راجت سوق الكتب القديمة بعض الرواج في هذه الأيام كما راجت في أيام الحرب الماضية، لأن الوارد من كتب أوربا قليل، ولأن طالب الكتاب الأوربي الجديد ينتظره طويلاً قبل أن يتلقاه في البريد، فإذا وجده مقروءاً قديماً فذلك خير من انتظاره جديداً بكراً بعد أشهر أو أسابيع، ومن هنا تروج الكتب العربية القديمة التي ترد من أوربا أو التي طبعت في هذه البلاد، لأن الذي يبيع مكتبته عند إحساسه بارتفاع الأسعار يبيع منها الإفرنجي والعربي على السواء.
وفي سوق الوراقين وباعة الكتب القديمة فلتات كثيرة من التاريخ، وفلتات كثيرة من الأخلاق، وفلتات كثيرة من العجائب: نسميها فلتات لأن المرء يجدها معروضة بين يديه دون أن يطلبها، وقد تكون الفلتة منها أنفس وأولى بالاقتناء من البغية المطلوبة.
أذكر أني عثرت بكتاب لي عليه تعليقاتي وملاحظاتي بعد فقده بخمس وعشرين سنة، ولو علم بائعه سره عندي لغالى بثمنه، ولكنه أعطانيه وهو مفرط فيه مسرور بما نقدته من ثمن قليل بالقياس إلى رغبتي فيه، كثير بالقياس إلى رغبة البائع في تصريفه.
وأذكر إني عثرت على عدة أجزاء من كتاب في إحدى المكتبات، ثم عثرت بعد حين على الناقص منه في مكتبة أخرى.
وأخبرني بعض الإخوان أن كتاباً من مكتبة الفيلسوف الإنجليزي برتراند رسل التي بيعت في إنجلترا وفاء ببعض الغرامات ما زال يطوف الأرض حتى وصل في مصر إلى يد أديب من المعجبين بالفيلسوف العظيم، فاشتراه وأرسله إلى صاحبه وتلقى منه جواباً بالشكر والتحية لا يزال من أعز محفوظاته.
وإلى جانب هذه العجائب والمصادفات عجائب أخرى من أخلاق الناس وولعهم بضروب الاقتناء والادخار.
فهذه كتب جديدة قديمة معروضة للبيع بعد طول احتباسها على الرفوف، وهي جديدة لأنها غير مفضوضة ولا مقروءة، وقديمة لأنها اشتريت منذ عهد بعيد.
لماذا اشتراها المشتري وهو لا يقرأها، ولعله لم يكن ينوي أن يقرأها؟. . . هنا العجب م بعض الأخلاق والعادات. فقد عرفت أناساً يغالون بشراء الكتب على قدر قدمها في الطبع وندرتها في الأسواق؛ وأناساً يبذلون في الكتاب من الثمن على قدر سعة الهامش وصلاح الكعب للتجليد!
ويحضرني هنا أن الأوربيين يصنعون من الخشب نماذج لها شكل الكتب من بعيد، يملئون بها الرفوف العالية من المكتبات ويشغلون الرفوف السفلى بالكتب الصحيحة التي تقتنى للمظهر لا للقراءة، لأن قصراً بغير مكتبة معابة في البلاد الأوربية، فلا غنى لبعض أصحاب القصور عندهم عن هذا التشبيه والتزييف.
أما نحن فلم نرتفع بعد إلى هذه المرتبة!
لأن خلو القصور من المكتبات عندنا لا يعاب، فلا حرج على صاحب القصر أن تسأله عن مكتبة فلا تراها، وإن كان يتحرج من خلو القصر من الإسطبل. . . والقصر كله بمن فيه وما فيه أحرى أن يحسب في الإسطبلات!
والمصادفة التي صادفتها اليوم في سوق الوراقين هي شيء من غير هذا القبيل: هي كتب الدكتور شبلي شميل مرصوصة كلها في رزمة واحدة، ومعها رواية له عن الحرب الماضية كنت أتوق إلى الاطلاع عليها ولا سيما بعد شبوب نيران هذه الحرب القائمة، فكانت مصادفة (ورَّاقية) من أحسن المصادفات.
نظرت إلى كتابه عن (فلسفة النشوء والارتقاء) - وهو الجزء الأول من مجموعته - فعادت بي الذاكرة ثلاثين سنة إلى يوم صدور هذا الكتاب النفيس.
كان الدكتور شبلي شميل فقيراً كما ينبغي للأحرار الشرفاء من أمثاله في بلادنا الشرقية، وكان عسيراً عليه أن يطبع مجموعة بغير معونة من أصحابه الأريحية الغيورين على العلم والثقافة. فلما تبرع له المتبرعون بالمعونة الكافية طبع المجموعة في جزءين، وذكر أسماءهم جميعاً ومقدار ما تبرعوا به في ختام الجزء الثاني، وقدم الأسماء بهذه العبارة الصريحة الحكيمة: (أذكرها مجردة عن النواتئ مكتفياً بجمال الأعمال، وكم يجمل بالناس أن يتعودوا ذلك اختصاراً للوقت وانصرافاً للجد. وسيكون ذلك منهم متى غلب النظر إلى الجوهر على الاستمساك بالعرض في كل أعمالهم)
وجعل الدكتور ثمن المجموعة الواحدة جنيهاً مصرياً عدا أجرة البريد، وهو ثمن معتدل لنفاسة طبع الكتاب ونفاسة موضوعه، وقلة الراغبين في قراءة هذه الموضوعات.
ولكن الجنيه ثمن مرهق للشباب الخالي من العمل، وكنت يومئذ خالياً من العمل مريضاً أستشفي ببلدتي أسوان وأشعر بما يشعر به المريض الخالي اليدين من تكاليف العلاج.
فكتبت إلى الدكتور ما فحواه: (إني أعلم أنك تدعو إلى الاشتراكية الصالحة التي تتجنب الغلواء، ومعنى ذلك أنك تأبى على الأغنياء أن يحتكروا موارد المال، فما بالك الآن تريد أن يحتكروا موارد العلم والمال معاً، وهل تحسب أن أحداً من غير الأغنياء يقوى على شراء كتاب بجنيه؟)
فما هو إلا أن وصل الخطاب إلى الدكتور ووصلت الصحف اليومية إلى أسوان حتى قرأت فيها أن الدكتور شميلاً قد أهدى مائة نسخة من مجموعته إلى الأدباء والطلاب، ولم يمض يوم أو يومان حتى جاءني الجزء الأول ومعه خطاب منه يشبه الاعتذار لما فاته من ذكر هذه الحقيقة بغير تذكير، ويشبه الشكر على أنني قد نبهته إلى ما كان خليقاً أن يتنبه إليه!
هذه قصة عارضة تلخص مناقب هذا الرجل الحر الصريح الشريف أوفى تلخيص.
فهو عالم يحب العلم والتعليم، ويعمل بما يقول، ويؤمن بالحجة المقنعة ولو كانت فيها خسارة عليه، ثم يبادر إلى العمل بما يقتضيه ذلك الإيمان، وليست مائة جنيه بالخسارة الهينة على رجل محدود الموارد كانوا يحاربونه في رزقه وفي طبه وفي مؤلفاته وإن كان كسب الألوف ميسوراً له لو أنه نسي أمانة العلم وانصرف إلى طلب الثراء من حيث يطلبه أصحاب الأقلام.
أخذت المجموعة كلها من جديد، وأخذت معها الرواية التي كنت أتوق إلى مطالعتها فإذا العجب فيها أعجب من هذه المصادفة، لأنها نبوءة صدقت في الحرب الماضية قبل انتهائها بأكثر من ثلاث سنوات، ولو نشرها ناشر على أنها مما يقال في الحرب الحاضرة لما احتاج في إعادة نشرها إلى تبديل كثير.
قال بلسان أحد أبطال الرواية وهو المدعي العام الذي يشرح تهمة الإمبراطور أمام المحكمة الدولية: (إنه لغريب جداً أن أمة كالأمة الألمانية حاصلة على قسط وافر من العلم تخضع خضوعاً أعمى لنظام إمبراطورية كنظامها عريق في الأثرة والاستبداد. وأغرب من ذلك دعواها وهي في رق هذا الحكم أنها ذات (كلتور) يجعل تربيتها أرقى من تربية سائر الأمم العريقة في الحضارة. ونحن مع اعترافنا بأنها بلغت شأواً بعيداً في العلم والصناعة ونالت امتيازات جمة على سواها لا يجوز لنا أن نجهل أن هذا الكلتور الذي تفاخر به يجعلها عبدة لنظام حكومة يديرها فرد أو أفراد غير مسئولين حقيقة. وقط ما كان العبد أرقى من الحر. وإذا كان في علمها وعملها شيء كثير من الإتقان فإنك قلما تجد فيهما شيئاً من الابتكار، لأن العبد إذا كان أصبر على العمل فالابتكار من امتيازات الحر وحده. وإذا كنا نراها تتعمد الشر كثيراً لسواها وتستخدم علمها لهذه الغاية خلافاً للآخرين فلأن ذلك من أخلاق العبيد. ولولا أن تكون هذه الأخلاق غريزية في هذه الأمة لما مالأت إمبراطورها على جنايته الكبرى مع ما هي عليه من العلم، ولأدركت حينئذ أن الأمم التي قامت لتذلها وسعت لتبديدها لكي تحل محلها إنما هي أعضاء نافعة في جسم العمران، بل لعرفت أن نجاحها هي نفسها لا يتم لها بدون التعاون معها. . .)
إلى أن قال وما أشبه الليلة بالبارحة: (وليس الملام على الأمة الألمانية المتضامنة مع حكومتها في السراء والضراء مهما أساءت فهم مصلحتها بقدر الملام على مجموع الهيئة الاجتماعية التي يجب عليها أن تكون هي نفسها متضامنة لدفع الشر عنها وتوفير المصلحة لها عموماً، وهذا انحطاط في هذه الأمم وحكوماتها يخجل منه اليوم. فعوضاً من أن تهب جميعها هبة واحدة لنصر المجتمع والقبض على الجاني تركته يسرح ويمرح ويعيث في الأرض فساداً، وادعت الحياد كأن لا ناقة لها في ذلك ولا جمل، وزعمت أنها تستفيد من ممالأته، فشرعت تنصره في السر وهي تدعي العزلة في الجهر، وهو لو أتيح له النصر لما كان حظها منه إلا الإذلال؛ وكيف يكون غير ذلك وحظ حلفائه منه ليس أفضل. . . انظروا إلى حليفتيه العظيمتين النمسا وتركيا كيف أنه قبض عليهما بيد من حديد واستخدمهما لمصلحته دون مراعاة أقل مصلحة لهما، حتى لو أرادتا الانفصال اليوم عنه لما استطاعتا، كأنهما جزء من مملكته أو مستعمرة من مستعمراته)
وانتهى تأليف الرواية في نهاية شهر يونية سنة 1915 قبل انتهاء الحرب الماضية بأكثر من ثلاث سنوات، وقبل ظهور الهزيمة في صفوف الألمان بعهد بعيد، بل انتهت وهم منتصرون متقدمون، فإذا به يجزم بهزيمتهم ويصدق النبوءة حين يقول في لهجة الثقة واليقين: (قد يستغرب القارئ - وقد أنهيتها بهذه الصورة - مع أن الألمان حتى الآن في انتصار. ولكن من يتدبر الأمور بعين الناقد البصير يعلم أن الألمان من بعد فشلهم في حملتهم على باريس لم يعد يرجى لهم تحقيق حلم، وما انتصاراتهم الجزئية اليوم إلا تطويل لأَجل الحرب. ولذلك هم اليوم يتخبطون ويبذلون آخر ما عندهم من الجهد عسى أن يحرزوا من النصر ما يحمل الآخرين جميعاً أو فرادى لعقد صلح لا يغبنون فيه ولا يثلم مقام إمبراطورهم لدى أمته التي جر عليها كل هذه المصائب على غير جدوى أو بخسائر لا تعوّض. لأنه يستحيل اليوم أن يرجع العالم ويثق بهم ويخلص لهم ويفتح أبوابه لمتاجرهم ويحسن الظن بعلمهم وعلمائهم كما كان في الماضي. فهم في هذه الحرب خاسرون كل شيء: المقام الأدبي والمركز الاقتصادي التجاري. . . وانتصار الألمان على الروس اليوم وحفظ مراكزهم في الأماكن التي احتلوها في الغرب لا يستغربان لمن يعلم أنهم منذ أكثر من نصف قرن ولا سيما في عهد إمبراطورهم الحالي يستعدون لهذه الحرب ويعدون لها العدة. بخلاف خصومهم فقد ثبت أنهم من قلة حذرهم منها وفراغهم من العدة لم يكونوا ينوونها. . . فإذا كان الألمان حتى الآن أقوياء أشداء فذلك طبيعي، وهم ما خاضوا غمار هذه الحرب إلا وكانوا على أتم الأهبة لها. لكن إذا كان الألمان وهم في منتهى قوتهم لم يتمكنوا من تحقيق حلمهم، وخصومهم في غفلة غير مستعدين، فهل يرجى ذلك لهم بعد سنة وهم في تناقص وخصومهم في تزايد؟ هذا أمر لا يقبله العقل، ولا سيما إذا رأينا ما تؤول إليه حالهم بحصر البحار. . . ولهذا كله نرجع ونكرر القول أن انتصارات الألمان اليوم ليست إلا تطويلاً لأمد الحرب وأن مصيرهم في الآخر إلى الفشل التام)
صدق الدكتور وأصاب في ذلك الزمان، وكذب الأغبياء وأخطئوا في كل زمان. ولقد ذكر الأوربيون لحكمائهم أمثال هذه النبوءات النافذة والنظرات الثاقبة ولم تذكر هذه النظرة للدكتور شميل بين قراء العربية الذين هم أحوج إلى التذكر والاعتبار.
فإذا كان صواباً قول بعض الأدباء المازحين للدكتور: (إنك يا صاح نكبة على الناس، لأنك تخالفهم في كل ما يقولون). . . فأصوب منه جواب الدكتور على تلك التحية الجافية حيث قال: (إن كنت أنا نكبة على الناس لأنني أخالفهم فكم نكبة أعانيها وحدي من أولئك الناس وأنا واحد وهم ألوف؟)
عباس محمود العقاد
مجلة الرسالة - العدد 395
بتاريخ: 27 - 01 - 1941
وفي سوق الوراقين وباعة الكتب القديمة فلتات كثيرة من التاريخ، وفلتات كثيرة من الأخلاق، وفلتات كثيرة من العجائب: نسميها فلتات لأن المرء يجدها معروضة بين يديه دون أن يطلبها، وقد تكون الفلتة منها أنفس وأولى بالاقتناء من البغية المطلوبة.
أذكر أني عثرت بكتاب لي عليه تعليقاتي وملاحظاتي بعد فقده بخمس وعشرين سنة، ولو علم بائعه سره عندي لغالى بثمنه، ولكنه أعطانيه وهو مفرط فيه مسرور بما نقدته من ثمن قليل بالقياس إلى رغبتي فيه، كثير بالقياس إلى رغبة البائع في تصريفه.
وأذكر إني عثرت على عدة أجزاء من كتاب في إحدى المكتبات، ثم عثرت بعد حين على الناقص منه في مكتبة أخرى.
وأخبرني بعض الإخوان أن كتاباً من مكتبة الفيلسوف الإنجليزي برتراند رسل التي بيعت في إنجلترا وفاء ببعض الغرامات ما زال يطوف الأرض حتى وصل في مصر إلى يد أديب من المعجبين بالفيلسوف العظيم، فاشتراه وأرسله إلى صاحبه وتلقى منه جواباً بالشكر والتحية لا يزال من أعز محفوظاته.
وإلى جانب هذه العجائب والمصادفات عجائب أخرى من أخلاق الناس وولعهم بضروب الاقتناء والادخار.
فهذه كتب جديدة قديمة معروضة للبيع بعد طول احتباسها على الرفوف، وهي جديدة لأنها غير مفضوضة ولا مقروءة، وقديمة لأنها اشتريت منذ عهد بعيد.
لماذا اشتراها المشتري وهو لا يقرأها، ولعله لم يكن ينوي أن يقرأها؟. . . هنا العجب م بعض الأخلاق والعادات. فقد عرفت أناساً يغالون بشراء الكتب على قدر قدمها في الطبع وندرتها في الأسواق؛ وأناساً يبذلون في الكتاب من الثمن على قدر سعة الهامش وصلاح الكعب للتجليد!
ويحضرني هنا أن الأوربيين يصنعون من الخشب نماذج لها شكل الكتب من بعيد، يملئون بها الرفوف العالية من المكتبات ويشغلون الرفوف السفلى بالكتب الصحيحة التي تقتنى للمظهر لا للقراءة، لأن قصراً بغير مكتبة معابة في البلاد الأوربية، فلا غنى لبعض أصحاب القصور عندهم عن هذا التشبيه والتزييف.
أما نحن فلم نرتفع بعد إلى هذه المرتبة!
لأن خلو القصور من المكتبات عندنا لا يعاب، فلا حرج على صاحب القصر أن تسأله عن مكتبة فلا تراها، وإن كان يتحرج من خلو القصر من الإسطبل. . . والقصر كله بمن فيه وما فيه أحرى أن يحسب في الإسطبلات!
والمصادفة التي صادفتها اليوم في سوق الوراقين هي شيء من غير هذا القبيل: هي كتب الدكتور شبلي شميل مرصوصة كلها في رزمة واحدة، ومعها رواية له عن الحرب الماضية كنت أتوق إلى الاطلاع عليها ولا سيما بعد شبوب نيران هذه الحرب القائمة، فكانت مصادفة (ورَّاقية) من أحسن المصادفات.
نظرت إلى كتابه عن (فلسفة النشوء والارتقاء) - وهو الجزء الأول من مجموعته - فعادت بي الذاكرة ثلاثين سنة إلى يوم صدور هذا الكتاب النفيس.
كان الدكتور شبلي شميل فقيراً كما ينبغي للأحرار الشرفاء من أمثاله في بلادنا الشرقية، وكان عسيراً عليه أن يطبع مجموعة بغير معونة من أصحابه الأريحية الغيورين على العلم والثقافة. فلما تبرع له المتبرعون بالمعونة الكافية طبع المجموعة في جزءين، وذكر أسماءهم جميعاً ومقدار ما تبرعوا به في ختام الجزء الثاني، وقدم الأسماء بهذه العبارة الصريحة الحكيمة: (أذكرها مجردة عن النواتئ مكتفياً بجمال الأعمال، وكم يجمل بالناس أن يتعودوا ذلك اختصاراً للوقت وانصرافاً للجد. وسيكون ذلك منهم متى غلب النظر إلى الجوهر على الاستمساك بالعرض في كل أعمالهم)
وجعل الدكتور ثمن المجموعة الواحدة جنيهاً مصرياً عدا أجرة البريد، وهو ثمن معتدل لنفاسة طبع الكتاب ونفاسة موضوعه، وقلة الراغبين في قراءة هذه الموضوعات.
ولكن الجنيه ثمن مرهق للشباب الخالي من العمل، وكنت يومئذ خالياً من العمل مريضاً أستشفي ببلدتي أسوان وأشعر بما يشعر به المريض الخالي اليدين من تكاليف العلاج.
فكتبت إلى الدكتور ما فحواه: (إني أعلم أنك تدعو إلى الاشتراكية الصالحة التي تتجنب الغلواء، ومعنى ذلك أنك تأبى على الأغنياء أن يحتكروا موارد المال، فما بالك الآن تريد أن يحتكروا موارد العلم والمال معاً، وهل تحسب أن أحداً من غير الأغنياء يقوى على شراء كتاب بجنيه؟)
فما هو إلا أن وصل الخطاب إلى الدكتور ووصلت الصحف اليومية إلى أسوان حتى قرأت فيها أن الدكتور شميلاً قد أهدى مائة نسخة من مجموعته إلى الأدباء والطلاب، ولم يمض يوم أو يومان حتى جاءني الجزء الأول ومعه خطاب منه يشبه الاعتذار لما فاته من ذكر هذه الحقيقة بغير تذكير، ويشبه الشكر على أنني قد نبهته إلى ما كان خليقاً أن يتنبه إليه!
هذه قصة عارضة تلخص مناقب هذا الرجل الحر الصريح الشريف أوفى تلخيص.
فهو عالم يحب العلم والتعليم، ويعمل بما يقول، ويؤمن بالحجة المقنعة ولو كانت فيها خسارة عليه، ثم يبادر إلى العمل بما يقتضيه ذلك الإيمان، وليست مائة جنيه بالخسارة الهينة على رجل محدود الموارد كانوا يحاربونه في رزقه وفي طبه وفي مؤلفاته وإن كان كسب الألوف ميسوراً له لو أنه نسي أمانة العلم وانصرف إلى طلب الثراء من حيث يطلبه أصحاب الأقلام.
أخذت المجموعة كلها من جديد، وأخذت معها الرواية التي كنت أتوق إلى مطالعتها فإذا العجب فيها أعجب من هذه المصادفة، لأنها نبوءة صدقت في الحرب الماضية قبل انتهائها بأكثر من ثلاث سنوات، ولو نشرها ناشر على أنها مما يقال في الحرب الحاضرة لما احتاج في إعادة نشرها إلى تبديل كثير.
قال بلسان أحد أبطال الرواية وهو المدعي العام الذي يشرح تهمة الإمبراطور أمام المحكمة الدولية: (إنه لغريب جداً أن أمة كالأمة الألمانية حاصلة على قسط وافر من العلم تخضع خضوعاً أعمى لنظام إمبراطورية كنظامها عريق في الأثرة والاستبداد. وأغرب من ذلك دعواها وهي في رق هذا الحكم أنها ذات (كلتور) يجعل تربيتها أرقى من تربية سائر الأمم العريقة في الحضارة. ونحن مع اعترافنا بأنها بلغت شأواً بعيداً في العلم والصناعة ونالت امتيازات جمة على سواها لا يجوز لنا أن نجهل أن هذا الكلتور الذي تفاخر به يجعلها عبدة لنظام حكومة يديرها فرد أو أفراد غير مسئولين حقيقة. وقط ما كان العبد أرقى من الحر. وإذا كان في علمها وعملها شيء كثير من الإتقان فإنك قلما تجد فيهما شيئاً من الابتكار، لأن العبد إذا كان أصبر على العمل فالابتكار من امتيازات الحر وحده. وإذا كنا نراها تتعمد الشر كثيراً لسواها وتستخدم علمها لهذه الغاية خلافاً للآخرين فلأن ذلك من أخلاق العبيد. ولولا أن تكون هذه الأخلاق غريزية في هذه الأمة لما مالأت إمبراطورها على جنايته الكبرى مع ما هي عليه من العلم، ولأدركت حينئذ أن الأمم التي قامت لتذلها وسعت لتبديدها لكي تحل محلها إنما هي أعضاء نافعة في جسم العمران، بل لعرفت أن نجاحها هي نفسها لا يتم لها بدون التعاون معها. . .)
إلى أن قال وما أشبه الليلة بالبارحة: (وليس الملام على الأمة الألمانية المتضامنة مع حكومتها في السراء والضراء مهما أساءت فهم مصلحتها بقدر الملام على مجموع الهيئة الاجتماعية التي يجب عليها أن تكون هي نفسها متضامنة لدفع الشر عنها وتوفير المصلحة لها عموماً، وهذا انحطاط في هذه الأمم وحكوماتها يخجل منه اليوم. فعوضاً من أن تهب جميعها هبة واحدة لنصر المجتمع والقبض على الجاني تركته يسرح ويمرح ويعيث في الأرض فساداً، وادعت الحياد كأن لا ناقة لها في ذلك ولا جمل، وزعمت أنها تستفيد من ممالأته، فشرعت تنصره في السر وهي تدعي العزلة في الجهر، وهو لو أتيح له النصر لما كان حظها منه إلا الإذلال؛ وكيف يكون غير ذلك وحظ حلفائه منه ليس أفضل. . . انظروا إلى حليفتيه العظيمتين النمسا وتركيا كيف أنه قبض عليهما بيد من حديد واستخدمهما لمصلحته دون مراعاة أقل مصلحة لهما، حتى لو أرادتا الانفصال اليوم عنه لما استطاعتا، كأنهما جزء من مملكته أو مستعمرة من مستعمراته)
وانتهى تأليف الرواية في نهاية شهر يونية سنة 1915 قبل انتهاء الحرب الماضية بأكثر من ثلاث سنوات، وقبل ظهور الهزيمة في صفوف الألمان بعهد بعيد، بل انتهت وهم منتصرون متقدمون، فإذا به يجزم بهزيمتهم ويصدق النبوءة حين يقول في لهجة الثقة واليقين: (قد يستغرب القارئ - وقد أنهيتها بهذه الصورة - مع أن الألمان حتى الآن في انتصار. ولكن من يتدبر الأمور بعين الناقد البصير يعلم أن الألمان من بعد فشلهم في حملتهم على باريس لم يعد يرجى لهم تحقيق حلم، وما انتصاراتهم الجزئية اليوم إلا تطويل لأَجل الحرب. ولذلك هم اليوم يتخبطون ويبذلون آخر ما عندهم من الجهد عسى أن يحرزوا من النصر ما يحمل الآخرين جميعاً أو فرادى لعقد صلح لا يغبنون فيه ولا يثلم مقام إمبراطورهم لدى أمته التي جر عليها كل هذه المصائب على غير جدوى أو بخسائر لا تعوّض. لأنه يستحيل اليوم أن يرجع العالم ويثق بهم ويخلص لهم ويفتح أبوابه لمتاجرهم ويحسن الظن بعلمهم وعلمائهم كما كان في الماضي. فهم في هذه الحرب خاسرون كل شيء: المقام الأدبي والمركز الاقتصادي التجاري. . . وانتصار الألمان على الروس اليوم وحفظ مراكزهم في الأماكن التي احتلوها في الغرب لا يستغربان لمن يعلم أنهم منذ أكثر من نصف قرن ولا سيما في عهد إمبراطورهم الحالي يستعدون لهذه الحرب ويعدون لها العدة. بخلاف خصومهم فقد ثبت أنهم من قلة حذرهم منها وفراغهم من العدة لم يكونوا ينوونها. . . فإذا كان الألمان حتى الآن أقوياء أشداء فذلك طبيعي، وهم ما خاضوا غمار هذه الحرب إلا وكانوا على أتم الأهبة لها. لكن إذا كان الألمان وهم في منتهى قوتهم لم يتمكنوا من تحقيق حلمهم، وخصومهم في غفلة غير مستعدين، فهل يرجى ذلك لهم بعد سنة وهم في تناقص وخصومهم في تزايد؟ هذا أمر لا يقبله العقل، ولا سيما إذا رأينا ما تؤول إليه حالهم بحصر البحار. . . ولهذا كله نرجع ونكرر القول أن انتصارات الألمان اليوم ليست إلا تطويلاً لأمد الحرب وأن مصيرهم في الآخر إلى الفشل التام)
صدق الدكتور وأصاب في ذلك الزمان، وكذب الأغبياء وأخطئوا في كل زمان. ولقد ذكر الأوربيون لحكمائهم أمثال هذه النبوءات النافذة والنظرات الثاقبة ولم تذكر هذه النظرة للدكتور شميل بين قراء العربية الذين هم أحوج إلى التذكر والاعتبار.
فإذا كان صواباً قول بعض الأدباء المازحين للدكتور: (إنك يا صاح نكبة على الناس، لأنك تخالفهم في كل ما يقولون). . . فأصوب منه جواب الدكتور على تلك التحية الجافية حيث قال: (إن كنت أنا نكبة على الناس لأنني أخالفهم فكم نكبة أعانيها وحدي من أولئك الناس وأنا واحد وهم ألوف؟)
عباس محمود العقاد
مجلة الرسالة - العدد 395
بتاريخ: 27 - 01 - 1941