إذا كانت المدرسة البنيوية Structuralism اللغوية التي يرى علماء اللغة أن رائدها في الدراسات اللغوية الحديثة هو العالم السويسري دو سوسير، قد امتدت إلى مجال الدراسات الأدبية وإلى حقول معرفية أخرى ، فهل يمكننا أن نستخدم ذلك المنهج البنيوي كمقاربة لدراسة علم (أصول الفقه) ، وتحديدا في دراسة أصول الفقه عند الشافعي رحمه الله ، الذي يعد مؤسس هذا العلم وواضع قواعده في كتاب "الرسالة" أحد أشهر مؤلفات الشافعي ؟ فالتشابه الكبير بين المنهج البنيوي ومنهج الشافعي يدفعنا إلى محاولة التطبيق ، وذلك لكي نصل إلى نتائج ربما تسهم في تغيير الطريقة (النمطية) التي تتناولها كتب الأصول منذ تأليف "الرسالة" ومرورا بأشهر المؤلفات التي تأثرت بطريقة الشافعي مثل المستصفى للغزالي ، وإحكام الأحكام للآمدي ، و إرشاد الفحول للشوكاني ، ثم عبد الوهاب خلاف ، وعبد الكريم زيدان وغير ذلك من كتب الأصول. فإذا كانت البنيوية في أبسط معانيها ، وفي بدايتها التقليدية ، تعتبر النص اللغوي نظاما مغلقا يتكون من مجموعة من العلاقات اللغوية بعيدا عن السياق التاريخي والبيئة الثقافية التي أفرزتها ، وهو الأمر الذي تطور بعد ذلك إلى العبارة الشهيرة للناقد الفرنسي رولان بارت التي نادى فيها بـ"موت المؤلف" ، والتركيز على بنية النص ، فإن الشافعي رحمه الله كان يلح على نفس الفكرة وهو يسعى إلى وضع نظام متكامل وقواعد كلية لعلم أصول الفقه يمكن من خلاله استنباط أحكام المسائل الفقهية الجزئية ، بعيدا عن (تدخل الفقيه الشخصي) ، وبعيدا عن فكرة (الرأي) التي ربما تشوبها ميول شخصية وانحيازات ذاتية للفقيه تبعده عن الموضوعية، وهو الأمر الذي عاني منه الشافعي كثيرا في مناظراته مع أصحاب (مدرسة الرأي) في بغداد ، ومع تلاميذ أبي حنيفة وأبي الحسن الشيباني ، بل ومع أبي الحسن الشيباني نفسه . لقد أكسبت هذه المناظرات الشافعي ثقة في نفسه ، وفي (النظرية الأصولية )التي كانت تعتمل في عقله يوما بعد يوم ، وتأكد بعد (اختبارها عمليا) بين هؤلاء العلماء الكبار أنها هي الأجدر على تحييد أي (سلطة للفقيه )حتى إنه – أي الشافعي- رفض اعتبار فكرة (الاستحسان) حجة أصولية على الرغم من محاولات كثير من العلماء تبرير أن هذا الرفض من الشافعي للاستحسان لم يكن رفضا مطلقا ، بل هو رفض للاستحسان المبني على هوى النفس في مقابل الدليل الشرعي. وعلى أي حال فإذا كان رولان بارت قد نادى بموت المؤلف في مجال الأدب ، فإن الشافعي (ألمح) إلى (موت الفقيه) في مجال الفقه دون أن يقول ذلك صراحة ، وأكد أن قواعد الاستدلال الأصولية تعمل بطريقة (آلية) ، و(تلقائية) من خلال دلالة النص لا رؤية الفقيه، ولذلك اشترط الشافعي أن يكون الأصولي أو الفقيه ملما بلسان العرب ، ودلالة الخطاب حتى يصل إلى نتائج موضوعية لا ذاتية. كما أن الشافعي اعتبر أن السنة نص (مواز) (للنص) القرآني ، وقدم أدلة وأمثلة كثيرة على أنه لا تعارض بين القرآن والسنة ، وإنما هي مفسرة وشارحة ومبينة للقرآن ، وأن التعارض الظاهري يأتي من عدم معرفة الفقيه بالعام والخاص والمجمل والمفصل والناسخ والمنسوخ وغير ذلك من المصطلحات التي قدمها (أي الشافعي) بطريقة محكمة (ومغلقة) ترفض أي تدخل ذاتي من الفقيه. وهذا النظام البنيوي الذي وضعه الشافعي ينم عن عالم فذ قل أن يكون له نظير ، لكنه جاء في سياق تاريخي يتسق مع الشكل السياسي للدولة آنذاك .أما الآن، ومع تطور الشكل السياسي للدولة ،فإن تطبيق هذا المنهج (المغلق) وليس (المنغلق) قد أدى إلى كثير من إساءة الفهم ، وخاصة فيما يتعلق بالجانب السياسي حيث صاغت كثير من التيارات المشددة أدبياتها بناء على تلك المصطلحات التي وضعها الشافعي. فإذا طبقنا ذلك المنهج على آيات مثل والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ..أو الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ، أو قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ، فإن النتائج ستكون كارثية (وقد كان)، حيث أهمل المتشددون الظرف التاريخي الذي نزلت فيه هذه الآيات ، و لم يتعاملوا بمنطق الأحكام تدور مع العلل حيث دارت ، حيث إن آية السرقة وآية الجزية نزلتا في سورة المائدة ( العام التاسع للهجرة) ،بعد اكتمال شكل الدولة التي كانت تتسم بنظام سياسي مختلف عن النظم الحالية ، ولا يمكن تطبيق هذه الآيات بطريقة (عمياء) ، ولا أحد يستطيع أن يطبقها أصلا من هؤلاء . وليس معنى ذلك أن القرآن جاء لوقت وظرف معين ،بل معنى ذلك أن عدم تطبيق تلك الآيات هو في ذاته تطبيق لحكمة الشريعة التي تراعي الشكل العام للدولة ، فالزنا مثلا قد حرم في مكة ، لكن حدود وعقوبة الزنا نزلت بالمدينة ، وفي هذا أبلغ بيان على أن الشريعة ليست عمياء وآلية ، بل هي نظام متكامل لها مقاصد ، وأن التطبيق مرتبط باستيفاء الشروط وانتفاء الموانع. وفكرة ارتباط النص بالواقع لن تلغي الشريعة بل تفرق بين العبادات المجردة من الواقع السياسي مثل الصلاة والصيام والحج وغيرها، والعبادات الأخرى التي يعتبر فيها الواقع و شكل الدولة والنظام السياسي (جزءا من النص). ولذلك فإنه ليس من حق أي فقيه أن يقول في آية السرقة مثلا إنه أمر يفيد الوجوب ، لأن مثل هذه العبارات يتم استخدمها من قبل المتشددين للترويح لأفكارهم التي شوهت الشريعة كثيرا ، بل يقال إن هذا الأمر لا يفيد الوجوب إلا عند توفر نفس الشكل السياسي القديم ، فهو نص مؤجل أو منسوء بتعبير القرآن في قراءة (ما ننسخ من آية أو ننسأها)، وفيما عدا ذلك فهو نص يتلى ويتعبد بتلاوته لاستحالة تطبيقه ، ويتم تدريسه للتدليل على أن الشريعة ليست جامدة ، بل هي متطورة وفق الظرف التاريخي والاجتماعي ، فما الناسخ والمنسوخ والمنسوء إلا مراعاة للتطور الاجتماعي والتحولات الاجتماعية .إن علم أصول الفقه الآن في حاجة إلى إعادة تبويب وتنظيم ، فلا يمكن أن تعامل آيات العبادات وآيات النظام السياسي بطريقة واحدة، كما أن المنهج البنيوي الذي وضعه الشافعي رحمه الله كان عبقريا في وقته فقط ، لكنه لا يصلح الآن إلا في مسائل فقهية فردية أو تعبدية في إطارها الذي أشرنا إليه. لابد إذن من إعادة قراءة نظرية موت الفقيه عند الشافعي، ورد الاعتبار للواقع..