د. أحمد الحطاب - تشكيل العقول

فما هو تشكيل العقول؟ أولا، سأبدأ بكلمة "تشكيل" التي هي مصدر فعل "شكَّلَ" الذي معناه، بالنسبة لهذه المقالة، هو "كَوَّنَ". إذن، التَّشكيلُ هو التَّكوين، أي جعلُ شيءٍ من الأشياء "يُكَوَّنُ" من طرف جهة معيَّنة أو "يَتَكَوَّنُ" بكيفية ذاتية. إذن، تشكيل العقول هو تكوينُها تحت تأثير عواملٍ خارجية أو تحت تأثير عوامل ذاتية.

وهنا، لا بدَّ من إثارة الانتباهِ إلى أن تشكيلَ العقل، أي تكوينُه، لا يتوقََّّف ما دام الإنسانُ حيا. إنه يبدأ منذ نعومة الأظافر ويستمر إلى أن يرثَ الله الأرضَ ومَن عليها. لماذا؟

لأن الإنسانَ يُؤثِّر بعقله على الوسط (البيئة) الذي يعيش فيه ويتأثَّر عقلُه بما يجري في هذا الوسط من أحداثٍ وظواهر طبيعية، اجتماعية، اقتصادية، ثقافية… ويتأثَّر، بالخصوص، بما استجدَّ من هذه الأحداث والظواهر.

بعد هذه التَّوضيحات، أظنُّ أنه لا أحدَ يُجادل في أن تشكيلَ العقول يبدأ، كما سبق الذكر، منذ نعومة الأظافر. وتشكيل العقول يدخل في نِطاق التَّنشئة الاجتماعية la socialisation. والتَّنشئة الاجتماعية هي المسار parcours أو السياق processus الذي يسلكه/يخضع له، خاصَّةً، الطِّفل، داخلَ الأسرة والمدرسة ليستبطِنَ pour intérioriser عناصرَ ثقافةِ المجتمعِ الذي يعيش فيه. وتتمثَّل هذه العناصر في القيم valeurs والضوابط normes وقواعد السلوك règles de conduite، الكل من أجل أن يندمجَ هذا الطفلُ في المجتمع أو في الحياة الاجتماعية.

ولا داعيَ للقول أن الدينَ، ببُعدَيه الإنساني والأخلاقي، يساهم في تشكيل العقول شريطةَ أن يتمَّ إِفهَامُ الدين للناس بكيفية سليمة، أي خالية من التَّخويف والتَّرهيب. مع العِلم أنني قلتُ، أعلاه، أن تشكيل العقول لا يتوقَّف عند الإنسان ما دام هذا الإنسانُ حياً. ومساهمةُ الدين في تشكيل العقول عند عامة الناس، هي التي سيرتكز عليها موضوعُ هذه المقالة. فما هي الجهات الدينية التي، من الممكن، أن تساهمَ في تشكيل عقول عامة الناس؟

إنها، بكل بساطة، الأسرةُ، المدرسةُ وعلماءُ وفقهاءُ الدين.

1.الأسرة. في غالب الأحيان، أعضاء الأسرة الواحدة، هم مسلمون بالوراثة. بمعنى أن أربابَ الأسرة، من آباءٍ وأمَّهات ورثوا الدين الإسلامي عن آبائهم. وأطفالُ الأسَر وجدوا آباءَهم وأمَّهاتِهم يمارسون هذا الدين، فورٍثوه عنهم.

إذن، الدينُ الممارس داخل الأسر، يكون، في جُلِّ الأحيان، دينا متوارثا، أي يعتمد على تقليد البنات والأبناء لآبائهم وأمَّهاتِهم، في كل ما له علاقة بالدين، وخصوصا، الصلاة. إذن، فهو دينٌ موروثٌ وليس دينا خضع لتوضيح عقلاني يسهِّل استبطانَه من طرف الناس.

2.المدرسة. الدين المتداول في المدرسة أو في المؤسسات التعليمية ليس هو الدين المنصوص عليه في القرآن الكريم. إنه الدين الذي يستجيب لرغبات ونزعات علماء وفقهاء الدين. فيه تخويف وترهيبٌ ولا يعترف إلا بالجنة والنار، بعيدا كل البُعد عن الدين الوسط، السَّمح والمُعتدل.

3.علماء وفقهاء الدين. الدين المتوارث في الأسر والدين المتداول في المؤسسات التَّعليمية، هو، في الحقيقة، الدِّين الذي يُروِّج له علماء وفقهاء الدين في كُتُبهم الشَّارِحة لمختلف مظاهر الدين، قرآناً وسُنَّةً.

علماً أن هؤلاء العلماء والفقهاء يُخفون على عامة الناس حقائقَ وردت في القرآن الكريم. بل إنهم يُخفونها لأنها لا تخدم مصالحَهم. ولهذا، فالدِّين الذي يُقدِّمونه لعامة الناس هو الدين المتشدِّد الذي أرادوه، هم، أن يكونَ، وليس الدين الذي أراده الله، سبحانه وتعالى، للناس، أي الدين الوسط، السَّمح والمعتدل. وهو الدين الذي على عامة الناس ان يتبنَّوه ويؤمنوا به طوعا أو كرها. وإن كان هذا الدين الذي أراده العلماء والفقهاء لعامة الناس، يستجِيب لجوهر الدين الإسلامي، فإنه يُخالف عددا من آيات القرآن الكريم.

يقول الله، سبحانه وتعالى، في كتابه العزيز ، على الخصوص : "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" (البقرة، 256). "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ"، أي الدين لا يُفرض على الناس تحت الضغط أو القوة أو التَّهديد أو الضرب أو التَّخويف أو التَّعذيب… ضد إرادة الشخص. اللهُ، سبحانه وتعالى، يُبيِّن للناس ما لهم فيه خيرٌ وما لهم فيه شرٌّ أو سوء، وعقولهم هي التي تختار إما طريقَ الخيرَ وإما طريقَ الشر. وإلا لماذا فضل اللهُ، سبحانه وتعالى، الإنسان على سائر مخلوقاته بالعقلّ

والدَّليلُ على ذلك أن اللهَ، سبحانه وتعالى، قال للرسول (ص) : "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ" (يونس، 99). أهناك كلامٌ أوضح من هذا؟ وبالأحرى، كلامٌ موجَّهٌ لرسولٍ اختاره، سبحانه وتعالى، ليُبلِّغَ رسالة الإسلام إلى الناس. فما بالُك بعلماء وفقهاء الدين الذين يقدمون الدينَ للناس بطرقٍ تخويفية وترهيبية، أي يقدِّمون الدِّينَ للناس، كما أرادوه، هم، أن يكون وليس كما أراد اللهُ، سبحانه وتعالى، أن يكونَ!

أليست هذه مساهمةٌ خطيرةٌ في تشكيل العقول، علما أنني قلتُ، أعلاه، أن تشكيلَ العقول لا يتوقَّف ما دام الإنسانُ حيا!

وما يزيد في الطين بلَّةً، هو أن كثيرا من الناس المتبنِّين للدين بسذاجة عالية، أصبحوا لا يثقون، في تديٌّنهم، إلا بما يُفتٍيه لهم وعليهم علماء وفقهاء الدين! إلى درجة أن هؤلاء المُتبنِّين للدين بسذاجة عالية، أصبحوا يعتبرون علماءَ وفقهاءَ الدين وُسَطَاءَ بينهم وبين الله. بل لقد ذهب بعض هؤلاء السُّذج إلى اعتقاد أن علماءَ وفقهاءَ الدين سيشفعون لهم عند الله يومَ القيامة! واللهُ، سبحانه وتعالى، يقول : "ويَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَـٰنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (طه، 109).

وعندما أقول "بعض هؤلاء السُّذَّج"، فالأمر لا يتعلَّق فقط بغير المتعلِّمين. بل هناك متعلِّمون كثيرون، ومن الدرجات العليا، يعتبرون علماء وفقهاء الدين ناسا غير عاديين، إن لم نقل مُقدَّسين!

وقد تصبح "العقول الساذجة" دُميَاتٌ يتلاعب بها علماء وفقهاء الدين، كما يريدون و وقتَ ما يشاؤون!

أهناك تشكيلُ عقولٍ أكثر من هذا؟

وفي الختام، أقول : "إن كان الأسلامُ عباداتٍ، فهو، كذلك، أخلاق ومعاملات. العبادات أركانُها خمسة. أما المعاملات، فهي أركان المجتمع الصالح والطامح إلى مزيدٍ من الصَّلاح والفلاح.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى