** ورقة عمل أُلقيت في ملتقى الثقافة وهوية النَّص في عمان
المقدمة
جذبني الإنتاج السردي الحديث في سلطنة عمان، وعايشته معايشة تامة عن قرب، ولعل القصة القصيرة على وجه الخصوص دفعتني بما تمتعتْ به – في كثير من الأحيان- من جودة في المعالجة، ودقة في التصوير، ووقوف متزنٍ واعٍ على أبعاد واقع حيّ، وبما يُسجل لها كذلك من نجاح في التأكيد على العلاقة الوطيدة التي تربط واقع الإنسان – بمفهومه الشمولي- وبين واقع خارجي يعيشه من ناحية، وبين الحياة برمتها، عبر دوافع محددة منبعها النفس الإنسانية، وعالم الإنسان الباطن من ناحية أخرى، للوقوف دارسة لها محللة بعض خصائصها، وممحصة شيئا من عناصر بنائها الفني.
أخذت القصة العمانية القصيرة في السنوات الأخيرة، -ولا أحددها بعشر، أو بخمس عشرة سنة فحسب- تخطو خطوات واضحة، وبدت بصماتها في عالم الأدب العماني والعربي على حد سواء، ومما يجدر ذكره هنا، أن هذا الإنتاج القصصي –وكثير منه يمتاز بالجودة والإبداع- على تنوع قضاياه، وتطور أساليبه، افتقد من يقوم بنقده بصورة موضوعية علمية، بعيدة عن الدوافع الذاتية(*)، ومن هنا شعرتُ بقربي من هذا الإنتاج، بروحه الشابه الصادقة، وبكل ما فيه من بواعث صريحة لمشاعر الإنسان، والإحساس بصدق التجربة والمعناة، ومنطقية الحدث الذي يعيشه القاص، وينقله للآخرين بغية معايشته والإحساس به.
ومهما يكن من أمر، فمن الطبيعي أن يعكس الكاتب أبعاد واقعه، سواء عن طريق رصد معالم واقعه الباطني بالنظر إلى دواخل الذات الإنسانية، أو عن طريق تسجيل أبعاد عالم خارجي تتحدد عن طريق الاتصال بالسلوك الذاتي للإنسان، وإن بدت نشاطات الشباب في مجال القصة القصيرة تتخذ مؤخرا من الاتجاه السائد –على مستوى العالم- من رصد العالم الباطني للفرد طريقا فنيا للتعبير والتصوير.
يعدّ مبحث الذات من المباحث الدقيقة والمتشعبة، التي تتباين فيها المفاهيم، وتتفاوت التحديدات؛ لذا سأحاول في هذه الدراسة رصد ماهية الذات، كما تبدّت في النَّص القصصي العماني الحديث. بهدف تبيان ملامحه وهويته.
وفكرة البحث عن مطلق التي نحن بصدد دراستها هنا في مجال القصة العمانية المعاصرة، حددت هذه الرؤى، وتلك المفاهيم، مع تباين في طرق التعامل مع عناصر البناء الفني للقصة، فجاءت بعض نماذج هذه القصص إنسانية أقرب إلى النماذج المسطحة، فاقدة السمات، والملامح، وبدت بعض الشخصيات في رسمها غائمة، لا تتسم بمسحة الواقعية في شيء، ولعل هذا يتناقض مع ما أشرنا إليه من وجوب الانتقال من واقع الذاتيات المحدود لدى الفنان، إلى واقع التلاحم، بين الذات المفردة، والواقع بكل مافيه، ومَنْ فيه.
تتناول الدراسة القضية في نصوص حديثة مهمة من النصوص القصصية العمانية، قدَّمت وجهات نظر مختلفة عن صياغة الذات الإنسانية، والهوية الثقافية. أولها يتناول فيه الكاتب علاقة الفرد بذاته، والثاني تتحدد فيه علاقة الفرد مع واقعه الخارجي والآخرين ممن يعايشهم، أما الثالث فيركز على تلك العلاقة الأكثر شمولية واتساعا، التي تربط الفرد بواقع الإنسانية الرحب(*).
وكثيرة هي تلك التجارب القصصية التي وقفتُ عندها، والتي حدّدتْ خطوطا عامة وواضحة لمعالجة تلك العلاقات مع المجتمع، وتحديد هوية ذلك التغيير، أو ذلك الثبات، والنصوص المنتقاة، هي:
– “وهج اللحظة الدفين” لمحمد القرمطي، من مجموعة “ساعة الرحيل الملتهبة” الصادرة عام 1988 مطبعة الألوان الحديثة، مسقط.
– “أرجوحة العاطل” لمحمود الرحبي، من مجموعة “اللون البني” الصادرة عام
1998دار المدى للثقافة والنشر، دمشق.
– “لعبة حمقاء” للخطاب المزروعي، من مجموعة “لعنة الأمكنة” الصادرة عام 2003 دار نينوى، دمشق.
– “رفرفة” لبشرى خلفان، من مجموعة “رفرفة” الصادرة عام 2004 المؤسسة العربية للدراسات والنشر، عمَّان.
– “لماذا.. لأن” لسليمان المعمري، من مجموعة “الأشياء أكثر مما تبدو في المرآة” الصادرة عام2005، الانتشار العربي، بيروت.
– “التحدي” لعبدالعزيز الفارسي، من مجموعته “وأخيرا استيقظ الدب” الصادرة عام 2009، الانتشار العربي، بيروت.
مع ضرورة الإشارة أننا لن نركز على تاريخ الصدور عند المعالجة، بمقدار التركيز على الكيفية التي عالج فيها الكاتب القضية في متنه القصصي، وإبراز الذات الباحثة عن المطلق.
الذات الباحثة والبعد الاجتماعي
يبدو القلق عاملا أساسيا، لتحريك كثير من كتَّاب القصة وكاتباتها، ولعل هذا البعد النفسي قد شكَّل انعكاسا دقيقا وواضحا على طرق معالجات الكتَّاب في مجال القصة في العالم بأسره. ويرى الدكتور محمود السمرة أن عالم النفس يواجه في العمل الفني –على اختلاف أشكاله- كثيرا من أوجه”النشاط النفسي المعقدة، إلَّا أنَّه نتاج إرادي قد تمَّ بطريقة الوعي، وفي حالة الفنان-خاصة في مجال القصة- فإنَّه يبحث في الجهاز النفسي نفسه، فهو الحالة الأولى يحلل لنا نفسانيا العمل الفني، أما في الحالة الثانية، فإن عليه أن يحلل الإنسان الحيّ الخالق لشخصية مستقلة”(1).
وقد لعب القلق دورا مهما في تحديد مفهوم عالم للقصة في الوقت الحاضر، وحدد كذلك البعد الحقيقي لمعظم كتَّاب هذا الفن على تطوره وانتشاره. والقلق سمة عصر التطور والحضارة، ويبدو معادلا موضوعيا مقنعا لهذا التطور، ونتيجة حتمية له. لهذا كلَّه، فقد تعددت نماذج كتَّاب القصة حول معالجة موضوعات تبلور القلق الحياتي بعامة، وظهرت تلك النماذج، باعتبارها التصوير الصادق والموضوعي لإفرازات الحياة المتوترة والصاخبة، التي يحياها إنسان العصر.
والتطلع إلى الخلاص –على الإحساس النفسي- على أقل تقدير، والنجاة من هوة الانحصار داخل إطار الخوف والتوتر والقلق، كان بمثابة الخطوة الإيجابية التي يسعى الإنسان إلى تحقيق الهدف من ورائها، والذي لا شك فيه بهذا الصدد أن إنسان هذا العصر جاءت كتاباته إفرازا لنفس هذا الواقع، ونتيجة طبيعية لأحداثه ووقائعه.
وقد تنوعت طرق تناول الكاتب في القصة العمانية من أجل التعبير عن قضاياه، وكانت القصة في ذلك مسايرة ذلك التطور الذي ألمَّ بالقصة على مستوى العالم كلِّه، وظهرت نماذج لقصص استمدت من واقع الحياة ذاتها. كما تنوعت طرق التعامل هذه الشخصيات، ولعلي لا أبالغ في الرأي حين أقول إن بعض كتّاب القصة قدَّموا للقارئ في إنتاجاتهم القصصية، إمكانات طيبة في مجال رسم شخصية الباحث عن المطلق، ومعظم هذه الشخصيات جاءت إفرازا لإحساسات الكتّاب أنفسهم، وترجمة صادقة لمعاناة الإنسان في زمن التخبط وفقدان هوية الذات، وعبر هذه المسارات، ومع هذه الرؤية النفسية الدقيقة، جاءت معظم القصص صادقة في معاناتها، وترجمات أصحابها، وعرضت تلك القصص لشخصية الباحث عن المطلق من منطلقين:
أولهما، التحرك داخل حدود الذات، والبحث عن مسار للخلاص، غير مؤهل صاحبه له، فيكون الضياع والتأزم نتيجة حتمية، ومنطقية لهذا التقوقع المزمن.
ثانيهما، البحث داخل إطار أكثر اتساعا، وشمولية، ورحابة لكنَّه يبدو غائما، وقلقا كذلك بالرغم من اتساع حدوده، ذلك لأن الباحث –كما أشرت- إنسان مأزوم، ضائع، فاقد الصلة مع ذاته. ويبدو الانفصال عن واقعه أساسا لأزمته، وتوتره، وضياعه لا يخطو إلَّا في دائرة مغلقة معتمة.
والقاص حين يرصد مثل هذه القضايا، ويعالجها من خلال شخصيات الباحثين عن المطلق، خلاصا من واقع نفسي مهترئ، إنَّما يسعى في المقام الأول للبحث عن مكمن لسعادة حقيقية، يجتاز بها مع هذه النماذج ذلك الواقع، ومن هنا فالفن يتحدد بهذا المنطلق، أساسه الحقيقي، وبعده الإنساني الأمثل، “فالفن تعبير الإنسان عن استمتاعه بالعمل، وليس هو مجرد مصدر للسعادة، بل هو نتيجة شعور بالسعادة، وقيمته الحقيقية تنحصر في العملية الخلاقة”(2)
والبحث عن المطلق – كما أشرت من قبل- هو ترجمة الواقع والحياة ذاتها، بكل ما اعتورها من صخب وتطور من ناحية، وسقوط وتردي من ناحية أخرى، وهذان يشكلان الجانب الأول في القضية؛ بينما يمثل الجانب الثاني منهما ذلك التطور المتلاحق الذي أصاب واقع الحياة النفسية، والاجتماعية، وما حققه الباحثون، والمهتمون بهذه المجالات من إبداعات، ورؤية دقيقة راصدة لبنية اإنسان العصر، وعلاقتها بتطور الحياة وانفصالها عنها أو اتصالها بها، ثم مدى انشداده أو تخليه عن جذوره العريقة التليدة، كل هذا شكَّل البنى الأساسية لروايات وقصص الأدب الحديث في العالم، والتي انبثقت من نماذج شخصياتها شخصية الباحث عن المطلق.
أزمة الذات الباحثة وتصورها في القصة
القصة العمانية المعاصرة، تكاد تنحصر معظم إنتاجاتها في هذا المضمار، صحيح أن هناك كثيرا من القصص التي تتحرك في مسارات أخرى، منها الاجتماعي المباشر، ومنها معالجات رومانسية شفافة، لكنني أستطيع التأكيد على أن معظم إنتاجات الكتَّاب الشباب تتحرك بغية عرض نماذج متباينة للباحثين عن المطلق، باعتبارهم جزءا من التطور الحضاري المتنامي تباعا، وهذا يؤكد على أن الفن عموما وبعد كل شيء أحد الوظائف الاجتماعية عند الإنسان، والأدب وهو – أحد الفروع الرئيسة للفن- ليس عملا من “أعمال البنية الاجتماعية أو الإنسانية، كما هي الحال في المشي، والأكل مثلا، بل هو جزء من النمو الاجتماعي، أو الحضاري ذاته”(3).
ولعل هذا يتصل اتصالا وثيقا بطبيعة الكتَّاب أنفسهم، فمعظهم تشرب التطور والمعاصرة، وعايشوا حركات الحياة في مساراتها الثقافية والفكرية والعلمية، وألموا بكثير من سمات الحضارة والتطور في العالم، أضف إلى هذا أنهم أحسّوا بما يضطرهم من واقع الحياة على المستوى العالمي كلّه من صخب الحياة وتوترها، ومدى انعكاس هذا على الإنسان ذاته، الإنسان بكل معاناته، وصراعاته بغية تحقيق ذاته، في عالم جديد، ذي ملامح مغايرة لما يعيشها في الواقع. ومن هنا بدت شخصيات القاصيين عاكسة في كثير من الأحيان بعضا من جوانب، ورؤى، وأفكار، وإحساسات كتّاب القصة أنفسهم.
ومهما يكن من أمر، فإن بعض كتَّاب القصة العمانية في هذا المضمار لم يتخلوا عن الطرح الدقيق للقضية، بل إن بعضهم حسمها، ووضع لبنات البناء السليم للحياة المستهدفة، وبدا بعض الكتّاب عارضا القضية في قالب الرمز والإيحاء، بعيدا عن وضوح الرؤية، أو تحديد الفكرة.
وتتشكل لدى هؤلاء القاصيين مادة الحياة ذاتها، التي تعكس قلق الإنسان وتوتره، فتعرضها في قوالب جديدة ومستحدثة، لتعبث في أعماق المتلقي مشاعر التجاوب والتفاعل، وتحقق المادة القصصية لدى هؤلاء الكتَّاب مفهوم الفن والأدب الأساسي، وتحدد دوره أيضا، فمادة الأدب في المقام الأول”تستمد من البشرية، والتجربة الإنسانية، ثم تعود، إذ تعود منتعشة في ثوب جديد من التأويل، ليتسلمها الناس من جديد، فتصبح مرة أخرى جزءا من تجربتهم، والفنان في هذه العملية هو الوسيط، والوسيلة، ويقين أن الفن أو الفنان لن يجد فائدة في الانفصال عن المجتمع الأكبر، فهذا لكليهما، وبمعنى مزدوج، مصدر الحياة وينبوعها”(4).
يتناول (الخطاب المزروعي) من هذا المنطلق في قصته، لعبة حمقاء نموذجا لإنسان التوتر والبحث المضني عن شيء ما، يقول القاص في معرض رصده لمعالم شخصيته القصصية: “ماذا عساي أكتب؟ ولمن؟. دائما يخالجني هذا الشعور، وأنا أمسك بالقلم. إنَّها ورطة كبرى هذه اللعبة –الكتابة- تغريني بالمواصلة كي أبقى… أو كي أموت دون أن أضع بصمتي على هذا الوجود”(5).
ثم يعقب راصدا أدق دقائق نفس شخصيته، في بحثها وعوزها للخلاص، غير مدركة أبعاده، فيقول:”أصبح السؤال يشوش أفكاري.. فيروس خطير يدمر كل ما يدور في خاطري. سأكتب عن فيروز.. لعلَّي أصررت على الكتابة عنها، لأن صوتها كان يُهرِّبني من فجيعتي وألوذ به خلف حائطه كطفل صغير يخاف البطش من أحد ما!. ما فائدة الكتابة وأنا هنا قابع في غرفتي الضيقة، وأنا منفي عن العالم الخارجي المخيف؟!. لماذا أكتب كل هذا ولماذا يخرج كل هذا الآن؟ هل مواصلة للانتحار..؟. سأكتب عن الحب، عن الإنسان، الإنسان البريء المسحوق. الكتابة هي الحل الأخير.. حيال كل هذا الخراب الذي يحاصرني.. الذي لم أستطع تغييره!”(6). وتختلط اللغة الرامزة بالإيحاء الذي يعكس فكرة الضياع، وفقدان الرؤية، وعدم الإحساس بالموقف الحياتي لدى الشخصية، وتتحدد فكرة البحث عن المطلق من خلال لغة دلالية، على قدر كبير من الإشراق، والألق، وإن اعتمد القاص في طرح فكرته على الرمز الدلالي الدقيق، الذي يبدو للقارئ العادي بعيدا عن الوضوح، بيد أنه ينم عن إمكانات القاص في التعامل مع اللغة، وتوظيفها بصورة عميقة، يقول:”هذا كل ما يختلج الآن.. وكل شيء في أوانه سيتدفق بهدوء دافئ كلحظة الاستمرار التي يمارسها الرجل والمرأة بلذة طفولية صارخة تحيطها القبيلة بسيوفها وبنادقها الملتهبة بشبقها المدوي. فجر هادئ يلف غرفتي المكفهرة بمصباح حزين؛ هذا المصباح الذي أشفق عليه من كثرة ما ينظر إليًّ بتوسل لأرتاح وأريحه من سهري اللامجدي…!”(7).
وتتجذر المأساة في أعماق الشخصية، باعتبارها نموذجا رامزا للفكرة المشار إليها، ويتخذ القاص من اللغة الشعرية وسيلة للتعبير:”إذاً قلت: الفجر هادئ في الخارج لكن حتما ستشرق الشمس، وستجلد بسياطها البحر النائم الذي سينفجر في منتصف النهار بمده وجزره الممل، ولكن هذه المرة لن يكون مملا؛ سيكون الانفجار قاسيا، وسوف يصل إلى أسفل البيوت القديمة التي يظن بعضهم أنها تقاوم وهو يتحيَّن لحظة النشوة ليكسرها ويسحبها بهدوء تحت غطاء جزره المعتادة. هذا كل شيء…”(8).
وقد كان لمسألة الرصد الدقيق لمعالم الذات الإنسانية الباطنية، أثر مهم في الاعتماد على طريقة تيار الوعي لمناسبتها لمثل هذه الموضوعات النفسية، عند القاص (الخطاب المزروعي) الذي تناول الفكرة بكثير من العمق، والتأني في الطرح، وعن طريقه تصبح مرافقة المتلقي إلى عالم النفس الباطني، أكثر سهولة ويسرا، بل وعمقا، وتصبح عملية التفاعل ميسورة ومنطقية، ومن غير شك، فإن القاص أبدع في لغته وعباراته، وأكثر ما يميز هذه اللغة المسحة الشعرية والشاعرية التي غلّف بها الألفاظ والعبارات، فبدت تيارات الوعي النفسية المتلاحقة، أكثر احتياجا لمثل هذه اللغة، وأخذت التقطيعات في استخدام اللغة دورها، في إبراز البعد الدلالي للفكرة، يقول القاص في تحديد ملامح الشخصية، وتبين معالم أزمتها، ومدى تفاعل الواقع نفسه معه: “كسرتُ قلمي والمصباح الذي ينتظرني، وتدثرت بكتبي وأوراقي، وأشعلت لفافةً والورقً الذي يُغطّيني، وها أنا أرمي هذه الورقة من الفرجة الضَّيِّقة للباب بعدما انتهيت من لعبتي الحمقاء التي لن تغفرها أمي لي”(9).
وتحتل اللغة التشكيلية عند (الخطاب المزروعي) كل الدلالات الإيقاعية، والمستويات المتباينة، وتبدو اللغة أكثر تكثيفا، وتركيزا لذا فإن معظم الجمل التي يستخدمها تميل إلى القصر، وتبتعد عن استخدام اللغة الناتئة، أو الزائدة؛ بل إنَّه يعتمد على الطرح ذي الريتم السريع اللاهث، ومن هنا جاءت اللغة مولِّدة ما في أعماق الحدث القصصي، وساعدت على بلورة أزمة وحيرة الإنسان الباحث عن هدفه، فوق تربة صلبة، ولكن داخل حدود ذاته، وأسوارها القوية المانعة، ولنقرأ هذا الجزء من القصة:
“- أخذت أذرع الغرفة ذهابا وإيابا بتساؤلاتي المريبة التي لن أجد لها جوابا في هذا الحيز الضيق!
– قلت لأراوغ روحي قليلا بشرب فنجان قهوة!
– وما حاجتي للأكل والشرب؟! هل لأواصل الحياة؟! لا.. لا أريد شيئا. سأكتب
– هاهي لعبتي المجنونة تراودني عن نفسي!
– ماذا عساي أكتب؟.. ولمن.
– سأكتب عن حياتي وهل حياتي تستحق الكتابة.. سأكتب عن ماذا؟”(10).
صحيح أنه أجاد القاص استخدام اللغة، لكنه أبقى المتلقي داخل دائرة اليأس، ولعلي لا أبالغ حين أقول، إن الفكرة المسبقة لدى القاص عن موقف الإنسان من ذاته، ومن موقعه كانت فكرة ضاغطة أكدت على القاص ذاته، فبدت خاضعة له، ومهما يكن من أمر، فإنني أشير إلى أن تيار الوعي-دون شك- قد استخدم بذكاء، وتفاعلت لحظات الشخصية في آن واحد، حتى بدت في إطارها العام نموذجا عاما.
وإذا كانت لغة القص هي الأساس الفني والمحرك للفكرة بالدرجة الأولى عند كثير من كتَّاب القصة العمانية المعاصرة، فإن القاص نفسه لا بد أن يدرك أنه يتعامل مع لغة ناطقة بإحساسات الشخصية، باعتبارها نموذجا واقعيا بالمقام الأول، وفرق كبير بين الإيهام بالواقع، وبين الانفصال عنه، والقضية التي نشير إليها هنا على قدر كبير من الأهمية، فاللغة والسياق الفني هما اللذان يشكلان الإطار الفني الذي يدفع بالملتقي للمشاركة الوجدانية مع الكاتب، ويولد العلاقات الوطيدة التي تحكم على العمل القصصي بالتفاعل والمشاركة، بل التلاحم مع الكاتب وفنه من ناحية، ومع الواقع من ناحية ثانية، ذلك جانب، أو الانفصال عن هذا كله، وهذا جانب ثانٍ. ومهما يكن من أمر، فإن القصة كأي جنس أدبي لا بد أن يتعامل القاص مع شخصياته فيه، تعامله مع نماذج الشخصية في واقع الحياة الحيّ ذاته.
ويتخذ بعض كتَّاب القصة من فكرة البحث المستمر، والمتتابع عن حلِّ للأزمة التي يعانيها الإنسان في زمن القهر النفسي، بغية الوصول إلى بر الأمان، والطمأنينة، حيث الإتزان والتفاعل مع الذات والواقع يتخذ من هذا كله إطارا يشكل داخله الإنسان المعاصر بكل تناقضات الحياة التي يحياها، ويصبح الإنسان عند بعض هؤلاء الكتَّاب قضية أساسية للبحث والتمحيص، والتدقيق في رسم أبعاد وسمات واقعها، وحياتها.
وترتقي الشخصية القصصية من محدودية الرسم الفني في القصة إلى مصاف النوذج الحياتي المستقي من الواقع ذاته، عند القاص (محمود الرحبي)، واحد من القاصين الذين أجادوا رسم شخصيات مستقاة من الواقع المحلي، لكنَّه يعرضها بكثير من الدقة، والشمولية، والإنسان عند هذا القاص –كما عند الكثيرين من كتَّاب القصة العمانية المعاصرة- جوهر القضية، المتصلة بجانبي القلق من ناحية، والبحث عن خلاص منه من ناحية أخرى، والإنسان عند (محمود الرحبي) جوهر المعاناة كذلك، والأزمة التي يحياها الإنسان، هي أزمة ذاتية في المقام الأول.
ولعل فقدان قدرته على فتح مسارب للعلاقات السليمة مع الآخرين هي أساس أزمته، والتي تسبب فقدان الصلة بالواقع ذاته، والانحصار داخل حدود الذات، يقول القاص راسما ملامح شخصيته القصصية التي حمَّل عنوانها ذاته أبعادا رمزية متعددة أرجوحة العاطل، “يستيقظ، يطفئ ضوء الصباح الذي كان ينبض خفية طوال الليل، ثم يوقظ والده من شخيره المسموع، وبعد ربع ساعة، تصطف العائلة أمام الحمام طابورا يرطم بعضه، يمط وجوههم الكسل وبقايا النوم الذي سكعوا في بركته متأخرين عن العادة، بسبب مشاهدتهم لفيلم هندي تأخرت نهايته”(11) . لم يكتفِ (محمود الرحبي) بالوصف الخارجي المحايد للشخصية، بل زاوج بين الوصفين الخارجي الفيزيائي، والداخلي السيكولوجي مزاوجة تنم عن أرق الشخصية. ومن ثمة يصح أن نقول إن الرحبي قد بلغ الذروة في تنميط الشخصية، فأوصافها الخارجية ليست بمعزل عن نفسيتها وما تمور به. وبهذه الطريقة ستتبلور صورة الشخصية، وستتبلور أفعالها وسلوكها.
إن افتتاحية القصة تنطوي على صورة دينامية للشخصية القصصية، صورة سيكون لها الأثر الوظيفي البارز في انحباس الأحداث وتفاعلها وتناميها في ثنايا الأحداث؛ وكأننا بالقاص يهيئ القارئ لما سيأتي لاحقا من أحداث و وقائع هامة، “صباح الشارع أبهى من صباح البيت، فالسابعة ساعة مليئة بالدهش والمفاجآت، خاصة بالنسبة لعاطل مثلك، متكئ على عمود كهرباء”(12).
وحين نتتبع باقي العناصر المكونة لصورة الشخصية في قصة أرجوحة العاطل نعثر على تحديدات دقيقة، تدور كلها حول شخصية العاطل/ المحورية، بدراسة الأعماق النفسية والأبعاد الاجتماعية والمؤثرات السياسية التي تتصل بهذه الشخصية سواء من بعيد أو قريب. وتقوم باقي الشخصيات في القصة بإظهار هذه الانعكاسات على نفسية البطل، ومدى التأثير فيها أو التأثر بها. وتكون نتيجة ذلك أن القصة كلّها تحكى من خلال نظرة البطل إلى الأحداث الخارجية، وتأثير هذه الأحداث الخارجية من الانفعالات والهواجس التي تدور في نفسه. فالكاميرا دائما مركزة عليه، والشخصيات تتكلم لرسم أبعاد بيئته الاجتماعية، والأحداث تحتدم لإظهار الأعماق النفسية التي تتحكم في تصرفاته.
وضمن مسار البحث يبدو المشوار غائما، ضبابي المعالم والملامح، فيفقد الإنسان فيه كل شعور بالإتزان والاستقرار، ويبدأ البحث من جديد. ومن النقطة التي انتهى إليها، “وبين جملة وأخرى يلتفون إليك، فلا تستطيع إكمال الغداء، الذي وجدته ينقضّ على معدتك بوحشية، كما تشعر بالمقت، وبأنك لا تساوي أكثر من حذاء مستعمل عرضه صاحبه للبيع فوق قارعة الطريق ليشتري بثمنه علبة سردين، فترجع إلى الشارع وحيدا”(13). وهكذا الشخصية الرئيسية في قصة أرجوحة العاطل تتشكل تدريجيا بتنامي الأحداث واطرادها، وهي طريقة حداثية في رسم صورة الشخصية على خلاف الطريقة التقليدية، التي تقدم الشخصية جاهزة منمطة منذ بداية القصة. ومن خلال طريقة صوغ الشخصية في قصة أرجوحة العاطل يبدو (محمود الرحبي) فنانا يستوعب بوعي حركة الواقع. وبأن الشخصية “لا تشكل داخل النص سوى عنصر من التي يعج بها الكون النصي، فإن إدراكها لا يمكن أن يتم بشكل منعزل عن باقي العناصر الأخرى”(14).
واللغة في مثل هذه المعالجات لشخصية الباحث عن المطلق، لا تنفصل عن الإطار القصصي العام، بل هي تبلور أبعاد فكرة القاص، خاصة في مجال الأعمال النفسية، التي تتحرك ضمن حدود دائرة الصراع الكامنة في عالم الشخصيات الباطنية، وتبدو فكرة البحث عن المطلق إفرازا لوقائع الحياة المعاشة في زمن اختلطت فيه الرؤى والإحساسات والتقدير، لهذا فإن مهمة القاص لم تعد على قدر من السهولة، واليسر في الطرح، والمعالجة، ذلك لأن القاص يحمل مسؤولية عرض قضية مهمة كهذه بعيدا عن ذاتية الإحساس أو خصوصية الرؤية، وعليه أن يتعامل مع الفكرة تعاملا حذرا متأنيا بغية الارتقاء بالفكرة إلى الإحساسات البشرية العامة.
ومن هنا جاءت معالجة بعض القاصيين على قدر طيب من الدقة، حيث بدا أن عرضهم لشخصيات الباحثين عن المطلق، أو النجاة النفسية غير محددة المعالم من ناحية، لكنها تتصل اتصالا وثيقا بأزمة الواقع النفسية، التي سببها قلق الحياة، وتخوف وترقب إنسان العصر في مشوار البحث عن تعادلية الإحساس بالزمن الآمن، وقد تجسد هذا المفهوم الدقيق عند القاص (محمد القرمطي) في قصته وهج اللحظة الدفين، حيث تبدو شخصية الباحث عن خلاص مطلق، شخصية مأزومة، تعاني الخوف من كل شيء، يطاردها مجهول، وتفقد بين الهروب والبحث قدرة على التعايش، وتضيع معالم الطريق من أمامها، فتعود للتحرك من حيث بدأت، وعلى الرغم من وضوح حقيقة الحياة أمامه، فإنه فاقد الإحساس السليم والصحيح بالأشياء، ومع (محمد القرمطي) لا نجد حدثا مترابطا منذ بداية القصة إلى نهايتها، وإنَّما هناك مواقف تقوم أو تمر بها الشخصية، وفي هذه القصة تتعد المواقف التي تقوم أو تمر بها الشخصية منذ البداية يقول القاص عارضا لوحة دقيقة لشخصيته:”في تلك اللحظة، هناك، في مسرح النوم، حيث الغرفة شبه المظلمة، والسرير بأطرافه المشعثة، أجد في نفسي حاجة قوية إلى رفقة إنسان(…) طرق الباب(…) فتح الباب بعد الطرقة الثالثة لأنه لم يكن مقفلا، اقتربت فتاة تشبه عروس البحر، تفوح منها رائحة الورد البلدي. اجتاحني فرح مفاجئ. نسيت نفسي ونسيت أنها ما زالت واقفة”(15). وفي خاتمة المشوار وبدايته، تتأزم حالة الضياع التي يعنيها المأزوم، فيسقط في متاهة التخبط، :”وتذكرتُ. طفلة جميلة، كانت تهبني مساء كل يوم وردة. كانت تحكي لي كيف زرعت الورد بفرح طفولي، وكيف انتظرت حتى أزهرت وكيف قطفتها وأنها أول من فكرت فيه لأهدائها له هو أنا”(16)، وهكذا يتدرج حلم اليقظة لدى الراوي من مرحلة تخيله لطرق الباب في غرفة شبه مظلمة، ثم يتطور فيما بعد إلى ما يشبه حلم اليقظة، وهذا كله خيال الرائي حين تتحول عروس البحر إلى فتاة صغيرة تقدم له وردة. ويتدرج الراوي في الولوج إلى الحدث عبر عدة رؤى وأفكار متفرقة؛ وكأن الكاتب لا دخل له بما يجري، وإنما يرينا الأحداث من خلال عيني الشخصية التي تنقل ما يدور في واقع القصة، “ويعد هذا الأسلوب أسلوبا محايدا، حيث لا يطل الكاتب رأسه ولا يسيطر على الأحداث مثلما حدث في ضمير الغائب”(17). والقاص يعتمد على الرمزية في عنوان القصة، وكذلك يعتمد على الإيحاء، والمدلول في سياق العمل كله، ووهج اللحظة الدفين هو ترجمة الإحساس بوهج اللحظة والتعايش معها، وهو إفراز لتوهج الرؤية وضبابيتها؛ ولعلي لا أناقض ما أحسّه الكاتب حين أقول، إن وهج اللحظة الدفين هو انفصال بين ذاتية الإنسان، حيث الإحساس المتقوقع داخل بؤرة الذات تلك، وبين الإحساس بواقع الحياة، حيث تدور كل أحداث القص في حلقات مفرغة متباينة لا تتصل بحال، لذا فإن (محمد القرمطي) يكثّف رؤيته الذاتية في طرح فكرة البحث عن خلاص، على المستوى النفسي أولا، دون محاولة من الباحث ذاته للإحساس بالتفاعل والتلاحم بين جوانب الحياة الإنسانية، وفي فقرة أخرى يواصل الكاتب رواية حكاياته المختلفة، وخصوصا عن مرحلة الطفولة، والتي يصور فيها شقاءه وسيطرة الأعراف الاجتماعية، فيروي حكايته مع صبية في مثل عمره: “كانت صبية وكنت في مثل عمرها. وعندما زرتهم ذات يوم، لم أجد هناك سواها مع أمها. فتحت لي الباب ودخلت. دخلت وأخذنا نتحدث عن واجباتنا المدرسية، وإذا بصوت الأم ينهرها:
– مع من تتحدثين هناك؟
– مع ابن عمي يا أمي.
– يا للفضيحة، كيف تتحدثين مع صبي وجها لوجه دون حشمة؟
– ليس بغريب يا أمي.
– لكنه صبي فيه شرور الصبا الذي يجلب العار.
جاءت الأم لاهثة وانتصبت حائلا بيني وبين الصبية قائلة: إذا كان هناك أمر يهمك فتحدث فيه مع الذين يشبهونك من الأولاد”(18). ويبدو أن الراوي، قد جعل مسافة بينه وبين ما يحدث في الواقع، فهو مجرد ناقل لما يجري، دون أن يتدخل في تحديد الأحداث، ويذهب إلى هذا الرأي الدكتور سعيد يقطين، حيث يقول عن قصص القرمطي”وفي السرد بضمير المتكلم لا نجد المسافة الخارجية والمنظور الخارجي للقصة مكوناتها، فكل شيء يجري أمامنا، وعدم ارتهان نواة سردية جعلها تكسر ميثاق التلقي، كما انعكس بشكل جلي على بناء النص، فنحن لا نجد أنفسنا أمام أحداث مركزية تتطور خارجيا إلى نهايتها، فكل حدث ننظر إليه بمنظور داخلي وذاتي من خلال خطابات الفاعل الذاتي التي تتراوح عن الحدث خالقة عوالم جديدة، لذلك كانت قصص القرمطي عبارة عن شذرات نصية يتداخل فيها الزمان (زمن السرد) في الحاضر، بالماضي، والحدث بالتأمل والتفكير”(19).
وينهي الكاتب قصته بالتتمة التالية: “ورأيتني أسبح معها في ضباب يوم باكر، نصعد السفن لم تواتيني مثلها منذ زمن. بعي جدا، منذ أن عملت بهذا الفندق لخدمة الزبائن الذين يلهون بنا لشغل وقت فراغهم. وأنا أمثل السعادة لنفس الغاية. فدع هذه اللحظة تأخذ مداها الفريد في نفسي. أجابت”(20).
تتبلور إمكانات القصة العمانية، في الاعتماد على طريقة تيار الوعي في النصوص القصصية، على روح الرصد الدقيق للأزمة التي يعيشها الإنسان المعاصر، تلك الأزمة التي تنسج خيوطها وقائع الحياة، نتيجة لكل تلك التناقضات التي يحياها، والتي سببتها توترات الواقع نفسه، ومدى ما أصاب الواقع الذاتي للإنسان من مشاعر الخوف والقلق، وبدا الإنسان في –الأغلب الأعم- أقرب ما يكون إلى القلق، وبدت علاقته بذاته، يعتورها العنف والتمزق، وفقد قدرته على إيجاد الاتزان، والتقويم لسلوكه، ولدوافع ذلك السلوك؛ ذلك التوازن الذي يتولد من خلال التفاعلات بين الإنسان وذاته إيجابيا، ثم توحده الكامل مع هذه الذات، وبالتالي تلاحمه مع واقعه كله، والآخرين ممن يقيم معهم علاقاته الإنسانية المتباينة.
وعبر رحلة البحث عن هذا التوازن، تشكلت أزمة الإنسان المعاصر، وظهر في الوقت الحاضر، ضرورة رسم خيط العلاقة الوجدانية والنفسية، بل الحياتية بين الإنسان وجذوره الممتدة التي عاشها منذ قرون، وبين ما يعيشه من تطور على مستوى الحياة والواقع. وكان دور القاصيين العمانيين، باعتبارهم ذوي رؤية خاصة لروح هذا الإنسان وواقعه أقرب إلى المنطقية في التناول لتلك الأزمة، محاولين تحديد سماتها، وبلورة مضامينها بغية تجاوزها، وهضم ما يجّد في الواقع من تغيير عن جديد متطور.
وكأن الإنسان المأزوم هو البؤرة التي تدور من حولها مباحث وأفكار هؤلاء القاصين، مع اختلاف الرؤية، وطريقة التناول، وإن اتفق كثير منهم في مسألة الاعتماد على تيار الوعي لمعالجة تلك الجوانب، وذلك لموافقة هذه الطريقة لمثل هذه الأفكار المطروحة. وتجدر الإشارة أن مسألة التأزم هذه التي تبدو مغلفة معظم أحداث وشخوص القاصين، لا تعني على وجه الإطلاق نظرة الكاتب الذاتية التشاؤمية اتجاه الواقع، وواقع الآخرين.
الهوامش:
(*) نستثني في هذا المقام الجهد المبذول من قبل المنتدى الأدبي في استضافة بعض النقاد ضمن فعاليات ومناشط، وخمس دراسات: الأولى لإبراهيم اليحمدي بعنوان “القصة القصيرة في سلطنة عمان”، والثانية للدكتورة آمنة الربيع بعنوان “البنية السردية للقصة القصيرة العمانية في سلطنة عمان 1980- “2000، والثالثة للدكتور شبر الموسوي بعنوان “القصة القصيرة في عمان من -1970 2000” دراسة فنية موضوعية، والرابعة لفوزية الفهدي بعنوان “المكان في القصة القصيرة في سلطنة عمان بين الواقع والطموح في الفترة منذ ((2003-1993، والخامسة لفاطمة الكعبي بعنوان “القصة القصيرة العمانية الراهنة من (2006-2000)؛ وعلى الرغم من الجهد المبذول في هذه الدراسات، إلّا أنها توقفت عند عام 2006ثم إنها لم تتطرق إلى الموضوع المشار إليه وهو “ذات الباحث عن المطلق في القصة القصيرة العمانية”، إضافة إلى دراسة الدكتور علي المانعي بعنوان “القصة القصيرة في الخليج العربي”، وهي دراسة جامعة لمسار القص المعاصر في منطقة الخليج، واكتفت بنموذجين قصصين عمانيين، الأول: لعبدالعزيز الفارسي، والثاني لسليمان المعمري.
(*) لقد أفدت عند المعالجة من د. نصر عباس محمد، البناء الفني في القصة السعودية المعاصرة-دراسة نقدية تحليلية-، دار العلوم للطباعة والنشر، 1983الرياض.
(1) د. محمود السمرة، مقالات في النقد الأدبي، دار الثقافة بيروت، د.ط ص77
(2) أرنولد هاوزر، الفن والمجتمع عبر التاريخ، ترجمة د. فؤاد زكريا، الهيئة العامة للتأليف والنشر، 1971، ط1 ص368
(3) ستانلي هايمن، النقد الأدبي ومدارسه الحديثة، ترجمة د. إحسان عباس ود. محمد يوسف نجم، دار الثقافة، بيروت ط1، 1958، ص10
(4) روى كاودرن، الأديب وصناعته، ترجمة د. جبرا إبراهيم جبرا، منشورات مكتبة منيمنة، بيروت ط1 1962، ص37
(5) الخطاب المزروعي، لعتة الأمكنة، ط2 دار نينوى، ص53
(6) نفسه، ص54
(7) نفسه، ص54-55
(8) نفسه، ص55
(9) نفسه، ص55
(10) نفسه، ص53
(11) محمود الرحبي، للون البني، ص59
(12) نفسه، ص59
(13) نفسه، ص61
(14) سعيد بنكراد، شخصيات النص السردي، ص33
(15) محمد القرمطي، ساعة الرحيل الملتهبة، ص69
(16) نفسه، ص69
(17) شبر الموسوي، القصة القصيرة في عمان، ص201
(18) ساعة الرحيل الملتهبة، ص70
(19) الأصوات السردية للقصة القصيرة في عمان، د. سعيد يقطين، حصاد أنشطة المنتدى الأدبي لعام 1991، ص136.
(20) ساعة الرحيل الملتهبة، ص74
المقدمة
جذبني الإنتاج السردي الحديث في سلطنة عمان، وعايشته معايشة تامة عن قرب، ولعل القصة القصيرة على وجه الخصوص دفعتني بما تمتعتْ به – في كثير من الأحيان- من جودة في المعالجة، ودقة في التصوير، ووقوف متزنٍ واعٍ على أبعاد واقع حيّ، وبما يُسجل لها كذلك من نجاح في التأكيد على العلاقة الوطيدة التي تربط واقع الإنسان – بمفهومه الشمولي- وبين واقع خارجي يعيشه من ناحية، وبين الحياة برمتها، عبر دوافع محددة منبعها النفس الإنسانية، وعالم الإنسان الباطن من ناحية أخرى، للوقوف دارسة لها محللة بعض خصائصها، وممحصة شيئا من عناصر بنائها الفني.
أخذت القصة العمانية القصيرة في السنوات الأخيرة، -ولا أحددها بعشر، أو بخمس عشرة سنة فحسب- تخطو خطوات واضحة، وبدت بصماتها في عالم الأدب العماني والعربي على حد سواء، ومما يجدر ذكره هنا، أن هذا الإنتاج القصصي –وكثير منه يمتاز بالجودة والإبداع- على تنوع قضاياه، وتطور أساليبه، افتقد من يقوم بنقده بصورة موضوعية علمية، بعيدة عن الدوافع الذاتية(*)، ومن هنا شعرتُ بقربي من هذا الإنتاج، بروحه الشابه الصادقة، وبكل ما فيه من بواعث صريحة لمشاعر الإنسان، والإحساس بصدق التجربة والمعناة، ومنطقية الحدث الذي يعيشه القاص، وينقله للآخرين بغية معايشته والإحساس به.
ومهما يكن من أمر، فمن الطبيعي أن يعكس الكاتب أبعاد واقعه، سواء عن طريق رصد معالم واقعه الباطني بالنظر إلى دواخل الذات الإنسانية، أو عن طريق تسجيل أبعاد عالم خارجي تتحدد عن طريق الاتصال بالسلوك الذاتي للإنسان، وإن بدت نشاطات الشباب في مجال القصة القصيرة تتخذ مؤخرا من الاتجاه السائد –على مستوى العالم- من رصد العالم الباطني للفرد طريقا فنيا للتعبير والتصوير.
يعدّ مبحث الذات من المباحث الدقيقة والمتشعبة، التي تتباين فيها المفاهيم، وتتفاوت التحديدات؛ لذا سأحاول في هذه الدراسة رصد ماهية الذات، كما تبدّت في النَّص القصصي العماني الحديث. بهدف تبيان ملامحه وهويته.
وفكرة البحث عن مطلق التي نحن بصدد دراستها هنا في مجال القصة العمانية المعاصرة، حددت هذه الرؤى، وتلك المفاهيم، مع تباين في طرق التعامل مع عناصر البناء الفني للقصة، فجاءت بعض نماذج هذه القصص إنسانية أقرب إلى النماذج المسطحة، فاقدة السمات، والملامح، وبدت بعض الشخصيات في رسمها غائمة، لا تتسم بمسحة الواقعية في شيء، ولعل هذا يتناقض مع ما أشرنا إليه من وجوب الانتقال من واقع الذاتيات المحدود لدى الفنان، إلى واقع التلاحم، بين الذات المفردة، والواقع بكل مافيه، ومَنْ فيه.
تتناول الدراسة القضية في نصوص حديثة مهمة من النصوص القصصية العمانية، قدَّمت وجهات نظر مختلفة عن صياغة الذات الإنسانية، والهوية الثقافية. أولها يتناول فيه الكاتب علاقة الفرد بذاته، والثاني تتحدد فيه علاقة الفرد مع واقعه الخارجي والآخرين ممن يعايشهم، أما الثالث فيركز على تلك العلاقة الأكثر شمولية واتساعا، التي تربط الفرد بواقع الإنسانية الرحب(*).
وكثيرة هي تلك التجارب القصصية التي وقفتُ عندها، والتي حدّدتْ خطوطا عامة وواضحة لمعالجة تلك العلاقات مع المجتمع، وتحديد هوية ذلك التغيير، أو ذلك الثبات، والنصوص المنتقاة، هي:
– “وهج اللحظة الدفين” لمحمد القرمطي، من مجموعة “ساعة الرحيل الملتهبة” الصادرة عام 1988 مطبعة الألوان الحديثة، مسقط.
– “أرجوحة العاطل” لمحمود الرحبي، من مجموعة “اللون البني” الصادرة عام
1998دار المدى للثقافة والنشر، دمشق.
– “لعبة حمقاء” للخطاب المزروعي، من مجموعة “لعنة الأمكنة” الصادرة عام 2003 دار نينوى، دمشق.
– “رفرفة” لبشرى خلفان، من مجموعة “رفرفة” الصادرة عام 2004 المؤسسة العربية للدراسات والنشر، عمَّان.
– “لماذا.. لأن” لسليمان المعمري، من مجموعة “الأشياء أكثر مما تبدو في المرآة” الصادرة عام2005، الانتشار العربي، بيروت.
– “التحدي” لعبدالعزيز الفارسي، من مجموعته “وأخيرا استيقظ الدب” الصادرة عام 2009، الانتشار العربي، بيروت.
مع ضرورة الإشارة أننا لن نركز على تاريخ الصدور عند المعالجة، بمقدار التركيز على الكيفية التي عالج فيها الكاتب القضية في متنه القصصي، وإبراز الذات الباحثة عن المطلق.
الذات الباحثة والبعد الاجتماعي
يبدو القلق عاملا أساسيا، لتحريك كثير من كتَّاب القصة وكاتباتها، ولعل هذا البعد النفسي قد شكَّل انعكاسا دقيقا وواضحا على طرق معالجات الكتَّاب في مجال القصة في العالم بأسره. ويرى الدكتور محمود السمرة أن عالم النفس يواجه في العمل الفني –على اختلاف أشكاله- كثيرا من أوجه”النشاط النفسي المعقدة، إلَّا أنَّه نتاج إرادي قد تمَّ بطريقة الوعي، وفي حالة الفنان-خاصة في مجال القصة- فإنَّه يبحث في الجهاز النفسي نفسه، فهو الحالة الأولى يحلل لنا نفسانيا العمل الفني، أما في الحالة الثانية، فإن عليه أن يحلل الإنسان الحيّ الخالق لشخصية مستقلة”(1).
وقد لعب القلق دورا مهما في تحديد مفهوم عالم للقصة في الوقت الحاضر، وحدد كذلك البعد الحقيقي لمعظم كتَّاب هذا الفن على تطوره وانتشاره. والقلق سمة عصر التطور والحضارة، ويبدو معادلا موضوعيا مقنعا لهذا التطور، ونتيجة حتمية له. لهذا كلَّه، فقد تعددت نماذج كتَّاب القصة حول معالجة موضوعات تبلور القلق الحياتي بعامة، وظهرت تلك النماذج، باعتبارها التصوير الصادق والموضوعي لإفرازات الحياة المتوترة والصاخبة، التي يحياها إنسان العصر.
والتطلع إلى الخلاص –على الإحساس النفسي- على أقل تقدير، والنجاة من هوة الانحصار داخل إطار الخوف والتوتر والقلق، كان بمثابة الخطوة الإيجابية التي يسعى الإنسان إلى تحقيق الهدف من ورائها، والذي لا شك فيه بهذا الصدد أن إنسان هذا العصر جاءت كتاباته إفرازا لنفس هذا الواقع، ونتيجة طبيعية لأحداثه ووقائعه.
وقد تنوعت طرق تناول الكاتب في القصة العمانية من أجل التعبير عن قضاياه، وكانت القصة في ذلك مسايرة ذلك التطور الذي ألمَّ بالقصة على مستوى العالم كلِّه، وظهرت نماذج لقصص استمدت من واقع الحياة ذاتها. كما تنوعت طرق التعامل هذه الشخصيات، ولعلي لا أبالغ في الرأي حين أقول إن بعض كتّاب القصة قدَّموا للقارئ في إنتاجاتهم القصصية، إمكانات طيبة في مجال رسم شخصية الباحث عن المطلق، ومعظم هذه الشخصيات جاءت إفرازا لإحساسات الكتّاب أنفسهم، وترجمة صادقة لمعاناة الإنسان في زمن التخبط وفقدان هوية الذات، وعبر هذه المسارات، ومع هذه الرؤية النفسية الدقيقة، جاءت معظم القصص صادقة في معاناتها، وترجمات أصحابها، وعرضت تلك القصص لشخصية الباحث عن المطلق من منطلقين:
أولهما، التحرك داخل حدود الذات، والبحث عن مسار للخلاص، غير مؤهل صاحبه له، فيكون الضياع والتأزم نتيجة حتمية، ومنطقية لهذا التقوقع المزمن.
ثانيهما، البحث داخل إطار أكثر اتساعا، وشمولية، ورحابة لكنَّه يبدو غائما، وقلقا كذلك بالرغم من اتساع حدوده، ذلك لأن الباحث –كما أشرت- إنسان مأزوم، ضائع، فاقد الصلة مع ذاته. ويبدو الانفصال عن واقعه أساسا لأزمته، وتوتره، وضياعه لا يخطو إلَّا في دائرة مغلقة معتمة.
والقاص حين يرصد مثل هذه القضايا، ويعالجها من خلال شخصيات الباحثين عن المطلق، خلاصا من واقع نفسي مهترئ، إنَّما يسعى في المقام الأول للبحث عن مكمن لسعادة حقيقية، يجتاز بها مع هذه النماذج ذلك الواقع، ومن هنا فالفن يتحدد بهذا المنطلق، أساسه الحقيقي، وبعده الإنساني الأمثل، “فالفن تعبير الإنسان عن استمتاعه بالعمل، وليس هو مجرد مصدر للسعادة، بل هو نتيجة شعور بالسعادة، وقيمته الحقيقية تنحصر في العملية الخلاقة”(2)
والبحث عن المطلق – كما أشرت من قبل- هو ترجمة الواقع والحياة ذاتها، بكل ما اعتورها من صخب وتطور من ناحية، وسقوط وتردي من ناحية أخرى، وهذان يشكلان الجانب الأول في القضية؛ بينما يمثل الجانب الثاني منهما ذلك التطور المتلاحق الذي أصاب واقع الحياة النفسية، والاجتماعية، وما حققه الباحثون، والمهتمون بهذه المجالات من إبداعات، ورؤية دقيقة راصدة لبنية اإنسان العصر، وعلاقتها بتطور الحياة وانفصالها عنها أو اتصالها بها، ثم مدى انشداده أو تخليه عن جذوره العريقة التليدة، كل هذا شكَّل البنى الأساسية لروايات وقصص الأدب الحديث في العالم، والتي انبثقت من نماذج شخصياتها شخصية الباحث عن المطلق.
أزمة الذات الباحثة وتصورها في القصة
القصة العمانية المعاصرة، تكاد تنحصر معظم إنتاجاتها في هذا المضمار، صحيح أن هناك كثيرا من القصص التي تتحرك في مسارات أخرى، منها الاجتماعي المباشر، ومنها معالجات رومانسية شفافة، لكنني أستطيع التأكيد على أن معظم إنتاجات الكتَّاب الشباب تتحرك بغية عرض نماذج متباينة للباحثين عن المطلق، باعتبارهم جزءا من التطور الحضاري المتنامي تباعا، وهذا يؤكد على أن الفن عموما وبعد كل شيء أحد الوظائف الاجتماعية عند الإنسان، والأدب وهو – أحد الفروع الرئيسة للفن- ليس عملا من “أعمال البنية الاجتماعية أو الإنسانية، كما هي الحال في المشي، والأكل مثلا، بل هو جزء من النمو الاجتماعي، أو الحضاري ذاته”(3).
ولعل هذا يتصل اتصالا وثيقا بطبيعة الكتَّاب أنفسهم، فمعظهم تشرب التطور والمعاصرة، وعايشوا حركات الحياة في مساراتها الثقافية والفكرية والعلمية، وألموا بكثير من سمات الحضارة والتطور في العالم، أضف إلى هذا أنهم أحسّوا بما يضطرهم من واقع الحياة على المستوى العالمي كلّه من صخب الحياة وتوترها، ومدى انعكاس هذا على الإنسان ذاته، الإنسان بكل معاناته، وصراعاته بغية تحقيق ذاته، في عالم جديد، ذي ملامح مغايرة لما يعيشها في الواقع. ومن هنا بدت شخصيات القاصيين عاكسة في كثير من الأحيان بعضا من جوانب، ورؤى، وأفكار، وإحساسات كتّاب القصة أنفسهم.
ومهما يكن من أمر، فإن بعض كتَّاب القصة العمانية في هذا المضمار لم يتخلوا عن الطرح الدقيق للقضية، بل إن بعضهم حسمها، ووضع لبنات البناء السليم للحياة المستهدفة، وبدا بعض الكتّاب عارضا القضية في قالب الرمز والإيحاء، بعيدا عن وضوح الرؤية، أو تحديد الفكرة.
وتتشكل لدى هؤلاء القاصيين مادة الحياة ذاتها، التي تعكس قلق الإنسان وتوتره، فتعرضها في قوالب جديدة ومستحدثة، لتعبث في أعماق المتلقي مشاعر التجاوب والتفاعل، وتحقق المادة القصصية لدى هؤلاء الكتَّاب مفهوم الفن والأدب الأساسي، وتحدد دوره أيضا، فمادة الأدب في المقام الأول”تستمد من البشرية، والتجربة الإنسانية، ثم تعود، إذ تعود منتعشة في ثوب جديد من التأويل، ليتسلمها الناس من جديد، فتصبح مرة أخرى جزءا من تجربتهم، والفنان في هذه العملية هو الوسيط، والوسيلة، ويقين أن الفن أو الفنان لن يجد فائدة في الانفصال عن المجتمع الأكبر، فهذا لكليهما، وبمعنى مزدوج، مصدر الحياة وينبوعها”(4).
يتناول (الخطاب المزروعي) من هذا المنطلق في قصته، لعبة حمقاء نموذجا لإنسان التوتر والبحث المضني عن شيء ما، يقول القاص في معرض رصده لمعالم شخصيته القصصية: “ماذا عساي أكتب؟ ولمن؟. دائما يخالجني هذا الشعور، وأنا أمسك بالقلم. إنَّها ورطة كبرى هذه اللعبة –الكتابة- تغريني بالمواصلة كي أبقى… أو كي أموت دون أن أضع بصمتي على هذا الوجود”(5).
ثم يعقب راصدا أدق دقائق نفس شخصيته، في بحثها وعوزها للخلاص، غير مدركة أبعاده، فيقول:”أصبح السؤال يشوش أفكاري.. فيروس خطير يدمر كل ما يدور في خاطري. سأكتب عن فيروز.. لعلَّي أصررت على الكتابة عنها، لأن صوتها كان يُهرِّبني من فجيعتي وألوذ به خلف حائطه كطفل صغير يخاف البطش من أحد ما!. ما فائدة الكتابة وأنا هنا قابع في غرفتي الضيقة، وأنا منفي عن العالم الخارجي المخيف؟!. لماذا أكتب كل هذا ولماذا يخرج كل هذا الآن؟ هل مواصلة للانتحار..؟. سأكتب عن الحب، عن الإنسان، الإنسان البريء المسحوق. الكتابة هي الحل الأخير.. حيال كل هذا الخراب الذي يحاصرني.. الذي لم أستطع تغييره!”(6). وتختلط اللغة الرامزة بالإيحاء الذي يعكس فكرة الضياع، وفقدان الرؤية، وعدم الإحساس بالموقف الحياتي لدى الشخصية، وتتحدد فكرة البحث عن المطلق من خلال لغة دلالية، على قدر كبير من الإشراق، والألق، وإن اعتمد القاص في طرح فكرته على الرمز الدلالي الدقيق، الذي يبدو للقارئ العادي بعيدا عن الوضوح، بيد أنه ينم عن إمكانات القاص في التعامل مع اللغة، وتوظيفها بصورة عميقة، يقول:”هذا كل ما يختلج الآن.. وكل شيء في أوانه سيتدفق بهدوء دافئ كلحظة الاستمرار التي يمارسها الرجل والمرأة بلذة طفولية صارخة تحيطها القبيلة بسيوفها وبنادقها الملتهبة بشبقها المدوي. فجر هادئ يلف غرفتي المكفهرة بمصباح حزين؛ هذا المصباح الذي أشفق عليه من كثرة ما ينظر إليًّ بتوسل لأرتاح وأريحه من سهري اللامجدي…!”(7).
وتتجذر المأساة في أعماق الشخصية، باعتبارها نموذجا رامزا للفكرة المشار إليها، ويتخذ القاص من اللغة الشعرية وسيلة للتعبير:”إذاً قلت: الفجر هادئ في الخارج لكن حتما ستشرق الشمس، وستجلد بسياطها البحر النائم الذي سينفجر في منتصف النهار بمده وجزره الممل، ولكن هذه المرة لن يكون مملا؛ سيكون الانفجار قاسيا، وسوف يصل إلى أسفل البيوت القديمة التي يظن بعضهم أنها تقاوم وهو يتحيَّن لحظة النشوة ليكسرها ويسحبها بهدوء تحت غطاء جزره المعتادة. هذا كل شيء…”(8).
وقد كان لمسألة الرصد الدقيق لمعالم الذات الإنسانية الباطنية، أثر مهم في الاعتماد على طريقة تيار الوعي لمناسبتها لمثل هذه الموضوعات النفسية، عند القاص (الخطاب المزروعي) الذي تناول الفكرة بكثير من العمق، والتأني في الطرح، وعن طريقه تصبح مرافقة المتلقي إلى عالم النفس الباطني، أكثر سهولة ويسرا، بل وعمقا، وتصبح عملية التفاعل ميسورة ومنطقية، ومن غير شك، فإن القاص أبدع في لغته وعباراته، وأكثر ما يميز هذه اللغة المسحة الشعرية والشاعرية التي غلّف بها الألفاظ والعبارات، فبدت تيارات الوعي النفسية المتلاحقة، أكثر احتياجا لمثل هذه اللغة، وأخذت التقطيعات في استخدام اللغة دورها، في إبراز البعد الدلالي للفكرة، يقول القاص في تحديد ملامح الشخصية، وتبين معالم أزمتها، ومدى تفاعل الواقع نفسه معه: “كسرتُ قلمي والمصباح الذي ينتظرني، وتدثرت بكتبي وأوراقي، وأشعلت لفافةً والورقً الذي يُغطّيني، وها أنا أرمي هذه الورقة من الفرجة الضَّيِّقة للباب بعدما انتهيت من لعبتي الحمقاء التي لن تغفرها أمي لي”(9).
وتحتل اللغة التشكيلية عند (الخطاب المزروعي) كل الدلالات الإيقاعية، والمستويات المتباينة، وتبدو اللغة أكثر تكثيفا، وتركيزا لذا فإن معظم الجمل التي يستخدمها تميل إلى القصر، وتبتعد عن استخدام اللغة الناتئة، أو الزائدة؛ بل إنَّه يعتمد على الطرح ذي الريتم السريع اللاهث، ومن هنا جاءت اللغة مولِّدة ما في أعماق الحدث القصصي، وساعدت على بلورة أزمة وحيرة الإنسان الباحث عن هدفه، فوق تربة صلبة، ولكن داخل حدود ذاته، وأسوارها القوية المانعة، ولنقرأ هذا الجزء من القصة:
“- أخذت أذرع الغرفة ذهابا وإيابا بتساؤلاتي المريبة التي لن أجد لها جوابا في هذا الحيز الضيق!
– قلت لأراوغ روحي قليلا بشرب فنجان قهوة!
– وما حاجتي للأكل والشرب؟! هل لأواصل الحياة؟! لا.. لا أريد شيئا. سأكتب
– هاهي لعبتي المجنونة تراودني عن نفسي!
– ماذا عساي أكتب؟.. ولمن.
– سأكتب عن حياتي وهل حياتي تستحق الكتابة.. سأكتب عن ماذا؟”(10).
صحيح أنه أجاد القاص استخدام اللغة، لكنه أبقى المتلقي داخل دائرة اليأس، ولعلي لا أبالغ حين أقول، إن الفكرة المسبقة لدى القاص عن موقف الإنسان من ذاته، ومن موقعه كانت فكرة ضاغطة أكدت على القاص ذاته، فبدت خاضعة له، ومهما يكن من أمر، فإنني أشير إلى أن تيار الوعي-دون شك- قد استخدم بذكاء، وتفاعلت لحظات الشخصية في آن واحد، حتى بدت في إطارها العام نموذجا عاما.
وإذا كانت لغة القص هي الأساس الفني والمحرك للفكرة بالدرجة الأولى عند كثير من كتَّاب القصة العمانية المعاصرة، فإن القاص نفسه لا بد أن يدرك أنه يتعامل مع لغة ناطقة بإحساسات الشخصية، باعتبارها نموذجا واقعيا بالمقام الأول، وفرق كبير بين الإيهام بالواقع، وبين الانفصال عنه، والقضية التي نشير إليها هنا على قدر كبير من الأهمية، فاللغة والسياق الفني هما اللذان يشكلان الإطار الفني الذي يدفع بالملتقي للمشاركة الوجدانية مع الكاتب، ويولد العلاقات الوطيدة التي تحكم على العمل القصصي بالتفاعل والمشاركة، بل التلاحم مع الكاتب وفنه من ناحية، ومع الواقع من ناحية ثانية، ذلك جانب، أو الانفصال عن هذا كله، وهذا جانب ثانٍ. ومهما يكن من أمر، فإن القصة كأي جنس أدبي لا بد أن يتعامل القاص مع شخصياته فيه، تعامله مع نماذج الشخصية في واقع الحياة الحيّ ذاته.
ويتخذ بعض كتَّاب القصة من فكرة البحث المستمر، والمتتابع عن حلِّ للأزمة التي يعانيها الإنسان في زمن القهر النفسي، بغية الوصول إلى بر الأمان، والطمأنينة، حيث الإتزان والتفاعل مع الذات والواقع يتخذ من هذا كله إطارا يشكل داخله الإنسان المعاصر بكل تناقضات الحياة التي يحياها، ويصبح الإنسان عند بعض هؤلاء الكتَّاب قضية أساسية للبحث والتمحيص، والتدقيق في رسم أبعاد وسمات واقعها، وحياتها.
وترتقي الشخصية القصصية من محدودية الرسم الفني في القصة إلى مصاف النوذج الحياتي المستقي من الواقع ذاته، عند القاص (محمود الرحبي)، واحد من القاصين الذين أجادوا رسم شخصيات مستقاة من الواقع المحلي، لكنَّه يعرضها بكثير من الدقة، والشمولية، والإنسان عند هذا القاص –كما عند الكثيرين من كتَّاب القصة العمانية المعاصرة- جوهر القضية، المتصلة بجانبي القلق من ناحية، والبحث عن خلاص منه من ناحية أخرى، والإنسان عند (محمود الرحبي) جوهر المعاناة كذلك، والأزمة التي يحياها الإنسان، هي أزمة ذاتية في المقام الأول.
ولعل فقدان قدرته على فتح مسارب للعلاقات السليمة مع الآخرين هي أساس أزمته، والتي تسبب فقدان الصلة بالواقع ذاته، والانحصار داخل حدود الذات، يقول القاص راسما ملامح شخصيته القصصية التي حمَّل عنوانها ذاته أبعادا رمزية متعددة أرجوحة العاطل، “يستيقظ، يطفئ ضوء الصباح الذي كان ينبض خفية طوال الليل، ثم يوقظ والده من شخيره المسموع، وبعد ربع ساعة، تصطف العائلة أمام الحمام طابورا يرطم بعضه، يمط وجوههم الكسل وبقايا النوم الذي سكعوا في بركته متأخرين عن العادة، بسبب مشاهدتهم لفيلم هندي تأخرت نهايته”(11) . لم يكتفِ (محمود الرحبي) بالوصف الخارجي المحايد للشخصية، بل زاوج بين الوصفين الخارجي الفيزيائي، والداخلي السيكولوجي مزاوجة تنم عن أرق الشخصية. ومن ثمة يصح أن نقول إن الرحبي قد بلغ الذروة في تنميط الشخصية، فأوصافها الخارجية ليست بمعزل عن نفسيتها وما تمور به. وبهذه الطريقة ستتبلور صورة الشخصية، وستتبلور أفعالها وسلوكها.
إن افتتاحية القصة تنطوي على صورة دينامية للشخصية القصصية، صورة سيكون لها الأثر الوظيفي البارز في انحباس الأحداث وتفاعلها وتناميها في ثنايا الأحداث؛ وكأننا بالقاص يهيئ القارئ لما سيأتي لاحقا من أحداث و وقائع هامة، “صباح الشارع أبهى من صباح البيت، فالسابعة ساعة مليئة بالدهش والمفاجآت، خاصة بالنسبة لعاطل مثلك، متكئ على عمود كهرباء”(12).
وحين نتتبع باقي العناصر المكونة لصورة الشخصية في قصة أرجوحة العاطل نعثر على تحديدات دقيقة، تدور كلها حول شخصية العاطل/ المحورية، بدراسة الأعماق النفسية والأبعاد الاجتماعية والمؤثرات السياسية التي تتصل بهذه الشخصية سواء من بعيد أو قريب. وتقوم باقي الشخصيات في القصة بإظهار هذه الانعكاسات على نفسية البطل، ومدى التأثير فيها أو التأثر بها. وتكون نتيجة ذلك أن القصة كلّها تحكى من خلال نظرة البطل إلى الأحداث الخارجية، وتأثير هذه الأحداث الخارجية من الانفعالات والهواجس التي تدور في نفسه. فالكاميرا دائما مركزة عليه، والشخصيات تتكلم لرسم أبعاد بيئته الاجتماعية، والأحداث تحتدم لإظهار الأعماق النفسية التي تتحكم في تصرفاته.
وضمن مسار البحث يبدو المشوار غائما، ضبابي المعالم والملامح، فيفقد الإنسان فيه كل شعور بالإتزان والاستقرار، ويبدأ البحث من جديد. ومن النقطة التي انتهى إليها، “وبين جملة وأخرى يلتفون إليك، فلا تستطيع إكمال الغداء، الذي وجدته ينقضّ على معدتك بوحشية، كما تشعر بالمقت، وبأنك لا تساوي أكثر من حذاء مستعمل عرضه صاحبه للبيع فوق قارعة الطريق ليشتري بثمنه علبة سردين، فترجع إلى الشارع وحيدا”(13). وهكذا الشخصية الرئيسية في قصة أرجوحة العاطل تتشكل تدريجيا بتنامي الأحداث واطرادها، وهي طريقة حداثية في رسم صورة الشخصية على خلاف الطريقة التقليدية، التي تقدم الشخصية جاهزة منمطة منذ بداية القصة. ومن خلال طريقة صوغ الشخصية في قصة أرجوحة العاطل يبدو (محمود الرحبي) فنانا يستوعب بوعي حركة الواقع. وبأن الشخصية “لا تشكل داخل النص سوى عنصر من التي يعج بها الكون النصي، فإن إدراكها لا يمكن أن يتم بشكل منعزل عن باقي العناصر الأخرى”(14).
واللغة في مثل هذه المعالجات لشخصية الباحث عن المطلق، لا تنفصل عن الإطار القصصي العام، بل هي تبلور أبعاد فكرة القاص، خاصة في مجال الأعمال النفسية، التي تتحرك ضمن حدود دائرة الصراع الكامنة في عالم الشخصيات الباطنية، وتبدو فكرة البحث عن المطلق إفرازا لوقائع الحياة المعاشة في زمن اختلطت فيه الرؤى والإحساسات والتقدير، لهذا فإن مهمة القاص لم تعد على قدر من السهولة، واليسر في الطرح، والمعالجة، ذلك لأن القاص يحمل مسؤولية عرض قضية مهمة كهذه بعيدا عن ذاتية الإحساس أو خصوصية الرؤية، وعليه أن يتعامل مع الفكرة تعاملا حذرا متأنيا بغية الارتقاء بالفكرة إلى الإحساسات البشرية العامة.
ومن هنا جاءت معالجة بعض القاصيين على قدر طيب من الدقة، حيث بدا أن عرضهم لشخصيات الباحثين عن المطلق، أو النجاة النفسية غير محددة المعالم من ناحية، لكنها تتصل اتصالا وثيقا بأزمة الواقع النفسية، التي سببها قلق الحياة، وتخوف وترقب إنسان العصر في مشوار البحث عن تعادلية الإحساس بالزمن الآمن، وقد تجسد هذا المفهوم الدقيق عند القاص (محمد القرمطي) في قصته وهج اللحظة الدفين، حيث تبدو شخصية الباحث عن خلاص مطلق، شخصية مأزومة، تعاني الخوف من كل شيء، يطاردها مجهول، وتفقد بين الهروب والبحث قدرة على التعايش، وتضيع معالم الطريق من أمامها، فتعود للتحرك من حيث بدأت، وعلى الرغم من وضوح حقيقة الحياة أمامه، فإنه فاقد الإحساس السليم والصحيح بالأشياء، ومع (محمد القرمطي) لا نجد حدثا مترابطا منذ بداية القصة إلى نهايتها، وإنَّما هناك مواقف تقوم أو تمر بها الشخصية، وفي هذه القصة تتعد المواقف التي تقوم أو تمر بها الشخصية منذ البداية يقول القاص عارضا لوحة دقيقة لشخصيته:”في تلك اللحظة، هناك، في مسرح النوم، حيث الغرفة شبه المظلمة، والسرير بأطرافه المشعثة، أجد في نفسي حاجة قوية إلى رفقة إنسان(…) طرق الباب(…) فتح الباب بعد الطرقة الثالثة لأنه لم يكن مقفلا، اقتربت فتاة تشبه عروس البحر، تفوح منها رائحة الورد البلدي. اجتاحني فرح مفاجئ. نسيت نفسي ونسيت أنها ما زالت واقفة”(15). وفي خاتمة المشوار وبدايته، تتأزم حالة الضياع التي يعنيها المأزوم، فيسقط في متاهة التخبط، :”وتذكرتُ. طفلة جميلة، كانت تهبني مساء كل يوم وردة. كانت تحكي لي كيف زرعت الورد بفرح طفولي، وكيف انتظرت حتى أزهرت وكيف قطفتها وأنها أول من فكرت فيه لأهدائها له هو أنا”(16)، وهكذا يتدرج حلم اليقظة لدى الراوي من مرحلة تخيله لطرق الباب في غرفة شبه مظلمة، ثم يتطور فيما بعد إلى ما يشبه حلم اليقظة، وهذا كله خيال الرائي حين تتحول عروس البحر إلى فتاة صغيرة تقدم له وردة. ويتدرج الراوي في الولوج إلى الحدث عبر عدة رؤى وأفكار متفرقة؛ وكأن الكاتب لا دخل له بما يجري، وإنما يرينا الأحداث من خلال عيني الشخصية التي تنقل ما يدور في واقع القصة، “ويعد هذا الأسلوب أسلوبا محايدا، حيث لا يطل الكاتب رأسه ولا يسيطر على الأحداث مثلما حدث في ضمير الغائب”(17). والقاص يعتمد على الرمزية في عنوان القصة، وكذلك يعتمد على الإيحاء، والمدلول في سياق العمل كله، ووهج اللحظة الدفين هو ترجمة الإحساس بوهج اللحظة والتعايش معها، وهو إفراز لتوهج الرؤية وضبابيتها؛ ولعلي لا أناقض ما أحسّه الكاتب حين أقول، إن وهج اللحظة الدفين هو انفصال بين ذاتية الإنسان، حيث الإحساس المتقوقع داخل بؤرة الذات تلك، وبين الإحساس بواقع الحياة، حيث تدور كل أحداث القص في حلقات مفرغة متباينة لا تتصل بحال، لذا فإن (محمد القرمطي) يكثّف رؤيته الذاتية في طرح فكرة البحث عن خلاص، على المستوى النفسي أولا، دون محاولة من الباحث ذاته للإحساس بالتفاعل والتلاحم بين جوانب الحياة الإنسانية، وفي فقرة أخرى يواصل الكاتب رواية حكاياته المختلفة، وخصوصا عن مرحلة الطفولة، والتي يصور فيها شقاءه وسيطرة الأعراف الاجتماعية، فيروي حكايته مع صبية في مثل عمره: “كانت صبية وكنت في مثل عمرها. وعندما زرتهم ذات يوم، لم أجد هناك سواها مع أمها. فتحت لي الباب ودخلت. دخلت وأخذنا نتحدث عن واجباتنا المدرسية، وإذا بصوت الأم ينهرها:
– مع من تتحدثين هناك؟
– مع ابن عمي يا أمي.
– يا للفضيحة، كيف تتحدثين مع صبي وجها لوجه دون حشمة؟
– ليس بغريب يا أمي.
– لكنه صبي فيه شرور الصبا الذي يجلب العار.
جاءت الأم لاهثة وانتصبت حائلا بيني وبين الصبية قائلة: إذا كان هناك أمر يهمك فتحدث فيه مع الذين يشبهونك من الأولاد”(18). ويبدو أن الراوي، قد جعل مسافة بينه وبين ما يحدث في الواقع، فهو مجرد ناقل لما يجري، دون أن يتدخل في تحديد الأحداث، ويذهب إلى هذا الرأي الدكتور سعيد يقطين، حيث يقول عن قصص القرمطي”وفي السرد بضمير المتكلم لا نجد المسافة الخارجية والمنظور الخارجي للقصة مكوناتها، فكل شيء يجري أمامنا، وعدم ارتهان نواة سردية جعلها تكسر ميثاق التلقي، كما انعكس بشكل جلي على بناء النص، فنحن لا نجد أنفسنا أمام أحداث مركزية تتطور خارجيا إلى نهايتها، فكل حدث ننظر إليه بمنظور داخلي وذاتي من خلال خطابات الفاعل الذاتي التي تتراوح عن الحدث خالقة عوالم جديدة، لذلك كانت قصص القرمطي عبارة عن شذرات نصية يتداخل فيها الزمان (زمن السرد) في الحاضر، بالماضي، والحدث بالتأمل والتفكير”(19).
وينهي الكاتب قصته بالتتمة التالية: “ورأيتني أسبح معها في ضباب يوم باكر، نصعد السفن لم تواتيني مثلها منذ زمن. بعي جدا، منذ أن عملت بهذا الفندق لخدمة الزبائن الذين يلهون بنا لشغل وقت فراغهم. وأنا أمثل السعادة لنفس الغاية. فدع هذه اللحظة تأخذ مداها الفريد في نفسي. أجابت”(20).
تتبلور إمكانات القصة العمانية، في الاعتماد على طريقة تيار الوعي في النصوص القصصية، على روح الرصد الدقيق للأزمة التي يعيشها الإنسان المعاصر، تلك الأزمة التي تنسج خيوطها وقائع الحياة، نتيجة لكل تلك التناقضات التي يحياها، والتي سببتها توترات الواقع نفسه، ومدى ما أصاب الواقع الذاتي للإنسان من مشاعر الخوف والقلق، وبدا الإنسان في –الأغلب الأعم- أقرب ما يكون إلى القلق، وبدت علاقته بذاته، يعتورها العنف والتمزق، وفقد قدرته على إيجاد الاتزان، والتقويم لسلوكه، ولدوافع ذلك السلوك؛ ذلك التوازن الذي يتولد من خلال التفاعلات بين الإنسان وذاته إيجابيا، ثم توحده الكامل مع هذه الذات، وبالتالي تلاحمه مع واقعه كله، والآخرين ممن يقيم معهم علاقاته الإنسانية المتباينة.
وعبر رحلة البحث عن هذا التوازن، تشكلت أزمة الإنسان المعاصر، وظهر في الوقت الحاضر، ضرورة رسم خيط العلاقة الوجدانية والنفسية، بل الحياتية بين الإنسان وجذوره الممتدة التي عاشها منذ قرون، وبين ما يعيشه من تطور على مستوى الحياة والواقع. وكان دور القاصيين العمانيين، باعتبارهم ذوي رؤية خاصة لروح هذا الإنسان وواقعه أقرب إلى المنطقية في التناول لتلك الأزمة، محاولين تحديد سماتها، وبلورة مضامينها بغية تجاوزها، وهضم ما يجّد في الواقع من تغيير عن جديد متطور.
وكأن الإنسان المأزوم هو البؤرة التي تدور من حولها مباحث وأفكار هؤلاء القاصين، مع اختلاف الرؤية، وطريقة التناول، وإن اتفق كثير منهم في مسألة الاعتماد على تيار الوعي لمعالجة تلك الجوانب، وذلك لموافقة هذه الطريقة لمثل هذه الأفكار المطروحة. وتجدر الإشارة أن مسألة التأزم هذه التي تبدو مغلفة معظم أحداث وشخوص القاصين، لا تعني على وجه الإطلاق نظرة الكاتب الذاتية التشاؤمية اتجاه الواقع، وواقع الآخرين.
الهوامش:
(*) نستثني في هذا المقام الجهد المبذول من قبل المنتدى الأدبي في استضافة بعض النقاد ضمن فعاليات ومناشط، وخمس دراسات: الأولى لإبراهيم اليحمدي بعنوان “القصة القصيرة في سلطنة عمان”، والثانية للدكتورة آمنة الربيع بعنوان “البنية السردية للقصة القصيرة العمانية في سلطنة عمان 1980- “2000، والثالثة للدكتور شبر الموسوي بعنوان “القصة القصيرة في عمان من -1970 2000” دراسة فنية موضوعية، والرابعة لفوزية الفهدي بعنوان “المكان في القصة القصيرة في سلطنة عمان بين الواقع والطموح في الفترة منذ ((2003-1993، والخامسة لفاطمة الكعبي بعنوان “القصة القصيرة العمانية الراهنة من (2006-2000)؛ وعلى الرغم من الجهد المبذول في هذه الدراسات، إلّا أنها توقفت عند عام 2006ثم إنها لم تتطرق إلى الموضوع المشار إليه وهو “ذات الباحث عن المطلق في القصة القصيرة العمانية”، إضافة إلى دراسة الدكتور علي المانعي بعنوان “القصة القصيرة في الخليج العربي”، وهي دراسة جامعة لمسار القص المعاصر في منطقة الخليج، واكتفت بنموذجين قصصين عمانيين، الأول: لعبدالعزيز الفارسي، والثاني لسليمان المعمري.
(*) لقد أفدت عند المعالجة من د. نصر عباس محمد، البناء الفني في القصة السعودية المعاصرة-دراسة نقدية تحليلية-، دار العلوم للطباعة والنشر، 1983الرياض.
(1) د. محمود السمرة، مقالات في النقد الأدبي، دار الثقافة بيروت، د.ط ص77
(2) أرنولد هاوزر، الفن والمجتمع عبر التاريخ، ترجمة د. فؤاد زكريا، الهيئة العامة للتأليف والنشر، 1971، ط1 ص368
(3) ستانلي هايمن، النقد الأدبي ومدارسه الحديثة، ترجمة د. إحسان عباس ود. محمد يوسف نجم، دار الثقافة، بيروت ط1، 1958، ص10
(4) روى كاودرن، الأديب وصناعته، ترجمة د. جبرا إبراهيم جبرا، منشورات مكتبة منيمنة، بيروت ط1 1962، ص37
(5) الخطاب المزروعي، لعتة الأمكنة، ط2 دار نينوى، ص53
(6) نفسه، ص54
(7) نفسه، ص54-55
(8) نفسه، ص55
(9) نفسه، ص55
(10) نفسه، ص53
(11) محمود الرحبي، للون البني، ص59
(12) نفسه، ص59
(13) نفسه، ص61
(14) سعيد بنكراد، شخصيات النص السردي، ص33
(15) محمد القرمطي، ساعة الرحيل الملتهبة، ص69
(16) نفسه، ص69
(17) شبر الموسوي، القصة القصيرة في عمان، ص201
(18) ساعة الرحيل الملتهبة، ص70
(19) الأصوات السردية للقصة القصيرة في عمان، د. سعيد يقطين، حصاد أنشطة المنتدى الأدبي لعام 1991، ص136.
(20) ساعة الرحيل الملتهبة، ص74