فاتن فاروق عبد المنعم - القدس... ملتقى الأنبياء (11)

(11)

أخلاقيات الفارس:

صلاح الدين الأيوبي، عندما نجوس معه عبر سلوكياته مع الأعداء المغيرين نكتشف فارس بأخلاق سلالة متجذرة وأصول عريقة ضاربة في العمق، الفارس المنتصر الذي سار بجيشه عقب معركة حطين يحصد المدن الواحدة تلو الأخرى في الوقت الذي تضعضع فيه جيش الصليبيين وعند وصول البارون باليان الإيليني استأذن صلاح الدين كي يمنحه ليلة واحدة يدخل فيها القدس كي يصحب عائلته وممتلكاته فما كان من الفارس النبيل إلا أن وافق مع حله من قسمه بليلة واحدة، بمعنى أعطاه براح في الوقت وأرسل معه مرافقا ليصطحب معه عائلته وكل ممتلكاته إلى الساحل، وهذا طبقا لرواية كارين.

وقف صلاح الدين على أعلى منطقة بالقدس وهو يرى الصليب يعلو قبة الصخرة التي ابتنى مسجدها الأمويون وعلق عليها الصليب بعد تفريط العبيديين (الفاطميون) فألقى صلاح الدين خطبة على جيشه يذكرهم فيها بأهمية القدس، موطن المسجد الأقصى ومسرى نبينا وأرض الكثير من الأنبياء، وأرض المحشر، ثم حثهم على ضرورة الانتقام لمذبحة 1099 (عند دخول الصليبيين القدس حيث ذبحوا أغلب سكانها من المسلمين) فلما دخل صلاح الدين القدس تملك المسيحيين الرعب وبادر باليان بطرح حلولا سلمية لتدارك الموقف ولكن صلاح الدين الإرهابي طبقا لتوصيف أحد التكوينيين لم يبد أي رحمة في بادئ الأمر وقال له أن جيشه سيتعامل معهم كما فعلوا بالمسلمين عند دخولهم المدينة.

فقام باليان بالتهديد إن لم يقبل صلاح الدين بتسلم المدينة سلميا فإن المسيحيين سوف يقتلون نسائهم وأطفالهم ويحرقون بيوتهم وممتلكاتهم وسيهدمون المسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة وسيقوم كل فرد منهم بقتل فرد مسلم، فشاور صلاح الدين علمائه فوافق على استلام المدينة سلميا على أن لا يبقى فيها أي صليبي وإلا أخذ أسيرا أو يفتدي نفسه بفدية ضئيلة جدا.

عفو ملوكي:

كما قالت كارين لم يقتل مسيحيا واحدا، فالفدية ضئيلة ولكن بعض الفقراء أخذوا أسرى لعدم قدرتهم على افتداء أنفسهم ورأى صلاح الدين بكاء الأسر وهي تتفرق ما بين محرر وأسير فرق قلب أخيه العادل الذي عرض عليه أن يدفع فدية بقية الأسرى ولكن صلاح الدين الذي يرنو ببصيرة نافدة، قال له لا بل إنه سيعفو عن الفقراء كي يتذكر المسيحيون ما فعله بهم المسلمون وكم كانوا بهم رحماء، وعلى حد تعبير كارين التي قالت إن المسيحيين عادوا إلى بلادهم محملين بأساطير بعضها أن صلاح الدين تعمد سرا!! فهل حفظ قادة الصليبيين الجميل للمسلمين أم أنهم جحدوا بها واستيقنتها أنفسهم.

وعن ذلك تقول كارين:

“تم إطلاق سراح أعداد كبيرة منهم وكان صلاح الدين قد ذرف الدمع وهو يرى بؤس الأسر التي تفرقت باسترقاق أفرادها كما أصاب الأسى العادل شقيق صلاح الدين لدرجة أنه طلب لنفسه ألف أسير وأعتقهم على الفور، وروعت رؤية الأغنياء من المسيحيين وهم يفرون بثرواتهم دون محاولة منهم لفداء مواطنيهم، وحينما رأى المؤرخ عماد الدين البطريريك هرقل يترك المدينة بينما تئن مركباته تحت وطأة ثقل كنوزه، ترجى صلاح الدين أن تصادر أملاكه لفداء الأسر الباقية، ولكن صلاح الدين رفض ذلك لقناعته أن العهود والمواثيق يجب تنفيذها حرفيا”

ولنا هنا وقفة:

موقف صلاح الدين بالعفو الشامل عن الأسرى لم يعجب بعض المؤرخين المسلمين الذين رأوا في موقفه تساهل أكثر من اللازم كان لا ينبغي له أن يكون غير أنني أراه يشبه عفو الرسول صلى الله عليه وسلم للمشركين بمكة عندما عاد إليها فاتحا حيث قال لهم «اذهبوا فأنت الطلقاء»

صلاح الدين الذين نسج حوله عوام المسيحيين الأساطير كان في ميعة شبابه يشرب الخمر (واعتبر البعض هذه سوءة ونقيصة تنسف ما فعله جملة وتفصيلا، رغم أن العبرة كيف تحول إلى النقيض كي يصنع الأمجاد) وعندما تولى الوزارة وأرتأى حال الانهيار والتداعي التي مني بها العالم الإسلامي، تولدت لديه رغبة حقيقية في الإصلاح ما يعني أن الله رزقه الصدق والإخلاص، وهنا مربط الفرس، فالإخلاص لله يعنى أن الله اجتباه وفضله على كثير من خلقه، وهنا ابتدأ صلاح الدين الإصلاح من نفسه أولا، فتاب عن شرب الخمر وأناب وعاد إلى مربع الصالحين المهمومين بالأمر، واقبل على مكمن قوة المسلمين، القرآن والسنة (رغم أنف التكوينيين وأشياعهم ومريديهم ومحبيهم و…..) فأخذ ينهل من العلوم الشرعية كي تجلو بصيرته ويعينه الله على ما هو منوط به، اتساقا مع الآية

{إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} 11 الرعد

ثم فجر أرض مصر وسوريا بمدارس العلوم الشرعية لتدريس منهج أهل السنة والجماعة، قبل الإقدام على أي فعل، لإصلاح نفوس العوام التي خربت، فإن استفحلت الأمراض الخلقية فما لها من ترياق قوي غير الدين، وحده هو القادر على إصلاح المعوج وهو ما أدركه ووعاه السلف الصالح رضي الله عنهم وأرضاهم، فلله دره (ولهذا أنشأوا لكم تكوين، تتويجا لجهود السابقين منذ الاحتلال الفرنسي لمصر، ثم النخبة المصطعنة على عين المحتل)

وعن فظاظة الحكم الصليبي تقول كارين:

«وهكذا انتهت تقريبا تجربة الصليبيين في القدس، وحاول المسلمون بعد ذلك إعادة النظام القديم للتعايش والاندماج في المدينة، غير أن الاضطراب العنيف الذي تسبب فيه الحكم الصليبي دمر العلاقة بين الإسلام والغرب المسيحي على مستوى أساسي، فقد كانت خبرة المسلمين الأولى بالعالم الغربي وهي خبرة لم يتم نسيانها حتى يومنا هذا، وأثرت معاناة المسلمين على يد الصليبيين على نظرتهم للمدينة المقدسة، واصبح هناك توجهات دفاعية في تعلق المسلمين بالقدس، ولذا فقد قرر للمدينة أن تصبح إسلامية بأسلوب أكثر عدوانية من أي وقت سابق»

وطبعا استمرأوا قتل أي بادرة لإصلاح ما بين المسلمين والغرب المسيحي فابتدعوا الإسلاموفوبيا، هم من يبدؤون باستفزاز المسلمين ثم يعقبه رد فعل مناسب لعظم فعلهم من قبل المسلمين فيتم ترسيخ أن المسلمين إرهابيون ودمويون…إلخ (مثل حادثة الرسوم المسيئة بفرنسا)

الإسلام والغرب المسيحي.. سنوات الحسم:

خلصت كارين إلى أن سوء علاقة الإسلام بالغرب المسيحي هم المسيحيين أنفسهم، ودعوني أكون أكثر دقة وإنصافا، القادة المؤدلجون هم الذين يسيئون ولكن العوام إذا رأوا الصورة الحقيقية فإنهم لا يحيدون عن الحق ولا أدل على ذلك من موقفهم مما يحدث في فلسطين (بغض النظر عن المستخدمين والمؤدلجين في كل زمان ومكان).

من الملاحظ أن القيادة إذا كانت غير إسلامية فإن الإساءة بشكل فج للمقدسات الإسلامية دين وديدن هذه القيادة بدليل أن عمر بن الخطاب عندما ذهب لاستلام بيت المقدس من البطريرك وجدهم قد أحالوا المسجد الأقصى إلى مكان لتجميع القمامة ففزع عمر من هذا المشهد وما إن استلم مفاتيح المدينة حتى شرع ورفقائه لتنظيف المسجد وإعادته إلى سابق عهده، وعندما استرد صلاح الدين القدس كان المسجد الأقصى قد أحاله الصليبيون إلى إسطبل لخيولهم في مجتزأ، وآخر لتخزين الطعام، وآخر مستودع لأسلحتهم، وآخر إلى مراحيض فقام بإزالة فعلهم وأعاد المسجد إلى سابق عهده وفرشه بالسجاد وعمره بإقامة الصلاة فيه.

على النقيض من القيادة الإسلامية فإن هذه القيادة لا تتعرض مطلقا بسوء للكنائس أو المعابد، وهذا نهج إسلامي بحت لأننا مكلفون ببذل الجهد في تبليغ الدعوة ولسنا معنيين بمن يؤمن ومن يكفر، نفرح بمن يؤمن ولا شك لنجاته من النار لكن لا نجبر أحد على اعتناق الإسلام، وبالتالي لا نشرع في الإساءة للمخالف ولا استفزازه اتباعا للآية الكريمة:

{ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} 125 النحل

والآن حفر الأنفاق والسراديب منذ سنوات يمارسه الكيان الغاصب لفلسطين لهدم المسجد الأقصى وبناء هيكلهم المزعزم، ما يعني أنهم بالقياس لما سبق فإن التعرض للمسجد الأقصى بالسوء دليل على اقتراب تصحيح الوضع الخاطئ لتعود القيادة إسلامية مرة أخرى.

لم يتوقف التقاء الإسلام بالغرب عند الحروب الصليبية ولكن ما أعقبها من استشراق لم يبتغي بالإسلام خيرا في الغالب الأعم وإن كان هناك استثناءات نادرة، ثم الاحتلال الموسع للدول الإسلامية حتى بلغنا الآن سنوات الحسم، فما يحدث في فلسطين الآن هي صورة من صور الصدام بين الإسلام والغرب كما السابق، وإن تصدر الكيان الغاصب لفلسطين المشهد ولكن الحقيقة الدامغة أن الغرب بكل قوته وإمكاناته هو الظهير الواضح لهذا الكيان، بل هو المحارب والمواجه الحقيقي، فلم يكتفي بدعم لوجيستي كما السابق وإنما حل بخيله ورجله مع إعلان طوفان الأقصى، جاء ليحافظ على مكتسباته لأنهم يعلمون أنها حرب تحرير حقيقية، ولنا أن نقارن بين إمكاناتهم وإمكانيات حماس والجهاد الإسلامي، بالطبع لا وجه للمقارنة ولا نملك إلا القول أن يد الله تعمل كي يعود الحق لأصحابه ويعتدل الميزان مهما حاول الشيطان الذي يحكم العالم الآن وأوليائه، لأن الأمر تجاوز اتفاقك أو اختلافك مع حماس والجهاد بل تجاوز الشيطان نفسه وخططه ولو أنهم يملكون زمام ما يحدث بأيديهم ما استمرت هذه الحرب غير المتكافئة حتى الآن، فالحق أبلج والباطل لجلج والله وحده هو المحرك للأحداث طالما الجند المتصدرون لا يعلنون الولاء لغير الله وانتصروا له فسينصرهم وذلك موعوده كي يدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علو تتبيرا.

وللحديث بقية إن شاء الله

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى