أسامة سلامة - حكايات عن الذين لم يغادروا غزة

«أبوحسين كان إحدى أذرع ياسر عرفات، كان معروفًا فى أوساط المنتدى على شاطئ بحر غزة والذى كان مقامًا ومستقرًا لعرفات يدير منه شؤون الشعب الفلسطينى، بعد استيلاء حماس على السلطة فى قطاع غزة انكفأ على نفسه وعائلته ولاذ بصمت عميق، شهد الرجل كل الحروب والاعتداءات على غزة ولم تهزه ريح ولم يغادر البرج الذى يقيم فى إحدى شققه، وفى الحرب الإرهابية الحالية أنذر منسق الجيش الإسرائيلى سكان البرج بضرورة إخلائه تمهيدًا لقصفه بعد ساعة، حرض أبو حسين عائلته على النزوح إلى الجنوب وقرر ألا يغادر معهم فهو لا يريد أن يترك حلمه وذكرياته، بقى وبقيت معه حفيدته الطفلة الصغيرة التى رفضت أن تتركه وحيدًا، قالت له: «جدو نموت سوا أو نحيا سوا»، كان متأكدًا أن الإسرائيليين يعرفون أن لا حماس ولا مسلحين فى البرج فلماذا يقصفون مبنى خاليًا؟ ولكنهم فعلوها قصفوه واقتلعوه من أساسه فى نفس اللحظة التى كانت الصغيرة تعطى جدها شربة ماء، سقطت فوق فراشه فطار وطارت معه، حماها الفراش وأصيب أبو حسين بشظية أودت بحياته وهو يحتضنها فارتقى شهيدًا، مات وهو مطمئن أنها نجت لتواصل وتعيش أحلامه»، ما سبق واحدة من حكايات أهل غزة المصرّين على البقاء فى بلدهم مهما كانت التضحيات، وهى حكايات رصدها الروائى والإعلامى الفلسطينى زياد عبد الفتاح وزميله الناقد الدكتور عادل الأُسطة فى كتاب «غزة تحت الإبادة الجماعية.. حكايات عن الذين لم يغادروا»، الصادر مؤخرًا عن دار ميريت، حرص الكاتبان وهما يسجلان الملحمة الإنسانية والبطولية فى غزة أن يرصدا وقائع حرب الإبادة التى يتعرض لها القطاع ليل نهار، حيث لا ماء ولا كهرباء وغذاء ولا دواء ولا حياة ولا أمن، وكلها تشكل جرائم ضد الإنسانية يرتكبها جيش الاحتلال منذ السابع من أكتوبر الماضى على مرأى ومسمع من العالم كله. الكتاب جاء فى قسمين، الأول كتبه الروائى زياد عبد الفتاح، وحكى خلاله عن أشخاص عاش معهم، وعندما جاءته أخبار استشهادهم، فاضت مع نهر أحزانه ذكريات وأحداث عاشها معهم، وعلى مدى الصفحات جاء الحديث ممزوجًا بقصص إنسانية تحكى مأساة أناس أبرياء وضعت الأسلحة الإسرائيلية الغاشمة نهاية لحياتهم دون ذنب، وقضت على حياة عائلات بكاملها، كان للشاعر سليم النفار الذى كان صديقًا للكاتب نصيب منها، صوبوا إليه الصواريخ الأمريكية هو وعائلته وعائلة شقيقه فأبادوهم جميعًا لم يبق منهم أحد، يحكى زياد أيضًا قصة الطفلة شام التى لم يتجاوز عمرها الخمس سنوات، ظل أبوها حريصًا على حمايتها، يمنعها من الخروج من المنزل كلما اشتد القصف، وحين هدأت النيران قليلا استجاب لرغبتها وسمح لها باللعب مع أطفال الجيران ولكن الطائرة الإسرائيلية كانت لها بالمرصاد، لتستشهد شام تحت وقع الضربة المجرمة، حكايات زياد كثيرة ومؤلمة وتكشف عمق المأساة الإنسانية التى يعيشها سكان القطاع الذين يصر جيش الاحتلال على تجريدهم من كل شىء، حتى مستشفياتهم ومساجدهم لم تسلم من الهجمات البربرية، يقول زياد: «لأول مرة يحضُرُنى تعبير ما فوق العنصرية، الإسرائيليون يضربون المستشفيات والمدارس، ويحيلون كل من فيها إلى شهداء ومصابين، وهى جريمة تفوق العنصرية والنازية، والمحرقة وجرائم الحرب، مستشفى المعمدانى لها وجود مميز كما كل كنائس القطاع، وهى تابعة لاتحاد الكنائس، أقامها مسيحيو غزة منذ سنوات طويلة، وأحالها الإسرائيليون حاليًا إلى مقبرةٍ يكاد يكون كل من فيها شهيدًا»، ورغم كل الآلام والأحزان التى جاشت بها حكايات زياد نتيجة صدمات الفقد وفراق الأحبة، إلا أنه يؤكد فى كل واحدة منها على الصمود، وصك من خلالها تعبيرًا مليئًا بالتحدى «أهل غزة والفلسطينيون ليسوا فُرَّارًا.. إنهم أهل ثبات»، ظل يرددها فى كل قصصه ليؤكد على تمسكهم بأرضهم مهما طالت المذبحة.

1718708416776.png

فى الجزء الثانى من الكتاب الذى جاء تحت عنوان «يوميات العدوان على غزة» رصد الدكتور عادل الأُسطة أحداث المقتلة كما أطلق عليها. ويكتب عن يوم السابع من أكتوبر «حين بدا ألا حقوق ولا أمل للفلسطينى، وبدا أن قضيته تتآكل، وأطبق الحصار على قطاع غزة وضاقت بأهلها السبل وانقطع الأمل، حدثت المفاجأة المذهلة فى صورة طوفان الأقصى الذى أعاد لأهل القطاع الأمل فى القدرة على التصدى»، أما عن رد الفعل فقد جاء هستيريًا من الجيش المحتل ومعها محاولات واشنطن والعديد من الدول الغربية لدعم ولملمة الفشل والإخفاق العسكرى والأمنى والسياسى الإسرائيلى، تحت زعم أن لإسرائيل الحق فى الدفاع عن نفسها دون أن يتطرقوا إلى حقوق شعب يرزح تحت الاحتلال، وينكرون عليه حقه فى المقاومة والدفاع عن نفسه.

فى يومياته يستعين الأُسطة بنصوص قصصية وقصائد، أغلبها للشاعرين محمود درويش وإبراهيم طوقان، ويرصد من خلالها معاناة أهل غزة، والتأكيد على صمودهم، كما يستدعى شخصيات قصص روائية رسمها مبدعون مثل إميل حبيبى فى قصته «لكع ابن لكع» وروايته» الوقائع الغريبة فى اختفاء سعيد أبى النحس المتشائل» التى يكتب فيها عن «ثريا» التى زارت اللد بعد هزيمة يونيو 1967، وراحت تبحث عن ذهبها الذى خبأته فى عام النكبة فى الجدار، لكن حين مدت يدها لتطول مصوغات عرسها، ناولها رجل القيم على أراضى إسرائيل شهادة بالذهب وأخذ الذهب وذهب، وأما ثريا فأخذت شهادة الذهب وذهبت تسف الثرى فى مخيم الوحدات، لا يتوقف الأُسطة فى يومياته عند الشخصيات القصصية فقط، لكنه يروى حكايات جاء بعضها على لسان العديد من الغزاويين، وفى مواقع التواصل الاجتماعى والقنوات الفضائية، تحاور مع أصحابها، وعمقها بالشعر والأمثال الشعبية، ليعطى اليوميات بعدًا إبداعيًا وإنسانيًا سيظل يتردد ما بقيت المأساة الفلسطينية، من الصعب تلخيص الكتاب فى هذه المساحة ولكنه كتاب مهم للغاية وأتمنى ترجمته إلى لغات عديدة لتعرف شعوب العالم جريمة إسرائيل فى غزة، والشكر للناشر الشجاع محمد هاشم الذى يتضامن مع الفلسطينيين من خلال نشر مثل هذه الكتب المهمة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى