د. أحمد الحطاب - رجعت عبودية البشر من طرف البشر في حُلَّة عصرية

كانت العبودية esclavage، منذ القِدم، واحدا من الأساليب التي، بواسطتها، كانت فئةٌ محدودة من البشر esclavagistes الأقوياء تبسط نفوذَها على قئةٍ عريضة من البشر المستضعفين. والمستضعفُون من البشر هم الناس الذين يعانون من الفقر ومن هشاشة العيش ومن عدم ضمان مدخول يومي يسدون به رمقَهم ورمقَ أهلهم. وحتي يضمنَ هؤلاء المستضعفون لُقمةَ عيشهم، غالبا ما كانوا ويكونون مضطرين لوضعِ أو رَهن أنفسِهم بين أيدي بشرٍ أقوياء، وغير رحماء، يتمتَّعون بالسلطة (المباشرة أو غير المباشرة) والجاه والمال.

ومن المعروف أن هؤلاء "الأقوياء" يستمدَّون قوَّتَهم، في غالب الأحيان، من تراكم الثروة عند الشخص الواحد. وإذا اقترنت الثروة بالجاه والسلطة، يصبح الأقوياء هم الآمِرُون والنَّاهون في كل شيء. وما يُعزِّز نفوذَ الأقوياء وقوَّتَهم، هو أنهم يُحيطون أنفسَهم بشرذمة من المنافقين الذين يؤازرونهم في بسط نفوذهم على المستضعفين، علما أن الأقوياء والمنافقين يعرفون، حقَّ المعرفة، أنهم يُنافقون بعضُهم بعضا. لكن مصلحةَ الطرفين هي التي تفرض هذا النفاقَ غير المعلن.

والعبودية كانت عبارة عن نظامٍ اجتماعي واقتصادي، وأحيانا، سياسي عرفته تقريبا كل الحضارات الإنسانية بدأً بالحضارة المصرية (الفرعونية) والحضارة الفارسية ومرورا بالحضارة اليونانية والرومانية والعربية /الإسلامية وانتهاءً بالعصور الوسطى le Moyen- ge بأوروبا. والنظام الذي كان سائدا، في العصور الوسطى، كان هو النظام الإقطاعي système féodal أو نظام الإقطاعية féodalité.

ورغم إلغاء العبودية من طرف كثيرٍ من البلدان، وخصوصا، بعد صدور التَّصريح العالمي لحقوق الإنسان déclaration universelle des droits de l'homme سنةَ 1948، استمرَّت العبودية في البقاء، متَّخذةً أشكالاً مخالِفةَ للاشكال التي كانت سائدة في الماضي، لكن دائما في تجاوزٍ صارخٍ للقيم الإنسانية والأخلاقية. فما هي هذه الأشكال المعاصِرة للعبودية؟

قبل الإجابة عن هذا السؤال، أريد أن أثيرَ الانتباهَ أن الأسلامَ أولى عنايةً كبيرةً للمستضعفين من البشر. وتجلَّت هذه العناية في تخصيص الركن الثالث للإسلام ألا وهو الزكاة، كلِّه، لفائدة هؤلاء المستضعفين، مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى : "وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (البقرة، 110).

وفضلا عن الزكاة، الإسلام أوصى بالعناية بالمستضعفين من البشر، وأوصى أن تُعطى لهم الصدقات، وخصوصا، للمٌحتاجين منهم، الذين لا يملكون شيئا أو الذين غيرُ مضمون قوتُ يومهم وغيرهم من الذين يستحقونها، مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى: "إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (التوبة، 60).

بعد هذه التوضيحات، سأعود إلى السؤال المطروح أعلاه والذي هو : "فما هي هذه الأشكال المعاصِرة للعبودية"؟ وكل هذه الأشكال الهدف منها هو استغلال سواعِد وقوة المستضعفين من البشر لإنجاز أعمالٍ، غالبا ما تكون شاقة ومُتعِبة، وبدون شفقة ولا رحمة، ومقابلَ مبلغٍ زهيدٍ من المال. من بين الأشكال المُعاصِرة للعبودية، أذكر على سبيل المثال :

1.من وِجهة نظرٍ سياسية، عندما يكون نظامُ الحكم دكتاتورياً dictatorial أو استبداديا tyrannique أو شمولياً totalitaire، أي عندما يكون الحكمُ ممارساً من طرف شخصٍ واحد، حينها ينمحي مفهوم المواطِن le citoyen ويحلُّ محلَّه مفهوم "الرِعِية" le sujet أو "الرَّعايا" les sujets. حينها، يصبح الحكمُ مطلقاً pouvoir absolu، بينما الحاكم هو الآمِر والناهي. وكل الرعايا يُعتبَرون ملكٌ له، جسداً وعقلاً. بمعنى أن الرعايا مسلوبو الشخصية والحرية والإرادة والتَّفكير، وبالتالي، يُطيعون الراعي (الحاكم) طاعةً عمياء. بعبارة أخرى، كل الرعايا مُتَّهمون إلى أن تثبتَ براءتَهم! أليست هذه عبودية في حُلَّة عصرية؟

2.من وِجهة نظرٍ دينية، عندما يصل المتطرفون الإسلاميون إلى كراسي السلطة، كما هو الشأن، حاليا، في أفغانستان، نِصف المجتمع، أي النساء، مَقصِيٌّ من كل شيء. وبعبارة أخرى، في مثل هذا الحكم التَّسلُّطي، ألمرأة لا تصلح إلا للفراش وللإنجاب. خارج هذا الإطار، لا وجودَ لها. أما الرجال، إما يسيرون في طريق الحكام ويكونوا امتدادا لفكرهم، وإلا فهم معرَّضون، في كل وقتٍ وحينٍ، للتَّعسُّف والقهر والاستبداد. أليست هذه عبوديةٌ يمارسها البشرُ على البشر، في تحدٍّ صارخٍ لقيم العصر الحاضر، الإنسانية، الاجتماعية والأخلاقية.

3.من وِجهة نظرٍ اجتماعية، عندما يُشغِّل "مولْ شْكَارَة" المستضعفين من البشر للقيام بأعمالٍ شاقة، عسيرة، مُضنِية، مُرهِقة… ودون أن يضمنَ لهم ظروفَ عملٍ مُريحة مع حِرمانِهم من حقوقهم المشروعة، من تغطية اجتماعية وصِحيَّة، وتعويضهم بأجورٍ زهيدة بعيدة كل البعد عن ما يُسمَّى الأجر الأدنى البيمِهني المضمون salaire minimum interprofessionnel garanti smig، أليس هذا التَّصرُّف اللاإنساني نوعٌ من العبودية المعاصِرة؟

4.من وِجهة نظرٍ أخلاقية، هل يُعقل، ونحن نعيش في القرن الواحد والعشرين، أن توجدَ عصاباتٌ إجرامية تفرض على نساءٍ وأطفالٍ ممارسة البغاء أو الدعارة؟

5.من وِجهة نظر إنسانية، الحرب الدائرة رحاها اليوم في غزة، هي في الحقيقة، نوع من العبودية التي يريد الأقوياء (الصهيونية وحليفها الغرب) أن يفرضوها على مستضعفين لا يملكون إلا إرادةَ المقاومة.

وقبل أن أختم هذه المقالة، أريد أن أؤكِّدَ أن العبوديةَ، إن اختفت على الورق، فإنها لا تزال قائمة وموجودة على أرض الواقع، لكن مُتَّخذةً أشكالا مختلفة. ولو لم تكن هناك إرادةٌ سياسية قوية لاستئصالها من جذورها، ستبقى قائمة. لماذا؟

لأن أسبابَ وجودها سياسية، دينية، اجتماعية، أخلاقية، إنسانية… والإرادة السياسية القوية، هي وحدها القادرة على مواجهة هذه الأسباب. وكيف ستواجه الإرادة السياسية هذه الأسباب؟ بكل بساطة، بتمكين الإنسان المستضعف من كرامة العيش!

كما أريد أن أُثيرَ الانتباهَ أن الإسلامَ، منذ نشأته، حارب العبودية، وخصوصا، ما كان يُسمى "الرِّق" esclavage، أي الاستغلال الفاحش للبشر من طرف البشر، بل وبيعهم، كالدواب، في أسواق النِّخاسة. ومحاربة العبودية أشار لها الله، سبحانه وتعالى، في آياتٍ كثيرةٍ من القرآن الكريم، أذكر من بينها :

1.فَكُّ رَقَبَةٍ (البلد، 13)، أي تحرير إنسان من الرِّق.

2.وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ... (النساء، 92)، أي أن القاتلَ غير المتعمد، ليُكفِّر عن خطأه، يُخلِّص إنسانا من الرق.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى