د. محمد عبدالله الخولي - الشعر بين جمالية التركيب وعمق الرؤية قصيدة [نَدبةٌ زرقاءُ] لــ وسام دراز "أنموذجا"

تتحقق الشعرية متوزعة على مستويين: الأول، جمالية التركيب. والثاني، عمق الرؤية، والأخيرة تنبني عليها فلسفة الجوهر الشعري لا سيما المعاصر منه. دون أشراط وقوالب وحدود، يتبين القارئ منذ أول وهلة، أنّ المرسلة الكتابيّة التي يتلقّاها تنتمي إلى الجنس الأدبي (الشعري)، وكأنّ الشعر بوسمه جنسا أدبيا له صفاته المائزة التي تحرّك منظومة التّلقّي الباطنية - دون اشتراط - تجاه الجنس الأدبي الذي تنتمي إليه المرسلة، إذ الشعر يحتفظ لنفسه بما يضمن له وجوده وتعاليه.
إنّ الذي يتغيّاه القارئ من النص الشعري، المتعة المتحققة جرّاء اللعب بالعلاقة بين الدوال ومدلولاتها، ولا يكون الشعر إلا إذ انتهك الشاعر تلك العلاقة، لدرجة يصل فيها اللعب بالدوال إلى درجة التعطيل، حيث يتعالى الشعر بسلطته على معجميّة اللغة وتاريخيّة التداول، ويخلق من اللغة وعلاقاتها – المنبنية في أفق الشعرية – خلقا جديدا يتواءم مع الرؤية الذاتية للمبدع، ولنا أن نقول: أنّ هذا اللعب الحر بالدوال والعبث بتراكبية اللغة ما هو إلا صورة تعكس لنا الداخل الذاتي الذي يموج في بحر التجربة الشعرية والإنسانية على حدٍّ سواء.
إذن، ومما لا شكّ فيه، أنّ النصّ الشعريّ قسيم مشترك بين انتهاكية اللغة، وعمق الرؤية الوجودية، ودونهما لا يتحقق النص الأدبي من شعريته على الإطلاق. فالرؤية الذاتية للمبدع هي الدافع الأول الذي يضطّر الشاعر إلى العبث باللغة، ومن ثَم يعيد تركيبها ليحدث شيء من التناغم بين الداخل (الذاتي) والخارج (النصي). وهذا الخرق الذي يحدثه الشاعر في اللغة تتحقق به المتعة التي ينشدها القارئ من النص الشعري، حيث تتم عملية الخرق – دون الخروج على قانون اللغة الذي يضمن للغة تواصليتها – دون قيود أو منهجيّة معينة لهذا الخرق " فخطاب المتعة/ ليس منهجا ولا يريد أن يكون، ولا نظرية ولا تنبغي له. وبالرغم من هذا، ففيه من المنهج ما فيه، ومن النظرية ما يغنيه، لتقديم مقاربة حرة للشعري وألعابه التي لا موضع فيها لنحو ولا لبلاغة، بل هي علامة حرة تبني نفسها بالطريقة التي تهدم وظيفيّتها بما هي تدليل، علامة تمحو مؤولها المباشر، وتمنع أيّة محاولة لإيقاف مؤولها الدينامي وقولبته في مؤول نهائي، فلا وجود لنهايات في (الشعري)." إذ بعملية الخرق/ الانتهاك ينفتح النص الشعري على التأويل، ولا يستطيع ناقد/ قارئ أنْ يُوَقِّف حركة التأويل للعمل الشعري بارتضائه موضوعا نهائيا للنص، ولا يستطيع في نفس الآن أن يكشف عن التجربة الشعرية للذات بجميع أبعادها " فقط يكشف عن التباسات التجربة التي لجأت إلى اللغة قناعا لغموضها حتى على صاحبها، فازدادت بها غموضا. إنّ التجربة الشعرية تحاول خداعنا عن نفسها، بتوسلها بالأداة/ اللغة المعنية بإنتاج المعنى، بينما هي تكفها عن وظيفتها وتدفعها دفعا إلى لعبة [الكشف – التحجّب] في دور أشبه بما يكون بالدور المنطقي، فهي عود على بدء وبدء على عود، في هذه المتاهة تتولد متعة الخطاب الشعري." وقد ألمحت -آنفا – أنّ الشعر في عموميته ينبني في أفق المتعة، تلك الخصيصة التي تضمن للشعر هويته، وتسمح له بانتهاك اللغة دون قيد أو شرط، مع الالتزام بالقانون الذي يضمن – بعد هذا الانتهاك – تحقق التواصل بين مرسل النص ومتلقيه.
في قصيدة "نَدْبَةٌ زرقاء" لــ [وسام دراز] تتحقق الشعرية النصّانيّة على هذين المحورين: [ جمالية التركيب- عمق الرؤية]، حيث استهلَّ الشاعر قصيدته بعنوان غير مكتمل على مستوى التركيب النحوي، فالعنوان إما أن يكون خبرًا لمبتدأ محذوف تقديره (هذه)، ويحيل اسم الإشارة على القصيدة، فيكون المعنى: القصيدة ندبة زرقاء، وتحيل القصيدة بدورها إلى الشعر، فيكون المعنى الأعم : " الشعر ندبة زرقاء". وإمّا يكون العنوان مبتدأ متأخرا عن خبره المحذوف – تجاوزا – نظرا لشعرية العنوان التي تسمح بهذا الخرق اللغوي؛ فيكون التقدير، وفق رؤية المتلقي: "في القلب ندبة زرقاء" أو " في الروح ندبة زرقاء" وربما يتأوّل قارئ آخر المحذوف الخبري بشكل مختلف ينتج عنه اختلاف في التأويل.
إنّ التصرف في تركيبية العنوان "ندبة زرقاء" واقع في أفق الشعرية التي تمنح الذات المبدعة سلطة من خلالها تضغط المتن النصي في النص الموازي(العنوان) وهذا الضغط يحتاج إلى مزيد من التكثيف، الذي يضطر الذات أن تنتهك قيود التركيب النحوي في بنية العنوان لتتولّد العلاقة المتوخاة بين النص وعنوانه " وتمثل هذه العلاقة بين العنوان والنص أحد السيناريوهات المحتملة لإنتاج الكون النصي، وبموجب هذه العلاقة يغدو العنوان "الذرة البدائية" أو البيضة الكونية المخزّنة بقوةٍ دلاليةٍ قصوى(...) وهكذا تبدو العلاقة بين العنوان والنص -إن صحّت المماثلة – هي أشبه بالانفجار الكبير أو الأعظم The Big Bang الذي نجم عنه العالم من نقطة مضغوطة بكثافة لا نهائية، وبناء على ذلك أجرينا المماثلة بين العالمين الكوني والنصي، من حيث إنّ الثاني على غرار الأول كان مُتَكَثِّفَاً في ذرة دلالية(العنوان) توسّعت وامتدت من خلال الانفجار الكتابي الكبير(النص) ويشكّل من ثَمَّ مداره ومجاله الاستراتيجي في المنظومة الثقافية. فالعنوان منضغط بفعل التكثيف، ويتفكك الأخير عبر فعلين: فعل الكتابة النصانية (الإبداع). وفعل القراءة الكاشفة (التأويل).
تنسرب مفردة "ندبة" وتحتل أنطولوجيا نقطة البداية التي يلتقي فيها كل من مبدع النص ومتلقيه، فتحيل تلك المفردة إلى التئام الجرح، وتلك العلامة/ الندبة تمثل مرحلة التشافي في نهايتها، ولا تنتشر تلك الندبة على سائر الجسد، ولكنها تتمركز حول دائرة الجرح، ويحيل الأخير (الجرح) إلى المعاناة التي يكابدها الشاعر في واقعه. تلك المعاناة التي تمثل جرحا غائرا في القلب أو الروح – وفق عملية التأويل الأولى الناجمة عن الحذف والتقدير الذين