هذه قراءة أو محاولة عرضٍ إيجازي لرسالة ماجستير نوقشت قبل ولادتي بشهور، وأقصد في السنة التي رحل فيها كارل بوبر عن هذا العالم، وهي السنة الرابعة والتسعون من القرن العشرين. صدرت في كتاب عن دار المرهج للنشر والتوزيع عام 2022 بعنوان "الميتافيزيقا والعلم عند كارل بوبر". للدكتور فوزي حامد الهيتي، الذي تتلمذت على يديه دراسة الفلسفة الإسلامية في المرحلة الرابعة من الدراسات الأولية.
يرى الهيتي، أن هذه النظرية، تشكل مدخلاً أساسياً لفهم فلسفة كارل بوبر، لأنه في هذه يكشف عن تبنيه لمفهوم التطور، الذي أخذه عن داروين وعدّل عليه، بل إنَّ هذا المفهوم يمثل فكرةً مركزيةً في مجمل البناء النسقي لفلسفة كارل بوبر. مثلما تمثل المثل فكرةً أساسيةً في البناء الفلسفي لدى أفلاطون، أو الروح المطلق عند هيجل. وعليه يكون المنهج العقلاني النقدي عند بوبر، هو منهج تطوري وهو يقوم مقام الانتخاب الطبيعي في المستوى البيولوجي، وبالتالي تكون فلسفته فلسفةً تطوريّة.
كارل بوبر هو أحد أبرز فلاسفة العلم في القرن العشرين، القرن الذي واجهت فيه الميتافيزيقا انحساراً كما يقول، أو إلغاءً وتهميشاً، فجاءت نظرية بوبر الميتافيزيقية بوصفها حلاً للمشاكل التي وقفت عائقاً أمام التطور المعرفي والحضاري.
المنهج العلمي عند كارل بوبر:
بعد عرضه لمشكلات المنهج الاستقرائي، ينتهي إلى رفضه من ساحة التفكير العلمي، ويضع بدلاً عنه معياراً جديداً هو "القابلية للتكذيب" أو مبدأ التكذيب، وعليه يكون معيارنا في التمييز بين النظرية العلمية والنظرية غير العلمية، هو قابليتها على التكذيب. فالنظرية تكون علمية عنده بناءً على ما نستنتجه منها من قضايا مكذبة، لا من القضايا التي تؤيد هذه النظرية أو تلك.
لأن احتواء النظرية على ما يكذبها يتيح الكشف عن نظرية أشمل منها، فالعلم في تطور مستمر، والنظريات العلمية في صراع وتنافس لتقديم الحلول المؤقتة، ولا توجد حلول نهائية أو يقينية في العلم، وعرفتنا في نمو، طالما هناك مشاكل جديدة، وكلما ظهرت مشكلة جديدة تنافست النظريات في تقديم الحلول. وربما تظهر نظريات جديدة بعد أن تنتهي القدرة التفسيرية للنظريات القديمة، كما حصل مع فيزياء نيوتن لكلاسيكية، وحلت محلها نسبية أينشتاين، ونظرية ميكانيكا الكم.
وإذا ما أردنا إيجاز خطوات المنهج البوبري فإنها تكون بالصورة الآتية: يبدأ العالِمُ أو الباحث بمشكلة، وهذه المشكلة ليست من ابداع الباحث انما تكون مستقلة عنه تماما، وهي تكتشف اكتشافاً وهذه هي الخطوة الأولى. أما الخطوة الثانية فتكون في تقديم حل للمشكلة التي اكتشفها الباحث، وهذه الحلول تكون مؤقتة أو هي حلول أولية تتنافس فيها النظريات في حل المشكلة وفي ضوء هذا التنافس ينتخب الباحث النظرية الأفضل التي هي الأكثر قابلية على التكذيب الأكثر قابلية على الاختبار وذات قدرة تفسيرية عالية. أما الخطوة الثالثة فتكمن في اختبار النظرية الفضلى التي تم انتخابها من بين النظريات في سبيل البحث عن مشاكل جديدة وهكذا يكون استمرار المعرفة العلمية.
العوالم الثلاثة:
اختلف كارل بوبر مع كل الناس، في نظرية المعرفة، باستثناء داروين واينشتاين، بتعبيره هو. فهنالك تماثل بين النمو والتطور في العالم البيولوجي والنمو والتطور في عالم المعرفة، بل إن عالم المعرفة امتداد للتطور البيولوجي. فالتنافس بين النظريات العلمية واختيار النظرية الافضل يقوم على المبدأ نفسه، مبدأ الانتخاب الطبيعي. وكذلك مواجهة المشكلات وحلها يقوم على منهج المحاولة والخطأ.
يعترف بوبر أن نظرية التطور هي نظرية غير علمية، لأنها نظرية لا يمكن تكذيبها، والسبب في ذلك عائد إلى أن تطور الحياة على الكرة الأرضية عملية فريدة لا تتكرر. ولأن هذه النظرية لا تحتوي على محتوى معرفي أو تجريبي، وانما هي من قبيل تحصيل الحاصل.
لكنه رغم ذلك يقبل هذه النظرية بوصفها برنامج بحثٍ ميتافيزيقي. إذ أن بوبر لا يرفض الميتافيزيقا كما رفضتها الوضعية المنطقية، بل رأى أنه لا يمكن الاستغناء عنها في كل مجالات البحث العلمي.
ويجدر بنا أن نشير إلى نقطةٍ في غاية الأهمية، وهي أن فكرة التطور التي قول بها بوبر هي فكرة معدلة وليست كما هي عند داروين، فهو يقول بالتطور المنبثق، وهذه الفكرة تشير إلى تطور الاشياء والأحداث في العالم بصورة مستمرة ولكن بطريقة غير متوقعة وغير مقصودة، وانما نتيجة الحاجة والضغوط البيئية. وبهذه الكيفية انبثقت العوالم الثلاثة.
العالم الأول:
هو العالم الفيزيائي، أو العالم المادي ومكوناته، وهي جميع الأجسام المادية والعمليات الفيزيائية والقوى ومجالات هذه القوى، والكائنات الحية مثل النباتات والحيوانات والجراثيم وغيرها وصولاً إلى الكائنات ذات الخلية الواحدة مثل الأميبا. العالم الأول هو الكون بالمجمل. وهو عالم مستقل عن العالمين الثاني والثالث، لكن هذا الاستقلال لا يعني أنه عالمٌ مغلق. بل هو عالم مفتوح ويتفاعل ويؤثر ويتأثر بالعالم الثاني والعالم الثالث.
إن المشكلة الأساسية التي تتعلق بهذا العالم هي مشكلة السؤال عن الأصل أو المبدأ والتغير الذي يحصل فيه فيما اذا كان حقيقة أم وهماً. وتاريخ الفلسفة بالمجمل انقسم إلى تيارات ومذاهب وفقاً للإجابة على هذا السؤال. و وصولاً إلى الفيزياء الكلاسيكية التي تقول بخضوع كل ظاهرة في هذا العالم للحتمية، ولا وجود لشيء اسمه الصدفة أو العشوائية.
أو الفيزياء الذرية التي تقول بالعشوائية، أو كما يذهب هايزنبيرغ إلى مبدأ اللادقة. أما كارل بوبر فيتحدد موقفه من هذا العالم في تقديمه النظرية النزوعية، والنزوع الطبيعي الذي يقول بوبر ليس سوى صورة من صور الضبط العشوائي، فهي تتفادى العشوائية التامة من جهة وتتفادى الحتمية من جهة أخرى.
العالم الثاني:
أما هذا العالم فهو عالم العمليات الذهنية، والسايكولوجية، إنه عالم الادراك والشعور والانفعالات، أو عالم المعرفة الذاتية. وكما هو الحال مع العالم الأول، فإن السؤال الأساسي الذي يتعلق بهذا العالم، هو السؤال عن الجوهر الذي يقع وراء تعدد الحالات المعرفية والسلوكية عند الانسان، أيضاً تراوحت الاجابة بين تيارات ومذاهب فلسفية بدءاً من أفلاطون ووصولاً إلى الفلسفة المعاصرة. فهناك من يعطي هذا العالم أهمية ثانوية ويعده ناتجاً العالم الأول، مثل المادية بكل أشكالها. وهناك من يعده أساساً يتوقف وجود العالم الاول عليه، مثل الفلسفات المثالية على مختلف أشكالها أيضاً. لكن ما يهمنا هو رأي بوبر في هذا العالم وموقفه منه. وبالطبع لم يخرج موقف بوبر من إطار فكرة التطور المنبثق التي تعد فكرة مركزيةً في فلسفته كما أسلفنا. فهو يرى أن للوعي صفة انبثاقية، وأن تطور العالم ما هو الا سلسلة من الانبثاقات لأشياء جديدة لم يكن لها وجود من قبل ولم يكن بالإمكان التنبؤ بحدوثها. والعالم الثاني جزءٌ من هذه الانبثاقات التي جاءت نتيجة سلسلة من الضغوطات البيئية التي تلازمها سلسلة من الانتخابات الطبيعية من الكائن لكي يتكيف ويحافظ على بقائه.
يرى بوبر أن اللحظة الحاسمة، التي ساهمت في ارتقاء الانسان من مملكته الحيوانية، هي اللغة، فلحظة انبثاق اللغة صار بإمكان ذهن الانسان أن ينمو. بل يؤكد أن اللغة ذاتها جزء من نمو الذهن وتطوره.
كذلك يرى بوبر أن للعقل وظيفةً بيولوجية، فالعقل أو النفس هي التي تقوم بمواجهة المشكلات وحلها. وهذه النتيجة ينتهي اليها بوبر بعد عرضه النظريات التي تقدم موقفاً من وحدة الذات، إذ انه يؤكد على أن النفس بوصفها ذاتاً مفكرة، هي ليست ذاتاً خالصةً بالمعنى الذي يذهب إليه ديكارت، فالنفس أو الذهن انبثقت بعد الولادة وتحديداً بعد اكتسابه اللغة والقابلية على الوصف والجدال.
وهذا العالم لا يختلف عن العالم الأول والعالم الثالث من حيث الاستقلال والتفاعل. ولكنه بالطبع يعقب العالم الاول ويسبق العالم الثالث تاريخياً.
العالم الثالث:
هذا العالم هو عالم المعرفة الموضوعية. وعالم النظريات. بل العالم الذي يتمثل بكل ما أنتجه العقل البشري- العالم الثاني- من معارف وفنون وأساطير وأديان وشعر وما شاكل ذلك.
وهنا أيضاً تكم المشكلة الرئيسية في وجوده وفيما إذا كانت الحقائق التي يتمثلها مطلقة أم نسبية.
ينتهي بوبر إلى القول بأن هذا العالم مستقل عن العالمين الأول والثاني، ويتأثر ويؤثر بهما. وهو انبثاق جديد عن العالم الثاني، وكما أسلفنا أن العالم الثاني يسبقه زمانياً في الوجود، وهو فيما يرى امتداد في سلسلة التطور التي بدأت بالعالم الأول، إذ أن التطور الحضاري تطور موضوعات العالم الثالث، هو استمرار للتطور الجيني والوراثي، بل يذهب إلى أن الطريقة تواجه بها الأميبا مشاكلها لا تختلف تماماً عن الطريقة التي واجه بها أينشتاين مشاكله في الفيزياء النظرية.
إن هذا العالم والذي هو من ابتكار الانسان أو إبداعه، يشبه إلى حد كبير انتاج النحل للعسل أو إنتاج العنكبوت لبيته، من حيث إنه انتاج غير مقصود وغير مخطط له مسبقاً.
أما العلاقة بين هذه العوالم الثلاثة، فهي علاقة تفاعل، فالعالم الأول تربطه علاقة تفاعلية، مع العالم الثاني، وكذلك ثمة علاقة تفاعلية بين العالم الثاني والعالم الثالث، بل إن عملية التطور لا تتم إلا من خلال هذه العلاقات التفاعلية بين العوالم الثلاثة.
يرى الهيتي، أن هذه النظرية، تشكل مدخلاً أساسياً لفهم فلسفة كارل بوبر، لأنه في هذه يكشف عن تبنيه لمفهوم التطور، الذي أخذه عن داروين وعدّل عليه، بل إنَّ هذا المفهوم يمثل فكرةً مركزيةً في مجمل البناء النسقي لفلسفة كارل بوبر. مثلما تمثل المثل فكرةً أساسيةً في البناء الفلسفي لدى أفلاطون، أو الروح المطلق عند هيجل. وعليه يكون المنهج العقلاني النقدي عند بوبر، هو منهج تطوري وهو يقوم مقام الانتخاب الطبيعي في المستوى البيولوجي، وبالتالي تكون فلسفته فلسفةً تطوريّة.
كارل بوبر هو أحد أبرز فلاسفة العلم في القرن العشرين، القرن الذي واجهت فيه الميتافيزيقا انحساراً كما يقول، أو إلغاءً وتهميشاً، فجاءت نظرية بوبر الميتافيزيقية بوصفها حلاً للمشاكل التي وقفت عائقاً أمام التطور المعرفي والحضاري.
المنهج العلمي عند كارل بوبر:
بعد عرضه لمشكلات المنهج الاستقرائي، ينتهي إلى رفضه من ساحة التفكير العلمي، ويضع بدلاً عنه معياراً جديداً هو "القابلية للتكذيب" أو مبدأ التكذيب، وعليه يكون معيارنا في التمييز بين النظرية العلمية والنظرية غير العلمية، هو قابليتها على التكذيب. فالنظرية تكون علمية عنده بناءً على ما نستنتجه منها من قضايا مكذبة، لا من القضايا التي تؤيد هذه النظرية أو تلك.
لأن احتواء النظرية على ما يكذبها يتيح الكشف عن نظرية أشمل منها، فالعلم في تطور مستمر، والنظريات العلمية في صراع وتنافس لتقديم الحلول المؤقتة، ولا توجد حلول نهائية أو يقينية في العلم، وعرفتنا في نمو، طالما هناك مشاكل جديدة، وكلما ظهرت مشكلة جديدة تنافست النظريات في تقديم الحلول. وربما تظهر نظريات جديدة بعد أن تنتهي القدرة التفسيرية للنظريات القديمة، كما حصل مع فيزياء نيوتن لكلاسيكية، وحلت محلها نسبية أينشتاين، ونظرية ميكانيكا الكم.
وإذا ما أردنا إيجاز خطوات المنهج البوبري فإنها تكون بالصورة الآتية: يبدأ العالِمُ أو الباحث بمشكلة، وهذه المشكلة ليست من ابداع الباحث انما تكون مستقلة عنه تماما، وهي تكتشف اكتشافاً وهذه هي الخطوة الأولى. أما الخطوة الثانية فتكون في تقديم حل للمشكلة التي اكتشفها الباحث، وهذه الحلول تكون مؤقتة أو هي حلول أولية تتنافس فيها النظريات في حل المشكلة وفي ضوء هذا التنافس ينتخب الباحث النظرية الأفضل التي هي الأكثر قابلية على التكذيب الأكثر قابلية على الاختبار وذات قدرة تفسيرية عالية. أما الخطوة الثالثة فتكمن في اختبار النظرية الفضلى التي تم انتخابها من بين النظريات في سبيل البحث عن مشاكل جديدة وهكذا يكون استمرار المعرفة العلمية.
العوالم الثلاثة:
اختلف كارل بوبر مع كل الناس، في نظرية المعرفة، باستثناء داروين واينشتاين، بتعبيره هو. فهنالك تماثل بين النمو والتطور في العالم البيولوجي والنمو والتطور في عالم المعرفة، بل إن عالم المعرفة امتداد للتطور البيولوجي. فالتنافس بين النظريات العلمية واختيار النظرية الافضل يقوم على المبدأ نفسه، مبدأ الانتخاب الطبيعي. وكذلك مواجهة المشكلات وحلها يقوم على منهج المحاولة والخطأ.
يعترف بوبر أن نظرية التطور هي نظرية غير علمية، لأنها نظرية لا يمكن تكذيبها، والسبب في ذلك عائد إلى أن تطور الحياة على الكرة الأرضية عملية فريدة لا تتكرر. ولأن هذه النظرية لا تحتوي على محتوى معرفي أو تجريبي، وانما هي من قبيل تحصيل الحاصل.
لكنه رغم ذلك يقبل هذه النظرية بوصفها برنامج بحثٍ ميتافيزيقي. إذ أن بوبر لا يرفض الميتافيزيقا كما رفضتها الوضعية المنطقية، بل رأى أنه لا يمكن الاستغناء عنها في كل مجالات البحث العلمي.
ويجدر بنا أن نشير إلى نقطةٍ في غاية الأهمية، وهي أن فكرة التطور التي قول بها بوبر هي فكرة معدلة وليست كما هي عند داروين، فهو يقول بالتطور المنبثق، وهذه الفكرة تشير إلى تطور الاشياء والأحداث في العالم بصورة مستمرة ولكن بطريقة غير متوقعة وغير مقصودة، وانما نتيجة الحاجة والضغوط البيئية. وبهذه الكيفية انبثقت العوالم الثلاثة.
العالم الأول:
هو العالم الفيزيائي، أو العالم المادي ومكوناته، وهي جميع الأجسام المادية والعمليات الفيزيائية والقوى ومجالات هذه القوى، والكائنات الحية مثل النباتات والحيوانات والجراثيم وغيرها وصولاً إلى الكائنات ذات الخلية الواحدة مثل الأميبا. العالم الأول هو الكون بالمجمل. وهو عالم مستقل عن العالمين الثاني والثالث، لكن هذا الاستقلال لا يعني أنه عالمٌ مغلق. بل هو عالم مفتوح ويتفاعل ويؤثر ويتأثر بالعالم الثاني والعالم الثالث.
إن المشكلة الأساسية التي تتعلق بهذا العالم هي مشكلة السؤال عن الأصل أو المبدأ والتغير الذي يحصل فيه فيما اذا كان حقيقة أم وهماً. وتاريخ الفلسفة بالمجمل انقسم إلى تيارات ومذاهب وفقاً للإجابة على هذا السؤال. و وصولاً إلى الفيزياء الكلاسيكية التي تقول بخضوع كل ظاهرة في هذا العالم للحتمية، ولا وجود لشيء اسمه الصدفة أو العشوائية.
أو الفيزياء الذرية التي تقول بالعشوائية، أو كما يذهب هايزنبيرغ إلى مبدأ اللادقة. أما كارل بوبر فيتحدد موقفه من هذا العالم في تقديمه النظرية النزوعية، والنزوع الطبيعي الذي يقول بوبر ليس سوى صورة من صور الضبط العشوائي، فهي تتفادى العشوائية التامة من جهة وتتفادى الحتمية من جهة أخرى.
العالم الثاني:
أما هذا العالم فهو عالم العمليات الذهنية، والسايكولوجية، إنه عالم الادراك والشعور والانفعالات، أو عالم المعرفة الذاتية. وكما هو الحال مع العالم الأول، فإن السؤال الأساسي الذي يتعلق بهذا العالم، هو السؤال عن الجوهر الذي يقع وراء تعدد الحالات المعرفية والسلوكية عند الانسان، أيضاً تراوحت الاجابة بين تيارات ومذاهب فلسفية بدءاً من أفلاطون ووصولاً إلى الفلسفة المعاصرة. فهناك من يعطي هذا العالم أهمية ثانوية ويعده ناتجاً العالم الأول، مثل المادية بكل أشكالها. وهناك من يعده أساساً يتوقف وجود العالم الاول عليه، مثل الفلسفات المثالية على مختلف أشكالها أيضاً. لكن ما يهمنا هو رأي بوبر في هذا العالم وموقفه منه. وبالطبع لم يخرج موقف بوبر من إطار فكرة التطور المنبثق التي تعد فكرة مركزيةً في فلسفته كما أسلفنا. فهو يرى أن للوعي صفة انبثاقية، وأن تطور العالم ما هو الا سلسلة من الانبثاقات لأشياء جديدة لم يكن لها وجود من قبل ولم يكن بالإمكان التنبؤ بحدوثها. والعالم الثاني جزءٌ من هذه الانبثاقات التي جاءت نتيجة سلسلة من الضغوطات البيئية التي تلازمها سلسلة من الانتخابات الطبيعية من الكائن لكي يتكيف ويحافظ على بقائه.
يرى بوبر أن اللحظة الحاسمة، التي ساهمت في ارتقاء الانسان من مملكته الحيوانية، هي اللغة، فلحظة انبثاق اللغة صار بإمكان ذهن الانسان أن ينمو. بل يؤكد أن اللغة ذاتها جزء من نمو الذهن وتطوره.
كذلك يرى بوبر أن للعقل وظيفةً بيولوجية، فالعقل أو النفس هي التي تقوم بمواجهة المشكلات وحلها. وهذه النتيجة ينتهي اليها بوبر بعد عرضه النظريات التي تقدم موقفاً من وحدة الذات، إذ انه يؤكد على أن النفس بوصفها ذاتاً مفكرة، هي ليست ذاتاً خالصةً بالمعنى الذي يذهب إليه ديكارت، فالنفس أو الذهن انبثقت بعد الولادة وتحديداً بعد اكتسابه اللغة والقابلية على الوصف والجدال.
وهذا العالم لا يختلف عن العالم الأول والعالم الثالث من حيث الاستقلال والتفاعل. ولكنه بالطبع يعقب العالم الاول ويسبق العالم الثالث تاريخياً.
العالم الثالث:
هذا العالم هو عالم المعرفة الموضوعية. وعالم النظريات. بل العالم الذي يتمثل بكل ما أنتجه العقل البشري- العالم الثاني- من معارف وفنون وأساطير وأديان وشعر وما شاكل ذلك.
وهنا أيضاً تكم المشكلة الرئيسية في وجوده وفيما إذا كانت الحقائق التي يتمثلها مطلقة أم نسبية.
ينتهي بوبر إلى القول بأن هذا العالم مستقل عن العالمين الأول والثاني، ويتأثر ويؤثر بهما. وهو انبثاق جديد عن العالم الثاني، وكما أسلفنا أن العالم الثاني يسبقه زمانياً في الوجود، وهو فيما يرى امتداد في سلسلة التطور التي بدأت بالعالم الأول، إذ أن التطور الحضاري تطور موضوعات العالم الثالث، هو استمرار للتطور الجيني والوراثي، بل يذهب إلى أن الطريقة تواجه بها الأميبا مشاكلها لا تختلف تماماً عن الطريقة التي واجه بها أينشتاين مشاكله في الفيزياء النظرية.
إن هذا العالم والذي هو من ابتكار الانسان أو إبداعه، يشبه إلى حد كبير انتاج النحل للعسل أو إنتاج العنكبوت لبيته، من حيث إنه انتاج غير مقصود وغير مخطط له مسبقاً.
أما العلاقة بين هذه العوالم الثلاثة، فهي علاقة تفاعل، فالعالم الأول تربطه علاقة تفاعلية، مع العالم الثاني، وكذلك ثمة علاقة تفاعلية بين العالم الثاني والعالم الثالث، بل إن عملية التطور لا تتم إلا من خلال هذه العلاقات التفاعلية بين العوالم الثلاثة.