1- النيرفانا الشعرية:
يتطهّر الحرف وتغتسل القصيدة بماء الروح حتى يصل الشعر إلى درجة "النيرفانا" التي يتعالى فيها الشعر على الجسد. يتخلّى الحرف عن شبق الرغبة الجسدية بعد أنّ يمرّ عبر تجربتيه: الإنسانية والشعرية بمراحل يترقّى فيها حتى يصل إلى ملكوتات الجمال متخلِّيًا عن اللذّة الأرضية، متساميًا إلى جوهر المعنى. ويكون الألم والحرمان– وأعني بهما التخلِّي الحر عن التعالقات المادية والشهوانية – دافعين لهذا الترقي، وكأنهما المعراج الذي يرتكز عليه الشاعر في خطابه الأدبي، ومن ثَمَّ تُشاهد الحقيقة المطلقةُ في عالم الكليّات المجرَّد عبر البنيّة الشعرية.
إذن، يعيش الشاعر صراعًا بين المادة والروح، وينتج عن هذا الصراع توترٌ في علاقة الشاعر بالجسد، والذي يمثَل الشهوةَ بكافة مستوياتِها، وبين الروح التي تتسامى على مطالب الجسد و "يرى فرويد أنّ الصراع هو أساس الإبداع الفني. والفن هو تحرير للطاقة الغريزية المكبوتة – لا شعوريا عن طريق الرمز." أي اللغة التي تتخلّص بدورها وتتحررُ من طينيَّة الشهوة إلى مداركِ النَّفسِ العُليا.
فالفنُ من وجهة نظر (فرويد) يمثل حالةً من الخلاص والتطهير، بأنْ ينتزع المبدعُ ذاتَه من عالم المحسوسات إلى عالم الجمال المطلق، ولن يتأتّى ذلك إلا عن طريق ما أسماه (فرويد) بــالإعلاء sublimation وهو عملية تحويل الدافعِ الجنسي (الايروسي) عن هدفه المباشر نحو أهداف أكثر سموا وملاءمة للقيم والمُثل العليا للمجتمع. ومن ثَمَّة فإنها بعد الإعلاء تصبح مجردةً من سَمْتِها الجنسي. إذن، تظلّ الرغبة موجودةً ولكنها منشطرةٌ بين يرغب عن، ويرغب في. فالفنانون أو المبدعون على الصعيد الحضاري بشكلٍ عام إنَّما هم أناس استطاعوا أن يكرّسوا أنفسَهم للعملية الإبداعيَّة متجاوزين – ولو بصورة مؤقتةٍ – إشباعَ دوافعهم الغريزية إشباعًا تاما. وهذه حقيقةٌ لم يكتشفْهَا (فرويد) بل أدركها (هوارس) قبله بمئات السنين ووجدت أصداؤها القويةُ في بعض المذاهب الدينية، فيقول: "عندما يريد الإنسان أن يعتلي قمةَ الشِّعر الشمّاءِ فلا مناصَ أمامه من المعاناة والارتعاد وتصببِ العرقِ وحرمانِ نفسِه من الحبِّ والخمر. وعندما يصل الشاعر إلى تلك المرحلة؛ يكون على مشارف الفناء، ففناؤه ليس فناءً تاما، فبقاء الروح في الجسد يؤجج نيرانَ الصّراع ويزيدُ من حدة التَّوتُّر، فليس من السهل أن نصفَ شاعرا بالفناء الكاملِ، إلا إذا كان شعرُه ينم عن حاله، كالحلاج، والسهروردي، والنفري، وابن سبعين، وابن أبي الخير، فهؤلاء شعرهم كان مرايا أحوالِهم مع الله، وتقلّبِهم على جمر المحبّة الإلهية.
فديوان " أنشودة للعذوبة" للشاعر البيومي محمد عوض، يقف بنا في مرحلة وسطى بين الروح ونزوعها إلى الملكوتِ الأسمَى، وبين الجسدِ وانغراسِه في عالمِ المحسوسات، فالديوانُ في كليّته يمثِّل للقارئ حالةً الصراع التي يتغيَّا الشاعر من ورائها الخلاصَ والتطهّرَ من طينيَّته باحثًا عن النُّور معتصرا غيمةَ الجمالِ بغيّةَ استمطارها شعرًا يتقافزُ على جسدِ القصيدةِ، فنراه يقول:
ارجعي لي
إنّ النبيّ غوى!
فاستنقذيهِ
من ورطة الجاهليّة
ارجعي لي
أرجوك..
إنيّ سئمت الموتَ خزيا..
في اللحظة السّامريةْ
ارجعي لي
يا نخلةَ المسك صُبّي
خمرة الله..
في الكؤوس النّبيّةْ!
تتوسط مفردةُ الموتِ المقطوعةَ الشعريّةَ السَّابقةَ، ومن حولها ينسجُ الشاعرُ خيوطَه؛ ليكتملَ بناؤه الشِّعريُّ لهذا المشهدِ. فالذات منشطرةٌ بين الغوايةِ وبين الهدايةِ، ومن أرض الرَّهبَة، ومن طور تجلي الروحِ، وعن طريق أسلوب الأمرِ – الذي خرجَ بلاغيّاً من معناه الأصلي، إلى معنى آخر وهو الاستعطافُ – ينادي الشاعر محبوبَه ويناجيه طالبًا منه العودةَ والرجوعَ إليه؛ بغيةَ استنقاذه من غوايةِ السّامريِّ قبل مداهمة الموت. فالذاتُ ومن خلال استقراءِ الديوانِ كاملاً- تتقلبُ بين الهدايةِ والتي يمثلُها موسى النبيِّ وهو يتلقّف النورَ فوق الطورِ، وبين الغوايةِ والتي يمثِّلُها موسى السامريُّ، وهذا ما يؤكدُ أنَّ الديوانَ لحمةٌ واحدةٌ تشكّلتْ وفقَ معاناةِ الذَّات وتجربتِها الخاصة، ففي المقطع الثامن السابق لمقطع السامريّ بمقطع واحدٍ يقول الشاعر:
فَصِلِينِي بالوعد..
إن عزَّ قربٌ!
واسمحي للكليم
يغسل نارك!
إذ انسربَ النورُ الموساويُّ بوسم الكليمِ في المقطع الثامنِ، بينما تفلّتَتِ الغوايةُ السامريةُ في المقطع العاشر، وهذا يدل على ما أشرتُ إليه سابقا- أن الذَّات لم تصل بعد إلى مرحلة الفناءِ الكليِّ، ولكنّها على درب الوصولِ، فمازالت الروحُ في الجسدِ فالصراعُ قائمٌ بين الغواية والهدايةِ. والشاعرَ عبر توظيفِه الشعريِّ يَنْمَحِي في مقام النبوّة بوسمه المشكاةَ التي تتدلى منها أنوارُ المحبوب. ومن اللافت للنظر في المقطع الثامن، أنّ أول مفردةٍ فيه [باركيني]، وينتهي البيتُ الأول بمفردة [المبارك]، ثم تتوسط الأبيات مفردةُ [التجلّي]، وينتهي البيتُ الثالثُ بــ [نارك] والتي تسبقها بكلمة مفردةُ الكليمِ، وهذه المفرداتُ في كليّتها تتناص مع قولِ الله تعالى في سورة النمل (فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) فيستدخلُ الشاعرُ النصَّ القرآنيَّ متماهيًا معه، إذ النصُّ القرآنيُّ يحمل المكنونَ النفسيَّ للشاعر، ولم يرَ الشاعرُ أبلغَ من النصِّ القرآنيِّ؛ ليستضيءَ به تعبيرًا عمَّا يدور في خَلَدِه من مكنوناتٍ شعوريةٍ لم تسعفْه اللغةُ في التعبيرِ عنها فاستند على النصِّ القرآنيِّ، وهنا تبزغ جماليةُ اللغةِ الشعريَّةِ، إذ استطاع الشاعر من خلال هذا التناصِ مع النص القرآني أن يُضفي على اللغةِ الشعريةِ جلالاً، بينما كانت اللغةُ متوغّلةً في عوالمِ الجمالِ مستغرقةً فيه لدرجةٍ كاد أنْ يضلّ فيها التأويلُ عن قصدِ الذاتِ، لولا دخولُ النصِّ القرآنيِّ الذي حدد مسارَ التأويلِ، وهدَّأ من سرعته؛ فاستدعاءُ المقامِ الموساويِّ بتمثلاتِه المختلفةِ وتصوراتِه الرئويةِ في النص الشعري، قادرٌ على إرباكِ المتلقي وحدوث حالةٍ من التّيه في هرمنيوطيقا التأويل، خاصة، عندما توحّدَ الشاعرَ وفق نسقِ القصيدةِ مع "الكليم"، حيث انتصفت المفردةُ بين دلالتين: الأولى أن يكونَ (الكليم) هو موسى عليه السلام، نظرا لاستدعاء مفردةِ "النبوّة"، ثم استدخلت الذاتُ الشَّاعرةُ نفسَهَا في نسقِ الهدايةِ حولَ نار التعشّقِ بوصفها رمزاً قرآنيًا له دلالاتُه المتعددةُ بين ظاهر النصِّ، وباطنيةَ التأويلِ، فدالُ (النار) يشير إلى مقامِ (الحيرة) فقد اهتدى بها وإليها موسى – عليه السلام – بعد حيرةٍ وتشتتٍ إذ ضلَّ الطريقَ، فتراءات له النارُ، ويكأنها نارٌ، ولما دنا منها غابَ فيها، وجاءه النداء السماويُّ فاهتدى، فالذاتُ الشاعرةُ هنا واقعةٌ في مقام (الحيرة) هي الأخرى، وتتنسّمُ أنفاسَ الهدايةِ في الكون باحثةً عن ماهيتها الضائعةِ، وكأنّها تفتّشُ هي الأخرى عن نيرانِ هدايتها، ومن هنا حدث التماسُ بين الحيرتين، مع انتفاء الشبه - ولو بقدرٍ بسيطٍ - بين حيرةِ شاعرٍ يبحثُ عن الجمالِ، وبين حيرةِ نبيٍّ يهتدي بأنوارِ الجلال، وهذا الانتفاءُ سيميائيا، لا يمنع القارئ حال التأويل ووفقَ نسق القصيدةِ الكليِّ أن يستحضر الحيرتين، فالعلاقةُ (الأيقونية) وفقَ منظورِ (بيرس) لا تمنع من التقاء الطرفين مع انتفاءِ الجامعِ التشبيهيّ بينهما، فالتشبيه الأيقونيُّ في هذا النص لا يعني - ولو بقدر بسيط - أنّ حيرةَ الذات هنا تشبه حيرةَ النبيّ وهو يبحث عن أنوارِ محبوبِه في نيرانِ المكاشفةِ. أمّا الدلالةُ الثانيةُ، التي تتحمّلها مفردةُ "الكليم" في النص، أنّ الكليمَ هنا الشاعرُ نفسُه، حيث أضفت الذاتُ الشاعرة نوعًا من التقديسِ عليها، فهي الأخرى تواجه الحيرةَ وتتقلبُّ بين الغوايةِ والهدايةِ، فالذاتُ في حالة تسامٍ تسمح لها برؤيةِ كلِّ من الكونِ مقدَّساً، لأنّه صنيعُ الله. وبناءً على ما كان، وقعت هاتان المقطوعتان الشعريَّتان بين جلالِ التناصِ وجمالِ التوظيفِ الشعريِّ.
تتمثّلُ النيرفانا الشعرية في ديوان " أنشودة للعذوبة" للبيومي محمد عوض، وتتوزّعُ على مستويين: الجسديِّ، والروحيِّ، واستنادًا على ما قاله (فرويد) أنّ الفنَّ حالةٌ من التطهيرِ والترقي من عالمِ الشهوةِ إلى عالم الروحِ، وعن طريق ما أسماه فرويد بــ (الإعلاء) يضحي الإنسانُ بمبدأ اللذةِ، أو يتقبّل الحرمانّ الحسيَّ لحساب الإبداعِ الذهنيِّ والحضاريِّ. وهذه الفكرةُ تقودنا بالضرورة- إلى استحضارِ فكرةِ ازدواجيةِ الحياةِ الإنسانيةِ بوصفها مركّبًا متناقضًا من "جسد" و"روح" فتكريسُ السلوكِ باتجاه أحد الطرفين يقودُ إلى طمسِ نصيبِ الطرفِ الآخر. وبناءً على ما قاله (فرويد) يكونُ ديوانُ "أنشودة للعذوبة" خلاصًا وتطهيرًا من المادة الأرضيةِ وتعالقاتِها، فعندما يقول البيومي عوض:
لا أريدُ!
الإغراء حولي كثيرٌ
غيرَ أنّي!
سواك لا أريد!
معك.. الروح في النهاية
من لذتها..
في أعراسه ذا الوجودُ
كلّ هذي النساءِ
أكوامُ وهم
وحدك الماء..
والبهاء الشهيد!
يتخلّص الشاعرُ من فتنةِ الإغراءِ والإغواءِ، وانحسارِ الجمالِ الأيقونيِّ في الجسدِ، فتتراءى له أجسادُ النساء أكوامَ وهم، وعلى معنى التوحيد والوحدانية تنكسرُ إرادةُ المريد، وتنمحِي بالنفي في [لا أريد]، ثم تزداد انمحاءً بتكرار النفي، ويتبرّأ من كلِّ سوىً سواها، ثم تتحقق المعيةُ في [معك] وتتلاشى الروح من فرط لذة قربها، فيفنى عن ذاتِه فيها، فيتجلّى ماءُ الخلودِ وصلاً، وتتحققُ لذةُ الشهودِ قولاً وفعلاً.
يرى (يونك) أنّ هذه المشاهدَ العلويةَ لا يمكن أبدا، أن تتأتّى من نفسٍ دنيّة، فيقول" أنّ الفنَّ مصدرُه النفسُ العُليا التي تنطوي على كلِّ ما هو رفيعٌ وأخلاقيٌ في الحياة الإنسانيةِ. وأنّ هذا الجانبَ الراقي في النفسِ منفصلٌ، ولا علاقةَ له بالجانب الآخر المتدنّي من النفسِ، وهو ما يسميه (يونك) بــ [النفس الدنيا] ومن هنا رفض (يونك) نظريةَ (فرويد) وأنكر ضرورةَ اعتمادِ عمل النفسِ العليا على عمل النفسِ الدنيا إنكاراً تاماً، ويعني (يونك) استحالةَ انبثاقِ الفنِّ بوصفه عملاً رفيعًا وساميًا من نشاط بدائي مُتَدَنٍّ كالدوافعِ الغريزية." ولكن الدراسةَ تنتصف لنظريةِ (فرويد) ولا تنكرُ نظريةَ (يونك)، فالذاتُ التي تحاول التَّطهُّرَ والخلاصَ عبر الفنِّ، مما تتطّهر إذاً؟ وإلى أي سبيلٍ تمضي، وإن كانت الذاتُ عائشةً منذ بدايتها في العالمِ النورانِيِّ، فكيف لها أن تعاني الفقدَ والوجدَ؟ فانتفاء الألمِ والحرمانِ عن الفن يصيّره ركامًا وسرابًا لا يعوّلُ عليه. أما بالنسبةِ لنظرية (يونك) فالذاتُ التي تحاول التطهرَ والخلاصَ تقفز قفزاتٍ بعيدةً حتى تقفَ على مشارفِ الرؤيا ومن ثَمَّ تشاهد الأنوارَ، فتتمثّل الرؤيا شعراً في سرديةِ التجربة المتعاليةِ. وهذا ما نراه جليّاً في " أنشودة للعذوبة" ففي المشهد السابق الذي يتماهي مع أقصى درجاتِ الشهودِ، تتبعه مشاهدُ أخرى، وتسبقه كذلك مشاهدُ يتورّط فيها الشاعرُ مع الجسدِ، وهذا التورّطُ الجسداني له تأويلان: الأول، وكما أشرتُ – آنفا – أنّ النيرفانا الشعرية في ديوان " أنشودة للعذوبة" لا تمثلُ مرحلةَ الفناءِ الكليِّ، ولكنَّه الفناءُ الناقصُ، أو المحاولةُ المستمرةُ لتحققِ هذا الفناءِ، والذي لم يحدث بعد، ولعل هذا يرجع إلى كون الروح متعلّقةً بعالم الجسدِ، والجسدُ منجذبٌ لطينيَّته، فالنيرفانا الشعرية عند البيومي عوض تمثّل حالةَ الصراعِ المستمرِ بين الجسدِ المنغرسِ في الشهواتِ، وبين الروحِ المنجذبةِ للملكوتات، وهذا يمثله قول الشاعر:
قالت..
التّينة الشهيّة:
دع عنكَ هوى البرتقال
ليس لذيذا
اصنع الآن بي
حضارتك الأحلى
فمي يا أعمى يفور نبيذاً
فافترسني..
بقسوة العشق
حكما عادلا منك..
وابدأ التنفيذا..!
يصوّر لنا هذا المشهد مقارنةً بالمشهد السابق حالةً من حالات التعلّق بالجسد، وأعني بالأخير كلَّ جسد، وليس جسدَ الأنثى كما يتوّهم بعضنا، فالشاعرُ متورّطٌ هنا في جماليةِ الجسدِ، أو الجمالِ المتجسّد في الصورةِ، ودالُ الجسد هنا متوزعٌ بين مفردتين [التينة/البرتقال] فالتّينة تمثّل الجسدَ المشتَهى، والبرتقالُ يمثّل جسداً مغايراً لطبيعةِ الجسدِ المشتَهى، ويحتملُ التأويلُ أنْ تكون التّينةُ هي القصيدةُ بوصفها جسدًا يمارس الشاعرُ عليه طقوسَه الرغبويّةَ، باعتبار الكتابة لذةً تعتاضُ بها الذاتُ عن رغباتٍ أُخر، ولعل الذي يفتح التأويل على هذا المعنى، تسرّبُ مفردةِ (فمي) والتي هي دالُ الكلام، وما القصيدةُ سوى كلامٍ يفور نبيذاً من كاسات الشعر. ولعل هناك من المؤولاتِ النصيَّةِ ما يعضّدُ أنّ التّينةَ هي جسدُ القصيدة، حيث الشعرُ يفسّر بعضُه بعضًا، ففي المقطع رقم (60) يقول البيومي عوض:
قالت:
الآنَ جرّد النارَ
عن قشرتها
لا أطيق هذا القشرْ
قمتُ أنضو عنها
حدائقها
فاجأني الشعرْ
عارياً كالبحر
داهم المشتهِي بنفسَجَها
فامتزجا..
واستبدَّ ماء البحر!
من خلال استقراء هذا المقطعِ يستبين أنّ التينةَ هي جسدُ القصيدة الأنثى، وأنَّ البرتقالَ بجامع اللون بينه وبين النار- هو الجسدُ الأنثويُّ على التحقيق؛ فهو يقول: [ جرد النار عن قشرتها] وفي المقطع السابق يقول: [ دع عنك هوى البرتقال] وكأنّ الذاتَ في تلبّسها الأرضيّ يتنازعها جسدان: جسدُ القصيدة الذي يختزل الجمالَ المطلق في شعريةِ التركيب. وجسدُ البرتقال والذي يمثل الغوايةَ بلونه الأصفرِ الذي يتماهى في المقطع السابق مع لون النارِ، وتستبطنُ الناُر في داخلها رمزيةَ الغوايةِ التي يجسدُها جسدُ الأنثى، وفي تلك الحواريةِ بين القصيدةِ والذات، تنتصف الذاتُ لجماليةِ القصيدة المطلقةِ التي تتعرى فيها الحقائقُ كالبحر. وقشرةُ البرتقال تمثلُ هنا القيودَ والحجبَ التي يريد الشاعر تجاوزَها والخلاصَ منها حتى يصل إلى التجريدِ فتتكشّف له المعاني عارية وتتلاشى الحجب.
ومن خلال المشهدين السابقين نرى الشاعر يصل إلى أقصى درجاتِ التماهِي مع الروحِ، وسرعانَ ما ينغرسُ مرة أخرى في عالم الجسدِ، ويعني هذا الارتدادُ السريعُ ما بين الروحِ والجسدِ، أنّ مرائي الجمالِ التي تتقافزُ على مخيّلةِ الذات لا يدركها العقلُ البشريُّ، فيستدخل الشاعرُ هذه المرائي الجماليةَ في عالم الجسدِ وفي صورة يصطفيها العقلُ الشعريُّ لتَسْهُلَ على النفسِ البشريةِ عمليةُ الإدراكِ، فاستنزالُ الجمالِ العلويِّ في صورةٍ أرضيةٍ مجسّدةٍ، يعني أنّ الذاتَ غيرُ قادرةٍ على إدراكِ هذا الجمالِ في صورته الماهويةِ، فيستنزلها الشاعرُ في الجسدِ ويخضعها للحواسِ حتى يتلقّفها العقلُ. فنراه يقول:
جسدي
آفلٌ..
فما تفعلين الآن
بالغابةْ
اعتراها الأفول
جسدي يا عين الحياة
يريد أن تلمسيهِ
قلبي يقول:
إنّ نهديك سوف
يفتتحان الوعد
بعثاً..
تفور فيه الفصول!
لكل عمل أدبيّ موضوع يتمثّل عبر اللغةِ الشعريةِ، إذ انتفاءُ الموضوعِ من القصيدةِ أو العملِ الأدبيِّ يجعله بلا غايةٍ، وكلُّ شيءٍ لا غايةَ له لا يعوّلُ عليه. والموضوعُ المتحققُ في ديوان " أنشودة للعذوبة" هو موضوعٌ جماليٌّ يخصُّ الذاتَ وحدها، ولا يتخطَّاها إلى غيرِها، إلا من حيثُ متعةُ التلقي، فالذاتُ في ديوان " أنشودة للعذوبة" تسطّر نفسَها. أما عن كينونةِ الموضوعِ ذاتِه والذي يحمله هذا الديوانُ هو "التعشّقُ في الجمالِ المطلقِ" الذي يمثل حالةً من حالات الوصلِ بالعالمِ العُلويِّ. وقد اختزله الشاعرُ وفق تجربتِه ورؤيتِه في جسد القصيدةِ. فالحالةُ (النيرفانية) التي وصل إليها الشاعر تخصُّ الجمالَ المجرّدَ المتعالِي والذي لا يحدُّ، والذاتُ مفتتنةٌ بالجمالِ تعشقُه ويعشقُها، ولا تتضحُ مرائي هذا الجمالِ إلّا لذاتٍ مجرّبةٍ. فالديوانُ مع جماليتِه اللغويةِ المتعاليةِ، وشعريتِه المتوغّلةِ في ملكوتِها الأسمى، إلّا أنّه لا تتسعُ له دوائرُ التأويلِ، ولعلّ السببَ يكمن في أنّ هذا الديوانَ وإنْ مسّته نيرانُ التصوفَ، فصوفيتُه لا تتجاوزُ حدودَ التركيبِ اللغويِّ، إذ المعنى الذي يتغياه الشاعرُ من وراء المبنى هو الجمال، ولا أستطيعُ من وجهة نظرٍ خاصة أن أحمّل هذا الديوانَ موضوعًا صوفيّاً ينم عن حال صاحبه؛ فالقصيدةُ الصوفيّةُ يصدق عليها اسمُها في حالةٍ واحدة، وهي أن تكونَ القصيدةُ صوفيةَ المعنى والمبنى على حدٍّ سواء، أما ديوانُ " أنشودة للعذوبة" أستطيعُ أن أقول: أنّه صوفيُّ المبني جماليُّ المعنى، انتصفَ فيه البيومي عوض للجمالِ متماهياً فيه. وإن كان هذا الديوانُ موضوعه الجمالُ المتجسّدُ في القصيدة، فالبيومي عوض وفقَ تجربتي القرائية معه فخطابُه الشعريّ على المستوى العام يحتشدُ بالتصوفِ مبنىً ومعنى.
2- جماليات الانتهاك:
لا تتحقق جماليةُ اللغةِ الشعريَّةِ إلا بقدرٍ من الانتهاكِ، أو ما يسميه (جاك دريدا) بــ (الانزياح) أي: انزياحُ اللغةِ عن أصل استعمالِها الطبيعيِّ إلى مستوىً متعالٍ من اللغةِ يضمن للنصِّ الأدبيِّ شعريتَه، " إنّ الانزياحَ اللغويَّ يدفع إلى جدليةٍ توتُّريةٍ، تصطخبُ في جسدِ النسيجِ اللغويِّ، مخترقةً سكونيّةَ الوصفِ الأدائيِّ، ومتعدديةَ سطوةِ المعجمِ." وهنا يطرحُ السؤالُ نفسَه، هل الشعرُ التقليديُّ المقيّدُ بقانوني الوزنِ والقافيةِ مازال قادراً على مواكبةِ الحداثةِ ومتطلباتِها؟ وهل الشعرُ التقليديُّ لم يزلْ يمتحُ من معين الجمال ويمتلك القدرةَ على إنتاج نصٍّ جماليٍّ بوصف الأخير ركيزةً أساسيةً تنبني عليها النظريةُ الأدبيةُ.
ذهب كثيرٌ من الحداثيينَ – ومنهم أدونيس- في بحثهم عن الشَّكلِ الذي يحقق الرؤيةَ الشعريةَ الحديثة الملائمةَ لما جدَّ في عصرنا من تطورٍ وتعقّدٍ بلغا حداً فأصبح الشعرُ التقليديُّ عاجزاً عن مسايرةِ مستجداتهما، وصار كالطوق في أعناق الشعراءِ لا يستطيعون منه فكاكاً إلا بنبذه جملةً وتفصيلاً، بحثًا عن شكلٍ جديدٍ متجددٍ دومًا، لأنّ القصيدةَ الحديثةَ لن تسكنَ في أيِّ شكلٍ، وهي جاهدةٌ أبدًا في الهربِ من كلِّ أنواع الانحباسِ في أوزانٍ وإيقاعاتٍ محددةٍ." وقالبٍ تقليديٍّ ينحصرُ في نمطَّيةٍ إبداعيةٍ جامدةٍ لا تستوعبُ في كليّتها الجماليةِ الشعريةَ في ثوبِها الحداثيِّ الجديد، "فالشعرُ هو روحٌ تتفتح شكلاً، بمعنى أنّ الشعرَ بوصفه روحًا، فإنّه يفتح لنا آفاقَ عالمٍ جديدٍ ألا وهو عالمُ الصورةِ الشعريةِ لننفتح عليه في تكشُّفِه وظهورِه." وبناءً على ما سبق، فإنّ الشعرَ التقليديَّ – وفق منظورهم – يجب نبذه والتخلي عنه جملةً وتفصيلاً، فلم يعد الشعرُ التقليديُّ بنمطيّتِه قادراً على مواكبة الحدث.
ربما أتفقُ مع وجهة النظرِ السابقة في نقطتين اثنتين، وأختلفُ معها في نقاط جوهريةٍ كثيرةٍ. فأما النقطتان اللّتان أتفقُ فيهما مع وجهةِ النظرِ تلك، الأولى: أنّ الخلودَ للشعرِ وليس للشكل أو القالب الذي تصاغ فيه القصيدةُ. والثانية: أنّ كثيرًا من الشعراءِ التقليديين توقّفوا عند نقطةٍ بعينها ولم يستطيعوا تجاوزَها، فتخلّفوا عن الركب. ولكنْ على النقيض من هذا يتبدّي لي أنّ هناك ثلةً من الشعراء المحافظين، لم يتخلّفوا عن هذا الركب، بل تجاوزا هذا الركبَ إلى آفاقٍ إبداعيةٍ متساميةٍ، واستطاعوا أن يحققوا ويتحققوا من الجمالية الشعريةِ مع التزامهم بقانوني الوزنِ والقافية، وقفزوا بالشعر قفزاتٍ متسارعةً وبعيدةً أكثرَ بكثير مما حققه الشعرُ الحداثيُّ بأنماطه الإبداعيةِ المغايرةِ، وانتصافًا للأدب والعلم، نقول: أنّ هناك من شعراء الحداثةِ من استطاع أن يحققَ بأعماله الشعرية طفراتٍ جديدةً لم يعهدْها الشعرُ من قبل.
إنّ مناط هذه الدراسةِ يرتكز على شاعرٍ من الشعراء المحافظين الذين استطاعوا أن يكسروا نمطيةَ الشكلِ التقليديِّ القديمِ، ويُخضعوا أعمالَهم الشعريةَ لسلطة الشعرِ لا لسلطةِ الشكلِ، فانتصروا للشعرِ ولم ينتصفوا للشكل القديمِ وجمودِ نمطيَّتِه الإبداعيةِ مع التزامهم بالبهاءِ الشعريِّ المتمثّل في الموسيقى الإيقاعيةِ بمستوياتها المختلفة في النصِّ الشعريِّ.
يمثل ديوانُ "أنشودة للعذوبة" للبيومي عوض نوعين من الانتهاكات: الأول، انتهاكيةُ الشكلِ إذ يمثل هذا الديوانُ ثورةً على نمطيّة الشكلِ القديم. الثاني، انتهاك على المستوى الإبداعيّ ويتوزّعُ الأخير على مستويات متعددةٍ ومنها: الغرضُ الشعري، والتركيبُ اللغوي، والصورةُ التخيليية، والإيقاعُ. ومن هنا تنقّب الدراسةُ عن جماليات الانتهاكِ والمتوزعةِ على المستويات السابقة، ليكون ديوان " أنشودة للعذوبة" رداً قاسيًا على من تقوّل وادّعى: أنّ الشعرّ العموديَّ لم يعدْ قادرًا على المواءَمةِ والمواكبةِ. وسنعرض لنماذج تمثلُ الانتهاكَ الجماليَّ في أبهى صوره في هذا الديوان:
أ- انتهاكية الغرض الشعري:
لم تكن الثورةُ على نمطيّة الشكل القديم منحصرةً في اللغةِ والإيقاع والصورةِ، ولكنّها استدخلت ما هو ليس لغويًا كالغرضِ الشعريِّ وثارت عليه هو الآخر. ومن الأغراض المركزيّة في الشعرِ التقليديِّ (الغزل) والذي يتّجه دائما – وفق منظورِنا القديم – إلى المرأة وحدها، ولكنْ ديوانُ "أنشودة للعذوبة" ينتهك هذا الغرضَ ويتوجّه بغزليّته المتعاليةِ إلى التَّعشقِ المتسامي على الجسدِ الأنثويِّ، ويتحوّل الديوانُ في كليّته إلى غزليةٍ منحصرةٍ في جسد القصيدةِ، فلم يتوقفْ الغرضُ الشعريُّ/ الغزلُ عند البيومي عوض عند المرأة كما فعل أسلافُه، ولكَّنه وسّعَ من المفهوم الغزلِ وجعل منه غرضًا متعاليًا على الجسدِ الأنثويِّ ليشملَ كلَّ ما هو جميلٌ يُتَغَزَّلُ فيه. فنراه يقول:
شفتاك:
الياقوتُ والتوتُ
والفودكا..
وماء الرمان راود وردا
شفتاك:
الألحان والحان
والتنهيدُ..
والبوح والشّذى يتندّى
شفتاك:
اخضرار نار التّجلّي!
وأنا من كلّمتِ في المهد
عبدا!
يتشكّل جسدُ القصيدةِ في المقطوعة السابقة، ولكنّه ينمحي خلفَ جدارِ اللغة، ولا يبقى من هذا الجسدِ غيرُ الشّفاة بوصفها دالَّ الكلامِ وهو المقصودُ والغايةُ من هذا الجسدِ، ومع انمحاءِ الجسدِ تتجلّى صفاتُه على المستويين: الحسي، والمعنوي، فتتمظهر تجليّاتُ الجسد الحسيّة والمتمثّلةُ في [الياقوت/التوت/ وماء الرمان/ والفودكا/ الاخضرار] حيث جمعت هذه الممثلاتُ مزيجًا من ألوان ثلاثة: الأحمر ويمثله الياقوت وماء الرمان. أما (الفودكا) تمثّل الماءَ بشفافيته، تلك الشفافيةُ التي ترمزُ إلى الطبيعةِ الأولى للغةِ، والتي تسمحُ للذّاتِ المبدعةِ بالعبثِ بها، وتفكيكِ عناصرِها حتى تعودَ إلى فطرتِها الأولى، ومن ثّمَّ يعيد المبدعُ تأليفَ عناصرِها وفق رؤيتِه. أما اللونُ الأخضرُ تجلَّى بمصدريتِه بصورةٍ مباشرةٍ دونَ الارتكازِ على شيءٍ يمثله، ويعني الاخضرارُ هنا التجددَ واستمراريةَ حياةِ القصيدةِ وتطورَها الدائم. يمثل الاحمرارُ الدمَ الذي تحيا به الأجسادُ، والقصيدة بوصفها جسمًا تحتاج إلى دماءٍ تتخلل هذا الجسدَ لضمان بقاءِ الحياة فيه، وبوضع اللون الأحمر- والذي هو صفة شبه لازمةٍ للشفاه – في نسق شعري واحدٍ مع الشفاة، يكون اللون الأحمرُ هو اللغةُ الشعرية، والتي انخلقت وفق إرادةِ الذات مُصَوَّرَةً في لون الياقوتِ وطعمِ التوتِ، وهنا تتجلى أهمُّ ثنائيةٍ من ثنائيات (سوسير) وهي ثنائيةُ اللغةِ والكلام بوصف الأخير نمطًا إنتاجيًا خاصا تنفرد به الذاتُ المبدعةُ شريطةَ عدم خروجِها على النظامِ اللغوي العام.
فسيميائيةُ الألوان وتشكّلها في نسقٍ بنيويٍّ واحدٍ يمنح القارئَ آليةً ينفتح بها النصُّ إلى ما هو أبعد من مستوى البنيةِ السطحيةِ للقصيدة، ويتخطّى المدلولُ المرأةُ - بوصفها موضوعًا مركزيًا للغزل – إلى القصيدة الأنثى التي تتمظهر في النصِّ ويكأنها امرأةٌ. وهذا التمازجٌ الذي صنعته الذاتُ يعلي من قدر مستوى اللغة الشعرية في النص، وينتهك من ناحية أخرى محدوديةَ الغرض الشعريِّ، ويجعله أكثر استيعابًا وشموليةً ويبعده عن نقطةِ تمركزه الأساسية.
ب- انتهاك على مستوى التركيب:
إنّ اللغةَ بوصفها المادةَ الخام التي تنسج منها الشعريةُ قماشَتَها، تخضع لفرادةِ الذاتِ المبدعة، التي تعيد خلقَ اللغة من جديد في مستوى تركيبيٍّ خاص، وتجري فعّاليةُ الذات على اللغةِ وتخرجها من تاريخيتِها المعجميَّةِ والتداوليةِ لترتقي بها إلى فضاءاتٍ أخرى تمنح اللغةَ حياةً جديدةً في سياقاتٍ مختلفةٍ. ليس الغرضُ من انتهاك اللغة على مستوى التركيب تحقق الجمالية الشعريةِ فحسب، إذ تحمل هذه التراكيب الشعريةُ كوامنَ الذات "وتتضافر القيمُ الشعوريةُ والتعبيريةُ والفكريةُ لتشكّل البعدَ الجماليَّ للنص، فلا يمكننا فصلَ إحدى القيم عن الأخرى، لما لها من روابطَ وثيقة تحقق للعمل الفني قصدَه الذي أنشئ لأجله ... والقيمُ التعبيرية للغة لا تنفصلُ عن معرفة الدوافع النّفسيةِ، لأنها كشفٌ عن نوازع الإنسان الذي ينطقُ بها، وكشف عن نوازع الإنسان المخاطَب من قِبَل المخاطِب" وبناءً على ما سبق، نستطيع القول: أنّ اللغةَ الشعريةَ مرايا تحمل مكنوناتِ الذوات الفاعلةِ في النص إبداعًا وتأويلاً، فليست عمليةُ الانتهاكِ اللغوي لعبًا أو ترفاً لغويًا، فاللغةُ تحمل قصديةَ النص وغايتَه، وتتجلى عليها رؤيةُ الذاتِ للوجود.
تتجلّى في ديوان "أنشودة للعذوبة" انتهاكاتٌ متعاليةٌ تمارسها الذاتُ على جسد القصيدةِ إذ اللغةُ في ديوان [أنشودة للعذوبة] ليست مجردَ تعبيرٍ عن الأشياء، وإنما هي تعبيرٌ عن وعيٍّ خاص أو شعور خاص بالأشياء. وتحمل هذه التراكيبُ الحالةَ النفسيةَ والشعورية للذات، فعندما يقول البيومي عوض:
كم سماءً..
ذوَّبْتَ في عينيها؟
إنّني صاعدٌ
سماءً..
سماءَ..
إنّني الآن سابحٌ..
في حفيف الضوءِ
فاضت بحاره
كبرياءَ.. عن يميني جبريلُ
يقطر نورا..
عن يساري ميكالُ
يسطع ماء!
يتأسس المشهدُ الشعريُّ على الخبر - المتمّم للجملة الإسمية - (صاعد) فالصعود بؤرة المشهد الشعري، وهو الوسيلة التي بها يطوي الشاعر المعاني سماءً سماءَ، وتحيل الأخيرةُ إلى دلالة الاتساع، وأنّ اللغة لا حدودَ لها، إذ تنفتح اللغةُ وتتسع اتساع السماء من فوقنا. يستغرق الشاعر في صعودِه وهو يحاول الوصولَ إلى مراده. ثمَّ يؤسس الشاعر وعبر الجملة الإسميّةِ المؤكدة بــ (إنّ)، [إنّني الآن سابح] محاولتَه الدائمةَ في البحث والتنقيب عن الجمال المترائي على جلال التركيب اللغويِّ، ولكنّه يغير حركته من الصعود إلى السباحة، وكلا الحركتين اتخذتا من (اسم الفاعل) قالبًا لها. يشبه (اسم الفاعل) الفعل (المضارع) في دلالته، فكلاهما يدل على استمراريةِ الفعل. استدخل الشاعر ظرف الزمان (الآن) ليبدأ في تصويرِ المشهد في سرديةٍ حكائيةٍ منحصرةٍ في الزمن الآني، متوزعةٍ بين مكانين: السماء، والبحر، وتشير المفردتان عبر الترميز إلى دلالة الاتساعِ، ولكنّ عين المعشوقة/ القصيدة أوسعُ، إذ يقول: [ كم سماء ذوّبت في عينيها]، وكأنه التشبيهُ المقلوبُ بصورةٍ بلاغيةٍ أكثر شموليةً تتخطّى محدوديةَ التشبيه، ولكنها الحقيقةُ بالنسبة للشاعر، فعيونُ معشوقته/ القصيدةِ تستوعب المعاني سماءً سماءَ، فلا غرو أن يغيب البحرُ هو الآخر في عين القصيدة لمَّا يفيض.
إنّ حركةَ الذاتِ المشتتة بين الصعودِ والسباحة تظهر لنا حالةَ السمو والشفافية التي تنتاب الذات، وهي تحاول استجلابَ النور من ملكوتِه، ثم الغوصُ في بحر اللغة للكشفِ عن تراكيبَ تستوعب هذه الأنوارَ؛ ولذا ينتهك الشاعر اللغةَ ويوسّعُ من مضمونيتها لتتلقّى هذه المعاني. ومن صور الانتهاك في المقطع السابق: [حفيف الضوء/ يقطر نورا/ يسطع ماء] فالحفيف صوت احتكاك الريح بالأشجار، ولكن الشاعر عبر انزياحاته نسبَ الحفيفَ لتلك الحركة المتولدةِ بينه وبين الضوءِ وهو يحاولُ اكتشافَه. ونسب الفعلَ (يقطر) للنور، والفعلَ (يسطع) للماء، والعكس معجميّا وتداوليًا غير ذلك، ولكن الذات هنا تمارس فعاليتها على اللغةِ وتنتهكُها تركيبيًا، لتبين لنا مدى الاندهاشِ الذي ينتاب الشاعرَ وهو يتلقّف المعاني ويصورها عبر التجسيدِ اللغوي، ليتحوّل المشهدُ في نهايته إلى نورانيّةٍ متعاليةٍ باستحضار الملاك السماوي (ميكال) بوصفه المختص من قِبَل الذات العليّة بالأرزاق، وهنا إشارة لطيفةٌ من الشاعر، أنّ الشعر فيضٌ ورزقٌ ترسله السماءُ لأهله، فلم يكن استحضارُ الملاك السماوي (ميكائيل) دون قصدٍ ووعي من الشاعر، سواء أُنتجَ هذا المعنى في عالم الوعيِّ أو عالم (اللاوعي) الشعري. وهكذا كان ملاكُ الوحي (جبريل) – عليه السلام – فحضوره في النصِّ الشعري كنايةً عمّا يشبه الوحيَّ، إذ الشعرُ ضربٌ من الإلهام. فالمتأمل في النسق التركيبيِّ وانتهاكاتِه في المقطع السابق يتبيّن له أنّ الذاتَ لم تصغْ هذه التراكيبَ وتنتهكُها إلا عن وعيٍّ وإرادةٍ منها " ويجب أن ندرك أن التركيبَ اللغويَّ هو المادة الحقيقيةُ المشكّلة لفن الأدبِ، لهذا ينبغي أن نبذلَ جهدا كبيرا في التّعرّفِ على كيفية استخدام الأديب للغة." فما النصُّ الأدبيُّ في جوهره إلا واقعةٌ لغويةٌ. "فدراسة القصيدة الحديثةِ المعاصرة بمعايير البلاغةِ القديمة – وحدها – غير كافٍ لمعرفة أسرارها وتحليل مكوناتها، وفهمِ إطارها، بل أكاد أقول: إنّه قتلٌ متعمَّدٌ مع سبق الإصرار لروحها الجماليةِ وطبيعتها الفنيّة.
ج- انفتاح الخيال وكسر نمطية الصورة:
إنّ من أخطر الأمورِ التي يتهددُ بها الشعرُ العموديُّ نمطيّةُ الصورةِ وانحباسُ جمالياتِ تشكّلِها خلف سياجها القديمِ. ولعل تلك الإكراهات العروضية التي ألمح إليها (أدونيس) هي السببُ المباشرُ لهذا الانغلاق، وأضيف سببا آخر، وربما يكون الأوحدَ، وهو انعدامُ الوعي بجمالياتِ الصورة، فالصورة لا يُتَغَيَّا منها الجماليةُ الشعريةُ فحسب، بل الصورةُ التي تنتجها الذاتُ تتحمّل شحوناتٍ دلاليةً تتناغم مع الدلالةِ الكبرى للنص" ويولي (بودلير) الصورةَ أهميةً قصوى في عملية تَكَوُّن الشعرِ ذلك أنّها تقوم بتفكيكِ العالم برمّته وتجميعِ أجزائه وتنظيمِه في أنساقٍ جديدةٍ بحيث تخلق منه عالمًا جديدا له خواصّه وسماتُه النّابعةُ من أعماق النفسِّ الإنسانية."
وقد حمّل الرومانتيكيون الألمان الخيالَ وظيفةً لها بالغُ الأهميّة على الصعيد السّايكولوجي إضافة إلى وظيفته الذهنية والجمالية، فهم يرون أنّ الخيالَ مطابقٌ للحلم الذي لن يكون سوى حالةٍ من حالات النفس البشرية التي تجد عندها الوحدة المفقودة بين "الأنا" والواقع [...] أمّا بالنسبة للوظيفة الذهنيةِ من وجهة نظر الرومانتيكيين الألمان، أنها تستطيع أن تجعل العالمَ الكائنَ وراء الموجودات مرئيًا بصورة رمزيةٍ فقط وعن طريق الصور والمجازات والإشارات. وهكذا اكتسبت الصور المجازيةُ أهميةً كبرى ودورًا أساسيّاً في الشعرِ الرومانتيكي بوصفها أدواتِ نقلٍ مرئيّةً توصّل إلى إدراك العوالم الداخلية." وتستند الدراسةُ في ذلك إلى ديوان "أنشودة للعذوبة" للبيومي عوض حيث تحمّلت الصورةُ الشعريّة فيه دلالاتٍ تتواءم مع الذات وتطلعاتِها من ناحية، ومن ناحية أخرى تشتبك الصورةُ مع التركيب اللغوي لِيُنْتِجَا الدلالة النصيةَ الكبرى.
ومما يجب الإلماحَ إليه، أنّ الصورةَ الشعرية في ديوان "أنشودة للعذوبة" اعتمدت على آلية التكثيفِ الدلاليِّ، بوصف الأخير مرتكزاً بنائيًا ينماز به الشعرُ عن غيره من الأجناس الأدبيّةِ الأخرى. ولم يعتور الصورةَ الشعريةَ عند البيومي عوض أيُّ تقليٍد أو تكرارٍ لنمطيّةِ الصورةِ في الشعر العموديِّ، بل تشكّلت الصورةُ الشعريّةُ عنده في أفقٍ تخيلييٍّ جديدٍ لم يطرقه أحدٌ من قبله، فحين يقول:
وارتدي البحرَ
يا صبيّةُ
وامشي في المنافي به
ودوِّي هديرا
ليكن كُمُّكِ اليمينُ
غماما..
وليكن كمُّك اليسار
عبورا
إنّ هذا السياج
يحتاج أن ينقصَّ
ياروح..
فاستبدي طيورا!
تتراءى الخيالاتُ الجمالية للذات في العوالم الماورائيةِ، فتحاول الذاتُ استنزالها في العالم المحسوس- والذي تمثله القصيدةُ - عبر الصورة المجسّدة لهذه الرؤى الجماليةِ، وتناطُ هذه الوظيفةُ بـ(العقل الشعري) الذي يقوم بعمليّةِ التجسيدِ في ذهنيّةِ الشاعر، ثم تتبلور عمليةُ الإبداعِ الشعريِّ في إخراج هذه الصورةِ بلغةٍ متعالية تَنْبَنِي في أفقِ الشعرية عبر التراكيبِ اللغوية المتساميةِ.
تبدأ عمليةُ التجسيد في الصورة الشعريةِ السابقة وتتحققُ عبرَ آلياتٍ لغويةٍ ومنها: فعلُ الأمر والذي ينسربُ كثيراً في هذا الديوان – وبصورة لافتة – إذ يقتضي فعلُ الأمر حضورَ الطرفين: الآمر، والمأمور، وتتحقق فعاليةُ التجسيد – أيضا – باستناد المبدعِ على أسلوب النداء، ويقتضي الأخير حضورَ المنادِي والمنادَى في حيّز واحد، وهذا الحيّزُ يشترط مكانًا تتجسّد فيه الصورةُ بعموميتها. ثم تستند الذاتُ مرةً أخرى على فعل الأمر (وامشي). فاسترسالُ الشاعرِ في بدايةِ المقطوعةِ واستنادُه على ركيزتي الأمرِ والنداءِ يضمن له أحدَ أمرين: الأول، تحققيّة التجسيد عبر أسلوبي الأمر والنداء، إذ يقتضي كلاهما الحضورَ الفعليَّ لطرفي الخطاب. والثاني، أنّ هذه الأساليبَ الإنشائيةَ والتي ارتكزت عليها الصورةُ في بنائيتِها تخرجُ الصورةَ بالكليّةِ من دائرة الأسلوب الخبريِّ الذي يقتضي إما صدقًا، وإما كذبًا، والشعرُ ليس بالقضيةِ المنطقيّةِ التي تخضع لسلطة (الخبر) بمنطوقيه، وهذا يفرد مساحةً للذات المبدعة من خلالها تمارس الهيمنةَ على اللغة والموضوع، ولعل المتلقي يلتقطُ هذه الإشارةَ ويعلم أنّه في كونٍ جمالي خالصٍ، وعلى هذا الكونِ تتأسس عمليةُ التواصلِ الجمالي بينه وبين الذات الأخرى.
تتخذ الصورةُ بعد عملية التجسيد شكلاً جماليًا خالصًا، إذ يتحوّل البحرُ إلى عباءة لها كُمَّان يتشكلان غيوما وعبورا.. ثم يمارس الإبداعُ مرة أخرى – ومن باب التكثيفِ – عمليةَ التجسيد بتحديد الجهة يمينًا ويسارًا، ثم تتخذ مفردةُ (عبورا) سطرا شعريّا كاملاً تمتد فيه المساحة البيضاءُ وكأنها البراحُ الذي تحتاجه الذاتُ لتمام عملية العبور، ثم يُحْدِث الشاعر إيقاعًا فريدًا بين مفردتي: [عبورا/طيورا] من حيث اشتراكهما في صيغةٍ صرفيةٍ واحدة وهي (فُعُول)، فالتعالقُ بين المفردتين ليس تعالقًا دلاليًا فحسب، ولكنه تعالقٌ تركيبيٌ وصرفيٌ ودلاليٌ وعروضيٌ. فالصورةُ الشعريةُ عند البيومي عوض دلالةٌ حيّةٌ على وعيّه التام بجمالياتِ الصورةِ الشعريّة.
د- انتهاكية التشكيل الإيقاعي:
الإيقاع هو السمةُ المتأصّلةُ التي ينماز بها الشعرُ العربيُّ قديمُه وحديثُه، وهو العلامةُ النوعيةُ الكبري التي يتمحور حولها النصُّ الشعريُّ. ومن وجهة نظرٍ أعم؛ فالإيقاعُ هو القالبُ الموسيقيُّ الذي تنطوي تحته المتناقضاتُ، وتتشكل – وفق أطره – الرؤى والأفكارُ، وينسجم الحسي مع المجرد في حالة تناغمٍ تشبه الانصهار. ويظل الإيقاع بمستوياته المختلفةِ هو الحد الفاصل بين الشعر واللاشعر.
خُيِّل لمن ثاروا على نمطيّة الشكل التقليدي: أنّ الشعرَ الملتزمَ بقواعد الوزن والقافية أصبح عاجزاً، متأخرا متخلّفًا، ولذا كانت دعوتُهم القاتلةُ بالتخلّي عن الوزن والقافية جملةً وتفصيلاً، وحجتُهم "إنّ في قوانين العروض الخليليِّ إلزاماتٍ كيفيةً تقللُ من دَفْعَةِ الخلقِ، أو تعيقها أو تقسرها. فهي تجبر الشاعرَ أحيانًا أنْ يضحي بأعمقِ حدوسِه الشعريةِ في سبيل مواضعاتٍ وزنيةٍ كعدد التفعيلات أو القافية. ولم يكن أمام أدونيس، وقد حملَ على البحرِ والأوزانِ والقوافي هذه الحملةَ إلا أن يواصل حديثَه عن وجوب التخلي عن قواعدِ النظمِ لأنّ تلك القواعدَ تعكس الذهنيةَ القديمةَ." ونستطيع أن نقول: أنّ التخلّي – وعن عمدٍ – عن الوزن والقافية دعوةٌ هدّامةٌ تقتل الشعرَ، وتخرجه من جنسانيته الأدبية. والشاعرُ الذي لا يستطيعُ أن يُخرج مكنونَه النفسيَّ ورؤيتَه للوجود في قالبٍ لغويِّ يحكمه الإيقاعُ - بمستوييه: الوزن، والقافية بتمثلاتهما المختلفة – يجهل ماهيةَ الشعر ولا يعرف كينونتَه.
ويأتي ديوانُ "أنشودة للعذوبة" للبيومي عوض بمثابةِ دليلٍ قاطعٍ على أنّ الشعرَ العموديَّ أو الملتزمَ قادرُ - ولم يزل - على مجابهة الحداثة وتطلعاتِها، بل ويتخطّى ما ترنو إليه الحداثةُ في آفاقها المتعاليةِ. التزم الشاعر بوحدة البحرِ (الخفيف) ولم يخرج عنها في ديوانه " أنشودة للعذوبة" ولو للحظةٍ واحدة، ولم يصبْ الديوانَ كسرٌ عروضيٌّ واحدٌ في مقاطعه التي بلغت مائةً وأربعةُ وعشرين مقطعا شعريًّا، ومع هذا الالتزام تتعالى الجماليةُ الشعريةُ بفيوضِها وتشكلاتِها باندلاعٍ يشبه الترانيم الكنسيّةِ في تدفقاتها، وحرفيةٍ متناهيةٍ وانسيابيةٍ تصدِّرُ لنا أقصى درجاتِ الإيقاعِ الشعريِّ، ولم يكن الوزنُ عائقًا، ولا القافيةُ حجاباً عن وصول الشاعر إلى غايتِه وقصدِه، بل تحوّل الوزنُ الشعريُّ وتشكلاتُه غيرُ النمطيةِ إلى دلالاتٍ نصية تشي بما تريد اللغةُ الشعريةُ أن تقوله، فالقصيدةُ تخلق شكلَها الذي تريده، كالنهر الذي يخلقُ مجراه." وهذا ما اعتمله البيومي عوض في ديوانه، حيث تشكلت القصيدةُ في قالبها الإيقاعيِّ كما اختارتْ، واختار لها قصدُها.
ينماز البحرُ (الخفيف) بمائزةِ (التدوير) والتي تعني: انشطار الكلمةِ الواحدةِ بين شطري البيتِ الواحد، فتنتصف المفردةُ بين صدرِ البيت وعجزِه، ولعلَّ سمةَ (التدوير) الناصعةَ في البحر (الخفيف) هي التي مكّنتْ البيومي عوض أن يكتبَ قصيدتَه بنظامِ السطرِ الشعريِّ، والذي يختص به شعرُ التفعيلةِ دون غيره، ولكنْ البيومي عوض أراد أن يخرجَ عن إطار الكتابةِ العموديةِ في شكلها المعهودِ إلى كتابةِ السطرِ الشعري، مع التزامِه التام بالوزنِ الواحدِ على مستوى الديوان كلِّه، والتزامه بالقافيةِ على مستوى المقطوعة الشعريةِ، وهنا ينتهك البيومي عوض الشكلَ العموديَ القديمَ كتابةً، ويحرر الكتابةَ الشعريّة من قيودِ الشكل القديم، إلى رحابةِ كتابةِ السطر الشعري، والذي عبر تشكلاتِه البصريّة يمنحُ النصَّ دلالاتٍ تتموسق مع الدلالةِ الكبرى للنص الشعري. يقول البيومي عوض:
قُبْلةٌ في الحفيف
حضنٌ على هَض/ْبَةِ ليل
دلالُ ظبيٍ
وبيتهْ!
رحم الله زورقا
فوقهُ..
يا/ ما سباني منكَ الهوى
وسبيْتُهْ!
جاحدٌ أنتَ..!
/يا حبيبي..!
آهٍ!..
ليت هذا الحمامَ ما ربَّيتهْ
انفرط البحر (الخفيف) بإيقاعاته المتتالية على الأسطر الشعريّة ملتبسًا بالشكل الكتابي لقصيدة التفعيلة. كما تجلّى في الأسطر الشعرية الفائتة (التدوير) حيث انشطرت كلمة (هضْبة) بين شطري البيت باعتبار القصيدة شعرا عموديا موزونا، ولما انتقل الشاعر إلى الكتابة على نظام السطر الشعري تماهي هذا الفصل الذي يشطر الكلمةَ نصفين، وتلاشى في نظام الكتابة السطري، ولهذا الخروج على نمطية الكتابة، وانمحاء الفصل في التشكيل الكتابي- مع تحققه الفعلي حال التقطيع العروضي – دلالاتٌ متعددةٌ يتوجّب على القارئ أن يتوقّف عندها. فالديوان يحتشد في معظم أبياته بخاصيةِ التدوير التي عبر تشكلها الكتابي- عن وعي وقصد – تمنح النص دلالاتٍ لم تستطع اللغة وحدها أن تتمثّلها.
إذن، وبعد هذا التطواف، أستطيع أن أقول: أنّ ديوان "أنشودة للعذوبة" دليل قاطع على أنّ الشعر الملتزم بقانوني الوزن والقافية لم يزل قادرا على العطاء والإنتاجية الشعرية المتعالية، مع احتفاظه برونق الوزن وجلال القافية،" إذ ظلَّ الوزن أرضيّة لبقيّة المكونات الإيقاعيّة التي ترتبط به ... فالوزن بمثابة أرضية على أديمها تنغرس بقيّة المكونات الإيقاعية سواء كانت صوتيّة أم دلالية فيجريها ويديرها وفق نسق، بموجبه يضمن الكلام حدّاً من التناغم الداخلي، لا يمكن أن يطاله إن هو عدم تلك الأرضية. ولكن هذا التعالي الشعري وهذه الإنتاجية الجمالية بحاجة إلى شاعر كبير بحجم البيومي محمد عوض.
المصادر والمراجع:
أحمد حاجي، مصطلح اللغة الشعرية، مجلة مقاليد، عدد9، الجزائر، ديسمبر/2015.
البيومي محمد عوض، ديوان: "أنشودة للعذوبة"، دار البحرينية المصرية، ط1، القاهرة، 2024.
جاستون باشلار، جماليات الصورة، ت: غادة الإمام، التنوير للنشر، ط1، لبنان، 2010.
رجاء عيد، لغة النص، مجلة علامات، المملكة العربية السعودية، ديسمبر/ 1994.
طه وادي، جماليات القصيدة المعاصرة، المصرية العالمية للنشر، ط1، القاهرة، 2000.
عبدالواحد المرابط، سيميائيات الأدب، مجلة أيقونات، الجزائر، عدد1، يناير/2010.
محمد قوبعة، جماعة مجلة شعر وقصيدة النثر الفرنسية، مجلة علامات، المملكة العربية السعودية، يونيو/1994.
مسلم حسب حسين، جماليات النص الأدبي، دار السيّاب، ط1، لندن، 2007.