أشرت إليهما سابقا – إذن، تحيل مفردة "ندبة" إلى جرح تعانيه الذات، هذا الجرح منطمر في الداخل النفسي، ولا يبين منه سوى تلك " الندبة " فكما انطمر الجرح في غيابات الذات، انطمر – أيضا – في بنية العنوان، وكأنّ هذا الجرح لا تتسع له اللغة العادية، فيعيد (وسام) تركيبية اللغة في أفق شعري عبر عملية التجسيد المترائي في شكل الندبة الزرقاء على الجسد، وكأنّ عملية الحذف التي أحدثها (وسام) في بنية العنوان غير خاضعة للقانون النحوي، ولكنها تخضع بالكلية لسلطة الجمالية الشعرية التي يلحظها القارئ في بنية العنوان وتركيبيته اللغوية المتعالية التي انبنت على قاعدة الخرق الشعري والذي لا نهاية لأسلوبيته وتعددية أنماطه.
تحافظ مفردة "زرقاء" على كيانها التركيبي(النعت) مهما اختلف تقدير الحذف في عملية التأويل، إذ لا تنفك مفردة "زرقاء" عن كونها نعتا للندبة التي تعلو الجرح. كثيرا ما ينسرب اللون (الأزرق) في الشعر وهو يحمل دلالات وشحونات شعورية تتموسق مع القصدية والذات " ففي اللون الأزرق دلالة على الثقة والأمان، ويشجع على الإبداع، وبسبب تأثيره الإيجابي على تهدئة النفس اختير للاستخدام في المستشفيات، ووفقا للموروث الهندي أنّ اللون الأزرق له تأثير على بعض (التشاكرات السبع) والتشاكرات: هي أماكن تمركز الطاقة، وتمركزه – أي الأزرق – يقع في (تشاكرا) العين الثالثة التي لها علاقة بالوعي والإدراك والإلهام، ويدل الأزرق على التضحية وفقا للفن المسيحي الذي اختاره كرمز (للمسيح) وعند المتصوفة الأزرق هو سماء (جوبيتر) المخلوقة من نور التأمل، كما يدل اللون الأزرق على الحزن والانعزالية." كل هذه الدلالات والإشارات التي تشكل المنظومة الرمزية للون الأزرق تفتح العنوان "ندبة زرقاء" على مسارات متعددة من التأويل، والذي ستحاول القراءة النقدية كبح جماحه ليتحدد المدلول وفق منظورية القارئ. إنّ الإحالة التأويلية الأولى والتي تشير إلى أنّ (الندبة)= القصيدة أو الشعر تنطوي على منطقية تضمن لهذه الإحالة صحتها من منظور شعري؛ فإذا كان الأزرق هو رمز الإبداع أو الإلهام، وإذا كان معناه يحيل إلى التشافي، كما يتضمن اللون الأزرق الحزن والعزلة، فكل هذه الشحونات الدلالية تتواءم مع الشعر في عموميته، ومع الذات وبصمتها الإبداعية الخاصة؛ فيكون النعت (زرقاء) موائما لتأويل (الندبة) بالقصيدة، فيكون تأويل العنوان في كونه الشعري المتعالي: "أنّ الجرح الذي تعانيه الذات يندمل عبر بالشعر" إذ يعني الأخير الحياة التي يتغياها الشاعر. يضمن العنوان "ندبة زرقاء" الخصائص الفنية للجنس الأدبي الذي ينتمي إليه النص، وهنا تكمن العملية الإبداعية في بَنْيَنَة العنوان في أفق جمالي محض، فالعنوان يشير منذ البداية إلى شعرية المتن ذاته؛ فعلى المبدع اختيار عنوانه بما يتناسب ويتموسق مع الجنس الأدبي الذي ينتمي إليه نصه.
ينشطر (الأزرق) في بداية النص متوزعا بين : [ البحر – السماء] وكأنّ التكثيف الذي مارسه الشاعر في تركيبية العنوان بدأ في مرحلة الانفجار الدلالي في المتن النصي، حيث يشير (الأزرق) إلى البحر والسماء معا نظرا للتمازج اللوني بينهما، ويكون دال (الأزرق) هو حبل الاتصال بين عالمي البحر والسماء، وتمثّل الأخيرة الإلهام بوصف السماء محلا له، بينما تمثل مفردة البحر (الشعر) فيقول وسام دراز:
ألا نتمشَّى على البحرِ؟.. قالَ،
سيَخضرُّ قلبُكَ.. ردَّ أبوهُ
-أليسَ سماءً هوَتْ ذلكَ البَحرُ؟
- كان سماءً..
وتلك بحارٌ ستسقُطُ عمّا قريبٍ؛
سيَخضَرُّ قلبُكَ
-حقًّا؟
تستدعي أداة الاستفتاح (ألا) ذاتا أخرى يستقرئ الشاعر على مرآتها الوجود الشعري أو الكينونة الشعرية عبر إنجازية الحوار بين الذات (الشاعر) وبين (الأبوة) والتي تحيل على مستويين: الأول، أن يكون الأب هنا على حقيقته العرفية، فيكون السؤال متوجها من الابن (الذات الشاعرة) لأبيه (الذات المتعالية) بوصف الأخير مرتكزا يمثل الخبرة الحياتية التي وفق تجربتها المتعالية تستطيع فكَّ الإلغاز الذي يؤرق الذات الأولى. أما المستوى الثاني، فيحتمل أن تكون مفردة الأبوة هنا تمثل الشعر وسلطته، فالشعر بوصفه جنسا أدبيا يتعرَّف على خصائصه في ذاته، ولذا يفتح الشاعر حوارا بينه وبين الشعر، فالشعر وحده هو الذي يمتلك القدرة على تبيان ماهيته وكينونته الوجودية. وأيما كان الأمر فمفردة (الأبوة) تحيل في عموميتها على سلطة المجيب الذي يستطيع وفق معرفته أن يفكَّ إشكالية السؤال.
يتشكل الكون الشعري في المقطوعة السابقة من التمازج اللوني بين: الأزرق والذي يحيل على السماء ( الإلهام) والبحر (الشعر)، ومن الأخضر والذي يشير صراحة إلى الحياة، وكأنّ وجود الأخضر (الحياة) متوقف على وجود الأزرق، ومن اللونين يتشكّل العالم الشعري وفق منظور الذات. يرتبط الاخضرار بالقلب الذي هو مناط الحس والشعور في الجسد، هذا القلب الذي يمثل التمركز المكاني للجرح الغائر الذي ألمحت إليه في تأويلية العنوان، ولن يلتئم جرح القلب وتعود له الحياة باخضرارها إلا بزرقة البحر والسماء اللذين يتشكل منهما الكون الشعري الذي يستعيض به الشاعر عن واقعه الحقيقي الذي يعانيه.
إنّ هذه التراكيب والانتهاكات التي أحدثها وسام دراز في البنية التركيبية تولّد منها الكون الشعري عبر إبداعية مرهفة ترتكز في بنيتها اللغوية على الجمالية بوسمها مرتكزا للنص الشعريِّ. وتنبني المشهدية التَّخيُّليّة من صورة شعرية متحركة تنبض بالحياة الكاملة باخضرار القلب الذي يضمن بقاء الحياة في الكون الموازي (الشعري)، وعبر الفعل (هَوَت) يضمن الشاعر لكونه وصورته الشعرية حركية دينامية مفرطة تضمن لهذه الصورة حيويتها وجمالها.
وهل يَشربُ البرعمُ الماءَ إلَّا ليَخضرَّ؟
-يَشربُهُ مالحًا؟
-مالحًا يا بُنيَّ..
ألا تطلبُ الملحَ فوقَ الإدامْ
-وقد يجرحُ الملحُ عينييَّ
حينَ أصدِّقُ أنَّ أبي نورسٌ لا ينامْ
أنهُ يعشقُ البحرَ لكنَّهُ لا يسيرُ إليهِ!

أنا خائفٌ يا أبي..
هل نسيرُ إلى البحرِ؟
-لا تَختبِرني بهِ يا بُنيَّ.. لقدْ خُضتُهُ كاملًا:
لا المراكبُ تَجهلُني.. لا المرافئُ
يَعرفُني فيه غَرقاهُ.. والقاعُ
كمْ قالَ لاسْمي: انتَشِلْني.
إلى الآنَ يَعرفُني البحرُ
لكنَّني لستُ أعرفُني قُربَهُ
نشأت الحوارية في النص عبر سؤال الابن(الذات) وأجوبة آخرها (الأب) ويمتد النص عبر تلك الحوارية، التي يشتبك فيها المتلقي ليتعرّف على ما يحيّر (الذات) ويستكشف القارئ نفسه هو الآخر من خلال تلك الأجوبة السلطوية التي تخرج عن ذات مجربة تتعالى بمعرفتها على الذات المولعة بــ (البحر)، ويكون الأخير هو محور القصيدة، فعلى ركيزة البحر انبنت القصيدة في كليتها، فالبحر هو الموضوع المباشر الذي تتقافز دلالته على البنية السطحية للنص، ولكن البحر هنا وفي المقطع السابق – تحديدا – تتوزع دلالته بين الحياة بوصفها محلا للتجربة الإنسانية، وبين الشعر بوسمه كونا متعاليا يحاول الشاعر الاقتراب منه والغوص فيه إذ يعتبر الشاعر هذا الكون هو الحياة الحقيقية التي ينبغي أن يعيش فيها.
هذا الكون الجمالي ليس نهرا عذبا، بل هو البحر بملحه الأجاج، وتنسرب مفردة الملح لتتناغم مع الجرح الذي يعانيه الشاعر، فيزداد ألمه بملح البحر الذي ينشده، فالبحر الذي ترتكز عليه القصيدة موضوعاتيا، وينبي عليه القصد الذاتي، يصدر لنا الشاعر أعمق صفة فيه تتناسب مع ما تطمح إليه الذات، وهي صفة الملوحة التي بها يتمايز ماء البحر على ماء النهر، فلم يختر الشاعر العذوبة والجمال والكون الخيالي متناسيا واقعه الذي يعيش، ولكن وجود مفردة (الملح) يستدخل بها الشاعر عذابات التجربة الإنسانية،، فالقصيدة التي ينشدها الشاعر، لا تجنح نحو التخييل المفرط الذي يجعل القصيدة تنسلخ عن التجربة المعاشة، ولكنه ينشد شعرا يعبر عن المعاناة الإنسانية في أعمق درجاتها، والمعاناة هنا تتشكل في النص عبر مفردة الملح. بل البحر بملحه هو غذاء (البرعم) إذ تكبر الذات عبر تجربتها وهي تسترضع ملح البحر وتنمو عليه.
يتجلى (الأب) في هذه المقطوعة بوسمه الحقيقي، فلن يكون الأب في هذه المقطوعة سوى الأب الذي يحتمي فيه الابن من قهر التجربة، وليس الأب هنا هو الشعر كما ألمحنا سابقا، فالجمالية الشعرية تقتضي أن يصلح الدال لأكثر من مدلول عبر العلاقات التي يبثها الشاعر في النص، إذ يتوزع الدال الواحد على أكثر من مدلول، وتتنامى العلاقات بين الدوال ومدلولاتها في السيرورة التدلالية حال القراءة، وهذا ما ينماز به الشعر عن غيره من الأجناس الأدبية الأخرى.
يعمل وسام دراز على تقنية (التمطيط) التي أشار إليها ووسمها [مايكل ريفاتير] في كتابه الموسوم بــ [دلائليات الشعر] حيث تُمَطّط الصورة وتمتدّ على جسد القصيدة وتستغرق الجسد بالكلية، وهذا ما نراه جليا في نص "ندبة زرقاء" لـ (وسام) حيث استدخل مفردة (النورس) وعبر القراءة الاسترجاعية يستحضر المتلقي الصورة الأولى التي تشكلت في المقطع الأول من البحروالسماء، وهنا تكتمل الصورة عن طريق (التمطيط) بذكر (النورس) الذي يعيد الحياة والحركيَّة مرة أخرى للصورة الكلية التي تتنامى في أجزاء النص، بل تستدعي مفردة (النورس) دلالة أخرى، وهي التأهب المستمر والتعشق الذاتي الذي يربط بين البحر والنوارس. ووصف الأب بـ (النورس) هذا الوصف يرجع في حقيقته إلى (الابن) وليس الأب، ووصف الشاعر (الأب) بالنورس من باب التمويه، فالنورس الحقيقي وهو الذي تقتله الرغبة في الوصول إلى البحر، وهنا يوسّع الشاعر في مجال الصورة لتمتدّ عبر مفاصل القصيدة.
لأنّ التجربة الشعرية غامضة حتى على شاعرها ترتبك الدلات النصيّة في القصيدة، وتدخل عملية التأويل في سلسلة لا متناهية، ولا تتوقف القراءة عنذ سقف واحد. فـ (الندبة) التي توهمها القارئ في قلب الشاعر، تنتقل وبشكل مفاجئ إلى (الأب) فلا يدري القارئ هل هذه الندبة تسكن جسد الذات (الابن) أم تسكن جسد الذات (الأب) إذ تحدث حالة من التماهي بين الذاتين: الأب، الابن، وكأنّ هذا الجرح وتلك الندبة قسيم مشترك بينهما، وهنا تكون ذات الشاعر امتدادا لذات الأب فكلاهما ورث التجربة وعانى من الواقع المعاش، وتحاول الذات الشاعرة أن تستغرق في البحر لتحل إشكالية السؤال الوجودي الكامن في الذاتين، فهل يا ترى يريد الشاعر أن يلتئم جرحه هو أم جرح أبيه؟ وأظن أن وسام هنا يصل إلى حد التماهي مع الذات العليا (الأب) ويحاول عن طريق الشعر الذي = البحر بشحوناته الدلالية، أن يعالج تلك (الندبة) التي تعاني منها الذات العليا، فإذا برئت ذات الأب برئت ذات الابن، وهذا ليس تعسفا في التأويل، فقد أشرت سابقا أن الثقافة المسيحية تمنح السيد المسيح بوصفه ابنا وفق معتقدهم - اللون الأزرق كناية عن الحياة والطهر، وهنا تقوم الذات (الابن) بدور المُخَلِّص كما فعل السيد المسيح، والذي من معجزاته المشي على الماء، دون الغرق فيه، ولكن الذات العليا(الأب) تخاف على الابن من خوض التجربة، وهي تصرخ حتى شقت قميصها، فيقول وسام دراز:
لا تفكِّرْ بهِ يا بنيَّ.. سيَزرقُّ قلبُكَ
- ما زُرقةُ القلبِ؟
- عِشقُ البِحارِ.

/وشقَّ القميصَ/

تَرى!
هذه النّدبةُ الآنَ.. كم حَجمُها!

لم تكُنْ لَكْمةً في الصِّبا..
لم تكنْ طعنةً من عدوٍّ قديمٍ..
ولا حجَرًا أخطأَتْهُ يدٌ...
إنَّهُ قلبيَ المُتعلِّقُ بالبحرِ:
يَنكُزني في ضلوعيَ كلَّ مَساء.
بجمالية متعالية، وشعرية ذات كبرياء وسلطة على اللغة استطاع الشاعر وسام دراز أن ينقل لنا تجربته الشعرية والإنسانية وعلاقته المقدسة بأبيه عن طريق التركيب اللغوي الشعري المتعالي المكتنز في مضمونيته بعمق الرؤية الوجودية للشاعر الذي يخضع لها النص واللغة على حدٍّ سواء. على هذا المنوال يتأتّى الشعر، حتى من وجهة النظر اللفظية الخالصة، أن يثبِّت نفسه كميدان مستقل؛ وكيما يميز نفسه عن الكلام العادي يعزو إلى تعابيره قيمة أسمى من قيمة التعابير العادية(...) وهنا يجب التمييز بين الشعر واللاشعر، وبين اللغة في مستواها الأول، واللغة في بعديها: الثاني والثالث، وأظن أن وسام دراز يعلب بخيوط اللغة في أعمق أبعادها، وفق رؤية شعرية ناضجة.

[ النص ]
"نَدبةٌ زَرقاء"
٢٨/٥/٢٠٢٤
_______________
ألا نتمشَّى على البحرِ؟.. قالَ،
سيَخضرُّ قلبُكَ.. ردَّ أبوهُ
-أليسَ سماءً هوَتْ ذلكَ البَحرُ؟
- كان سماءً..
وتلك بحارٌ ستسقُطُ عمّا قريبٍ؛
سيَخضَرُّ قلبُكَ
-حقًّا؟
-وهل يَشربُ البرعمُ الماءَ إلَّا ليَخضرَّ؟
-يَشربُهُ مالحًا؟
-مالحًا يا بُنيَّ..
ألا تطلبُ الملحَ فوقَ الإدامْ
-وقد يجرحُ الملحُ عينييَّ
حينَ أصدِّقُ أنَّ أبي نورسٌ لا ينامْ
أنهُ يعشقُ البحرَ لكنَّهُ لا يسيرُ إليهِ!

أنا خائفٌ يا أبي..
هل نسيرُ إلى البحرِ؟
-لا تَختبِرني بهِ يا بُنيَّ.. لقدْ خُضتُهُ كاملًا:
لا المراكبُ تَجهلُني.. لا المرافئُ
يَعرفُني فيه غَرقاهُ.. والقاعُ
كمْ قالَ لاسْمي: انتَشِلْني.
إلى الآنَ يَعرفُني البحرُ
لكنَّني لستُ أعرفُني قُربَهُ

لا تفكِّرْ بهِ يا بنيَّ.. سيَزرقُّ قلبُكَ
- ما زُرقةُ القلبِ؟
- عِشقُ البِحارِ.

/وشقَّ القميصَ/

تَرى!
هذه النّدبةُ الآنَ.. كم حَجمُها!

لم تكُنْ لَكْمةً في الصِّبا..
لم تكنْ طعنةً من عدوٍّ قديمٍ..
ولا حجَرًا أخطأَتْهُ يدٌ...
إنَّهُ قلبيَ المُتعلِّقُ بالبحرِ:
يَنكُزني في ضلوعيَ كلَّ مَساء.

المصادر والمراجع:

- محمد فكري الجزار: ألعاب اللغة - مقدمة في ما بعد النظرية الأدبية-، كنوز للنشر والتوزيع، ط1، القاهرة، 2021.
أحمد الشطري: اللون ودلالة الرمزية في قصيدة " أضاءت - حياتي بكلام أزرق" لنامق عبد ذيب، جريدة: القدس العربي، عدد الجمعة 21 يونيو 2024.
-خالد حسين حسين: في نظرية العنوان، دار التكوين، ط1، المملكة العربية السعودية، د.ت.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى