الوداعة والرعب

ولدت غزة.. وولدت معها من جديد.. أجل ولدت برغم الموت الذي يغرز أنيابه فيها.. ونقلته معها من الفناء إلى الخلود..

صفعت عالمنا، عرته، جعلته يرى كم هو بائس حين يحتفي بإنسانيته فوق جثث الجوعى ويذرف دموعه على منصات عروض الأزياء، حين (يقتات) من الخوف في أعينٍ فزعى ويتمرغ على التراب في (جلسة تصوير)، حين يخلع ثيابه على شاطىءٍ ذهبي ويراقب خياماً تحترق بحياد، لا فرق عنده بين صراخ ضحاياها وصراخ المنتشين في حلبات الرقص، تتصارع العدسات بين واحدةٍ تصنع التاريخ وأخرى تهوي في قيعان الجسد.. يجمعهما شيءٌ من عري.. ورحلة طويلة نحو الحقيقة التي لا بريق لها ولا (جمهور)..

(الكوكب الذكي) يبدو كصحراءٍ تمتد على مد البصر، لا حياة فيه لمن تنادي، يحتفل فيه الموتى بأعياد ميلادهم كل يوم فيما يحتضر الأحياء إلى ما لا نهاية، شواهد القبور باتت مجرد صفحاتٍ من مذكرات البؤساء، كلمات متقاطعة يتسلى بحلها من لم يفقد عقله بعد..

الأضواء كثيفة رغم الظلام والظلم.. حملات إعلانية تكتسح الشاشات، و(النجوم) تقهقه على بعد مأساة، الأقلام في أيدي من لا يكتبون، من يحكون لغةً جديدة لا حروف فيها.. لا نقاط ولا مشاعر، لا قواعد لها سوى (الأرقام) والصور وبعضٍ من ضوءٍ رخيص.. فيشتري البعض ألقابه فيما يموت البعض قبل أن يعرف اسمه..
يرشون من عطرهم المفضل، يستمعون إلى موسيقى هادئة كصمت القرى المدمرة، يرتدون قفازاتٍ من الحرير، يوقدون شمعةً للكتابة على (ظلها) كعائلةٍ تعيش في خيمة، عن إنسان (يفترضون) وجوده، ينسجون تفاصيله بين وهمين.. لغربٍ يقرأ فيصفق وشرقٍ (يرتدي) حكايةً لا يعرف عنها شيئاً ولا تشبه أحداً من أبنائه..

لا دموع بعد اليوم.. لم يعد هناك ما يفاجأنا.. فقد جفت المآقي واهترأت قبعة (الساحر) التي كان يخرج منها الأرنب في كل مرةٍ.. تململنا منه حتى فاجأنا بموته وهو ينتظر من يخرجه.. تبعثرت ضحكات الأطفال وامتزجت بصرخاتهم، كسرة خبز.. كأس ماء.. حضن دافىء ورحيل بلا وجع.. أحلام هشة لبراعم لا تملك رفاهية الذبول.. ولدت في زمن لكنها تغني لزمنٍ آخر، تخون حاضرها مع صورٍ من الماضي، تفتش عن بعض الوداعة بين فصول روايةٍ لا تحكي سوى الرعب، تتثاقل الخطى كما الأجفان.. تستحيل الأرض المشتعلة إلى قطعٍ من الغيم الأبيض.. تنتهي القصة في بدايتها لتكتب بداياتٍ جديدة منزوعة الألم.. لا يخشى فيها الإنسان من نفسه، أو من قلبه، ولا يخشى فيها غدر إنسانٍ مثله..

خالد جهاد..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى