم ويُسرب رأيه انتصاراً للعدل والحرية، وهي القيم العابرة للأوطان، وقد أعاد أورويل توظيف الحيوانات انتصاراً لهم أيضاً. والمدهش أننا نكاد لا نعثر على توظيف للحيوانات لتمثيل الصراعات الحضارية في العالم القديم؛ حيث الصراع بين الإمبراطوريات على أساس عقائدي أو حضاري. وفي عصرنا الحديث، عُدّ أن محمد المخزنجي في كتابه الممتع «حيوانات أيامنا» قد أبدع في إعادة توظيف ثنائية الخير والشر وتمثيل عالم الحيوانات على أساسها، ليُسرب رؤيته للصراع بين الحضارات الإنسانية في العصر الحديث، كما نجد إبراهيم الكوني في روايته «ناقة الله» يجسد الهوية الوطنية من موقع الطوارق الذين هجّروا في الستينات بالكشف عن عمق العلاقة بين الناقة والراعي والوطن. إن سقوط السرديات الكبرى ومنها سردية الوطن لدى كثير من المبدعين، أدخلنا نفق الاغتراب وانتهاج الغرائبية للتعبير عن أزمة الإنسان، وكذلك توظيف محمد أبو زيد في «ملحمة رأس الكلب» للحيوان بعقد تصالح بين واقعه والأسطورة.