د. أحمد الحطاب - هل يوجد في عالم البشر علمٌ دنيوي ثابت؟

أولا وقبل كل شيء، وسعيا إلى مزيد من التوضيح والتِّبيان، من الضروري تسليطُ الضوء على مفهومَي "العلم" و"الثبوت". ما هو العلم؟ وما هو الثبوت؟

العِلم، كمفهوم concept، عبارة عن مجموعة المعارف أو مجموعة الأعمال التي تُنجَزُ داخل أو خارج المختبرات والتي تهتمُّ بدراسة الأحداث les faits أو العلاقات les relations أو الظواهر les phénomènes، وذلك اعتمادا على طُرُق méthodes مُعيَّنة، منها الملاحظة l'observation، صياغة الفَرَضيات formulation des hypothèses، التجريب expérimentation والاستنتاج déduction. كما أن العلمَ يهتمُّ بدراسة الأحداث والعلاقات والظواهر القابلة للتَّحقُّق vérifiables، أي كل ما يمكن إثباتُه بالدليل. وهذا هو ما يدفعنا إلى اعتبار العلم كأداة لمقاربة العالم وإدراك كيفية اشتغاله.

والعِلم، بمفهومه الواسع، يتفرَّع إلى عدَّة علوم. والتَّصنيفات العامة الجاري بها العملُ، تُقسِّم العلوم إلى عدَّة أصناف. فنقول مثلا : العلوم البحتة sciences pures، العلوم التطبيقية sciences appliquées، العلوم التَّجريبية sciences expérimentales، العلوم الطبيعية sciences naturelles، العلوم الإنسانية sciences humaines…

وكلُّ هذه الأصناف تتفرَّع، هي الأخرى، إلى علوم متخصصة في مجالٍ من المجالات العلمية، أي أن كل علمٍ له تخصَّصٌ ينفرد به.

كما تُنعث العلوم التي تتطلَّب الحسابَ وصياغة الفرضيات والملاحظة والتجريب والاستنتاج بالعلوم الصلبة sciences dures أو العلوم الدقيقة sciences exactes. وفي المقابل، تُنْعَثُ العلوم الإنسانية بالعلوم الناعِمة sciences molles.

أما الثبوت، فهو مصدر فعل "ثَبَتَ". وفعلُ "ثًبَتَ" يعني الاستقرار وعدم التَّغيير وعدم التَّزعزع والتَّمسُّك بشيءٍ من الأشياء. فنقول مثلاً "فلانٌ ثبت على موقفه"، أي تمسَّك به واستقرَّ عليه ولم يُغيِّره. وثبوت الشيء، هو بقاءُه على حاله، دون أن يطرأَ عليه أي تغيير. فما هو العلم البشري؟ وما هو العلم الثابت؟

العلم البشري هو مجموع المعارف ذات الطابع العلمي التي ينتِجها العقل البشري؟ إما بطرقٍ ومنهجيات معيَّنة ومدروسة وإما عن طريق التفكير المحض. أما المقصود بالعلم البشري الثابت، فهو العلم الذي لم يطرأ على مضمونه أي تغيير منذ أن أنتجته أولى العقولٍ البشرية.

بعد هذه التَّوضيحات حول مفهومي "علم" و"ثبوت"، سأعود إلى عنوان هذه المقالة الذي هو : "هل يوجد في عالم البشر علمٌ دنيوي ثابت"؟

كي نقول إن هذا العلم أو ذاك ثابت أو غير ثابت، بُرهاننا الوحيد هو اللجوء إلى ما يقوله تاريخُ العلوم histoire des sciences. وتاريخ العلوم هو التَّخصُّص الذي يهتمُّ بتطوُّر العلوم من فترة زمانية إلى أخرى. وحتى نتمكَّن من إعطاء جواب مُقنعٍ لعنوان هذه المقالة، فتاريخ العلوم الذي يهمُّنا هنا، هو التاريخ الذي يهتمُّ بتطوُّر الفكر العلمي la pensée scientifique وليس تاريخ الأحداث والاكتشافات والاختراعات العلمية.

وتاريخ العلوم يُبيِّن لنا بكل وضوح أن هذه العلوم، التي أنتجها العقلُ البشري، بجميع مشاربها، لم ولا تُمطرها السماء. بل هي نتيجةُ جهدٍ فكري un effort intellectuel استغرق تكوينُه آلاف السنين. كما أن تاريخَ العلوم يبيِّن لنا أن العلمَ، كأدة لمقاربة وإدراك العالم لم يكن منظَّما كما هو الشأنُ اليوم. ولهذا، فكل ما أنتجه، مثلا، الإنسان البدائي من معارف، لا يمكن اعتبارُها علما. بل هي، فقط، معارف مُكتسبة من خلال التَّجربة connaissances empiriques.

وتاريخ العلوم يبيِّن لنا أن العلمَ مبنيٌّ على النظريات العلمية les théories scientifiques. والنظريات التي أثبتها العلمُ، إلى حدِّ الآن، كثيرةٌ، أذكر منها مثلا النظرية الذرية théorie atomique، النظرية الخلوية théorie cellulaire، نظرية الانجراف القاري dérive des continents، نظرية الانفجار العظيم أو الكبير théorie du big bang… والنظرية العلمية هي عبارة عن تفسيرٍ أو تفاسير لحدثٍ أو لعلاقاتٍ بين الأشياء أو لظاهرة مترتِّبة عن تراكم الملاحظات والتَّجارب. والنظرية العلمية، المقبولة، يجب أن تبقى منفتِحةً على التَّوقُّعات أو التنبؤات prédictions، بمعنى أن تكونَ قابلة للتعميم على الأحداث أو العلاقات أو الظواهر التي تدخل في نفس النطاق العلمي.

وهذا يعني أن النظرية العلمية تبقى مفتوحة على التغيير. والتَّغيير يعني إما أن تُصحَّحَ إذا تبيَّنت فيها عيوب، وإما أن تتطوَّر، أي أن ترقى إلى مستوى أعلى من الدِّقة والتَّعميم.

وتاريخ العلوم يُبيِّن لنا أن جلَّ النظريات العلمية تتطوَّر حسب مستوى الفكر العلمي وحسب تطوُّر وسائل البحث والتَّنقيب داخلَ وخارجَ المختبرات. وهذا هو ما حدث مثلا بالنسبة للنَّظريتين العلميتين، النظرية الذرية والنظرية الخلوية. فعِلم الذرة وعلم الخلية الحاليان ليسا هما نفس العلمين اللذَين كان سائدين في الماضي. وطب ابن سينا ليس هو الطب المعاصر. وفيزياء Newton ليست هي فيزياء Planck و Maxwell و Einstein…

العلم الذي هو من إنتاج العقل البشري لا يتوقَّف عن التَّجديد innovation. لماذا؟ لأن كل ما يُنتِجه العقل البشري من معارف ليست إلا تفاسير نسبية explications relatives للأشياء. والمعرفة النسبية هي ضد المعرفة المطلقة connaissance absolue. والعقل البشري ليس له القدرة للنفوذ إلى المعرفة المطلقة. وهذا يعني أن الإنسانَ يفسِّر الأشياءَ انطلاقا من ما يعرفه الإنسان. وبما أن العقل البشري غير قادرٍ على الوصول إلى المعرفة المُطلقة، فكل تفسيرٍ للأشياء يصدر عن هذا العقل البشري، يبقى نسبيا. والنِّسبِية la relativité هي التي تفتح البابَ واسعا للتجديد. لماذا؟

لأن العقل (الفكر) البشري يتطوَّر بتطوُّر العلم، وبالأخص، بتطوُّر وسائل البحث والتَّتقيب التي، هي الأخرى، من إنتاج هذا العقل البشري. والتجديد في المعارف العلمية لم يتوقَّف عبر الأزمنة الماضية ولن يتوقَّفَ حاليا ومستقبلا. لماذا؟

لأن البحث العلمي الذي تدور أطوارُه داخلَ أو خارجَ المختبرات، عندما يأتي بحلٍّ من الحلول لمشكلة من المشكلات، فإنه، في نفس الوقت، يطرح مشكلات أو ألغازاً جديدة، على هذا البحث أن يجدَ لها حلولا وهكذا.

لهذا، فمسيرة العلم لا تتوقف ولن تتوقَّف إلى أن يرثَ الله الأرضِ ومَن عليها، مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى : "وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا" (الإسراء، 85). ومصداقا، كذلك، لقوله، سبحانه وتعالى : "...وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ... " (البقرة، 255).

والآن، سأجيب عن السؤال الذي هو عنوان هذه المقالة: "هل يوجد في عالم البشر علمٌ دنيوي ثابت"؟

الجواب واضحٌ وضوح الشمس في النهار. لا يوجد، على الإطلاق، علمٌ بشري ثابت! كل العلوم التي هي من إنتاج العقل البشري، لا تبقى جامدة! إنها تتغيَّر، تتطوَّر، تتجدَّد، تتحرَّك، تتقدَّم، تنمو… إلا العلوم الدينية التي لها علاقة بالإسلام، فهي جامدة، أي بقيت على حالها منذ ما يزيد عن عشرة قرون!

قبل توضيح أسباب هذا الجمود، أريد أن أُثيرَ الانتباهَ إلى أن ما أقصده ب"العلوم الدينية"، هو كل ما انتجه العقل البشري في مجال الدين. وهذا الجمود لا تُمطره السماء. بل أسبابُه كثيرة، سأعبِّر عن البعض منها، من خلال الأسئلة الموالية :

1.هل العقل البشري (المسلم) مختلفٌ عن العقول البشرية الأخرى، وخصوصا، تلك التي أنتجت العلوم الدنيوية الحالية؟ لا، أبدا! لأن اللهَ، سبحانه وتعالى، يقول : "الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ (السجدة، 7). إذن، العقل البشري (المسلم) لا يختلف عن العقول الأخرى. فإنتاجه الفكري قابل للتَّغيير.

2.هل العقل البشري (المسلم) له القدرة على النفوذ إلى المعرفة المطلقة؟ لا، أبدا! لأن العقل القادر على الوصول إلى المعرفة المُطلقة، له القدرة على الاطِّلاع على الغيب. والله، سبحانه وتعالى، يقول، على لسان رسوله (ص) : "قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (الأعراف، 188). وإذا كان الرسول، الذي هو خير البرِية، لا يعلم الغيبَ، فما هو الشأن بالنسبة للبشر العاديين؟ إذن، العقل البشري (المسلم)، كجميع العقول البشرية، يُنتِج معارف نسبية قابلة للتغيير.

3.هل العقل البشري (المسلم) يتلقَّى الوحيَ من الله حتى بقى إنتاجٌه العلمي ثابتا وصالحا لكل زمان ومكان؟ لا، أبدا! الوحي خصَّ به، سبحانه وتعالى، الأنبياءَ والرُّسلَ مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى :"وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (الشورى، 51). إذن، العقل البشري (المسلم)، كجميع العقول البشرية، لا يمكن أن يكونَ إنتاجُه الفكري ثابتا.

4.هل العلوم الدينية التي أنتجها علماءُ وفقهاءُ الدين، هي إنتاجٌ صادرٌ عن عقلٍ بشري أم لا؟ بكل تأكيد، إنها أنتاجٌ صادرٌ عن عقل بشري! وبما أن العقول البشرية (المسلمة) تتشابه مع العقول البشرية الأخرى، وبما أن إنتاجها الفكري ليس إنتاجاً مطلقا وليس وحياً، فكل ما ينتِجه العقل البشري (المسلم)، نسبي. وبما أنه نسبي، لا يمكن أن يكونَ ثابتاً!

والدليل على ذلك أن هذا الإنتاج لم يأتِ من فراغ. بل تطلَّب إنتاجُه البحثَ والتَّنقيبَ والتَّحليلَ والمقارنة والاستنتاج والاجتهاد والاستنباط والتَّعليل والاستشهاد… بل إنه إنتاج فكري بشري، شأنه شأنَ العلوم الدنيوية التي تتغيَّر، تتطوَّر، تتجدَّد، تتحرَّك، تتقدَّم، تنمو…

فما دامت العلوم الدنيوية والعلوم الدينية إنتاجٌ فكريٌّ، فلماذا الأولى تتغيَّر، تتطوَّر، تتجدَّد، تتحرَّك، تتقدَّم، تنمو… بينما الثانية بقيت على حالها، كما أنتجها الأولون وذلك، منذ ما يزيد عن عشرة قرون؟ وفيما يلي، هذه بعض الأجوبة عن هذا السؤال :

-إما أن العلوم الدينية ليست علما بالمعنى الحديث لمصطلح "علم". وإذا لم يكن الإنتاج الفكري الديني علما، فلماذا سُمِّيَ هذا الإنتاج الفكري ب"علوم دينية"؟

-وإما الإنتاج الفكري في مجال الدين يعتبره مؤلِّفوه مطلقا، وبالتالي، صالح لكل زمان. وهذا منظور خاطئ لأن كلَّ ما يُنتِجه العقل البشري من معارف نسبي، أي قابل للتَّغيير. بمعنى أن هذه المعارف، إذا صلُحت لزمان ومكان معيَّنين، قد لا تصلُح لزمان ومكان مختلفين.

-وإما الهدف من الإنتاج الفكري الديني ليس إرشاد الناس وتوعيتُهم الدينية وتقديم الموعظة وتحسين التَّديُّن… بل هناك أهداف أخرى غير معلنة قد تتجسَّد في بسط السيطرة على الناس، من خلال تقريب الدين منهم، بطريقة تخويفية وترهيبية. وقد يكون الهدف من الإنتاج الفكري الديني، الغزير، التَّنافس والتَّناحر بين التيارات الفكرية الدينية، وبالأخص، تلك التي كانت موجودة ونشيطة في العصرين الأموي والعباسي.

-وإما أن علماء الدين وفقهائه يعتبرون أنفسَهم أشخاصا غير عاديين، أي أن كل ما يقومون به من إنتاج فكري ديني، هو بوصاية من الله، أي أنهم امتدادٌ للإرادة الإلهية. وهذا غرورٌ ما بعده غرور لأن اللهَ، سبحانه وتعالى، غنِيٌّ عن العباد وليس في حاجة إليهم لهداية الناس أو عدم هدايتهم.

وهنا، تحضرني آيةٌ قرآنية كريمة، يقول فيها، سبحانه وتعالى : "وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَٰلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ" (،فاطر، 28).

في هذه الآية، فعلُ "خشي" جاء في صيغة المضارع. والفعل المضارع يّعبِّر عن شيءٍ يحدث في الحاضر وسيحدث فيما يأتي من الزمان، أي المستقبل. فكيف لعلماء يخشون اللهَ حاضراً وسيستمرون في خشيته مستقبلا؟ لأن العلماء الحقيقيين، كلما تقدَّمت وتطوَّرت معرفتُهم للكون، سماءً وأرضا، كلما لاحظوا أن هذا الكون ليس وليدَ الصدفة. بل وراءه خالقٌ يُدبِّره ويُسيِّره حسب قوانين وضوابط محسوبة.

ملاحظة هامة : بالنسبة لي، ما يُسمِّيه علماء وفقهاء الدين "علوما دينية"، هو إنتاج فكري بشري مثله مثل الإنتاجات الفكرية البشرية الأخرى. وما دامت العلوم الدينية إنتاجا فكريا بشريا، فهي، كالعلوم الأخرى، نسبية، أي قابلة للتَّغيير. وإذا لم تتغيَّر، فهناك نِقطُ استفهامٍ كثيرة تفرض نفسها، أو بعبارة أخرى، هناك حاجاتٌ مدسوسة في نفس يعقوب!

وحتى إذا طالَ الإنتاجُ الفكري الديني ما هو ثابتُ في الدين الإسلامي، فهذا الإنتاج ليس إلا تفسيرٌ بشري لهذه الثوابت. فرقٌ كبير بين ما هو ثابت، أي مطلق وبين ما هو مجرَّد تفسير بشري لهذا الثابت!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى