د. أحمد الحطاب - الادِّعاءُ بالقوة أمرٌ مُلازِم للبشر ماضياً وحاضراً

ما أبدأ به هذه المقالة، هي الآية الكريمة رقم 69 من سورة التوبة : "كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُم بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَـٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ".

في هذه الآية، كلامُ الله موجَّهٌ للمنافقين الذين يتظاهرون بالإيمان، وهم، في قرارة أنفسهم، لا يؤمنون. في الحقيقة، هذه الآية، هي بمثابة تحدير للذين يدَّعون أنهم أقوياء ويستُّمدون قوَّتَهم من السلاح أو من الثروة (الغِنى) أو من الذرية، أو من جهل المجتمع. غير أن قوَّتَهم هذه لا تُساوٍي شيئا أمام قدرة الله سبحانه وتعالى. ولو استفادوا من نصيبهم (بِخَلَاقِهِمْ) في الدنيا، كما استفادتِ الأقوامُ من قبلهم، فإنهم، في نهاية المطاف، هم الخاسرون، أي استمدوا قوَّتَهم من أشياء فانية، أي من أشياء لا تدوم، بمعنى أن هذه الأشياء تختفي بعد الموت. بل إن هذه الأشياء التي يتوهَّم المنافقون أنها تُعطيهم القوة، لا يمكن أن تصمدَ أمام قدرة الله.

وهذا هو ما حصل للأقوام الغابرة كقوم نوح وأصحاب الرس، وثمود، وعاد، وفرعون، وقوم لوط، وأصحاب الأيكة، وقوم تبع… كلهم كانوا يدَّعون القوةَ، وبالتالي، قوَّتُهم هذه هي التي دفعتهم لجحود الرسالات السماوية. بل إنهم كانوا يقتلون الأنبياء، مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى : "ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ… وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ (آل عمران، 112).

وهذا دليلٌ على أن "الادِّعاءَ بالقوة" كان موجودا منذ القِدم. وهو ما أشار إليه، سبحانه وتعالى، في الآية الموالية، بالنسبة لعادٍ، حيث قال : "فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (فصلت، 15).

ولا يزال "الادِّعاءَ بالقوة" مستمرّاً إلى يومنا هذا، سواءً على مستوى الأفراد أو الجماعات أو حتى على مستوى الدول.

على مستوى الأفراد، تراكم الثروة عند الشخص الواحد، غالبا ما كان ولا يزال، إلا مَن رحم ربِّي، يقترن بالطغيان والعجرفة والاستبداد. وهذا النوعُ من البشر لا يزال يعيش بين ظُهراننا. بل لا يزل يعِثُ في الأرض فسادا، متَّخِذا كشِعار : "المال يفتح كلَّ الأبواب"، وحتى تلك التي أُحْكِمَ إغلاقُها. وهذا النوع من البشر لهم نفوذ قوي في المجتمع. أما إذا دخلوا عالمَِ السياسة ومزجوا المالَ بالسلطة، فحدِّث ولا حرج!

أما على مستوى الجماعات، فأحسن طريقة لتجسيد "الإدِّعاء بالقوة" على أرض الواقع، هو استغلال الدين. وهذا هو ما تفعله الجماعات السلفية المتطرِّفة في كثير من بلدان العالم، وخصوصا، البلدان الإسلامية غير المستقرة سياسيا وأمنيا.

أما على مستوى الدول، الدول القوية لا تحتاج إلى "الادِّعاء بالقوة" لأنها فعلا و واقغياً قوية. وقوَّتُها مستمدَّة من اقتصادها، من نفوذها الجيوسياسي والجيواستراتيجي، من ترساناتِها النووية، من جيوشها المُدجَّجة بمختلف أنواع الأسلحة الفتاكة، من صدارتها في مجالي الإنتاج العلمي والتكنولوجي، من تحكُّمها في إصدار قرارات الأمم المُتَّحدة… ومن تبنِّيها للديمقراطية والاهتمام بأمور شعوبها.

وكل ما يجعل بعض دول العالم قويةً، هو من إنتاج العقل البشري. وهذا هو الفرق الشاسع بين مَن يدَّعي القوةَ ومَن هو قوي فعلا على أرض الواقع. الأول لا يُشغِّل عقلَه للوصول إلى القوة. والثاني شغَّل ويُشغِّل وسيُشغِّل عقلَه ليزداد قوةً. الأول يكتفي ب"نُباح" الادعاء بالقوة والثاني يعمل في صمتٍ، لكن صمت منتِج ومربح.

فمثلا، الطالبان الذين يسيطرون على الحكم في أفغانستان، يظنون، بل هم متيقِّنون بأن قوَّتَهم مستعدة من الدين، وليس أي دين. بل دين متطرِّف. هؤلاء الطالبان لا يُشغِّلون عقولَهم، أولا لفهم الدين فهماً معتدلا، وثانيا، لا يُشغِّلون عقولَهم لإنتاج ما يجعلهم أقوياء على أرض الواقع. يكتفون بالادِّعاء بما ليس في مِلكهم بينما مِلكهم الحقيقي والثمين وملك الدول القوية، هو العقل.

فئةٌ عرفت كيف تُشغِّل هذا العقلَ، وفئة همَّشته وجمَّدته، مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى : "يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (البقرة، 269). والحُكماء هم العقلاء، أي الذين، قبل أن ينطقوا أو يعملوا، يُشغِّلون عقولَهم. والحِكمة هي التي تسهِّل فهمَ الدين.

وأخيرا، فهل يستوي "الادِّعاء بالقوة" والقوة الفعلية، الملموسة على أرض الواقع؟

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى