كل جيلٍ من الأجيال التي تتعاقب على العيش في المجتمعات، يقول بأنه كان له ما يُسمَّى ب"الزمان الجميل". وانطالاقا من هذا الاعتبار، يصبح لكل جيلٍ "زمانُه الجميل" الخاص به. فجيلٌ له حنينٌ nostalgie للموسيقى، وجيلٌ آخر له حنين للمسرح، وجيلٌ آخر له حنينٌ بالأفلام السينمائية باللونين الأبيض والأسود، وجيلٌ آخر له حنينٌ بليالي الأنس المؤثثة بحكايات الأجداد والجدات، وحيلٌ آخر له حنين بمستوى التَّعليم في الماضي وهكذا.
لكن ما هو متَّفقُ عليه بالنسبة لكل الأجيال، هو أن حياةِ الأجداد كانت أحسن بكثير من حياة الأجيال الحاضرة. لماذا؟
لأن الحياةَ تتغيَّر وتتطوَّر. وتطوُّر الحياة يسير، عادةً وحسب طموح الإنسان، من حسنٍ إلى أحسن. والانتقال من حسن إلى أحسن، وإن كان فيه نفعٌ للناس، لا يمكن أن يتمَّ بدون تعقيد. والتَّعقيد يفرضُه واقعُ المجتمعات. لماذا؟
لأن الإنسانَ كائنٌ اجتماعي، أي كائن يفرض عليه عقلُه أن يعيشَ داخلَ مجتمعات، لكن ليست أية مجتمعات. بل مجتمعات منظَّمة إنسانيا، أخلاقيا، ثقافيا، اجتماعيا واقتصاديا. وحينما أقول "مجتمعات منظمة"، فالأمر يتعلَّق بمجتمعات متوازنة يتساكن ويتعايش فيها الناسُ بغض النظر عن اختلافاتِهم العقائدية والثقافية. فما هو الشيءُ الذي يضمن وسيضمن تنظيمَ وتوازنَ المجتمعات وتساكنَ الناس فيها؟
الضامن الأول والأخير، هو القانون ولا شيءَ غير القانون. وعندما أتحدَّثُ عن القانون، فالأمر يتعلَّق بالقانون المُنصِف، أي غير الجائر، والذي يُرضي كل أفراد المجتمع. ولهذا، فكلما تطوَّرت المجتمعات، كلما تغيَّرت قوانبنُها التي تضمن توازنَها وتساكنَ الناس فيها. وفيما يلي، هذا مثالٌ حيٌّ يُبيِّن أهمِّيةَ تنظيم المجتمعات قانونيا.
في بداية القرن التاسع عشر، كانت الأغلبية الساحقة من الناس تعتمِد، في تنقلاتِها، على البهائم والدواب أو على العربات المجرورة من طرف هذه الدَّواب. ولما ظهرت وسائل النقل الميكانيكية، اضطرَّت المجتمعات إلى إيجاد ما يُسمَّى حاليا بقانون السير code de la route. وقانون السير نفسُه يتغيَّر حسب تطوُّر وسائل النقل وحسب كثافة حركة السير، وبالأخص، حسب تطلعات المجتمعات.
لا يمكن أن تبقى القوانين التي تُنظِّم المجتمعات جامِدةً والمجتمعات تتطوَّر. وإلا سنقول وداعا للتساكن والتَّعايش. ولهذا، كلما تطوَّرت المجتمعات، كلما صاحَب هذا التَّطورَ تعقيدٌ في الحياة. وتعقيدُ الحياة مصدرُه العقل البشري الذي سعى ويسعى دائما إلى تقصير المسافات والوقت وتَلطِيف ما هو شاقٌّ من الأعمال. وذلك بفضل ما وصل إليه العلمُ من تقدُّم وازدهار، وكذلك بفضل ما أنتجته التكنولوجيا من وسائل غزت جميعَ مناحي الحياة.
الأجداد لم يعرفوا، على الإطلاق، هذا التَّعقيد في الحياة. كل مظهرٍ من مظاهر حياتِهم، كانت تطبعه البساطة la simplicité و"المعقول" tout qui est conforme la droiture. والبساطة كانت ظاهرةً في كل شيءٍ، إذ كانت تعني الزُّهد la sobriété في كل شيء : في اللباس، في الأكل، في المعاملات، في السلوك، في التَّصرُّفات… وفيما يلي، سأُركِّز على حياة الأجداد من حيث اللباس والأكل والبيع والشراء.
أولا، فيما يخص اللباسَ، كانت غالبيةُ الأجدادُ يكتفون بألبسة تقليدية متداولة وبسيطة تتألَّف من "،تْشَامِيرْ"، وهو عبارة عن قميصٍ طويلٍ أبيض يصل إلى الكعبين. و"تشامير" يُلبَسُ مباشرةً فوق الجسم، أي بدون ملابس داخلية sous- vêtements. وفوق "تشامير"، يُلبس جِلبابٌ أبيض أو أسود من الصوف. ومن البطن إلى الركبتين، يُلبَسُ سراول "قندريسَ"، ويُغطَّى الرأسُ بعمامة (لْعْصَابة)، غالبا ما تكون، هي الأخرى، بيضاء. أما الرِّجلان، فيَنتعلان "بَلْغَةً" من الجلد لونُه أصفر أو أبيض.
والأجداد لم يكونوا في حاجة إلى الذهاب عند الخياط لخِياطة ملابسهم. بل كانت هذه الملابس تُباع في الأسواق جاهزة للبس. أما الجلبابُ، فغالبا ما كانت قِطعُ قماشه تُصنع في البيوت. وهنا، لا بدَّ من إثارة الانتباهِ إلى أن الأجدادَ لم يكن يهمُّهم مظهرُهم من خلال اللباس. ما كان يهمُّهم أكثر هو الظهور بمظهر يكون فيه "المعقول" هو الخيطُ الناظم لأقوالهم وأفعالهم.
أما اليوم، اللباس أصبح يخضع للموضة la mode. كما أصبح موضوعَ تنافس أو تفاخُرٍ اجتماعي يُعبِّر، من خلاله، الأشخاصُ عن مكانتهم في المجتمع وعن قدرتهم الشرائية. ناهيك عن فئة من الناس لا ترتدي إلا الملابس التي تحمل علامات دور الخياطة الراقية la haute couture. ما يرتديه شخصٌ واحدٌ من ملابس الخياطة الراقية قد يكفي ثمنُه لشراء البِسة لعشرات أجداد الماضي. أرأيتم كيف تحوَّلَ اللباسُ من البساطة عند الأجداد إلى التَّعقيد عند الأجيال الحاضرة. ولهذا قلتُ، أعلاه، أن كلَّ شيءٍ، عند الأجداد كان مبنياً على الزهد.
ثانياً، الأكل عند الأجداد، كانت سِمتُه الأساسية هي البساطة أو الزهد. وهذه البساطة كانت هي التي تُحدِّد نوعيةَ الأكل، إذ كان هذا الأكلُ، في غالب الأحيان، مؤلَّفا من الشاي بالنعناع والزبدة البلدية وخبز الشعير (المحراشْ المطهي فوق الفرَّاح، والفرَّاح هو إناءٌ أو قصعةٌ من الطين يُطهى فوقها الخبزُ). وقد يشملُ الأكل البسيط، كذلك، "سَيْكُوكْ" الذي هو عبارة عن خليطٍ بين اللبن أو الحليب الممخوض babeurre وسميد غليظ semoule épaisse من حبوب الشعير المفرومة. كما يتألَّف الأكل البسيط كذلك من "الزَّميطة" التي هي عبارة عن خليطٍ من الماء وحبوب قمحٍ مُحمَّصَة graines de blé grillées. إضافةً إلى الكسكس الذي كان يُسمَّى "طْعَامْ" أو نوع آخر من الكسكس يُسمَّى"بدَّاز" المصنوع من سميد الذرة semoule de maïs.
ومع ذلك، لم تؤثِّر بساطةُ الأكل على الصحة الجسمانية للأجداد. بل كانوا يقومون بأعمالٍ شاقة طيلة يومهم، وخصوصا، أولئك الذين كانوا يعملون في حقول فلاحة الحبوب حيث كل الأعمال كانت يدوية تتطلَّب جُهدا وطاقةً كبيرين.
أما اليوم، فالأكل، بحُكم الأبحاث التي قام ويقوم بها المُتخصِّصون في التغذية، أصبح موضوعَ تعقبدٍ لا مثيلَ له. فعندما يدخل شخصٌ ما متجرا كبيرا grande surface de commerce يجد أن أكثرَ من نصف السِّلع المعروضة للبيع هي مأكولات تختلف أشكالاً وأنواعاً. فشتان ما بين بساطة أكل الأجداد وأكل الأجيال الحاضرة. أكلُ الأجداد، رغم بساطته، كان صحيا، لأن مُكوِّناته كانت، كلها، بيولوجية، أي خالية من كل المواد الكيميائية التي تُضاف، اليوم، للأغذية، إما لتدومَ أطول مدة، وإما للحفاظ على الذوق أو على المظهر… كل ما كان يُطهى، يُؤكَل في يومه من طرف الأجداد.
أما أكل الأجيال الحاضرة، فقد يتسبَّب في كثيرٍ من الأمراض، وعلى رأسها السُّمنة obésité والسرطان le cancer. إن كانت بساطةُ العيش واللباس ميزة من ميزات الأجداد، فالمهمُّ في حياتِهم هو "المعقول". "المعقول عند الأجداد لا يتساوى معه إلا "المعقول".
ثالثاً، والدليل على ذلك أن الأجدادَ، عندما كانوا يتعاطون للبيع والشراء، ف"المعقولُ" هو الخيطُ الناظِم لمعاملاتِهم. و"المعقول" في البيع والشِّراء كان يتجلَّى، عند الأجدادِ، فيما كان يُسمَّى "لْكْلْمَة"، أي أن صدقَ القولَ هو الضامنُ لشفافية البيع والشِّراء. فالأجداد لم يكونوا في حاجة لمَن يوثِّق عمليات البيع والشراء. كانت "لْكْلْمَة" هي التي تضمن الثقةَ بين البائع والمشتري. كانت "لْكْلْمَة" هي الموثِّق، وهي العدول، وهي العقد، وهي الأمن والأمان.
أما اليوم، فعمليةُ البيع والشراء أصبحت معقَّدةً إلى حد كبير. لماذا؟
أولا وكما سبق الذكرُ، المجتمعات تتطوَّر. وكلما تطوَّرت، كلما تعقَّدت. وكلما تعقَّدت، كلما وجبَ تطويرُ القانون للحِفاظ على نِعمتَي التَّساكن والتعايش داخلَ المجتمعات.
ثانياً، إن لم يكن البائع والمشتري يَقِظَين، فسُرعان ما يتعرَّض البائع أو المشتري للنَّصب والاحتيال، وخصوصا، في الأسواق الأسبوعية. الأسواق الأسبوعية التي كانت فيها "لْكْلْمَة" هي أساسُ البيع والشراء.
ثالثا، ما كان يحتاج فقط ل"لْكْلْمَة"، أصبح يتطلَّب الموثِّقَ أو للعدولَ، وربما شهودا، وملفات، و وثائق، ومصاريف وضرائب ورسوما.. وُ شوف تشوف!
لكن ما هو متَّفقُ عليه بالنسبة لكل الأجيال، هو أن حياةِ الأجداد كانت أحسن بكثير من حياة الأجيال الحاضرة. لماذا؟
لأن الحياةَ تتغيَّر وتتطوَّر. وتطوُّر الحياة يسير، عادةً وحسب طموح الإنسان، من حسنٍ إلى أحسن. والانتقال من حسن إلى أحسن، وإن كان فيه نفعٌ للناس، لا يمكن أن يتمَّ بدون تعقيد. والتَّعقيد يفرضُه واقعُ المجتمعات. لماذا؟
لأن الإنسانَ كائنٌ اجتماعي، أي كائن يفرض عليه عقلُه أن يعيشَ داخلَ مجتمعات، لكن ليست أية مجتمعات. بل مجتمعات منظَّمة إنسانيا، أخلاقيا، ثقافيا، اجتماعيا واقتصاديا. وحينما أقول "مجتمعات منظمة"، فالأمر يتعلَّق بمجتمعات متوازنة يتساكن ويتعايش فيها الناسُ بغض النظر عن اختلافاتِهم العقائدية والثقافية. فما هو الشيءُ الذي يضمن وسيضمن تنظيمَ وتوازنَ المجتمعات وتساكنَ الناس فيها؟
الضامن الأول والأخير، هو القانون ولا شيءَ غير القانون. وعندما أتحدَّثُ عن القانون، فالأمر يتعلَّق بالقانون المُنصِف، أي غير الجائر، والذي يُرضي كل أفراد المجتمع. ولهذا، فكلما تطوَّرت المجتمعات، كلما تغيَّرت قوانبنُها التي تضمن توازنَها وتساكنَ الناس فيها. وفيما يلي، هذا مثالٌ حيٌّ يُبيِّن أهمِّيةَ تنظيم المجتمعات قانونيا.
في بداية القرن التاسع عشر، كانت الأغلبية الساحقة من الناس تعتمِد، في تنقلاتِها، على البهائم والدواب أو على العربات المجرورة من طرف هذه الدَّواب. ولما ظهرت وسائل النقل الميكانيكية، اضطرَّت المجتمعات إلى إيجاد ما يُسمَّى حاليا بقانون السير code de la route. وقانون السير نفسُه يتغيَّر حسب تطوُّر وسائل النقل وحسب كثافة حركة السير، وبالأخص، حسب تطلعات المجتمعات.
لا يمكن أن تبقى القوانين التي تُنظِّم المجتمعات جامِدةً والمجتمعات تتطوَّر. وإلا سنقول وداعا للتساكن والتَّعايش. ولهذا، كلما تطوَّرت المجتمعات، كلما صاحَب هذا التَّطورَ تعقيدٌ في الحياة. وتعقيدُ الحياة مصدرُه العقل البشري الذي سعى ويسعى دائما إلى تقصير المسافات والوقت وتَلطِيف ما هو شاقٌّ من الأعمال. وذلك بفضل ما وصل إليه العلمُ من تقدُّم وازدهار، وكذلك بفضل ما أنتجته التكنولوجيا من وسائل غزت جميعَ مناحي الحياة.
الأجداد لم يعرفوا، على الإطلاق، هذا التَّعقيد في الحياة. كل مظهرٍ من مظاهر حياتِهم، كانت تطبعه البساطة la simplicité و"المعقول" tout qui est conforme la droiture. والبساطة كانت ظاهرةً في كل شيءٍ، إذ كانت تعني الزُّهد la sobriété في كل شيء : في اللباس، في الأكل، في المعاملات، في السلوك، في التَّصرُّفات… وفيما يلي، سأُركِّز على حياة الأجداد من حيث اللباس والأكل والبيع والشراء.
أولا، فيما يخص اللباسَ، كانت غالبيةُ الأجدادُ يكتفون بألبسة تقليدية متداولة وبسيطة تتألَّف من "،تْشَامِيرْ"، وهو عبارة عن قميصٍ طويلٍ أبيض يصل إلى الكعبين. و"تشامير" يُلبَسُ مباشرةً فوق الجسم، أي بدون ملابس داخلية sous- vêtements. وفوق "تشامير"، يُلبس جِلبابٌ أبيض أو أسود من الصوف. ومن البطن إلى الركبتين، يُلبَسُ سراول "قندريسَ"، ويُغطَّى الرأسُ بعمامة (لْعْصَابة)، غالبا ما تكون، هي الأخرى، بيضاء. أما الرِّجلان، فيَنتعلان "بَلْغَةً" من الجلد لونُه أصفر أو أبيض.
والأجداد لم يكونوا في حاجة إلى الذهاب عند الخياط لخِياطة ملابسهم. بل كانت هذه الملابس تُباع في الأسواق جاهزة للبس. أما الجلبابُ، فغالبا ما كانت قِطعُ قماشه تُصنع في البيوت. وهنا، لا بدَّ من إثارة الانتباهِ إلى أن الأجدادَ لم يكن يهمُّهم مظهرُهم من خلال اللباس. ما كان يهمُّهم أكثر هو الظهور بمظهر يكون فيه "المعقول" هو الخيطُ الناظم لأقوالهم وأفعالهم.
أما اليوم، اللباس أصبح يخضع للموضة la mode. كما أصبح موضوعَ تنافس أو تفاخُرٍ اجتماعي يُعبِّر، من خلاله، الأشخاصُ عن مكانتهم في المجتمع وعن قدرتهم الشرائية. ناهيك عن فئة من الناس لا ترتدي إلا الملابس التي تحمل علامات دور الخياطة الراقية la haute couture. ما يرتديه شخصٌ واحدٌ من ملابس الخياطة الراقية قد يكفي ثمنُه لشراء البِسة لعشرات أجداد الماضي. أرأيتم كيف تحوَّلَ اللباسُ من البساطة عند الأجداد إلى التَّعقيد عند الأجيال الحاضرة. ولهذا قلتُ، أعلاه، أن كلَّ شيءٍ، عند الأجداد كان مبنياً على الزهد.
ثانياً، الأكل عند الأجداد، كانت سِمتُه الأساسية هي البساطة أو الزهد. وهذه البساطة كانت هي التي تُحدِّد نوعيةَ الأكل، إذ كان هذا الأكلُ، في غالب الأحيان، مؤلَّفا من الشاي بالنعناع والزبدة البلدية وخبز الشعير (المحراشْ المطهي فوق الفرَّاح، والفرَّاح هو إناءٌ أو قصعةٌ من الطين يُطهى فوقها الخبزُ). وقد يشملُ الأكل البسيط، كذلك، "سَيْكُوكْ" الذي هو عبارة عن خليطٍ بين اللبن أو الحليب الممخوض babeurre وسميد غليظ semoule épaisse من حبوب الشعير المفرومة. كما يتألَّف الأكل البسيط كذلك من "الزَّميطة" التي هي عبارة عن خليطٍ من الماء وحبوب قمحٍ مُحمَّصَة graines de blé grillées. إضافةً إلى الكسكس الذي كان يُسمَّى "طْعَامْ" أو نوع آخر من الكسكس يُسمَّى"بدَّاز" المصنوع من سميد الذرة semoule de maïs.
ومع ذلك، لم تؤثِّر بساطةُ الأكل على الصحة الجسمانية للأجداد. بل كانوا يقومون بأعمالٍ شاقة طيلة يومهم، وخصوصا، أولئك الذين كانوا يعملون في حقول فلاحة الحبوب حيث كل الأعمال كانت يدوية تتطلَّب جُهدا وطاقةً كبيرين.
أما اليوم، فالأكل، بحُكم الأبحاث التي قام ويقوم بها المُتخصِّصون في التغذية، أصبح موضوعَ تعقبدٍ لا مثيلَ له. فعندما يدخل شخصٌ ما متجرا كبيرا grande surface de commerce يجد أن أكثرَ من نصف السِّلع المعروضة للبيع هي مأكولات تختلف أشكالاً وأنواعاً. فشتان ما بين بساطة أكل الأجداد وأكل الأجيال الحاضرة. أكلُ الأجداد، رغم بساطته، كان صحيا، لأن مُكوِّناته كانت، كلها، بيولوجية، أي خالية من كل المواد الكيميائية التي تُضاف، اليوم، للأغذية، إما لتدومَ أطول مدة، وإما للحفاظ على الذوق أو على المظهر… كل ما كان يُطهى، يُؤكَل في يومه من طرف الأجداد.
أما أكل الأجيال الحاضرة، فقد يتسبَّب في كثيرٍ من الأمراض، وعلى رأسها السُّمنة obésité والسرطان le cancer. إن كانت بساطةُ العيش واللباس ميزة من ميزات الأجداد، فالمهمُّ في حياتِهم هو "المعقول". "المعقول عند الأجداد لا يتساوى معه إلا "المعقول".
ثالثاً، والدليل على ذلك أن الأجدادَ، عندما كانوا يتعاطون للبيع والشراء، ف"المعقولُ" هو الخيطُ الناظِم لمعاملاتِهم. و"المعقول" في البيع والشِّراء كان يتجلَّى، عند الأجدادِ، فيما كان يُسمَّى "لْكْلْمَة"، أي أن صدقَ القولَ هو الضامنُ لشفافية البيع والشِّراء. فالأجداد لم يكونوا في حاجة لمَن يوثِّق عمليات البيع والشراء. كانت "لْكْلْمَة" هي التي تضمن الثقةَ بين البائع والمشتري. كانت "لْكْلْمَة" هي الموثِّق، وهي العدول، وهي العقد، وهي الأمن والأمان.
أما اليوم، فعمليةُ البيع والشراء أصبحت معقَّدةً إلى حد كبير. لماذا؟
أولا وكما سبق الذكرُ، المجتمعات تتطوَّر. وكلما تطوَّرت، كلما تعقَّدت. وكلما تعقَّدت، كلما وجبَ تطويرُ القانون للحِفاظ على نِعمتَي التَّساكن والتعايش داخلَ المجتمعات.
ثانياً، إن لم يكن البائع والمشتري يَقِظَين، فسُرعان ما يتعرَّض البائع أو المشتري للنَّصب والاحتيال، وخصوصا، في الأسواق الأسبوعية. الأسواق الأسبوعية التي كانت فيها "لْكْلْمَة" هي أساسُ البيع والشراء.
ثالثا، ما كان يحتاج فقط ل"لْكْلْمَة"، أصبح يتطلَّب الموثِّقَ أو للعدولَ، وربما شهودا، وملفات، و وثائق، ومصاريف وضرائب ورسوما.. وُ شوف تشوف!