أرغب قبل الحديث عن الشّخصيّة في المنجز القصصيّ السّياسيّ العربيّ، في توضيح مرادي بإيجاز من ثلاثة مصطلحات أساسيّة، هي: السّياسة والشّخصيّة والقصّة.
مصطلح (السّياسة) مصطلح واسع في الواقع الحقيقيّ غير الفنّيّ، يشمل القرارات المتحكِّمة بقضايا المجتمع، من الطّعام والزّواج والتّعليم إلى الصِّناعة والاقتصاد. فأمور المجتمع تخضع كلّها للقرار السّياسيّ الذي يصنعه الحاكم لضبط حياة المحكومين. ولكنّني، في التّحليل الفنّيّ للنّصوص المتخيَّلة، سأكتفي بقضيّة واحدة، هي قضيّة العلاقة بين المحكوم والحاكم، وخصوصاً أسلوب الحاكم العربيّ، صانع القرار، ومُنفِّذه، وعلاقات أعوانه بالنّاس. وليس المقصود بالسّياسة هنا وفي الواقع الخارجيّ الحقيقيّ (علم السّياسة)، ولا (الفلسفة السّياسيّة)؛ لأنّ علم السّياسة يعني النُّظم السّياسيّة الهادفة إلى تحديد المبادئ العامّة، والمناهج العلميّة المستخدمة في الوصول إلى التّعميمات الخاصّة بالحياة السّياسيّة. في حين تعني الفلسفة السياسيّة دراسة الأفكار السّياسية، وتأمُّل منظومة قيمها وأبعادها الزّمنيّة.
أمّا مصطلح القصّة فأقصد به النّصوص الإبداعيّة التّخييليّة الحكائيّة التي رصدت علاقة المحكوم بالحاكم وأعوانه، ولن أهتمّ بالقصص الوعظيّة غير التّخييليّة؛ لأنّ الإبداع القصصيّ شرط لتجسيد الإمتاع والإقناع والتّأثير؛ أي أنّ السّياسة في المنجز القصصيّ السّياسيّ، في حدود الحديث الرّاهن، هي التّعبير الأدبيّ الإبداعيّ عن طبيعة الحُكْم وأسلوبه وتجلّياته كلّها في المجتمع العربيّ.
أمّا الشّخصيّة فأقصد بها ما صنعته لغة القاص على هيئة الإنسان القادر على ابتداع الحدث القصصيّ والتّفاعل معه، وتجسيد فكرته. هذه الشخصيّة الفنّيّة التي صنعها القاصّ باللّغة تختلف عن الإنسان في الواقع الخارجيّ الحقيقيّ في أنّها معروضة من جانب واحد ضيِّق مناسب للحدث أو الفكرة التي يرغب القاصّ في التّعبير عنها، وليست معروضة من جوانبها كلّها. أمّا متعلّقاتها، كالاسم والصِّفات الجسديّة والأخلاقيّة، التي تحاكي الإنسان في الواقع الخارجيّ المحيط بالقاصّ وقرّائه فالغرض منها إيهام المتلقّي بأنّه يقرأ شيئاً حقيقيّاً عن إنسان حقيقيّ.
***
من المعروف أنّ هزيمة عام 1967 هزَّت أركان المجتمع العربيّ، وعرَّت السّلطة من هالاتها البطوليّة المزيَّفة، وكشفت عن ثنائيّتها البنيويّة. فهي سلطة قاهرة للمواطن الذي تحكمه، وضعيفة عاجزة عن مواجهة العدو. والمعروف أيضاً أنّ ثورة الأدباء العرب على القمع والتّسلط والسّجن، والمطالبة بحريّة التّعبير والرّأي الآخر وحقوق الإنسان، شرعت تتّضح غبّ هزيمة يونيو نفسها. فقد اتّسع هامش الحرّيّة آنذاك، وسّعته السّلطة العربيّة نفسها، فسمحت بنقدها وتعريتها لامتصاص غضب الشّارع العربيّ، وقد أفاد الكُتَّاب والأدباء من هذا الهامش، فأدانوا الجيش والسّلطة والفساد والقمع والاعتقالات والخلل في مؤسّسات الدّولة وإداراتها. ومن حُسْن حظّ السّلطة العربيّة أن يأتي النّقد هيِّناً ليِّناً غير قادر على أن يزعزع أركانها، بل إنّ الواقع دلَّ على أنّ النّقد جدَّد نشاط السّلطات العربيّة، وأعادها إلى سابق عهدها بعد سنوات قليلة من الهزيمة، إثر إعلانها الفوز في اكتوبر عام 1973على العدو الإسرائيليّ؛ ذلك الفوز السّياسيّ الذي حوّلته السّلطة إلى انتصار عسكريّ، وجعلته ذريعة لإعادة تسلطها على الإنسان العربيّ. قد يُقال هنا إنّ الدّول العربيّة التي شاركت في يونيو وأكتوبر قليلة معدودة معروفة، والحُكْم يصدق عليها وحدَها. وهذا غير صحيح؛ لأنّ الأثر السّلبيّ لهزيمة عام 1967 شمل المنطقة العربيّة كلّها، ولكنّه لم يستطع زحزحة العسكر عن الحكم، ولم يستطع منعهم من الاختباء وراء الهدف الجديد الذي برز بعد الهزيمة، وهو تحرير الأراضي المحتلّة، الفلسطينيّة وغير الفلسطينيّة. ويمكنني القول، بعيداً عن التّفصيلات، إنّ القصّة السّياسيّة العربيّة التي كانت ناشئة آنذاك لم تكن من القوّة، في ستينيّات القرن العشرين، بحيث تواجه السّلطة العربيّة مواجهة مباشرة، فلجأت إلى الرّمز والإيحاء واللّعب بالأساليب الفنّيّة لتهرب من مصادرة السّلطة لها ولصاحبها. ولكنّ عودها الذي بدأ يقوى ويشتدّ بعد ذلك اكتشف أنّ عود السّلطة بدأ يقوى ويشتدّ أيضاً، بل إنّ خبرات السّلطة في القمع والتّنكيل ومعرفة أحوال العباد ارتقت وتعمَّقت بعد توظيفها العِلْم والتّقنيّات الحديثة في تنمية قدراتها الأمنيّة ومحاولاتها القبض على مفاصل الدّولة.
أعتقد أنّ نجيب محفوظ قدَّم في قصّة (الخوف)(1) التي كتبها عام 1962 بواكبر الشّخصيّات الرّمزيّة ممثَّلةً في شخصيّة (عثمان جلالي)، التي انتقد فيها السّلوك التّسلُّطيّ للرّئيس جمال عبد النّاصر. ويُقال(2) إنّه عكس حرفي اسم عبد النّاصر حين سمَّى شخصيّة قصّته (عثمان جلالي)؛ ليهرب من المساءلة. ولكنّه أنكر ذلك، وصرَّح لفؤاد دوّارة(3) بعد ذلك بسنوات طويلة بأنّ ثورة عبد النّاصر لم تفد الأدب في رأيه. وليس إنكار نجيب محفوظ بالشّيء الغريب في بدايات ستينيّات القرن العشرين؛ لأنّه كان يعرف، كما يعرف غيره، أنّ نقد رأس الهرم السّياسيّ سيقوده إلى السّجن. وللسّبب نفسه لم يستطع فاضل السّباعي بعد نجيب محفوظ طباعة مجموعته (حزن حتّى الموت)(4) في دمشق؛ لأنّه انتقد فيها السّلطة السّوريّة، فطبعها في بيروت. لنبدأ من مثال فاضل السّباعيّ الذي طُبع أربع مرّات، وتُرجِم إلى اللّغة الفرنسيّة.
القصص في مجموعة (حزن حتّى الموت) قصص سياسيّة، كان فاضل السّباعي قبل إبداعها يكتب القصص الواقعيّة، ولكنّه ابتداءً منها تحوَّل من المعالجة الواقعيّة الاجتماعيّة إلى المعالجة السّياسيّة لقضايا الإنسان العربيّ، وأبرزها فقدان الحرّيّة. وقد اتّخذ الرّمز وسيلة فنّيّة لإيصال قصصه إلى المتلقّي. والملاحظ، ضمن هذا الرّمز، أنّه غيَّب الملامح الخارجيّة للشّخصيّات، بحيث أصبحت عامّة غير محدَّدة. وبرزت في أشكالها العامّة معاناة الشّخصيّات من الظّلم. نحن لا نقرأ في قصص (حزن حتّى الموت) وصفاً لأية شخصيّة، ولا نعرف شيئاً عن أحوالها الأسريّة، كما نجهل تاريخها وعلاقاتها بالآخرين، إنّما نعرف عنها شيئاً واحداً ليس غير، هو أنّ القهر السّياسيّ أعاق حياتها، ومسح ملامحها الخارجيّة، فبقيت الدِّلالة على كيانها مقتصرة على حرف واحد، هو الحرف (س) بالنّسبة إلى بطل قصّتين منها، هما: (يقظة بعد سبات طويل/ لا ضير فليغرق العالم)، و(ج) بالنّسبة إلى قصّة (الصّورة والاسم)، و(ع) بالنّسبة إلى قصّة (قاطف الزّهرات اليابسات)، و(م) بالنّسبة إلى قصّة (العينان في الأفق الشّرقيّ)… هذه الشّخصيّات لا تعرف، في القصص كلّها، ما تريده السّلطة منها، ولذلك نراها دهشة حين يعترضها رجال السّلطة، وكأنّ هذا الاعتراض مصادفة، أو هي تدرك أنّها تعارض السّلطة، وتعرف أسباب هذه المعارضة، ولكنّها لا تعرف الطريقة الملائمة للهرب من المطاردة والتّحقيق والتّعذيب. والسّلطة في القصص كلّها واعية بأنّها تريد إخضاع الشّخصيّات لسلطانها. وقد نشأ عن التّباين بين الشّخصيّات والسّلطة ثنائيّة ضدّيّة، أنتجت أحداثاً صادمة غريبة مفاجئة، تعمَّد السّباعي جَعْلَها على هذه الصّورة بغية تضخيم أسلوب الدّولة في إخضاع الشّخصيّات، حتّى إنّه وصل إلى حدود رَسْم صور قصصيّة كاريكاتوريّة للشّخصيّات البريئة حين تقع في شرك من الأشراك التي أعدّتها السّلطة لها.
إذا أهملنا دلالة قصص (حزن حتى الموت)، لاحظنا عناية فاضل السباعي بالبناء الفنّيّ التّعبيريّ التّرميزيّ. فالشّخصيّة، وهي موضع اهتمامنا، لا تحمل اسماً كما هي الحال في القصّة الواقعيّة، بل تحمل حرفاً، فهي سين أو جيم أو حاء، رغبة من فاضل السباعي في تعميم دلالة الشّخصيّة المقهورة على كلّ إنسان، وإنْ كان السّياق القصصيّ يُوحي دائماً بأنّ الشّخصيّة عربيّة. من ذلك أنّ إحدى الشّخصيّات هي شخصيّة كاتب انتقد السّلطة، فتعرّض نتيجة ذلك لقطع يده اليمنى لأنّه كتب بها شيئاً لم يُرض السّلطة، فكتب نقده بيده اليسرى فقُطِعتْ، فبرجله اليمنى فقُطِعتْ ، فبرجله اليسرى فقُطِعتْ، وهكذا قُطِعتْ أشلاؤه شلواً بعد شلو في نوعٍ من الدّلالة الرّمزيّة التّعبيريّة على إصرار السّلطة العربيّة على منع الكاتب من انتقادها، وعلى إصرار الكاتب في الوقت نفسه على أن يستمرّ في نقد هذه السّلطة. والأمر قريب من ذلك بالنّسبة إلى الموظَّف في قصّة (العينان في الأفق الشرقي). فقد رأى في الشّارع شخصاً تبيعه السّلطة بالمزاد لأنّه تثاءب، فرغب في شرائه ليتركه يتثاءب بحريّة، وما إن فكّر في ذلك حتّى قبض رجال السّلطة عليه وساقوه إلى السّجن، في دلالة رمزيّة لا تخفى على أحد، هي أنّ السّلطة تراقب النّاس وتعرف ما يفكِّرون فيه، فتحاسبهم على حركاتهم وسكناتهم، ولو كانت تثاؤباً، أو تفكيراً في التّثاؤب. ولكنْ، من هي السّلطة التي ينتقدها فاضل السّباعيّ؟. ومن هي الشّخصيّات التي يرمز إليها بالحروف؟. يوحي السّياق بأنّها سلطة وشخصيّات عربيّة، ولكنّ السّياق نفسه لا يُصرِّح تصريحاً مباشراً واضحاً محدَّداً بذلك، خوفاً من المساءلة، أو انصياعاً للحاجات الفنّيّة للتّرميز القصصيّ.
هناك قاصّ آخر، هو زكريا تامر، (كلّ قصّة من قصصه ذات مدلول سياسيّ)(5)، لجأ إلى الرّمز التّعبيريّ الذي يشير إلى شيء محدَّد، أو يُعبِّر عن حال عامّة، ولكنّه لم يستعمل الحرف في الدّلالة على شخصيّته القصصيّة، بل راح يُعيد إحياء التّراث العربيّ الذي قدَّم في (كليلة ودمنة) و(الأسد والغوّاص) تعبيراً رمزيّاً بوساطة الحيوانات. وأضاف زكريا تامر إلى هذا التّراث استدعاء رجالات الأمّة العربيّة الذين حقّقوا انتصارات معروفة في التّراث العربيّ، كخالد بن الوليد، وصلاح الدّين الأيوبيّ وغيرهما، ووضعهم في مواقف معاصرة مغايرة لتاريخهم، وجعلهم يخفقون في تحقيق أيّ انتصار فيها. من ذلك ما فعله في مجموعة (قالت الوردة للسّنونو)(6) في القصّة المعنونة بـ(الحمار المحترم). إذ إن الحمار رغب يوماً في أن يُصبح محترماً. نظر في الشّارع فرأى النّاس يعاملون الشّرطيّ باحترام؛ لأنّه يحمل في يده عصاً يُخيفهم بها، فظنّ الحمار أنّ العصا تُكْسِب صاحبها احترام النّاس. ولذلك راح يسير في الشّارع مستخدماً قوّته، يضرب هذا، ويرفس ذاك، فقُبِض عليه واقتيد إلى السّجن، وهناك تعلَّم أنّ القوّة لا تُكسب احتراماً. هل هذه أمثولة مقدَّمة للأطفال؟. أعتقد ذلك، ولكنّني أعتقد أيضاً أنّ زكريا تامر رمز بشخصيّة الشّرطيّ إلى السّلطة التي تستعمل العصا؛ أي القوّة؛ لاعتقادها أنّ النّاس يخافون منها ما دامت تهدِّدهم بها. ولم تكن شخصيّة الحمار غير وسيلة فنّيّة تراثيّة لنقد الحاضر السّياسيّ، أعاد زكريا تامر إحياءها ليقول بوساطتها إنّ الغبي هو الذي يُقلِّد السّلطة في الإيمان بالقوّة؛ لأنّ القوّة لا تُكسب الإنسان، ولا السّلطة، ولا الحيوان، احتراماً. واختيار زكريا تامر شخصيّة الحمار لا تختلف عن اختياره شخصيّة ( سليمان الحلبي) في قصة (الجريمة)، ضمن مجموعة (ربيع في الرماد)(7). فسليمان الحلبي، كما تقول سيرته في الواقع الحقيقيّ التّاريخيّ، رجل وطنيّ من عفرين (حلب- سورية) ذهب إلى القاهرة واغتال مهندس الحملة الفرنسيّة الجنرال كليبر عام 1800، فقبض الفرنسيّون عليه وأعدموه. ولكنّ زكريا تامر لم يتحدَّث عن سليمان الحلبي على أنّه بطل قوميّ كما تنصّ سيرته في الواقع الخارجيّ الحقيقيّ، إنّما استدعاه من القرن التّاسع عشر ليجعل رجال الأمن يقبضون عليه قبل أن يغتال كليبر. وتركهم يحاكمونه أوّل الأمر، ويأتون بأبيه وأمّه وأخته ليشهدوا أنّه سيقتل كليبر، في نوع من الإيحاء الرّمزيّ بتنصُّل الأهل من بعضهم بعضاً قبل الإقدام على الفعل تجسيداً لرغبة السّلطة. ثمّ تُقدِّم السّلطة نفسها أسباب المحاكمة، وهي أنّ سليمان حلم بقتل كليبر، وتطلّع في السّاعة الحادية عشرة وثلاث دقائق إلى القمر وقال في نفسه: القمر سعيد لأنّه لا يعيش في مدينة حاكمها كليبر، وأنّه في الحادي عشر من مارس، في السّاعة الثّامنة صباحاً فتح أبواب الأقفاص، وأطلق عصافيره. وهكذا لجأ زكريا تامر إلى الرّمز ليدلَّ على معرفة رجال الأمن بدقائق حياة سليمان الحلبي وتفكيره، وليحكموا عليه بعد ذلك بتقطيع أوصاله ورأسه. ومن ثَمَّ بدت شخصيّة هذا البطل القوميّ الإيجابيّ شخصيّة مدانة من السّلطة التي تعتنق وجهة نظر المستعمِر، وتحكم بأهوائها، فضلاً عن قدرتها على مراقبة النّاس، ومعرفتها حركاتهم وسكناتهم. وهذا ما جعل سليمان الحلبي الحقيقيّ وسيلة فنّيّة لمحاكمة التّاريخ والحكم عليه من منظور السّلطة الجائرة.
إنّ الشّخصيّة في المنجز القصصيّ السّياسيّ لا تخلق الحدث، ولا تُحرِّكه، ولا تتفاعل معه، بل تجد نفسها في أتونه. والحدث غالباً هو اللّقاء بين الشّخصيّة البريئة والسّلطة القاهرة، والهدف الفنّي من هذا اللّقاء بين الأضداد هو الكشف عن قدرة السّلطة على معرفة دقائق حياة الشّخصيّات، وقد جسَّدت هذا الهدف شخصيّات قصصيّة لم تكن مطيعة للسلطة، فعاقبتها هذه السّلطة. وكان اللّقاء ينتهي دائماً ببقاء التباين بين السّلطة والشّخصيّات، في نوع من الإيحاء للمتلقّي بألا يقبل سلطة بلاده، وهو إيحاء لا يمكن تعميمه.
هذا كلّه يمكن فهمه من خلال الشّخصيّة القصصيّة ذات الرّمز التّعبيري، ولكنّ الشّخصيّة نفسها تتجلّى في المنجز القصصيّ السّياسيّ تجلياً رمزياً مختلفاً في الحكاية الواقعيّة، كما هي الحال في قصّة (أشرعة بيضاء)(8) لإياد جميل محفوظ التي تسرد حكاية مُخْبِر من المخبرين، أوقع أصدقاءه وغيرهم في قبضة السّلطة بحجة حماية الوطن منهم والدّفاع عنه. لم تطرح الحكاية الأمور طرحاً مباشراً، إنّما لجأت إلى الرّمز الموحي بالأفعال والعبارات. ففعل (أخبرتُهم) يرمز إلى كتابة الشّخصيّة تقريراً للسّلطة، وعبارة (لم يعد يُصلّي في الكلّيّة. لم يعد يظهر فيها) ترمز إلى اعتقال الطّالب، وعبارة (كافأني المارد) ترمز إلى عطايا السّلطة لشخصيّة المخبر. هكذا تترى مجموعة من الرّموز الصّغيرة الشّفيفة التي لا تسمح باختلافات كبيرة بين المتلقّين في أثناء تأويلها وتحديد المراد منها. إذ إنّ المتلقّي سرعان ما يفهم أنّ الشّخصيّة التي تُقدِّم نفسها في الحكاية بضمير المتكلِّم هي شخصيّة مُخْبِر لدى السّلطة، يترجَّح بين النّدم على أفعاله وعدم قدرته على الانفصال عن السّلطة. ويبقى على هذه الحال من التّرجُّح وعدم القدرة على النّوم ليلاً إلى أن تقتله الحبوب المهدِّئة التي يتناولها. والقاصّ إياد محفوظ يتابع الرّمز القابل للتّأويل في قصّة أخرى عنوانها (أقبية بلا حدود)(9). يتحدَّث فيها سجين إلى زميله في الزّنزانة عن الأمور التي استجدّت في البلد، فيخاف زميله، ويطلب من المتكلِّم السّكوت لئلا يسمع رجال الأمن كلامهما. ولعلّ الإيحاء الرّمزيّ في القصّة يكمن في أنّ شخصيّة السّجين تماهت بسجنها، فأبقت نفسها في دائرة الخوف من السّلطة على الرّغم من أنّ هذه السّلطة وضعتها في السّجن، ولن تفعل شيئاً آخر معها. كذلك الأمر بالنّسبة إلى (آدم) في قصّة (بين طابقين)(10). فهو ينتمي إلى (الطّابق العلويّ)، ولكنّه نزل إلى (الطّابق السّفليّ) ليخالط الناس الذين يعيشون فيه، فإذا بهذه المخالطة تجعله يترجَّح بين الطّابقين. قد يرمز الطّابق العلويّ إلى السّلطة، والسّفليّ إلى الشّعب. وقد يرمز الطّابقان إلى شيئين آخرين، فالرّمز غير شفيف، وهو، عادة، حمّال أوجه. ولكنّ القاصّ إياد محفوظ قدَّم إشارات تُعين المتلقّي على متابعة شخصيّته في القصّة في أثناء ترجُّحها بين الانتماء إلى السّلطة والانتماء إلى الشّعب، وكان حريصاً على أن يُبقي شخصيّته مترجِّحة، راغبة في الانتماء إلى الطّابق العلويّ على الرّغم من عواطفها الميّالة إلى الطابق السّفليّ.
هناك تنويعات في المنجز القصصيّ السّياسيّ نعثر عليها في القصص السّاخرة والقصص القصيرة جدّاً، سأشير إليها بإيجاز. أمّا القصص السّاخرة فيهمّني منها اللّجوء إلى نوع من الواقعيّة الطّبيعيّة التي تُسجِّل الجزئيّات والتّفصيلات الحياتيّة الحقيقيّة، وتسعى إلى الإحاطة بها، بغية تقديم النّقد السّياسيّ المباشر. هذا ما فعله خطيب بدلة وعلي المعمَّريّ. فقد عُني خطيب بدلة بهذا اللّون القصصيّ السّياسيّ السّاخر حتّى عُرِف به. من ذلك ما قاله في قصّته (احترامي سيّدي المواطن) التي جعلها عنواناً للمجموعة كلّها(11): (كان السّادة الذين يركبون السّيّارات التي يدفع المواطن تكاليفها الباهظة يعتقدون أنّ المزارعين والتّجّار والباعة وأصحاب المشاغل الإنتاجية الصّغيرة هم الذين يستغلّون المواطن ويرفعون في وجهه الأسعار، وكانوا على وشك أن يصادروا أعمالهم وأموالهم وبضائعهم، ويشمِّعوا محلاتهم بالشّمع الأحمر، ولكنّ الأخيرين أفهموهم، على فنجان قهوة، وكم ورقة نقديّة مدسوسة تحت الفنجان، أن القصة أكبر من هيك…)(12). يمكن أن يُقال مثل ذلك عن الفقرة الآتية من قصّة (جمهوريّة ثغ) لعلي المعمري: (يُحكَى أنّه في حديث الزّمان عابرة التقطت هذا الحوار لبغل أسَّس منظَّمة ثوريّة بهدف تخليص البلاد من سيطرة الأحصنة وانتهاكاتهم لعرض أمّه وسلالة بقيّة إناث الحمير، فقرَّر أن يُناضل مع الذين وُلِدوا سفاحاً، وكان طريق الكفاح المسلَّح شاقّاً وقاسياً بالنّسبة لجنس البغال…)(13). إنّ لغة القصص السّاخرة وشخصيّاتها لا تختلفان، في الغالب الأعمّ، عمّا ورد في الفقرتين السّابقتين. فاللّغة فصيحة قريبة جدّاً من لغة الصّحافة والحياة اليوميّة، والشّخصيّة هي السّارد العالم بتفصيلات الحياة المعيشيّة التي تستغلّها السّلطة لمصلحتها الخاصّة. وميزة القصص السّاخرة هي تقديمها ذلك الضَّحك الأسود عمّا يجري للنّاس البسطاء الفقراء من قهر واستغلال.
أمّا القصّة القصيرة جدّاً فقد تلقَّفت المهمّة السّياسيّة من القصّة القصيرة في بداية هذا القرن، وراحت بقدرتها على التّكثيف اللّغويّ، والعناية بالمفارقة، واختزال الشّخصيّة إلى حدود الفعل، تنتقد السّلطة العربيّة على نحوٍ أكثر جرأة. فمجموعة (حفاة)(14) لطاهر الزّارعيّ، ومجموعة (سيرة الخوف)(15) للخطّاب المزروعي، ورثتا مجموعة فاضل السّباعي (حزن حتّى الموت) فلم تسمّيا الشّخصيّات، شأنهما في ذلك شأن قصّة (آفاق) لمهنّد العزب في مجموعة (صولو)(16). فقد عكس العزب في هذه القصّة السّائد في مواجهة السّلطة، فجعل السّجّان سجيناً، والسّجين سجّاناً. السّجّان ينظر (إلى السّجين من كوّة الباب. أمّا السّجين فيملأ عينيه بالنّظر من شرخٍ في الجدار إلى الأفق الرَّحب). ولجأت أميمة النّاصر في قصّة (مؤامرة)(17) إلى عكس السّائد أيضاً، فجعلت المرأة تدعو الرّجل إلى دخول منزلها، وحين دخل أرداه الجنود (وابتسموا في وجه المرأة التي كانت تُسرِّح شعرها). وقد سمع السّارد في قصّة (الأفضل) للخطّاب المزروعي السّؤال الآتي: أيُّهما الأفضل: جمال عبد النّاصر أو السّيسي. فلم يأبه بالسّؤال؛ لأنّ اسم التّفضيل (الأفضل) ذكَّره بالأفضل معجون التبغ. وكان التّداعي، بين الأفضل والأفضل، الذي قدَّمته القصّة تعبيراً خاطفاً عن اللامبالاة بالقادة السّياسيين القدامى والمحدثين. ويمكنني القول، على سبيل التّعميم، إنّ القصّة القصيرة جدّاً السّياسيّة اعتمدت مبدأ عدم تسمية شخصيّاتها، متستِّرةً وراء مفاهيم الاختزال والتّكثيف والتّركيز على الحدث والمفارقة بدلاً من توضيح جانبٍ من جوانب الشّخصيّة. وإذا كان عدم تسمية الشّخصيّات جَعَل القصّة القصيرة جدّاً تخسر بعض التّحديد، فإنّه زاد نسبة التّعميم السّياسيّ فيها، وحفز بعض كُتَّابها إلى التّركيز على حدث مواجهة السّلطة، وإنْ لم يتخلّوا عن مواجهة الخلل في المجتمع، وخصوصاً الخلل المرتبط بحال المرأة.
***
وبعد، فقد جابهت الشّخصيّات في المنجز القصصيّ السّياسيّ السّلطة مكتفيةً بالإيحاء الرّمزيّ بأنّها ظالمة قاهرة مستبدّة، وكأنّها كانت تدعو بشكل غير مباشر إلى سلطة ديمقراطيّة يعيش النّاس فيها بحرّيّة، ويتمتَّعون بالكرامة الإنسانيّة. وهذه هي الحدود التي تقف الشّخصيّة القصصيّة عندها، ولا تجاوزها إلى تحديد ماهيّة السّلطة بدلاً من تعميم شخصيّتها الاعتباريّة التي تمسّ كلّ سلطة ولا تحدِّد سلطة معيَّنة، أو تُحدِّد المكان والزّمان القصصيّين بدلاً من تجريدهما، هرباً من التّخصيص الذي يقود إلى المساءلة.
أعتقد، أيضاً، أنّ القاصّين العرب لم يتّعظوا من إخفاق تجاربهم في زعزعة السّلطة في ثمانينيّات القرن العشرين وتسعينيّاته، أو قيادتها إلى سياسة حكيمة عمادها الحرّيّة وحقوق الإنسان. وليس السّبب في ذلك أنّ صوت منجزهم القصصيّ السّياسيّ كان ضعيفاً، ولكنّ السّبب هو أنّ بنية السّلطة كانت من الصَّوَّان، بحيث تكسرت عليها الرّموز الشَّفيفة وغير الشّفيفة، والتّفصيلات القصصيّة السّاخرة وغير السَّاخرة. أو قُلْ إنّ السّلطة العربيّة لم تكترث بالنّقد الرّمزيّ مادام بعيداً عن تسميتها، وعن الإشارة إليها مباشرة. وعلى الرّغم من أنّ الاقتراب الرّوائيّ العربيّ كان أكثر غزارة وتفصيلاً وإيلاماً للسّلطة بتقديمه ما أصبح يُعرَف في الدّراسات النّقديّة بروايات السّجن السّياسي(18)، فإنّ الاقتراب الرّمزيّ التّعبيريّ بقي العلامة البارزة للمنجز القصصيّ السّياسيّ العربيّ. ويُخيَّل إليَّ أنّ القصّة القصيرة جدّاً التي ازدهرت في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كانت أكثر بلاغة في أثناء اقترابها من قضايا السّياسة، وفي أثناء ترسيخها الرّمز على أنّه الوسيلة الفضلى في نقد العلاقة السّياسيّة الشّائكة داخل المجتمع العربيّ. يُضاف إلى ذلك كلّه أنّ المرء يدعو لعبد اللّه العروي بالخير؛ لأنّه طرح في وقت مبكِّر من حياته الفكريّة مسألة (هويّة الحاكم)، دون أن يسمعه أحد؛ لأنّ العرب كانوا في خمسينيّات القرن العشرين وستينياته مشغولين بالدّعوة إلى التّحرُّر من التّبعيّة للغرب، فقبلوا حُكْم العسكر دون أن يفكِّروا بأبعاد هذا القبول وتبعاته. وللسّبب نفسه يتساءل بعض المفكِّرين العرب الآن عمّا إذا كان الحاضر، حاضر الثّورات العربيّة، الذي يُهدَّم بكلّ هذا العنف والقسوة، قادراً على أن يُحرِّرنا من أغلال التّقديس للبطل والعسكر والغرب.
——————————————
المصادر والمراجع:
1. نجيب محفوظ: بيت سيِّئ السمعة، القاهرة 1965
2. سماح إدريس (د): المثقف العربي والسلطة، دار الآداب، بيروت، 1992، ص 42
3. فؤاد دوّارة: نجيب محفوظ من القومية إلى العالمية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1989، ص 243
4. فاضل السباعي: حزن حتى الموت، الأهلية للنشر والتوزيع، بيروت، 1975.
5. عبد الرحمن مجيد الربيعي: الشاطئ الآخر، قراءة في كتاب القصة العربية، الدار العربية للكتاب، ليبيا/ تونس، 1983، ص 167
6. زكريا تامر: قالت الوردة للسنونو، اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1977
7. زكريا تامر: ربيع في الرماد، منشورات مكتبة النوري، دمشق 1973
8. إياد جميل محفوظ: مجموعة: ينابيع الحياة، دار نون، حلب 2007
9. إياد جميل محفوظ: مجموعة: مفترق المطر، منشورات ضفاف، الرياض/ بيروت 2012
10. المصدر السابق، ص 19 وما بعد
11. خطيب بدلة: احترامي سيدي المواطن، نون 4 للنشر والطباعة والتوزيع، حلب، 2009
12. المصدر السابق، ص 9
13. علي المعمري: قصة (جمهورية ثغ)، ضمن مجموعة: أسفار دملج الوهم، المركز الثقافي العربي، بيروت/ الدار البيضاء، 1997، ص 34
14. طاهر الزارعي: حفاة، دار الوطن، الرباط، ط2/2012 (صدرت الطبعة الأولى عام 2009)
15. الخطّاب المزروعي: سيرة الخوف، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت 2014
16. مهند العزب: صولو، دار فضاءات، عمَّان 2012
17. أميمة الناصر: صور الموت، مجلة الإمارات الثقافية، أبو ظبي، ع 34، حزيران/ يونيو، 2015
18. انظر حول هذا الموضوع:
– نزيه أبو نضال: أدب السجون، دار الحداثة، بيروت 1981
– سمر روحي الفيصل (د): السجن السياسي في الرواية العربية، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1983 (صدرت الطبعة الثانية عام 1994 عن دار جروس برس، طرابلس/ لبنان)
- طه وادي (د): الرواية السياسية، دار النشر للجامعات المصرية، القاهرة 1996
11
د. سمر روحي الفيصل
* نشر بجريدة الوطن
مصطلح (السّياسة) مصطلح واسع في الواقع الحقيقيّ غير الفنّيّ، يشمل القرارات المتحكِّمة بقضايا المجتمع، من الطّعام والزّواج والتّعليم إلى الصِّناعة والاقتصاد. فأمور المجتمع تخضع كلّها للقرار السّياسيّ الذي يصنعه الحاكم لضبط حياة المحكومين. ولكنّني، في التّحليل الفنّيّ للنّصوص المتخيَّلة، سأكتفي بقضيّة واحدة، هي قضيّة العلاقة بين المحكوم والحاكم، وخصوصاً أسلوب الحاكم العربيّ، صانع القرار، ومُنفِّذه، وعلاقات أعوانه بالنّاس. وليس المقصود بالسّياسة هنا وفي الواقع الخارجيّ الحقيقيّ (علم السّياسة)، ولا (الفلسفة السّياسيّة)؛ لأنّ علم السّياسة يعني النُّظم السّياسيّة الهادفة إلى تحديد المبادئ العامّة، والمناهج العلميّة المستخدمة في الوصول إلى التّعميمات الخاصّة بالحياة السّياسيّة. في حين تعني الفلسفة السياسيّة دراسة الأفكار السّياسية، وتأمُّل منظومة قيمها وأبعادها الزّمنيّة.
أمّا مصطلح القصّة فأقصد به النّصوص الإبداعيّة التّخييليّة الحكائيّة التي رصدت علاقة المحكوم بالحاكم وأعوانه، ولن أهتمّ بالقصص الوعظيّة غير التّخييليّة؛ لأنّ الإبداع القصصيّ شرط لتجسيد الإمتاع والإقناع والتّأثير؛ أي أنّ السّياسة في المنجز القصصيّ السّياسيّ، في حدود الحديث الرّاهن، هي التّعبير الأدبيّ الإبداعيّ عن طبيعة الحُكْم وأسلوبه وتجلّياته كلّها في المجتمع العربيّ.
أمّا الشّخصيّة فأقصد بها ما صنعته لغة القاص على هيئة الإنسان القادر على ابتداع الحدث القصصيّ والتّفاعل معه، وتجسيد فكرته. هذه الشخصيّة الفنّيّة التي صنعها القاصّ باللّغة تختلف عن الإنسان في الواقع الخارجيّ الحقيقيّ في أنّها معروضة من جانب واحد ضيِّق مناسب للحدث أو الفكرة التي يرغب القاصّ في التّعبير عنها، وليست معروضة من جوانبها كلّها. أمّا متعلّقاتها، كالاسم والصِّفات الجسديّة والأخلاقيّة، التي تحاكي الإنسان في الواقع الخارجيّ المحيط بالقاصّ وقرّائه فالغرض منها إيهام المتلقّي بأنّه يقرأ شيئاً حقيقيّاً عن إنسان حقيقيّ.
***
من المعروف أنّ هزيمة عام 1967 هزَّت أركان المجتمع العربيّ، وعرَّت السّلطة من هالاتها البطوليّة المزيَّفة، وكشفت عن ثنائيّتها البنيويّة. فهي سلطة قاهرة للمواطن الذي تحكمه، وضعيفة عاجزة عن مواجهة العدو. والمعروف أيضاً أنّ ثورة الأدباء العرب على القمع والتّسلط والسّجن، والمطالبة بحريّة التّعبير والرّأي الآخر وحقوق الإنسان، شرعت تتّضح غبّ هزيمة يونيو نفسها. فقد اتّسع هامش الحرّيّة آنذاك، وسّعته السّلطة العربيّة نفسها، فسمحت بنقدها وتعريتها لامتصاص غضب الشّارع العربيّ، وقد أفاد الكُتَّاب والأدباء من هذا الهامش، فأدانوا الجيش والسّلطة والفساد والقمع والاعتقالات والخلل في مؤسّسات الدّولة وإداراتها. ومن حُسْن حظّ السّلطة العربيّة أن يأتي النّقد هيِّناً ليِّناً غير قادر على أن يزعزع أركانها، بل إنّ الواقع دلَّ على أنّ النّقد جدَّد نشاط السّلطات العربيّة، وأعادها إلى سابق عهدها بعد سنوات قليلة من الهزيمة، إثر إعلانها الفوز في اكتوبر عام 1973على العدو الإسرائيليّ؛ ذلك الفوز السّياسيّ الذي حوّلته السّلطة إلى انتصار عسكريّ، وجعلته ذريعة لإعادة تسلطها على الإنسان العربيّ. قد يُقال هنا إنّ الدّول العربيّة التي شاركت في يونيو وأكتوبر قليلة معدودة معروفة، والحُكْم يصدق عليها وحدَها. وهذا غير صحيح؛ لأنّ الأثر السّلبيّ لهزيمة عام 1967 شمل المنطقة العربيّة كلّها، ولكنّه لم يستطع زحزحة العسكر عن الحكم، ولم يستطع منعهم من الاختباء وراء الهدف الجديد الذي برز بعد الهزيمة، وهو تحرير الأراضي المحتلّة، الفلسطينيّة وغير الفلسطينيّة. ويمكنني القول، بعيداً عن التّفصيلات، إنّ القصّة السّياسيّة العربيّة التي كانت ناشئة آنذاك لم تكن من القوّة، في ستينيّات القرن العشرين، بحيث تواجه السّلطة العربيّة مواجهة مباشرة، فلجأت إلى الرّمز والإيحاء واللّعب بالأساليب الفنّيّة لتهرب من مصادرة السّلطة لها ولصاحبها. ولكنّ عودها الذي بدأ يقوى ويشتدّ بعد ذلك اكتشف أنّ عود السّلطة بدأ يقوى ويشتدّ أيضاً، بل إنّ خبرات السّلطة في القمع والتّنكيل ومعرفة أحوال العباد ارتقت وتعمَّقت بعد توظيفها العِلْم والتّقنيّات الحديثة في تنمية قدراتها الأمنيّة ومحاولاتها القبض على مفاصل الدّولة.
أعتقد أنّ نجيب محفوظ قدَّم في قصّة (الخوف)(1) التي كتبها عام 1962 بواكبر الشّخصيّات الرّمزيّة ممثَّلةً في شخصيّة (عثمان جلالي)، التي انتقد فيها السّلوك التّسلُّطيّ للرّئيس جمال عبد النّاصر. ويُقال(2) إنّه عكس حرفي اسم عبد النّاصر حين سمَّى شخصيّة قصّته (عثمان جلالي)؛ ليهرب من المساءلة. ولكنّه أنكر ذلك، وصرَّح لفؤاد دوّارة(3) بعد ذلك بسنوات طويلة بأنّ ثورة عبد النّاصر لم تفد الأدب في رأيه. وليس إنكار نجيب محفوظ بالشّيء الغريب في بدايات ستينيّات القرن العشرين؛ لأنّه كان يعرف، كما يعرف غيره، أنّ نقد رأس الهرم السّياسيّ سيقوده إلى السّجن. وللسّبب نفسه لم يستطع فاضل السّباعي بعد نجيب محفوظ طباعة مجموعته (حزن حتّى الموت)(4) في دمشق؛ لأنّه انتقد فيها السّلطة السّوريّة، فطبعها في بيروت. لنبدأ من مثال فاضل السّباعيّ الذي طُبع أربع مرّات، وتُرجِم إلى اللّغة الفرنسيّة.
القصص في مجموعة (حزن حتّى الموت) قصص سياسيّة، كان فاضل السّباعي قبل إبداعها يكتب القصص الواقعيّة، ولكنّه ابتداءً منها تحوَّل من المعالجة الواقعيّة الاجتماعيّة إلى المعالجة السّياسيّة لقضايا الإنسان العربيّ، وأبرزها فقدان الحرّيّة. وقد اتّخذ الرّمز وسيلة فنّيّة لإيصال قصصه إلى المتلقّي. والملاحظ، ضمن هذا الرّمز، أنّه غيَّب الملامح الخارجيّة للشّخصيّات، بحيث أصبحت عامّة غير محدَّدة. وبرزت في أشكالها العامّة معاناة الشّخصيّات من الظّلم. نحن لا نقرأ في قصص (حزن حتّى الموت) وصفاً لأية شخصيّة، ولا نعرف شيئاً عن أحوالها الأسريّة، كما نجهل تاريخها وعلاقاتها بالآخرين، إنّما نعرف عنها شيئاً واحداً ليس غير، هو أنّ القهر السّياسيّ أعاق حياتها، ومسح ملامحها الخارجيّة، فبقيت الدِّلالة على كيانها مقتصرة على حرف واحد، هو الحرف (س) بالنّسبة إلى بطل قصّتين منها، هما: (يقظة بعد سبات طويل/ لا ضير فليغرق العالم)، و(ج) بالنّسبة إلى قصّة (الصّورة والاسم)، و(ع) بالنّسبة إلى قصّة (قاطف الزّهرات اليابسات)، و(م) بالنّسبة إلى قصّة (العينان في الأفق الشّرقيّ)… هذه الشّخصيّات لا تعرف، في القصص كلّها، ما تريده السّلطة منها، ولذلك نراها دهشة حين يعترضها رجال السّلطة، وكأنّ هذا الاعتراض مصادفة، أو هي تدرك أنّها تعارض السّلطة، وتعرف أسباب هذه المعارضة، ولكنّها لا تعرف الطريقة الملائمة للهرب من المطاردة والتّحقيق والتّعذيب. والسّلطة في القصص كلّها واعية بأنّها تريد إخضاع الشّخصيّات لسلطانها. وقد نشأ عن التّباين بين الشّخصيّات والسّلطة ثنائيّة ضدّيّة، أنتجت أحداثاً صادمة غريبة مفاجئة، تعمَّد السّباعي جَعْلَها على هذه الصّورة بغية تضخيم أسلوب الدّولة في إخضاع الشّخصيّات، حتّى إنّه وصل إلى حدود رَسْم صور قصصيّة كاريكاتوريّة للشّخصيّات البريئة حين تقع في شرك من الأشراك التي أعدّتها السّلطة لها.
إذا أهملنا دلالة قصص (حزن حتى الموت)، لاحظنا عناية فاضل السباعي بالبناء الفنّيّ التّعبيريّ التّرميزيّ. فالشّخصيّة، وهي موضع اهتمامنا، لا تحمل اسماً كما هي الحال في القصّة الواقعيّة، بل تحمل حرفاً، فهي سين أو جيم أو حاء، رغبة من فاضل السباعي في تعميم دلالة الشّخصيّة المقهورة على كلّ إنسان، وإنْ كان السّياق القصصيّ يُوحي دائماً بأنّ الشّخصيّة عربيّة. من ذلك أنّ إحدى الشّخصيّات هي شخصيّة كاتب انتقد السّلطة، فتعرّض نتيجة ذلك لقطع يده اليمنى لأنّه كتب بها شيئاً لم يُرض السّلطة، فكتب نقده بيده اليسرى فقُطِعتْ، فبرجله اليمنى فقُطِعتْ ، فبرجله اليسرى فقُطِعتْ، وهكذا قُطِعتْ أشلاؤه شلواً بعد شلو في نوعٍ من الدّلالة الرّمزيّة التّعبيريّة على إصرار السّلطة العربيّة على منع الكاتب من انتقادها، وعلى إصرار الكاتب في الوقت نفسه على أن يستمرّ في نقد هذه السّلطة. والأمر قريب من ذلك بالنّسبة إلى الموظَّف في قصّة (العينان في الأفق الشرقي). فقد رأى في الشّارع شخصاً تبيعه السّلطة بالمزاد لأنّه تثاءب، فرغب في شرائه ليتركه يتثاءب بحريّة، وما إن فكّر في ذلك حتّى قبض رجال السّلطة عليه وساقوه إلى السّجن، في دلالة رمزيّة لا تخفى على أحد، هي أنّ السّلطة تراقب النّاس وتعرف ما يفكِّرون فيه، فتحاسبهم على حركاتهم وسكناتهم، ولو كانت تثاؤباً، أو تفكيراً في التّثاؤب. ولكنْ، من هي السّلطة التي ينتقدها فاضل السّباعيّ؟. ومن هي الشّخصيّات التي يرمز إليها بالحروف؟. يوحي السّياق بأنّها سلطة وشخصيّات عربيّة، ولكنّ السّياق نفسه لا يُصرِّح تصريحاً مباشراً واضحاً محدَّداً بذلك، خوفاً من المساءلة، أو انصياعاً للحاجات الفنّيّة للتّرميز القصصيّ.
هناك قاصّ آخر، هو زكريا تامر، (كلّ قصّة من قصصه ذات مدلول سياسيّ)(5)، لجأ إلى الرّمز التّعبيريّ الذي يشير إلى شيء محدَّد، أو يُعبِّر عن حال عامّة، ولكنّه لم يستعمل الحرف في الدّلالة على شخصيّته القصصيّة، بل راح يُعيد إحياء التّراث العربيّ الذي قدَّم في (كليلة ودمنة) و(الأسد والغوّاص) تعبيراً رمزيّاً بوساطة الحيوانات. وأضاف زكريا تامر إلى هذا التّراث استدعاء رجالات الأمّة العربيّة الذين حقّقوا انتصارات معروفة في التّراث العربيّ، كخالد بن الوليد، وصلاح الدّين الأيوبيّ وغيرهما، ووضعهم في مواقف معاصرة مغايرة لتاريخهم، وجعلهم يخفقون في تحقيق أيّ انتصار فيها. من ذلك ما فعله في مجموعة (قالت الوردة للسّنونو)(6) في القصّة المعنونة بـ(الحمار المحترم). إذ إن الحمار رغب يوماً في أن يُصبح محترماً. نظر في الشّارع فرأى النّاس يعاملون الشّرطيّ باحترام؛ لأنّه يحمل في يده عصاً يُخيفهم بها، فظنّ الحمار أنّ العصا تُكْسِب صاحبها احترام النّاس. ولذلك راح يسير في الشّارع مستخدماً قوّته، يضرب هذا، ويرفس ذاك، فقُبِض عليه واقتيد إلى السّجن، وهناك تعلَّم أنّ القوّة لا تُكسب احتراماً. هل هذه أمثولة مقدَّمة للأطفال؟. أعتقد ذلك، ولكنّني أعتقد أيضاً أنّ زكريا تامر رمز بشخصيّة الشّرطيّ إلى السّلطة التي تستعمل العصا؛ أي القوّة؛ لاعتقادها أنّ النّاس يخافون منها ما دامت تهدِّدهم بها. ولم تكن شخصيّة الحمار غير وسيلة فنّيّة تراثيّة لنقد الحاضر السّياسيّ، أعاد زكريا تامر إحياءها ليقول بوساطتها إنّ الغبي هو الذي يُقلِّد السّلطة في الإيمان بالقوّة؛ لأنّ القوّة لا تُكسب الإنسان، ولا السّلطة، ولا الحيوان، احتراماً. واختيار زكريا تامر شخصيّة الحمار لا تختلف عن اختياره شخصيّة ( سليمان الحلبي) في قصة (الجريمة)، ضمن مجموعة (ربيع في الرماد)(7). فسليمان الحلبي، كما تقول سيرته في الواقع الحقيقيّ التّاريخيّ، رجل وطنيّ من عفرين (حلب- سورية) ذهب إلى القاهرة واغتال مهندس الحملة الفرنسيّة الجنرال كليبر عام 1800، فقبض الفرنسيّون عليه وأعدموه. ولكنّ زكريا تامر لم يتحدَّث عن سليمان الحلبي على أنّه بطل قوميّ كما تنصّ سيرته في الواقع الخارجيّ الحقيقيّ، إنّما استدعاه من القرن التّاسع عشر ليجعل رجال الأمن يقبضون عليه قبل أن يغتال كليبر. وتركهم يحاكمونه أوّل الأمر، ويأتون بأبيه وأمّه وأخته ليشهدوا أنّه سيقتل كليبر، في نوع من الإيحاء الرّمزيّ بتنصُّل الأهل من بعضهم بعضاً قبل الإقدام على الفعل تجسيداً لرغبة السّلطة. ثمّ تُقدِّم السّلطة نفسها أسباب المحاكمة، وهي أنّ سليمان حلم بقتل كليبر، وتطلّع في السّاعة الحادية عشرة وثلاث دقائق إلى القمر وقال في نفسه: القمر سعيد لأنّه لا يعيش في مدينة حاكمها كليبر، وأنّه في الحادي عشر من مارس، في السّاعة الثّامنة صباحاً فتح أبواب الأقفاص، وأطلق عصافيره. وهكذا لجأ زكريا تامر إلى الرّمز ليدلَّ على معرفة رجال الأمن بدقائق حياة سليمان الحلبي وتفكيره، وليحكموا عليه بعد ذلك بتقطيع أوصاله ورأسه. ومن ثَمَّ بدت شخصيّة هذا البطل القوميّ الإيجابيّ شخصيّة مدانة من السّلطة التي تعتنق وجهة نظر المستعمِر، وتحكم بأهوائها، فضلاً عن قدرتها على مراقبة النّاس، ومعرفتها حركاتهم وسكناتهم. وهذا ما جعل سليمان الحلبي الحقيقيّ وسيلة فنّيّة لمحاكمة التّاريخ والحكم عليه من منظور السّلطة الجائرة.
إنّ الشّخصيّة في المنجز القصصيّ السّياسيّ لا تخلق الحدث، ولا تُحرِّكه، ولا تتفاعل معه، بل تجد نفسها في أتونه. والحدث غالباً هو اللّقاء بين الشّخصيّة البريئة والسّلطة القاهرة، والهدف الفنّي من هذا اللّقاء بين الأضداد هو الكشف عن قدرة السّلطة على معرفة دقائق حياة الشّخصيّات، وقد جسَّدت هذا الهدف شخصيّات قصصيّة لم تكن مطيعة للسلطة، فعاقبتها هذه السّلطة. وكان اللّقاء ينتهي دائماً ببقاء التباين بين السّلطة والشّخصيّات، في نوع من الإيحاء للمتلقّي بألا يقبل سلطة بلاده، وهو إيحاء لا يمكن تعميمه.
هذا كلّه يمكن فهمه من خلال الشّخصيّة القصصيّة ذات الرّمز التّعبيري، ولكنّ الشّخصيّة نفسها تتجلّى في المنجز القصصيّ السّياسيّ تجلياً رمزياً مختلفاً في الحكاية الواقعيّة، كما هي الحال في قصّة (أشرعة بيضاء)(8) لإياد جميل محفوظ التي تسرد حكاية مُخْبِر من المخبرين، أوقع أصدقاءه وغيرهم في قبضة السّلطة بحجة حماية الوطن منهم والدّفاع عنه. لم تطرح الحكاية الأمور طرحاً مباشراً، إنّما لجأت إلى الرّمز الموحي بالأفعال والعبارات. ففعل (أخبرتُهم) يرمز إلى كتابة الشّخصيّة تقريراً للسّلطة، وعبارة (لم يعد يُصلّي في الكلّيّة. لم يعد يظهر فيها) ترمز إلى اعتقال الطّالب، وعبارة (كافأني المارد) ترمز إلى عطايا السّلطة لشخصيّة المخبر. هكذا تترى مجموعة من الرّموز الصّغيرة الشّفيفة التي لا تسمح باختلافات كبيرة بين المتلقّين في أثناء تأويلها وتحديد المراد منها. إذ إنّ المتلقّي سرعان ما يفهم أنّ الشّخصيّة التي تُقدِّم نفسها في الحكاية بضمير المتكلِّم هي شخصيّة مُخْبِر لدى السّلطة، يترجَّح بين النّدم على أفعاله وعدم قدرته على الانفصال عن السّلطة. ويبقى على هذه الحال من التّرجُّح وعدم القدرة على النّوم ليلاً إلى أن تقتله الحبوب المهدِّئة التي يتناولها. والقاصّ إياد محفوظ يتابع الرّمز القابل للتّأويل في قصّة أخرى عنوانها (أقبية بلا حدود)(9). يتحدَّث فيها سجين إلى زميله في الزّنزانة عن الأمور التي استجدّت في البلد، فيخاف زميله، ويطلب من المتكلِّم السّكوت لئلا يسمع رجال الأمن كلامهما. ولعلّ الإيحاء الرّمزيّ في القصّة يكمن في أنّ شخصيّة السّجين تماهت بسجنها، فأبقت نفسها في دائرة الخوف من السّلطة على الرّغم من أنّ هذه السّلطة وضعتها في السّجن، ولن تفعل شيئاً آخر معها. كذلك الأمر بالنّسبة إلى (آدم) في قصّة (بين طابقين)(10). فهو ينتمي إلى (الطّابق العلويّ)، ولكنّه نزل إلى (الطّابق السّفليّ) ليخالط الناس الذين يعيشون فيه، فإذا بهذه المخالطة تجعله يترجَّح بين الطّابقين. قد يرمز الطّابق العلويّ إلى السّلطة، والسّفليّ إلى الشّعب. وقد يرمز الطّابقان إلى شيئين آخرين، فالرّمز غير شفيف، وهو، عادة، حمّال أوجه. ولكنّ القاصّ إياد محفوظ قدَّم إشارات تُعين المتلقّي على متابعة شخصيّته في القصّة في أثناء ترجُّحها بين الانتماء إلى السّلطة والانتماء إلى الشّعب، وكان حريصاً على أن يُبقي شخصيّته مترجِّحة، راغبة في الانتماء إلى الطّابق العلويّ على الرّغم من عواطفها الميّالة إلى الطابق السّفليّ.
هناك تنويعات في المنجز القصصيّ السّياسيّ نعثر عليها في القصص السّاخرة والقصص القصيرة جدّاً، سأشير إليها بإيجاز. أمّا القصص السّاخرة فيهمّني منها اللّجوء إلى نوع من الواقعيّة الطّبيعيّة التي تُسجِّل الجزئيّات والتّفصيلات الحياتيّة الحقيقيّة، وتسعى إلى الإحاطة بها، بغية تقديم النّقد السّياسيّ المباشر. هذا ما فعله خطيب بدلة وعلي المعمَّريّ. فقد عُني خطيب بدلة بهذا اللّون القصصيّ السّياسيّ السّاخر حتّى عُرِف به. من ذلك ما قاله في قصّته (احترامي سيّدي المواطن) التي جعلها عنواناً للمجموعة كلّها(11): (كان السّادة الذين يركبون السّيّارات التي يدفع المواطن تكاليفها الباهظة يعتقدون أنّ المزارعين والتّجّار والباعة وأصحاب المشاغل الإنتاجية الصّغيرة هم الذين يستغلّون المواطن ويرفعون في وجهه الأسعار، وكانوا على وشك أن يصادروا أعمالهم وأموالهم وبضائعهم، ويشمِّعوا محلاتهم بالشّمع الأحمر، ولكنّ الأخيرين أفهموهم، على فنجان قهوة، وكم ورقة نقديّة مدسوسة تحت الفنجان، أن القصة أكبر من هيك…)(12). يمكن أن يُقال مثل ذلك عن الفقرة الآتية من قصّة (جمهوريّة ثغ) لعلي المعمري: (يُحكَى أنّه في حديث الزّمان عابرة التقطت هذا الحوار لبغل أسَّس منظَّمة ثوريّة بهدف تخليص البلاد من سيطرة الأحصنة وانتهاكاتهم لعرض أمّه وسلالة بقيّة إناث الحمير، فقرَّر أن يُناضل مع الذين وُلِدوا سفاحاً، وكان طريق الكفاح المسلَّح شاقّاً وقاسياً بالنّسبة لجنس البغال…)(13). إنّ لغة القصص السّاخرة وشخصيّاتها لا تختلفان، في الغالب الأعمّ، عمّا ورد في الفقرتين السّابقتين. فاللّغة فصيحة قريبة جدّاً من لغة الصّحافة والحياة اليوميّة، والشّخصيّة هي السّارد العالم بتفصيلات الحياة المعيشيّة التي تستغلّها السّلطة لمصلحتها الخاصّة. وميزة القصص السّاخرة هي تقديمها ذلك الضَّحك الأسود عمّا يجري للنّاس البسطاء الفقراء من قهر واستغلال.
أمّا القصّة القصيرة جدّاً فقد تلقَّفت المهمّة السّياسيّة من القصّة القصيرة في بداية هذا القرن، وراحت بقدرتها على التّكثيف اللّغويّ، والعناية بالمفارقة، واختزال الشّخصيّة إلى حدود الفعل، تنتقد السّلطة العربيّة على نحوٍ أكثر جرأة. فمجموعة (حفاة)(14) لطاهر الزّارعيّ، ومجموعة (سيرة الخوف)(15) للخطّاب المزروعي، ورثتا مجموعة فاضل السّباعي (حزن حتّى الموت) فلم تسمّيا الشّخصيّات، شأنهما في ذلك شأن قصّة (آفاق) لمهنّد العزب في مجموعة (صولو)(16). فقد عكس العزب في هذه القصّة السّائد في مواجهة السّلطة، فجعل السّجّان سجيناً، والسّجين سجّاناً. السّجّان ينظر (إلى السّجين من كوّة الباب. أمّا السّجين فيملأ عينيه بالنّظر من شرخٍ في الجدار إلى الأفق الرَّحب). ولجأت أميمة النّاصر في قصّة (مؤامرة)(17) إلى عكس السّائد أيضاً، فجعلت المرأة تدعو الرّجل إلى دخول منزلها، وحين دخل أرداه الجنود (وابتسموا في وجه المرأة التي كانت تُسرِّح شعرها). وقد سمع السّارد في قصّة (الأفضل) للخطّاب المزروعي السّؤال الآتي: أيُّهما الأفضل: جمال عبد النّاصر أو السّيسي. فلم يأبه بالسّؤال؛ لأنّ اسم التّفضيل (الأفضل) ذكَّره بالأفضل معجون التبغ. وكان التّداعي، بين الأفضل والأفضل، الذي قدَّمته القصّة تعبيراً خاطفاً عن اللامبالاة بالقادة السّياسيين القدامى والمحدثين. ويمكنني القول، على سبيل التّعميم، إنّ القصّة القصيرة جدّاً السّياسيّة اعتمدت مبدأ عدم تسمية شخصيّاتها، متستِّرةً وراء مفاهيم الاختزال والتّكثيف والتّركيز على الحدث والمفارقة بدلاً من توضيح جانبٍ من جوانب الشّخصيّة. وإذا كان عدم تسمية الشّخصيّات جَعَل القصّة القصيرة جدّاً تخسر بعض التّحديد، فإنّه زاد نسبة التّعميم السّياسيّ فيها، وحفز بعض كُتَّابها إلى التّركيز على حدث مواجهة السّلطة، وإنْ لم يتخلّوا عن مواجهة الخلل في المجتمع، وخصوصاً الخلل المرتبط بحال المرأة.
***
وبعد، فقد جابهت الشّخصيّات في المنجز القصصيّ السّياسيّ السّلطة مكتفيةً بالإيحاء الرّمزيّ بأنّها ظالمة قاهرة مستبدّة، وكأنّها كانت تدعو بشكل غير مباشر إلى سلطة ديمقراطيّة يعيش النّاس فيها بحرّيّة، ويتمتَّعون بالكرامة الإنسانيّة. وهذه هي الحدود التي تقف الشّخصيّة القصصيّة عندها، ولا تجاوزها إلى تحديد ماهيّة السّلطة بدلاً من تعميم شخصيّتها الاعتباريّة التي تمسّ كلّ سلطة ولا تحدِّد سلطة معيَّنة، أو تُحدِّد المكان والزّمان القصصيّين بدلاً من تجريدهما، هرباً من التّخصيص الذي يقود إلى المساءلة.
أعتقد، أيضاً، أنّ القاصّين العرب لم يتّعظوا من إخفاق تجاربهم في زعزعة السّلطة في ثمانينيّات القرن العشرين وتسعينيّاته، أو قيادتها إلى سياسة حكيمة عمادها الحرّيّة وحقوق الإنسان. وليس السّبب في ذلك أنّ صوت منجزهم القصصيّ السّياسيّ كان ضعيفاً، ولكنّ السّبب هو أنّ بنية السّلطة كانت من الصَّوَّان، بحيث تكسرت عليها الرّموز الشَّفيفة وغير الشّفيفة، والتّفصيلات القصصيّة السّاخرة وغير السَّاخرة. أو قُلْ إنّ السّلطة العربيّة لم تكترث بالنّقد الرّمزيّ مادام بعيداً عن تسميتها، وعن الإشارة إليها مباشرة. وعلى الرّغم من أنّ الاقتراب الرّوائيّ العربيّ كان أكثر غزارة وتفصيلاً وإيلاماً للسّلطة بتقديمه ما أصبح يُعرَف في الدّراسات النّقديّة بروايات السّجن السّياسي(18)، فإنّ الاقتراب الرّمزيّ التّعبيريّ بقي العلامة البارزة للمنجز القصصيّ السّياسيّ العربيّ. ويُخيَّل إليَّ أنّ القصّة القصيرة جدّاً التي ازدهرت في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كانت أكثر بلاغة في أثناء اقترابها من قضايا السّياسة، وفي أثناء ترسيخها الرّمز على أنّه الوسيلة الفضلى في نقد العلاقة السّياسيّة الشّائكة داخل المجتمع العربيّ. يُضاف إلى ذلك كلّه أنّ المرء يدعو لعبد اللّه العروي بالخير؛ لأنّه طرح في وقت مبكِّر من حياته الفكريّة مسألة (هويّة الحاكم)، دون أن يسمعه أحد؛ لأنّ العرب كانوا في خمسينيّات القرن العشرين وستينياته مشغولين بالدّعوة إلى التّحرُّر من التّبعيّة للغرب، فقبلوا حُكْم العسكر دون أن يفكِّروا بأبعاد هذا القبول وتبعاته. وللسّبب نفسه يتساءل بعض المفكِّرين العرب الآن عمّا إذا كان الحاضر، حاضر الثّورات العربيّة، الذي يُهدَّم بكلّ هذا العنف والقسوة، قادراً على أن يُحرِّرنا من أغلال التّقديس للبطل والعسكر والغرب.
——————————————
المصادر والمراجع:
1. نجيب محفوظ: بيت سيِّئ السمعة، القاهرة 1965
2. سماح إدريس (د): المثقف العربي والسلطة، دار الآداب، بيروت، 1992، ص 42
3. فؤاد دوّارة: نجيب محفوظ من القومية إلى العالمية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1989، ص 243
4. فاضل السباعي: حزن حتى الموت، الأهلية للنشر والتوزيع، بيروت، 1975.
5. عبد الرحمن مجيد الربيعي: الشاطئ الآخر، قراءة في كتاب القصة العربية، الدار العربية للكتاب، ليبيا/ تونس، 1983، ص 167
6. زكريا تامر: قالت الوردة للسنونو، اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1977
7. زكريا تامر: ربيع في الرماد، منشورات مكتبة النوري، دمشق 1973
8. إياد جميل محفوظ: مجموعة: ينابيع الحياة، دار نون، حلب 2007
9. إياد جميل محفوظ: مجموعة: مفترق المطر، منشورات ضفاف، الرياض/ بيروت 2012
10. المصدر السابق، ص 19 وما بعد
11. خطيب بدلة: احترامي سيدي المواطن، نون 4 للنشر والطباعة والتوزيع، حلب، 2009
12. المصدر السابق، ص 9
13. علي المعمري: قصة (جمهورية ثغ)، ضمن مجموعة: أسفار دملج الوهم، المركز الثقافي العربي، بيروت/ الدار البيضاء، 1997، ص 34
14. طاهر الزارعي: حفاة، دار الوطن، الرباط، ط2/2012 (صدرت الطبعة الأولى عام 2009)
15. الخطّاب المزروعي: سيرة الخوف، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت 2014
16. مهند العزب: صولو، دار فضاءات، عمَّان 2012
17. أميمة الناصر: صور الموت، مجلة الإمارات الثقافية، أبو ظبي، ع 34، حزيران/ يونيو، 2015
18. انظر حول هذا الموضوع:
– نزيه أبو نضال: أدب السجون، دار الحداثة، بيروت 1981
– سمر روحي الفيصل (د): السجن السياسي في الرواية العربية، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1983 (صدرت الطبعة الثانية عام 1994 عن دار جروس برس، طرابلس/ لبنان)
- طه وادي (د): الرواية السياسية، دار النشر للجامعات المصرية، القاهرة 1996
11
د. سمر روحي الفيصل
* نشر بجريدة الوطن