عبد علي حسن - قصيدة النثر / محاولات التقنين...

لقد مضىٰ علىٰ ظهور قصيدة النثر العربية مايزيد على نصف قرن وتحديدا في خمسينيات القرن الماضي ، ومثله علىٰ ظهور قصيدة التفعيلة التي تمكنت الشاعرة الراحلة نازك الملائكة من وضع الاشتراطات والقوانين الداخلية والخارجية لهذه القصيدة ، ولعل من أهم أسباب هذا التمكن هو وجود المرجعية التراثية التي اعتمدتها السيدة نازك في وضع تلك القوانين التي استحدثتها من الشكل الكلاسيكي للقصيدة العربية لتشكّل علامات فارقة لقصيدة التفعيلة الحديثة ، ولتكون مثابة ينطلق منها الشعراء لإضفاء سمات تحديثية تشكل صيرورة حتمية لاحقاً ، في حين لم تتمكن العديد من الدراسات النقدية والتنظيرية من الوقوف علىٰ سمات وقوانين وضوابط واشتراطات لقصيدة النثر منذ التنظيرات الأولى لروادها أدونيس وانسي الحاج وكتاب مجلة شعر ولحد الٱن ، ولعل وراء ذلك أسباب كثيرة ، منها أن هذا الشكل قد وفد من البيئة الثقافية للٱخر وتحديدا من فرنسا بعد صدور كتاب سوزان برنار الذي تضمن كشفاً لارهاصات وظهور قصيدة النثر الفرنسية على يد بودلير وروادها الأوائل مالرميه ورامبو وغيرهم ، إذ كان ظهورها مقترناً بالوضع الحداثي المبكر الذي كانت تمر به اوربا وفرنسا على وجه الخصوص التي كانت تشهد قيام ثورة على قيم المجتمع اللاهوتي والكنسي القديم ، فقد كانت هذه القصيدة التي وجدت في اللغة النثرية مايمكّن من صياغة شعر ، اي نثر غايته شعر ، لذا كانت تمردا وثورة على القديم بدون اشتراطات وقوانين تحكمها ، لا من الرواد ولا من سوزان برنار التي أوقفت سماتها البنائية على المجانية والتكثيف والسردية ، الأمر الذي دفع بادونيس ورواد قصيدة النثر العربية إلى معاينة التراث النثري العربي الذي تمثّل في النثر الصوفي لاستخلاص بعض السمات التي من الممكن اعتمادها في كتابة قصيدة النثر تبتعد عن التقنين وتقترب بنفس القدر من ضبط اجناسية هذه القصيدة واعتماد بعض السمات كمعايير تجنيسية ، ولم يفلح العرب لحد الٱن في تحديد تلك السمات وضبط الٱليات والتقنيات الخاصة بها ، فكثُرت الدراسات والتنظيرات ولازالت هذه القصيدة تتقاذفها امواج الٱراء ووجهات النظر التي لم تتمكن من تقديم قصيدة نثر عربية إلى المنجز العالمي ، ومن بين وجهات النظر هذه ماقدمه الصديق الناقد بشير حاچم في محاضرته التي نظمها الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق منتصف مايو /2024 والتي حملت عنوان ( الإستنباط النصي . قوانين جديدة لقصيدة النثر ) التي استمعت إليها كاملة عبر قناة الاتحاد بعد إقامة الجلسة التي أدارها الصديق الدكتور جاسم محمد جسام ، ولاشكّ بأن الصديق الناقد بشير حاجم قد بذل جهدا مخلصاً في اقتراحاته لتقديم جملة من القوانين التي يراها جديدة لتكون معاييراً صائبة لكتابة قصيدة نثر ناجحة ويرى أن على النقاد الٱخرين الأخذ بهذه القوانين واعتمادها في مقارباتهم النقدية للنصوص التي يعتقد كتابها بأنها قصيدة نثر ، ولعل هذا الجهد يصب في مجرى الجهود التي لاتزال مبعثرة وتؤثر سلباً في تقديم نماذج إيجابية دون حصول عملية الارتياب والشك في سلامتها ، ولعل الدافع الذي حدا بالصديق بشير للخوض بهذا الموضوع هو ما يعتري الساحة النقدية من فوضى التنظيرات والدراسات التي تشهد تناقضات كثيرة في المعايير والتقييم ، وبدءاً لابد من معرفة قضيتين أساسيتين ، الاولى معنى مفهوم القانون وأثره في ضبط الحدود الإجناسية للنمط الأدبي والثاني هو الإجابة عن السؤال التالي : هل تحتاج قصيدة النثر إلى وجود قوانين تحكم بنائيتها وتوجهها لتتميز عن غيرها من الأجناس الشعرية ؟ وللخوض في مناقشة هاتين القضيتين نبدا بتعريف القانون بعدّه ( مجموعة من القواعد والأنظمة الإلزامية التي تنظم سلوك الأفراد والجماعات في المجتمع ، وتنص على الحقوق والواجبات التي يجب على الناس الالتزام بها ، وهو يصدر عن السلطة المختصة في الدولة ، وبالامكان عدّ التعريف الٱنف الذكر مفهوماّ عاماً ليتم ترحيله الىٰ سائر العلوم ومنها العلوم الإنسانية ومنها الأدب بما يتضمنه من أجناس وانواع مختلفة ، خاصة في القسم المتعلق باعتبار القانون كل قاعدة مطردة تسير على وتيرة واحدة وتتوجه إلى فئة معينة من المجتمع دون تمييز ، ويعني الخضوع لنظام ثابت لتحقيق نمط معين وعدم الخروج عليه ، ويمكن ملاحظة ذلك في القواعد والنظام القار في الشعر العربي القديم / نظام الشطرين وقواعد كتابة قصيدة التفعيلة التي فصّلتها السيدة نازك في كتابها (قضايا الشعر المعاصر) كما يمكن ملاحظة ذلك في الأجناس والأنواع الأدبية الأخرى والرواية والقصة ، أما قصيدة النثر فإننا نرى عدم حاجتها لقوانين وقواعد تحكمها ، لسبب بسيط هو أنها ولدت من رحم التمرد وتجاوز كل القوانين الأدبية التي احتكم إليها الأدب الفرنسي ماقبل الحداثة ، فهي وكما وصفتها سوزان برنار بأنها قطعة نثرية واحدة مختصرة ومضغوطة إلى حد يجعلها كأنها حجر بلور متحررة من معظم القوافي والاوزان وكذلك من الشعر بوصفه جنساً يحتكم إلى جملة من القواعد والقوانين المعروفة عنه ، و في الوقت ذاته متجاوزة ومتمردة على النظام النثري للغة المتصف بالاستهلاكية والنفعية التداولية ، لمنحها توهجاً يليق بها أن تكون نثراً غايته شعر ، إذ أن ماتوصلت إليه سوزان برنار في دراستها لقصيدة النثر الفرنسية من سمات وخصائص مستنبطة من النماذج النصية لبودلير وسائر رواد هذه القصيدة ، ولم تكن هذه السمات والخصائص كالتكثيف والسردية والمجانية وسواها لتأخذ وضعية القوانين والقواعد الإلزامية ، فهي قصيدة لاتستلزم سوى الحرية التعبيرية ، فهي لم تخرج عن القوانين لتضع لها قوانيناً إلزامية جائرة تحدّ من انطلاقها في فضاء اللغة الشاسع كما وصفها بودلير نفسه . لذا فقصيدة النثر لاتحتاج الى قوانين وأحكام إذ لايمكن تقنين مالن يقنّن .
وعودٌ علىٰ بدء فإن محاولات الناقد بشير حاچم لوضع قوانين لقصيدة النثر وإلزام الكتاب والنقاد لاتّباعها واعتمادها معاييراً لقصيدة نثر ناجحة نعدّه جهداً ضائعاً وسنحاول عبر مناقشة تلك القوانين إثبات ذلك ، إذ يقترح حاچم قوانيناً أربعة استنبطها كما يقول من نماذج نصية لكتاب قصيدة نثر عراقيين وهي ( التناص الامتصاصي ، انزياح الإنزياح ، البياض ، الكونية)
1-- التناص الإمتصاصي :- وهو أن يستلهم الشاعر مضمون نص سابق أو مغزاه أو فكرته ويقوم باعادة صياغة هذا المغزى أو المضمون أو الفكرة من جديد بعد امتصاصه وتشربه ، أن هذا الإجراء التناصي الذي يلجإ إليه الشاعر يعد ٱلية نصية من الممكن اكتشافها في العديد من النصوص الشعرية الكلاسيكية وقصيدة التفعيلة ، ونالك أكثر من دراسة بهذا الخصوص كما في دراسة التناص الامتصاصي في شعر البياتي على سبيل المثال ، واعني بذلك أنها ٱلية عامة نشترك فيها جميع الانواع الشعرية بما فيها قصيدة النثر ، ولايمكن لها أن تتخذ وضع القانون .
2-- انزياح الإنزياح :-- لقد صاغ الناقد بشير هذا المصطلح محاكاة لمصطلح (معنى المعنى) الذي وضعه عبد القاهر الجرجاني في حديثه عن النأويل ، والإنزياح ببساطة هو البعد عن النمط التعبيري و الاعتيادي المتعارف عليه للغة ، ويتم ذلك عبر الٱليات البلاغية كالمجاز والاستعارة والتشبيه لإزاحة المفردات عن معانيها اللغوية وإدخالها في سياقات جديدة محققة ذلك الانحراف في اللغة بعلاقتها الاعتباطية بين الدال والمدلول ، وهل يمكن للشعر أن يكون شعرا من دون تحقيق هذا الإنزياح اللغوي لإستيلاد معانٍ جديدة ؟ فهذا الإنزياح يعد ٱلية نصية تشترك فيها جميع انواع الشعر لتحقيق تفردها الإجناسي ولايمكن عدها قاعدة قانونية تختص بها قصيدة النثر وحدها .
3-- البياض :-- والبياض هو ليس كما ذكره الناقد حاجم بأنه الفراغات والحروف غير المكتملة التي يقوم المتلقي بإملائها تأويلاً وانما هوحسب كلوديل طططيعني الفراغ الذي يأتي بعد نهاية كل سطر في القصيدة المشطرة ، وهو لحظة تنفس ايقاعي ضروري لجمالية القصيدة المشطرة ، وهو مايمنح الشعر الحر هيئته الشعرية ، ولاتحناجه قصيدة النثر التي تكتسب هيئتها وحضورها الشعري من بناء الجملة وبناء الفقرة / الكتلة النصية ، ولايمكن عد هذا البياض من سمات قصيدة النثر بل متقاطعا معه ، وهو بعيد من عده قانوناً .
4-- الكونية :-- اي تقديم وجهة نظر تتسم بالخطاب الإنساني الشمولي يرتبط بالحالات الإنسانية التي تعد مشتركات بين البشر اينما كانوا واينما حلّوا ، السؤال هو متىٰ كان النص الإبداعي حبيس بيئته فقط دون أن يستشرف البعد والمعنى الشامل والإنساني / الكوني ؟ فمنذ أوديب والملاحم اليونانية وصولاً إلى أحدث نص أدبي والبشرية إزاء تقديم ماهو انساني وشامل وكوني كرابط ابداعي للإنسان على وجه الارض ، فهذه سمة نصية تشترك فيها كل الأجناس والأنواع الأدبية شعرا كان أم نثرا وليست قانوناً لتختصّ به قصيدة النثر .
اخلص من كل ذلك أن ماقدمه الصديق الناقد بشير حاجم عبر مقترحاته الأربعة التي أراد لها أن تكون قوانيناً خاصة لكتابة ومقاربة قصيدة النثر نقديا إنما هي مشتركات نصية عامة لاتمنح قصيدة النثر هويتها الإجناسية والبنائية ، وكان الأجدر به أن يستنبط سمات وخصائص جديدة من النصوص التي اخضعها للتحليل وبعيدا عن محاولات تقنين هذا الجنس المتفرد الذي يأبى التقنين .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى