موسى مليح - وظيفة الشعر في ديوان: "يا حنظلة أتعبتنا الأمنيات" للشاعر محمد حميدشات

لماذا وظيفة الشعر؟

1716850410476.png

الشعر ماهية ووظيفة.الماهية مبحث في الخصائص الفنية التي تمنح الكلام صفته الشعرية والشاعرية،بينما الوظيفة عنصر تواصلي ،ترتبط بالإجابة عن سؤال: لماذا يُكتب الشعر؟
ينتمي البحث في الماهية والوظيفة إلى ما يعرف بنظرية الأدب.
عند قراءة أي ديوان شعري أو مجموعة قصائد، فإن أول سؤال يحضر عند القارئ المتمرس
هو: ما وظيفة الشعر عند صاحب الديوان؟

1716850346447.png

إن الغاية من الوقوف على الوظيفة هو توجيه القراءة صوب نقطة محددة، تُبعد عن الولوج في متاهة يشبه الخروج منها الدخول. كما أن السعي لتحديد الوظيفة سينعكس على جل مكونات القصيدة أو الديوان؛ لأن الصور الشعرية والإيقاع والأساليب وغيرها ما هي إلا عناصر بنية تخدم وظيفة معينة قد تكون معروفة من قبل ، إذا كان القارئ يعرف بأن الشاعر ينتمي لمدرسة شعرية معينة (مقصدية الشعر القديم، وظيفة الشعر الرومانسي، الكلاسيكي...)، أو غير معروفة ؛ إذا كان الشاعر غير معروف والقارئ يلتقي بديوانه لأول مرة.
أثناء عبوري بين قصائد الديوان الثامن للشاعر محمد حميدشات المعنون ب "يا حنظلة أتعبتنا الأمنيات" الصادر سنة 2024 عن دار النشر لبطاني بمدينة بن جرير الرحامنة المغرب، والمكون من 184 صفحة موزعة بين إهداء وشهادة لمحمود درويش وهامشين عبارة عن مقالتين في نقد الشعر وسط 24 قصيدة ، لاحظت أن الديوان متماسك العناصر . وقد تأتى له هذا التماسك من اتساق القول كلفظ وانسجامه كمعنى. إن الاتساق والانسجام وسيلتان مفيدتان لكل تأويل تفاعلي يتخذ مساحة له بين الشاعر والنص والمتلقي، وييسر لقراءة ممكنة تبرز أن الشاعر حميدشات وطد، بفضل التماسك، علاقات بين تيمات القصائد التي يتضمنها الديوان. إن قارئ الديوان سيكتشف أن كل قصيدة في هذا الكتاب تشكل جملة شعرية واحدة، وأن القصائد الأربعة والعشرين تشكل قصيدة واحدة مكونة من أربعة وعشرين نفسا شعريا، تنتظم داخل رؤية شعرية واحدة . إن سر التماسك مصدره هذه الرؤية التي أرخت ظلالها على كل قول شعري في الديوان.

1716850504732.png

اكتشاف الاتساق داخل ديوان ما أو قصيدة يمنح للقارئ الاطمئنان ويشجعه على إعادة القراءة مرات ليعمق بحثه عن حجج ملموسة ومقنعة لتأويل ذلك التفاعل الأولي. من هذه النقطة ينطلق البحث عن العناصر المساعدة لتحديد وظيفة الشعر من داخل الديوان. إن القارئ المتمرس، يدرك بتجربته أن من بين ما يلجأ إليه الشعر في بنائه نظاما يقوم على تكرار عناصر بعينها؛ كتكرار الأصوات أو التفعيلات، أو روي معين أو قافية... وأن مظاهر التكرار تصب في الوظيفة الشعرية التي يروم الشاعر التعبير عنها ضمنيا.
في ديوان" يا حنظلة.." سأقف على مظهرين بارزين للتكرار هما: أسلوب النداء وتكرار أفعال بعينها.
يحضر أسلوب النداء في العنوان ويمتد إلى آخر سطر في الديوان من قصيدة لترحل يا زمن الحداد:
" يا غريبا أعياه الانتظار" ص 182.
تكرر أسلوب النداء 74 مرة في جل القصائد، عدا قصيدة واحدة خلت من هذا الأسلوب وهي قصيدة: "منذ كنت صغيرا" ص157.
توزعت أبعاد النداء بين:
1/ البعد المعنوي:
" أتيتك ياصديقي / أستجدي جيادك المرسل’" ص28
" ياصاحبي هذي بغداد / وقد فاضت دموعها." ص47
" يا صاحبي / نحن أمة أقولها خجلا/ استعبدنا عبر كل الحقب"48
" يا قلبي وطنا أراك للضائعين" ص 50
" أيها الوطن/ أيها الزمن/ أيها السر والعلن / ضم الحشا
وهز بالجذع/ يتساقط الصمت من شفتي/ ويرحل ممتطيا / صهوة لغتي." ص 66
2/ البعد المكاني والزمني:
" يا غزة هاهنا / سلمتك عمري فاشهدي" ص73
"أيا تاحناوت/ في البدء/ آنست نارا وأعلنت اختياري" ص73
" آه يا قدس / حملت حزنك / وأنا طفل صغير" ص 134
" ولترحل يا زمن الحداد" ص 134
3/ البعد النفسي:
في هذا البعد يقوم الشاعر بحذف أدوات النداء ، فيشعر المتلقي بشدة القرب النفسي بين المنادي والمنادى لدرجة الالتحام الكلي:
من قصيدة :" أماه مريب هذا الموت"
" أماه
كم هو مريب هذا الموت
يسكن في كل الزوايا" ص 103


1716850437446.png

مع ملاحظة عابرة، أن الشاعر وظف يا النداء التي تحيل على بعد المسافة لمناداة الأب :
" يا أبتي / غربني الشوق إليك/ يا وجها يشبه وجهي/ مللت عذابي." ص129
ويحضر البعد النفسي للنداء في قصيدة : شيرين بسمتنا الضائعة
" شيرين / غرستك في كفي/ وغمرتك بالدفء والأمنيات.." ص 108
خلق تكرار أسلوب النداء اتساقا للقول مما أثر على الحمولة الدلالية للقصائد محققا بذلك انسجام المعاني وانصهارها في بوثقة تدليل تفيد:
ا- دمج الوجدان الفردي بالوجدان الجماعي
ب-التنفيس عن المشاعر وقهر الصمت
ج- لفت انتباه البعيد ودعوته للانخراط في رؤية وموقف الشاعر.

1716850753836.png

ثانيا: تكرار الأفعال:
يشد انتباه القارئ لديوان:" ياحنظلة.." تكرار فعلين هما : رأى وأتى . ارتبطت جميعها بضمير المتكلم كقول الشاعر: " ها قد أتيتك غريبا"ص116 . " وأتيتك اللحظة طفلا لا ئدا بالغيمة الحبلى."ص 113"وأتيتك أزرع في عينيك حلمي" ص 91 " فرأيت الفرات يغرق صدأ أيامنا" ص80 " وأراك يا غزة شهابا لا يخشى صوت الإعصار" ص75 " يا قلبي وطنا أراك للضائعين"ص50...
يلاحظ أن الفعلين معا ارتبطا بضمير المتكلم مما يوحي بأن جل القصائد تمركزت دلالتها حول الأنا ببعدها الرومانسي، على منوال الرومانسية في الأدب الألماني ذات البعد الثوري على خلاف الرومانسية الفرنسية الباكية والشاكية والمنهزمة. إن تكرار هذه الأفعال خلق تفاعلا جماليا بين عناصر الإنتاج الأدبي ويؤكد على حضور ثلاثية الناقد الألماني إيزر :" الفعل /الانفعال/ الحالة."
الفعل والانفعال من المقولات العشر المعتمدة في الفهم أي ملكة تكوين الأحكام عند إيمانويل كانت في نقد العقل الخالص.
إن تكرار فعل بعينه سيؤدي إلى انفعال مقصود لدى المتلقي مما يخلق رد فعل محدد قد يكون فرديا أو جماعيا مما يولد حالة مرجوة منبثقة من رؤية الشاعر . في صلب الحالة تتولد وظيفة الشعر مما يوجه القراءة صوب رصد هذه الحالات المصرح بها في الديوان:
- حالة تكسير الصمت : الصفحات 55/66/81/85/99/ 146
عذرا ياقلبي/ لم أسمع صوتك منذ زمان/لم أقرأ حرفا خطته يمينك/عن بؤس الإنسان ص55
- التنوير والإضاءة: نجمة تضيء الظلام 152القصيدة شعلة ونار 182
الليلة/ عدت وحدي/ أحمل في كفي نجمة/أوزع ضوءها على كل الدروب ص 152
- التطهير 29/30/ 155
من يغسل هذا العالم/ويطهره/ ويلبسه ثوب المحبة/ ويهديه لحنا جميلا/ وأغنيات ص30
- الرفض والتخصيب 76/77
ص76: فتخصب عقم الأرض/وتنشر مواويل البذار / في لغة الرفض/تكبر حرقة الفقراء.
- الحلم والرؤيا 91/ 163/ 116 إلى 123 قل ليوسف
ص91: وأتيتك أزرع في عينيك حلمي/ وقد نما شجرا.
- صرخة وسيل جارف 106/ 147
ص106: ووحدك يا قمر الرضا/ تنتصبين صرخة/ لغضبة البسطاء.
- الخروج من دائرة التقليد والتخلص من الهراء والكذب من أجل الصحوة والانبعاث والتخلص من الحزن والعودة إلى الأفراح الغائبة 129/48/42/134/26/ 83/39
ص 42: أنا آية الورد في شفتيك/ معا تجرفنا الصحوة الجارفة.
-انتصار للطفولة بعودة الإنسان لإنسانيته 101/113/ 175/ 105
ص105: أنحث في الأسى تغريدة/ تجنبني هجير الأحزان/فأفتت ضوء النجوم/ فأبحث عن إنسان.
تأسيسا على المعطيات السابقة لوصف الحالات الناتجة عن تحول الفعل إلى انفعال داخل الديوان، نصل إلى تحديد وظيفة الشعر في ديوان "يا حنظلة أتعبتنا الأمنيات".
إن الشعر وسيلة لتكسير الصمت وتطهير النفس والتخلص من السرديات الكاذبة من أجل خلق صحوة جديدة ، فهو صرخة البسطاء وسيل جارف في وجه الأعداء وشعلة وقبس من نار ونجمة تضيء في الظلمات ونشيد للحياة يعيد الأفراح الغائبة وفق حلم يقوم على العشق والحب ورؤيا تخصب الحياة وتمنحها معنى للإنسان والإنسانية بكل أبعادها الجمالية والفلسفية والحقوقية .
إن هذه الوظيفة رغم اتساع حمولتها الدلالية فإن من يرغب في تكثيف العبارة سيختزلها في ثنائية هي جدلية الحقيقة والتمني. الجدلية منحت للديوان ديناميته فاتسم بالحوارية والترافع فربط بين الإقناع والإمتاع . فتم توظيف الحقيقة لتعرية الواقع بينما وظف التمني كرؤيا مستقبلية تواجه الزيف وتؤسس لإنسانية مفقودة.

موسى مليح
تيغدوين الحوز 26/05/2024

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى