د. أحمد الحطاب - غزوات أم اعتداءات بما لكلمة "اعتداء" من معنى

لما كنا تلاميذ في مرحلتي التعليم الابتدائي والثانوي، كان مدرِّسو التاريخ يُقدِّمون لنا الغزوات على أنها حروب يقوم بها المسلمون لنشر رسالة الإسلام في مختلف أرجاء شبه الجزيرة العربية وخارجَها.

حينها، لم يخطر ببال أحدٍ منا نحن تلاميذ تلك الفترة التي تعود إلى الخمسينيات وبداية الستينيات، أن نبحث في المعاجم عن معنى فعل "غزا". بل كنا نكتفي بالتَّفسير الذي كان يقدِّمه لنا المدرسون. بل كنا نقبل بدون تردُّد كل التفاسير التي كان يقدِّمها لنا المدرسون وفي جميع المواد الدراسية. لماذا؟

لأن المدرسين كانوا، بالنسبة لنا نحن الأطفال، قُدواتٍ لهم دراية وباعٌ طويلٌ في المعرفة. وبما أنهم قدوات، كان علينا احترامُهم وتقديرُهم. من ضمن احترامنا لهم، كنا لا نجرؤ على طرح الأسئلة عليهم. بل كنا نثِق ثقةً عمياء فيما يبلِّغونه لنا من معارف. وبالطبع، هذا الأسلوب في التَّعليم كان يعتمد، أساسا، على تبليغ المعرفة ويُهمل، إلى حدٍّ كبيرٍ، الفكرَ النقدي.

لكن، عندما تقدَّمنا في السنِّ وبلغ مستوانا التَّعليمي درجاتٍ عليا، أصبحنا نأخذ مسافةً بالنسبة لما يُقدَّم لنا من تعليمٍ أو ما نبحث عنه من معلومات. وأخذ مسافة بالنسبة للمعرفة، يعني تمريرها من مصفاة الفكر النقدي لقبولها أو عدم قبولها.

وهذا الفكرُ النقدي هو الذي دفعني، أنا شخصيا، أن أتوجَّه إلى المعاجم العربية للاطِّلاع على معنى فعل "غزا".

فعل "غزا"، مصدرُه "غزوٌ". والغزوُ، لُغوياً، هو الإغارة على العدوِّ ومُحاربتُه وقِتالُه في عُقر دياره. فحينما نقول إن جيشا ما غزَا بلدا ما أو منطقةً ما، فمبادرة الهجوم أتت أو تأتي من هذا الجيش. ونفس المعنى نجده في التَّفاسير الفقهية.

وبغض النظر عن أسباب الهجوم، هذا ما فعله ويجعله بوتين Poutine حينما هاجم أوكرانيا. وهو، كذلك، ما فعلته الدول الاستعمارية بعد الحرب العالمية الثانية.

إذن، عندما نتحدَّث عن فعل "غزا" أو عن مصدره "غزوٌ"، فهناك هَاجِمٌ ومهجومٌ عليه، بغض النظر عن السببِ الذي دفع الهاجمَ أن يقومَ بهجومِه. وهنا، يُطرح سؤال أعتبره، أنا شخصيا، من وِجهةِ نظرٍ إنسانية، مهِمّاً للغاية : "هل يحِقُّ لجِهة ما أن تهجمَ، بالقوة، على جهةٍ أخرى، كيفما كان سببُ أو أسبابُ الهجوم"؟

فإذا نظرنا إلى هذا الأمر من وِجهة نظرٍ إنساتية وأخلاقية وحتى دينية، فهذا شيءٌ لا يجوز ومرفوضٌ رفضا باتّاً. إذن، بالنسبة للغزوات التي قام بها المسلمون، في عهد الرسول وبعد وفاته، هناك أشياءٌ مسكوتٌ عنها، أذكر من بينها، على الخصوص، ما يلي :

أولا، المعلومات التي تلقَّيناها أثناء الدراسة عن الغزوات، مغلوطة. وإذا كانت هذه المعلومات مغلوطة عن قصدٍ، فإنها تحريفٌ للتاريخ. وفي نفس الوقت، إخفاءٌ للحقيقة بالنسبة للأجيال المتوافدة على المدرسة.

ثانيا، إذا كانت الغزوات عبارة عن حروبٍ للدفاع عن النفس، فلماذا سُمِّيت "غزوات"؟

ثالثا، فعل "غزا" ومصدره "غزوٌ" وحتى اسم "غزوة" غير موجودين في القرآن الكريم الذي قال في شأنه، سبحانه وتعالى : "وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (الأنعام، 38). ويقول أيضا : "لَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَىٰ عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (الأعراف، 52). حسب هاتين الآيتين، كل شيءٍ مفصَّلٌ في القرآن الكريم. إذن عدم ورودِ فعل "غزا" ومشتقاته في القرآن الكريم له سببٌ أو أسباب أو فيه حِكما.

رابعا وهذا هو الأهمُّ. الغزوات، كما تمَّ تعريفُها أعلاه، تتنافى وتتعارض مع كثيرٍ من آيات القرآن الكريم. من بين هذه الآيات، أذكر، على سبيل المثال :

-"لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" (البقرة، 256). "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ" تعني أن الدين لا يُفرض على الناس بالقوة والعنف. اللهمَّ إذا كانت الغزوات دفاعا عن النفس. لكن وكما سبق الذكرُ، لماذا سمِّيت "غزوات"؟

-"وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (البقرة، 190). هذه الآية تحثُّ، فقط، على الدفاع عن النفس. بل إن اللهَ، سبحانه وتعالى، يقول، بكل وضوح، إنه "لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ". وهذا يعني أن هذه الآية تتماشى مع ما قاله، سبحانه وتعالى، في الآية الأولى "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ". وإذا جمعنا بين الآيتين، فالغزوات تبدو نوعاً من الاعتداء على الغير، إلا إذا كانت دفاعا عن النفس.

-"ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (النحل، 125). كلام الله، في هذه الآية، موجَّهٌ للرسول(ص)، طالباً منه، إذا أراد أن ينشرَ رسالةَ الإسلام، عليه أن يكون حكيماً ومُرشِداً ليِّناً. كما طلب منه أن يتحاورَ (وَجَادِلْهُم) مع المشركين حواراً حضارياً، وخصوصا، أنه، سبحانه وتعالى، على علمٍ بمن "ضَلَّ" وبمَن اهتدى وسيهتدي. وهذا هو، وبالضبط، ما طلبه، سبحانه وتعالى، من موسى وأخاه هارون، حين قال لهما : "اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ (طه، 43 و 44).

-"وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ" (يونس، 99). كلامُ الله موجَّهٌ لرسوله محمد (ص)، طالباً منه أن لا يُكرهَ الناسَ، سواءً بالقوة أو بالعنف اللفظي، ليُصبحوا مؤمنين. وهذا دليلٌ آخر على أن نشرَ الإسلام لا يجب أن يتمَّ عن طريق القوة والعنف.

-"وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا…" (الكهف، 29). هذه آية أخرى تُبيِّن أن الناسَ مُخيَّرون بين الإيمان والكُفر. وكلامُ الله موجَّه كذلك، في هذه الآية، للرسول محمد (ص)، طالباً منه أن يُبيِّنَ للناس طريقَ الحق والإيمان والخير ويترك لهم الاختيارَ بين الإيمان والكفر.

أرأيتم كيف يتناقض مفهومُ "الغزوة" مع نصِّ القرآن الكريم؟ أرأيتم كيف تغاضى فقهاء الدين وعلماءُه عن النصِّ القرآني؟ أرأيتم أن اللهَ، سبحانه وتعالى، لا يتناقض مع نفسه حينما لم يذكر فعلَ "غزا" ومُشتقاته في القرآن؟ فمن أين أتى ومتى ظهر لفظ "غزوة"، علما أنه يتناقض مع كلام الله؟

قد يقول البعضُ إن الغزوات تدخل في نطاق الجهاد في سبيل الله. لكن الجهادَ في سبيل الله لا يعني، إطلاقا، إعلاءَ كلمته بالقوة. فبالإمكان أن تعلوَ كلمةُ اللهِ بالطرق السلمية والهادئة. وعصرنا الحاضر يعجُّ بهذه الوسائل السلمية. وقبل أن أختمَ هذه المقالة، أريد أن أطرحَ سؤالين في موضوع نشر الإسلام. وهذان السؤالان هما :

1.هل باستطاعة دولة من الدُّول الإسلامية الحالية أن تفرضَ الإسلامَ على دولة أخرى، غير مسلمة، بقوة السلاح؟

2.لماذا، استجابةً للجهاد في سبيل الله، لم تشكِّل الدول الإسلامية جيشا قويا ،وتُسمِّيه "جيش نشر الإسلام"؟

بالطبع، يستحيل أن يكون لهذين السؤالين جوابٌ مقبولٌ كونيا. لماذا؟ أولا، لأن الدولَ الإسلامية ضعيفةٌ اقتصاديا، تكنولوجياً وعسكريا. ثانيا، لأن الدولَ المسيرة للعالم حاليا (وهي الدول المنعوتة بالكافرة)، قوية في كل شيء، وبالأخص، تؤمن بحرية العقيدة، وبالتالي لا يمكن لأي طرفٍ أن يفرض أيَّ شيءٍ على هذه الدول. فما هو الحلُّ؟

الحلُّ هو نشرُ الإسلام "بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ" وإعادة النظر في الفقه الإسلامي، الخاص بالغزوات، ليتلاءمَ مع النص القرآني.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى