بعد أسابيع قليلة، تظهر الطبعة الجديدة من كتاب (العقد الفريد) التي تنشرها المكتبة التجارية بالقاهرة، في ثمانية مجلدات؛ وقد حققها وضبطها وراجعها على مصادرها الأولى الأستاذ محمد سعيد العريان
(ونحن ننشر فيما يلي المقدمة الجامعة التي قدم بها هذه الطبعة للتعريف بالكتاب؛ إذ كان مما يهم كثيراً من قراء الرسالة أن يعرفوا عن الكتاب ما لا بد أن يعرفوه؛ وخاصة إن كان هذا البحث مما يدخل في المنهج الذي أعدته وزارة المعارف لامتحان المسابقة بين المدرسين للترقية إلى المدارس الثانوية)
يعد كتاب (العقد) لابن عبد ربه من أقدم ما وصل إلينا من كتب الأخبار والنوادر؛ لم يسبقه إلى هذا الباب فيما نعرف إلا ثلاثة نفر: الجاحظ صاحب البيان والتبيين، سنة 255هـ وابن قتيبة صاحب عيون الأخبار، سنة 276هـ؛ والمبرًد صاحب الكامل سنة 285هـ
على أن ابن عبد ربه وإن كان مسبوقاً إلى التأليف في هذا الباب قد اجتمع له في هذا الكتاب ما لم يجتمع مثله في كتاب قبله ولا بعده من كتب هذا الفن، فكان بذلك حقيقاً بالمنزلة العلية التي أحله إياها أدباء العربية؛ إذ كان مصدراً من أهم مصادر التاريخ الأدبي التي يعول عليها ويستند اليها، بحيث لا يغني غناءه كتاب في المكتبة العربية على غناها وما احتشد فيها من تراث أدباء العرب
والحق أن هذا الكتاب هو موسوعة أدبية عامة، يوشك من ينظر فيه أن يجزم بأنه لم يغادر شيئاً مما يهم الباحث في (علم العرب) إلا عرض له، وأعني بـ (علم العرب) مجموعة المعارف العامة في الأدب والتاريخ والسياسة والاجتماع التي تتكون منها عناصر الثقافة العربية العامة لعهد مؤلف هذا الكتاب؛ وحتى الفروع التي انشعبت من علم العرب قريباً من ذلك التاريخ واختصت بالبحث في (علوم الدين) ثم تميزت باستقلالها. . . لا يعدم الباحث أن يجد فروعاً من مسائلها قد عرض لها صاحب العقد في أبواب متفرقة من كتابه، لعله لا يجد لكثير منها نظائر في كثير من الكتب الخالصة للبحث في هذه العلوم
وثمة فضل آخر يميز صاحب العقد على سابقيه ممن عرضوا لهذا الباب، هو أن ابن عب ربه أندلسي من أهل الجزيرة يتحدث عن أدب المشارقة فلا تقًصر به مغربيته عن اللحاق والسبق؛ ولعل هذا كان بعض دواعي ابن عبد ربه إلى تأليف كتابه؛ إذ كان في طبعه من المنافسة وحب الغلب ما يحفزه إلى هذا المضمار، كما سنذكره بعد
وليس بي حاجة إلى الحديث عن نهج صاحب العقد في تأليف كتابه؛ فقد تكفل هو بتبيان ذلك في مقدمة الكتاب؛ ولكن الذي يعنيني أن أذكره هنا، هو أن ذلك النهج الذي سلكه مسبوقاً إليه وسلكه كذلك من بعده، كان يستند إلى قاعدة مقررة (في علم الأدب) كما عرفه القدماء. أنظر إلى ابن خلدون يقول في مقدمة تاريخه: (هذا العلم - يعني علم الأدب - لا موضوع له ينظر في إثبات عوارضه أو نفيها، وإنما المقصود منه عند أهل اللسان ثمرته، وهي الإجادة في فنًي المنظوم والمنثور على أساليب العرب ومناحيهم؛ فيجمعون لذلك من كلام العرب ما عساه تحصل به الملكة، من شعر عالي الطبقة، وسجع متساو في الإجادة، ومسائل من اللغة والنحو مبثوثة أثناء ذلك متفرقة، يستقري منها الناظر في الغالب معظم قوانين العربية، مع ذكر بعض من أيام العرب، ليفهم به ما يقع في أشعارهم منها. وكذلك ذكر المهم من الأنساب الشهيرة والأخبار العامة؛ والمقصود بذلك كله ألا يخفي على الناظر فيه شيء من كلام العرب وأساليبهم ومناحي بلاغتهم إذا تصفحه. . . . . . ثم إنهم إذا أرادوا حدً هذا الفن قالوا: الأدب هو حفظ أشعار العرب وأخبارها، والأخذ من كل علم بطرف)
هذا الحد الذي ذكره ابن خلدون في تعريف علم الأدب - توفي سنة 808 هـ، كان معروفاً لكل المشتغلين بالأدب قبل عهد ابن خلدون، وعليه كان نهج المؤلفين قبل ابن عبد ربه وبعده: يجمعون من أشعار العرب وأخبارها، ويأخذون من كل علم بطرف؛ ليكون من ذلك سبيل إلى تحصيل الملكة، وإلى الإجادة في فنًي المنظوم والمنثور على أساليب العرب مناحيهم؛ وإذا كان ابن عبد ربه لم يقصد من كتابه إلى أكثر من هذا المعنى، فقد كان ذلك نهجه في تصنيف كتابه والحشد له، والتفنن فيما ينقل ويختار من أشعار العرب وأخبارها، ومن أطراف كل علم وطرائفه
ولقد وفق ابن عبد ربه فيما جمع لكتابه من فنون الأخبار، ورعته العناية رعاية هيأت لكتابه الخلود والذكر؛ فإن كثيراً مما اجتمع له في هذا الكتاب قد عصفت الأيام بمصادره الأولى فدرست آثارها وضاعت فيما ضاع من تراث المكتبة العربية وآثار الكتاب العرب، وبقى العقد خلفاً منها لا غناء عنه ولا بديل منه، يرجع إليه الأديب والمؤرخ واللغوي والنحوي والعروضي وصاحب الأخبار والقصص، فيجد كل طلبته وغرضه ولا يستغني عنه غير هؤلاء من طلاب النوادر والطًرف في باب الطعام والشراب والغناء والنساء والحرب والسياسة والاجتماع ومجالس الأمراء ومحاورات الرؤساء، وغير ذلك مما لا يستوعبه الحصر ولا يبلغه الإحصاء
على أن ابن عبد ربه لم ينظر فيما جمع لكتابه من الفنون نظر المختص، بحيث يختار ما يختار لكل فرع من فروع المعرفة بعد نقد وتمحيص واختبار، فلا يقع منه في باب من أبواب الفن إلا ما يجتمع عليه صواب الرأي عند أهله، لا؛ ولكنه نظر إلى جملة ما جمع نظر الأديب الذي يروي النادرة لحلاوة موقعها لا لصحة الرأي فيها، ويختار الخبر لتمام معناه لا لصواب موقعه عند أهل الرأي والنظر والاختصاص. أنظر إليه فيما روي من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً، تجد الصحيح والمردود والضعيف والمتواتر والموضوع. واقرأ له ما نقل من حوادث التاريخ وأخبار الأمم والملوك، تجد منه ما تعرف وما تنكر، وما تصدق وما تكذب، وما يتناقض آخره وأوله، ولم يكن ابن عبد ربه من الغفلة بحيث يجوز عليه ما لا يجوز، ولكنه جامع أخبار ومؤلف نوادر، جمع ما جمع وألف ما ألف، ولكل ناظر في الكتاب بعد ما يأخذ وما يدع. ذلك كان شأنه وشأن المؤلفين في هذا الفن من قبله ومن بعده، على حدود متعارفة بينهم ورسوم موضوعة على أن ذلك لا يعني أن ما جمع من مثل تلك الأحاديث وهذه الأخبار ليس له مغزاه عند أهل الاختصاص والفن، ولكنها أشياء للاستدلال لا للدليل كما يقول أصحاب المنطق
ذلك هو موجز الرأي في التعريف بهذا الكتاب وقيمته فيما عرض له من أبواب العلم والأدب، وبقي علينا أن نعرف المصادر التي استند إليها ابن عبد ربه من الكتب والرواة
يقول ابن عبد ربه في مقدمته: (وقد ألفت هذا الكتاب، وتخيرت جواهره من متخير جواهر الأدب ومحصول جوامع البيان، فكان جوهر الجوهر ولباب اللباب، وإنما لي فيه تأليف الاختيار، وحسن الاختصار، وفرش لصدر كل كتاب؛ وما سواه فمأخوذ من أفواه العلماء، ومأثور عن الحكماء والأدباء وهذا الذي يقوله المؤلف في وصف كتابه، يدعونا إلى السؤال: من أين اختار ابن عبد ربه مختاراته؟ وما هي مصادره الأولى؟
انظر إليه تجده يروي عن الشيباني، والمدائني، والأصمعي، وأبي عبيدة، والعتبي، والشعبي، والسجستاني، والجاحظ، وابن قتيبة، والمبرد، والرياشي، والزيادي، وابن سلام، وابن الكلبي، وغيرهم من علماء المشارقة؛ وعن الخشني، وابن وضاح، وبقي بن مخلد، من علماء الأندلس؛ فأي هؤلاء لقي ابن عبد ربه فأخذ عنهم شفة إلى شفة، وأيهم نقل إليه من أخباره راوية عن رواية؟
لم يعرض أحد ممن ترجموا لابن عبد ربه - للحديث عن رحلة له إلى المشرق، إلا فروضاً نظرية استنبطها بعض المتأخرين لدلائل يستند إليها في كتاب (العقد) ولا نراها تصلح للاستدلال؛ فلم يبق إلا أن صاحب العقد قد روى من أخبار المشارقة ما نقل إليه حيث هو في مقامه من قرطبة، ولم يعبر البحر ولم يركب الصحراء؛ وقد كان من شيوخ ابن عبد ربه في الأندلس كما سنذكره بعد: الخشني، وبقي بن مخلد، وابن وضاح؛ وللأولين منهم رحلة إلى المشرق ورواية
على أن كثيراّ من كتب المشارقة وعلومهم كانت ذائعة بالأندلس لعهد ابن عبد ربه، وكان لها عند العلماء منزلة ومكان؛ فليس ثمة ما يمنع أن يكون ابن عبد ربه قد استعان كثيراً أو قليلاً بما كانت تضم المكتبة العربية في قرطبة من آثار المشارقة.
(البقية في العدد القادم)
محمد سعيد العريان
مجلة الرسالة - العدد 392
بتاريخ: 06 - 01 - 1941
(ونحن ننشر فيما يلي المقدمة الجامعة التي قدم بها هذه الطبعة للتعريف بالكتاب؛ إذ كان مما يهم كثيراً من قراء الرسالة أن يعرفوا عن الكتاب ما لا بد أن يعرفوه؛ وخاصة إن كان هذا البحث مما يدخل في المنهج الذي أعدته وزارة المعارف لامتحان المسابقة بين المدرسين للترقية إلى المدارس الثانوية)
يعد كتاب (العقد) لابن عبد ربه من أقدم ما وصل إلينا من كتب الأخبار والنوادر؛ لم يسبقه إلى هذا الباب فيما نعرف إلا ثلاثة نفر: الجاحظ صاحب البيان والتبيين، سنة 255هـ وابن قتيبة صاحب عيون الأخبار، سنة 276هـ؛ والمبرًد صاحب الكامل سنة 285هـ
على أن ابن عبد ربه وإن كان مسبوقاً إلى التأليف في هذا الباب قد اجتمع له في هذا الكتاب ما لم يجتمع مثله في كتاب قبله ولا بعده من كتب هذا الفن، فكان بذلك حقيقاً بالمنزلة العلية التي أحله إياها أدباء العربية؛ إذ كان مصدراً من أهم مصادر التاريخ الأدبي التي يعول عليها ويستند اليها، بحيث لا يغني غناءه كتاب في المكتبة العربية على غناها وما احتشد فيها من تراث أدباء العرب
والحق أن هذا الكتاب هو موسوعة أدبية عامة، يوشك من ينظر فيه أن يجزم بأنه لم يغادر شيئاً مما يهم الباحث في (علم العرب) إلا عرض له، وأعني بـ (علم العرب) مجموعة المعارف العامة في الأدب والتاريخ والسياسة والاجتماع التي تتكون منها عناصر الثقافة العربية العامة لعهد مؤلف هذا الكتاب؛ وحتى الفروع التي انشعبت من علم العرب قريباً من ذلك التاريخ واختصت بالبحث في (علوم الدين) ثم تميزت باستقلالها. . . لا يعدم الباحث أن يجد فروعاً من مسائلها قد عرض لها صاحب العقد في أبواب متفرقة من كتابه، لعله لا يجد لكثير منها نظائر في كثير من الكتب الخالصة للبحث في هذه العلوم
وثمة فضل آخر يميز صاحب العقد على سابقيه ممن عرضوا لهذا الباب، هو أن ابن عب ربه أندلسي من أهل الجزيرة يتحدث عن أدب المشارقة فلا تقًصر به مغربيته عن اللحاق والسبق؛ ولعل هذا كان بعض دواعي ابن عبد ربه إلى تأليف كتابه؛ إذ كان في طبعه من المنافسة وحب الغلب ما يحفزه إلى هذا المضمار، كما سنذكره بعد
وليس بي حاجة إلى الحديث عن نهج صاحب العقد في تأليف كتابه؛ فقد تكفل هو بتبيان ذلك في مقدمة الكتاب؛ ولكن الذي يعنيني أن أذكره هنا، هو أن ذلك النهج الذي سلكه مسبوقاً إليه وسلكه كذلك من بعده، كان يستند إلى قاعدة مقررة (في علم الأدب) كما عرفه القدماء. أنظر إلى ابن خلدون يقول في مقدمة تاريخه: (هذا العلم - يعني علم الأدب - لا موضوع له ينظر في إثبات عوارضه أو نفيها، وإنما المقصود منه عند أهل اللسان ثمرته، وهي الإجادة في فنًي المنظوم والمنثور على أساليب العرب ومناحيهم؛ فيجمعون لذلك من كلام العرب ما عساه تحصل به الملكة، من شعر عالي الطبقة، وسجع متساو في الإجادة، ومسائل من اللغة والنحو مبثوثة أثناء ذلك متفرقة، يستقري منها الناظر في الغالب معظم قوانين العربية، مع ذكر بعض من أيام العرب، ليفهم به ما يقع في أشعارهم منها. وكذلك ذكر المهم من الأنساب الشهيرة والأخبار العامة؛ والمقصود بذلك كله ألا يخفي على الناظر فيه شيء من كلام العرب وأساليبهم ومناحي بلاغتهم إذا تصفحه. . . . . . ثم إنهم إذا أرادوا حدً هذا الفن قالوا: الأدب هو حفظ أشعار العرب وأخبارها، والأخذ من كل علم بطرف)
هذا الحد الذي ذكره ابن خلدون في تعريف علم الأدب - توفي سنة 808 هـ، كان معروفاً لكل المشتغلين بالأدب قبل عهد ابن خلدون، وعليه كان نهج المؤلفين قبل ابن عبد ربه وبعده: يجمعون من أشعار العرب وأخبارها، ويأخذون من كل علم بطرف؛ ليكون من ذلك سبيل إلى تحصيل الملكة، وإلى الإجادة في فنًي المنظوم والمنثور على أساليب العرب مناحيهم؛ وإذا كان ابن عبد ربه لم يقصد من كتابه إلى أكثر من هذا المعنى، فقد كان ذلك نهجه في تصنيف كتابه والحشد له، والتفنن فيما ينقل ويختار من أشعار العرب وأخبارها، ومن أطراف كل علم وطرائفه
ولقد وفق ابن عبد ربه فيما جمع لكتابه من فنون الأخبار، ورعته العناية رعاية هيأت لكتابه الخلود والذكر؛ فإن كثيراً مما اجتمع له في هذا الكتاب قد عصفت الأيام بمصادره الأولى فدرست آثارها وضاعت فيما ضاع من تراث المكتبة العربية وآثار الكتاب العرب، وبقى العقد خلفاً منها لا غناء عنه ولا بديل منه، يرجع إليه الأديب والمؤرخ واللغوي والنحوي والعروضي وصاحب الأخبار والقصص، فيجد كل طلبته وغرضه ولا يستغني عنه غير هؤلاء من طلاب النوادر والطًرف في باب الطعام والشراب والغناء والنساء والحرب والسياسة والاجتماع ومجالس الأمراء ومحاورات الرؤساء، وغير ذلك مما لا يستوعبه الحصر ولا يبلغه الإحصاء
على أن ابن عبد ربه لم ينظر فيما جمع لكتابه من الفنون نظر المختص، بحيث يختار ما يختار لكل فرع من فروع المعرفة بعد نقد وتمحيص واختبار، فلا يقع منه في باب من أبواب الفن إلا ما يجتمع عليه صواب الرأي عند أهله، لا؛ ولكنه نظر إلى جملة ما جمع نظر الأديب الذي يروي النادرة لحلاوة موقعها لا لصحة الرأي فيها، ويختار الخبر لتمام معناه لا لصواب موقعه عند أهل الرأي والنظر والاختصاص. أنظر إليه فيما روي من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً، تجد الصحيح والمردود والضعيف والمتواتر والموضوع. واقرأ له ما نقل من حوادث التاريخ وأخبار الأمم والملوك، تجد منه ما تعرف وما تنكر، وما تصدق وما تكذب، وما يتناقض آخره وأوله، ولم يكن ابن عبد ربه من الغفلة بحيث يجوز عليه ما لا يجوز، ولكنه جامع أخبار ومؤلف نوادر، جمع ما جمع وألف ما ألف، ولكل ناظر في الكتاب بعد ما يأخذ وما يدع. ذلك كان شأنه وشأن المؤلفين في هذا الفن من قبله ومن بعده، على حدود متعارفة بينهم ورسوم موضوعة على أن ذلك لا يعني أن ما جمع من مثل تلك الأحاديث وهذه الأخبار ليس له مغزاه عند أهل الاختصاص والفن، ولكنها أشياء للاستدلال لا للدليل كما يقول أصحاب المنطق
ذلك هو موجز الرأي في التعريف بهذا الكتاب وقيمته فيما عرض له من أبواب العلم والأدب، وبقي علينا أن نعرف المصادر التي استند إليها ابن عبد ربه من الكتب والرواة
يقول ابن عبد ربه في مقدمته: (وقد ألفت هذا الكتاب، وتخيرت جواهره من متخير جواهر الأدب ومحصول جوامع البيان، فكان جوهر الجوهر ولباب اللباب، وإنما لي فيه تأليف الاختيار، وحسن الاختصار، وفرش لصدر كل كتاب؛ وما سواه فمأخوذ من أفواه العلماء، ومأثور عن الحكماء والأدباء وهذا الذي يقوله المؤلف في وصف كتابه، يدعونا إلى السؤال: من أين اختار ابن عبد ربه مختاراته؟ وما هي مصادره الأولى؟
انظر إليه تجده يروي عن الشيباني، والمدائني، والأصمعي، وأبي عبيدة، والعتبي، والشعبي، والسجستاني، والجاحظ، وابن قتيبة، والمبرد، والرياشي، والزيادي، وابن سلام، وابن الكلبي، وغيرهم من علماء المشارقة؛ وعن الخشني، وابن وضاح، وبقي بن مخلد، من علماء الأندلس؛ فأي هؤلاء لقي ابن عبد ربه فأخذ عنهم شفة إلى شفة، وأيهم نقل إليه من أخباره راوية عن رواية؟
لم يعرض أحد ممن ترجموا لابن عبد ربه - للحديث عن رحلة له إلى المشرق، إلا فروضاً نظرية استنبطها بعض المتأخرين لدلائل يستند إليها في كتاب (العقد) ولا نراها تصلح للاستدلال؛ فلم يبق إلا أن صاحب العقد قد روى من أخبار المشارقة ما نقل إليه حيث هو في مقامه من قرطبة، ولم يعبر البحر ولم يركب الصحراء؛ وقد كان من شيوخ ابن عبد ربه في الأندلس كما سنذكره بعد: الخشني، وبقي بن مخلد، وابن وضاح؛ وللأولين منهم رحلة إلى المشرق ورواية
على أن كثيراّ من كتب المشارقة وعلومهم كانت ذائعة بالأندلس لعهد ابن عبد ربه، وكان لها عند العلماء منزلة ومكان؛ فليس ثمة ما يمنع أن يكون ابن عبد ربه قد استعان كثيراً أو قليلاً بما كانت تضم المكتبة العربية في قرطبة من آثار المشارقة.
(البقية في العدد القادم)
محمد سعيد العريان
مجلة الرسالة - العدد 392
بتاريخ: 06 - 01 - 1941