د. أحمد الحطاب - مَن يسعى إلى إلغاءِ العقولِ وتجميدِها؟

ما هو متعارفٌ عليه وشائعٌ في بعض أوساط المجتمع هو أن هناك صراعا دائما بين العقل والدين. بمعنى أن العقلَ قد يَنفي الدينَ والدينُ قد ينفي أو يُجمِّد العقلَ. وهذا يعني أن أي شخص، إما أن يكون عاقلا غير متديِّنٍ، وإما أن يكون متديِّنا، حينها، عقلُه يتجمَّد. وقد ذهب بعض دُعاة هذا الصراع إلى القول بأن الدينَ والعقلَ لا يمكن أن يتساكنا عند الشخص الواحد. وهذا غير صحيح، على الإطلاق! لماذا؟

لأن الدينَ والعقلَ، حسب ما ورد في القرآن الكريم، يتكاملان، بمعنى أن الدينَ يحتاج إلى العقل لإدراك معانيه ومقاصده. والعقل قد يحتاج إلى الدين ليخرج من بدائيتِه primitivisme الغريزية إلى عالم الوعي والإدراك. كيف ذلك؟

أولا، لأن اللهَ، سبحانه وتعالى، لا يمكن، على الإطلاق، أن يتناقضَ مع نفسه! فحينما خلق الإنسانَ ونفخ فيه جزأً من روحه، كان، عزَّ وجلَّ، يريد أن يكون هذا الكائن الحي، الذي هو إنسانٌ أو بَشَرٌ، مختلفا عن الكائنات الحية الأخرى. ولهذا أراده أن يكونَ عاقٍلا و واعياً بما يجري حوله في الكون. وبعد أن خلقَ اللهُ، سبحانه وتعالى، الإنسانَ، لم يتركه ضحيةً لبدائيته وغريزته instinct. بل بعث له، منذ القِدم، أنبياءً ورسلاً لإخراجه من ظلمات الجهل إلى نور الإيمان والحق. فهل يُعقَل أن يخلقَ الله، سبحانه وتعالى، شينين متناقضين اللذان هما العقل والدين؟

ثانبا، الله، سبحانه وتعالى، يطلب من الناس أو من عباده أن يتدبَّروا آيات القرآن الكريم، أي أن يقفوا عند هذه الآيات والتَّأمُّل في محتواها وما تحملُه من معاني دنيوية ودينية، مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى :

1."أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا" (النساء، 82).

2."أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (المؤمنون، 68).

3."كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ" (ص، ~9).

4."أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا" (محمد، 24).

فهل يُعقَل أن يتدبَّرَ الناسُ آياتِ القرآن الكريم بدون عقلٍ؟ والتَّدبُّر هو الإمعان في الأمور وتقليبُها فكريا برَويَّةٍ وتأمُّلٍ وتفكُّر. والعقل هو الذي يكون وراء الإمعان والتقليب الفكري والتَّفكُّر والتَّأمُّل.

ثالثا، اللهُ، سبحانه وتعالى، يُنهي آياتٍ كثيرةً من القرآن الكريم بعبارات تدعو إلى تشغيل العقل في كثير من الأمور الدينية والدُّنيوية. من بين هذه العبارات، أذكر على سبيل المثال : "أَفَلَا تَعْقِلُونَ"، "لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ"، "إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ"، "لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ"...

أليست هذه العبارات دليلاً على أن اللهَ، سبحانه وتعالى، لم يخلق العقلَ البشري عبثاً. بل خلقه ليشغِّلَه الناسُ لإدراك ما يجري حولهم من أحداث وما يُسيِّر هذا الكونَ من ظواهر.

رابعا، إضافةً إلى طلبِ اللهِ من الناس أن يتدبَّروا آيياتِ القرآن الكريم، فإنه، سبحانه وتعالى، يوجِّه كلامَه لأصحاب العقول النَّيِّرة والمستنيرة، أي "أولي الألباب". والآيات التي وردت فيها كلمة "ألباب"، عددُها 16 آية، أذكر، من بينها الآية التالية : "يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ" (البقرة، 269).

والحِكمة تتطلَّب التَّريُّت والتَّأنِّي والتَّبصُّرَ والتأمُّل والتَّفكُّر في الأشياء قبل الحكم عليها، وبالتالي، لا يمكن فصلُ هذه الحكمة عن العقل. والحِكمة عطاءٌ من الله. والعاقلون هم القادرون على الانتفاع بها (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ).

والآن، سأعود إلى عنوان هذه المقالة الذي هو : "مَن يسعى إلى إلغاءِ العقولِ وتجميدِها"؟

حسب رأيي الشخصي ، الجواب على السؤال هو الآتي : "كل مَن أراد إلغاءَ العقول أو تجميدَها، لا بدَّ أن تكونَ له مصلحةٌ أو مَأْرَبٌ من المآرِب في هذين الإلغاء والتَّجميد. وفي غالب الأحيان، تتمثَّل هذه المصلحة في بسط النفوذ أو السيطرة على الناس أو على مجموعة من الناس". وبالطبع، إن أصحابَ المصلحة أو المأرب لا يريدون، على الإطلاق، أن يكونَ الناسُ عاقلين و واعين ومٌدركين تمامَ الإدراك لما يجري من حولهم من أحداث وما يُسيِّر الكونَ من ظواهر. وباختصار، لا يريدون ناساً يشغِّلون عقولَهم، أي ناسٌ عقلاء، حكماء ويتمتَّعون بفكر نقدي ثاقب. ما يهمُّهم، هو أن يبقى الناسُ في دارِ "غَفْلونْ".

والوسائل التي يلجأ لها هذا النوعُ من البشر كثيرة، منها النصب والاحتيال، استغلال السياسة للوصول إلى السلطة، تقديم الدين للناس بطرقة تخويفية وترهيبية، الخلط بين الدين والسياسة، التَّواطؤ بين الحُكام ورجال الدين، اعتبار الدين مسألة جماعية وليس فردية اختيارية… كل طائفة لها ضالَّتُها لإلغاء العقول وتجميدها.

في هذه المقالة، سأكتفي بالحديث عن الوسيلة التي يلجأ لها كثيرٌ من علماء وفقهاء الدين لطمس العقول الساذجة التي تبني تديُّنَها على التّقليد الأعمى وفهمٍ للدين بكيفية سطحية. وتتمثَّل هذه الوسيلةُ في "اعتبار الدين مسألة جماعية وليس فردية اختيارية"، كما سبق الذكرُ. وهذا النوعُ من التَّديٌّن منتشرٌ بكثرة في البُلدان الإسلامية، علما أن جُلَّ هذه البلدان معروفة بارتفاع نسبة الأمية فيها. وإذا اقترن هذا النوع من التَّديُّن، المعتمد على التَّقليد الأعمى والقيل والقال، يالأمية، فسُرعان ما يظن الناسُ أن تديُّنَهم صحيح، وهو، في الحقيقة، لا يمتُّ بصلة للدِّين الحقيقي المنصوص عليه في القرآن الكريم.

وعندما أقول بأن التَّديُّن يعتمد على التقليد الأعمى، فالمقصود هو أن كثيرا من المسلمين هم مسلمون بالتوارث. بمعنى أن هذا التَّديُّن ينتقل من جيلٍ لآخر بكيفية متوارثة، أي أن الأبناءَ والبنات وجدوا آباءَهم وأمَّهاتِهم وأجدادَهم مُتبنِّين للدين الإسلامي، فاتبعوهم وساروا على نهجهم، لكن بدون تدبُّرٍ وتبصُّرٍ وتمعُّنٍ. وعندما أقول إن التَّديُّنَ يعتمد على القيل والقال والفهم السطحي للدين، فالأمر يتعلَّق بما يروج في المجتمع من معلومات وأفكار دينية، غالبا ما تتعرَّض للتَّشويه والتَّحريف عندما تنتقل من أفواه القائلين إلى آدان السامعين.

أمامَ هذا النوع من التَّديُّن الساذج، ماذا يفعل علماءُ وفقهاء الدين؟ عوض أن يتصدَّوا لهذا الفراغ في التَّديُّن، فإنهم يستمرون في تقديم الدين إلى الناس بكيفيةٍ تخويفية وترهيبية. وإذا كانوا من النوع الذي يأخذ الدينَ من جوانبه المتطرِّفة، فعوض أن يُسهِّلوا الدين ويقرِّبونه من الناس، فإنهم يُعقِّدونه بما لم يأمر به اللهُ من سلطان. حينها تصبِح/يصبِح :

-الفتاوى بالحلال والحرام مُنهَمِرةً من كل جانب،
-غير المسلمين كلُّهم كفَّارا،
-"صحيح البخاري" أصحَّ كتابٍ بعد القرآن الكريم،
-قتل المُرتدِّ وتارك الصلاة مباحا،
-السنَّةُ تنسخ كثيرا من آيات القرآن الكريم،
-اللِّحيةُ واللباس القصير والعمامة جزأً من الدين،
-كل ما ينتِجه الغربُ من تكنولوجيات حراما، ولو أنهم يستعملونها و يسترزقون بها،
-الدولة لها دينٌ والخِلافة هي الحلُّ،
-الزواج بالقاصرات مباحا،
-المرأة ناقصةَ عقلٍ ودينٍ،
-الاختلاط بين الذكور والإناثِ حراما،
-إرضاعُ الكبير مباحاً،
-الصراط المستقيم، كما ورد في صحيح البخاري، عبارة عن خيطٍ رفيعٍ ممدودٍ فوق جهنَّم يمشي فوقه الناسُ، ومَن كان مُثقلا بالذنوب يسقط في نار جهنَّم، وحدِّث ولا حرج…

ناهيك عن عددٍ كبير من الأحاديث المنسوبة للرسول (ص) والتي تُسيء له وللإسلام.

والطامة الكبرى أن علماء وفقهاء الدين لا يعتبرون هذا الدين أمرا تدور أطوارُه بين الفرد وخالقه. بل يعتبرون الدينَ دينا جماعياً يجب أن يُفرضَ على كل الناس طوعا أو كرها. ولهذا، لا أحدَ من هؤلاء العلماء والفقهاء ينبِّه الناسَ ويقول لهم ما ورد في القرآن الكريم من آيات تسير في الاتِّجاه المعاكس لما يقولونه. من بين هذه الآيات، أخصُّ بالذكر ما يلي :

1."لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" (البقرة، 256)، أي أن اللهَ، سبحانه وتعالى، يُبيِّن للناس مالهم فيه خيرٌ وما لهم فيه سوءٌ، وعقولُهم هي التي تختار.

2."وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚأَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ" (يونس، 99). في هذه الآية، كلامُ الله مُوجَّهٌ للرسول (ص) طالبا منه أن لا يفرضَ الدينَ على الناس بالتَّهديد والقوة.

3."وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ" (المؤمنون، 62). في هذه الآية، يقول، سبحانه وتعالى، إن النفسَ البشريةَ لا تستطيع أن تتحمَّلَ إلا ماهي قادرةٌ على تحمُّلِه. ولهذا، فإن اللهَ، سبحانه وتعالى، حثَّ الرسول (ص) أن لا يُجبرَ الناسَ على قبول الدين.

4."لسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ" (الغاشية، 22)، أي اكتَفِ، أيها الرسول، بما أُوحِيَ إليك وبلِّغه للناس، مبشِّراً ونديراً. وليس عليك أن تُكره هؤلاء الناس على الإيمان. ما عليك إلا وعظهم، مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى : "ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (النحل، 125).

أما الطامة الكبرى الأخرى، فتتمثَّل في كون أصحاب التَّديُّن الساذج، يُؤمنون إيماناً راسخاً بما يقوله علماء وفقهاء الدين أكثر من إيمانِهم بكلام الله. أليس هذا إلغاءٌ للعقول وتجميدٌ لها؟

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى