د مولود عويمر - خواطر على هامش مذكرات الأديب بشير خلف

لقد تطرقت في مقال سابق لظاهرة المذكرات الأدبية في الجزائر في العشرين سنة الأخيرة، فقد عادت بعد أن صمت الأدباء والعلماء لمدة طويلة، وغادر الكثير منهم الحياة دون أن يدوّنوا مذكراتهم. وكان من الأدباء الذين نطقوا الكاتب الأستاذ بشير خلف الذي بادر منذ 3 سنوات لنشر مذكراته بعنوان: ""حياتي في دائرة الضوء".
صدر هذا الكتاب في طبعته الأولى في عام 2021 ، وبمجرد خروج الكتاب من المطبعة أرسل بشير خلف العشرات من النسخ عن طريق البريد على حسابه الخاص إلى كل من يتوسّم فيه حب القراءة والاهتمام بالثقافة وحفظ عهد الصداقة.
وقد ذكرني كل هذا ب "كتاب الجزائر" لأحمد توفيق المدني، فلم يترك صاحبه شخصية علمية أو سياسية مؤثرة في الجزائر أو في العالم العربي إلا وأرسل لها نسخة من هذا الكتاب بسرعة فائقة قبل أن تتدارك ذلك سلطة الاحتلال الفرنسية وتحجزه وتعطّل عملية توزيعه عبر البريد في غفلة مراصد المراقبة الاستعمارية.
وهكذا، وصلني الكتاب يحمله ساعي البريد الذي لا يظهر في حيّنا الشعبي إلا كما يظهر الهلال مرة واحدة في الشهر. فتحت الظرف الكبير الذي يضم أيضا كتابين آخرين: "المجتمع المدني وحقوق الإنسان" و"بحثا عن ثقافة الحوار مع الذات والآخر". وقد اكتشفت في الرجل بعدا آخر كنت أجهله. فبعد قراءة الكتابين محللا نبيها يغوص في القضايا الفكرية كما كان يغوص في النفس البشرية ويعبر عن عواطفها وآمالها وأفراحها وهواجسها في قصص ممتعة.
وشرعت في تقليب الصفحات وقراءة المقدمة وبعض الفصول. وعدت إلى قراءته مرات عديدة، وقضيت في صحبته ساعات ممتعة؛ فصفحات أضحكتني، وصفحات أحزنتني وصفحات تركتني أفكر وأتأمل. وقرأته كله في جلسات خاصة خلال عطلة الصيف حيث كنت أقضي شهرين الراحة في مسقط الرأس بمنطقة جرجرة. وفي ذلك البيت أحتفظ إلى اليوم بكل المجلات القديمة التي كنت أشتريها أيام الشباب والتحصيل الدراسي المتوسطي والثانوي.
وقد وجدت في هذه المذكرات ذكريات جميلة للأستاذ خلف مع الجرائد والمجلات العربية مثل: "العربي" الكويتية، و"الهلال" المصرية، "الآداب" اللبنانية، "الموقف الأدبي" السورية، "الفيصل" السعودية، و"أقلام" العراقية و"الفكر" التونسية... تشبه كثيرا ذكرياتي معها، فأنا عشتها تلميذا في بلدتي بينما هو عاشها معلما بعيدا عن مسقط رأسه قمار، عاشها في مدينة عنابة على الساحل الشرقي الجزائري حيث وصلها أول مرة في عام 1957 في رحلة أسطورية كما وصفها، مرة في الحافلة، ومرة في قطار البضائع، ثم عاد إليها في عام 1964 ليدرّس في مدارس قراها.
وكل المثقفين الجزائريين يشاركون حُــزن الأستاذ خلف على انقطاع كل هذه المجلات العربية عن الجزائر، فلم تبق منها إلا مجلة "العربي" التي تدخل باستحياء من حين إلى آخر إلى بلادنا. صحيح أن عددًا من المجلات لها مواقع إلكترونية وتضع أعدادها في متناول القراء المهتمين، إلا أن جيل الأستاذ خلف وجيلنا تعوّد على المجلة الورقية ولمسها وطي صفحاتها.
وغواية الصحافة استهوته مبكرا حيث نشر مقاله الأول في مجلة "المجاهد الأسبوعي" في عام 1970 حول "مشكلة المواصلات في الواحات"، ولعله استلهمها من رحلته الأولى بين قمار وعنابة. ولم يجف حبره بعد ذلك فكتب في جرائد ومجلات كثيرة لم يحتفظ بأصولها كلها. ولا شك أن حلم كل صحافي أن يكون يوما رئيس تحرير: "مجلة الطموح" التي كانت تصدرها الجمعية الثقافية للشبيبة بقمار.
غير أن أحلام الشاب بشير لا تتوقف عند أبواب قمار، وطموحاته لا تنتهي عند رئيس لمجلة محلية مهما بلغت أصداؤها حدود ولاية الوادي.
وهكذا، بعد عام يصبح رئيس تحرير مجلة "المنبر الثقافي" الموجهة إلى كل قراء الجزائر، لكن هذه التجربة لم تدمْ طويلا في زمن يسيطر فيه الحزب الواحد على كل النشاطات الثقافية، ولا يقبل بمجلة خارج السرب.
غير أنه لم يرفع قلمه ولم يجف حبره فواصل الكتابة في الجرائد الوطنية المعروفة والمجلات الثقافية العريقة ك "النصر" و"الشعب" و"المجاهد الأسبوعي"، و"آمال"، "الثقافية"...
كانت مقالاته تعالج القضايا التربوية، والاجتماعية، وعرض الكتب القيمة، ونشر الأقصوصة... وينطلق من خبرته سنين في التعليم فكان معلما أحب مهنته وتفانى في رسالته التربوية، وارتقى إلى مرتبة مفتش ليكوّن الإطارات التربوية بمتابعاته، ومرافقاته، وتوجيهاته للمعلمين والمسئولين الإداريين لفترة طويلة.
ولم يكن شديدا في معاملتهم إلا مرة واحدة عندما استضاف الدكتور سعد الله في المركز الثقافي بقمار ليقدم محاضرة، ولكن وجد القاعة شبه فارغة فقصد نادي المعلمين فوجده ممتلئا عن آخره، فأجبرهم على الحضور تحت تهديدهم بعقاب إداري، فحضروا محاضرة الدكتور سعد الله الذي أثنى على حضورهم واهتمامهم وهو لم يعلم بما أقدم عليه المفتش بشير خلف.
كان عاشقا للإذاعة، يتابع أخبارها وحصصها الثقافية. لذلك لم يتردد في الانضمام إلى المثقفين والإعلاميين الذين التحقوا بإذاعة الوادي الجديدة. فأعد وقدم برنامجين، الأول بعنوان: الموعد التربوي موجها للأسرة التعليمية مستلهما من خبرته الطويلة في التعليم وتجربته في التفتيش التربوي الذي مارسه عدة سنوات، والثاني : "النادي الثقافي" مفتوح على الإبداعات الأدبية والثقافية، واستضاف في حصته العديد من الأسماء المعروفة والمغمورة في عالم الأدب والفن ليعرّف بأعمالهم ويروّج لإنجازاتهم.
من أجمل الفصول التي استهوتني في هذا الكتاب، فصل: "كتب أرست مساري المعرفي والإبداعي". الأستاذ بشير يفتح صندوقه الأسود للقراء. ذكر عناوين كثيرة تدل على اهتماماته المتعددة بين الأدب الذي أغواه للأبد والفلسفة التي أحبها وتقدم لدراستها في جامعة قسنطينة لكنه تركها بعد ليلة بيضاء قضاها في فندق قديم في حي شعبي لهذه المدينة العريقة.
لقد قرأ روائع الأدب العالمي من الشرق: جبران خليل جبران، والمنفلوطي، ونجيب محفوظ، ومن الأدب العالمي الغربي: وليم شكسبير، فيكتور هيغو، ألبرتو مورافيا، أرنست همنغواي...وطالع كتب الفكر كأعمال عباس محمود العقاد، طه حسين، زكي نجيب محمود، مالك بن نبي، عبد الله شريط، وعبد المجيد مزيان...
كل الأدباء يحبون السفر إلا القليل منهم يفضلون الاستقرار في مكان واحد أمثال الفيلسوف إيمانويل كانط الذي عاش ومات في برلين، والأديب المصري نجيب محفوظ الذي لم يغير عاداته إلّا مرة واحدة للذهاب إلى أستكهولهم في رحلة مدفوعة الأجر لتسلم جائزة نوبل في الآداب من أيادي ملك السويد ورئيس أكاديميتها الوطنية.
أما الأستاذ خلف فقد كان رحالة يسافر في داخل الوطن وخارجه ليكتشف الأماكن ويقيّد الأسماء ويتعرف على التقاليد والعادات والثقافات؛ فسافر إلى تونس فزار ساحلها كتونس والمنستير، وزار جنوبها كالقيروان، وزار تركيا مصر والمغرب والمملكة العربية السعودية لأداء فريضة الحج وسُنة العمرة عدة مرات. وقد توقف عندها ووصف هذه الرحلة الروحية التي لا تنسى.
قد ذكرتني مشاهداته وخواطره في الحج برحلة المفكر المسلم النمساوي محمد أسد ورحلة المفكر الألماني مراد هوفمان، وقبلهما قصة "لبيك" لمالك بن نبي.
أما الرحلات نحو العالم الغربي فقد زار فرنسا على مضض ثم لما جال فيها وصال أعجبته مدنها وحدائقها الخضراء وشوارعها الواسعة وساحاتها النظيفة وخاصة الحي اللاتيني الذي يُعتبر قلب الثقافة في عاصمة باريس سحَر عقول وقلوب رفاعة الطهطاوي، وقاسم أمين، وزكي مبارك، وتوفيق الحكيم، مالك بن نبي، وسهيل إدريس..
كما زار مهد الفلسفة اليونانية في عام 1993 ورومانيا في عز بؤسها... تمنيت لو كتب لنا الأستاذ بشير خلف كتابا عن رحلاته في المشرق والمغرب مثل ما فعل هؤلاء الأدباء والمثقفين العرب.
اهتم الصحافيون والكُتاب بهذا الكتاب وقدموه للقُراء، وقد كان ختام الاحتفاء بهذا في جامعة الوادي حيث أنجز حوله الطلبة مذكرات الماستر، وقد حرص على حضور جلسات المناقشة. ما أجمل هذا التكريم، وخاصة أنه تزامن مع ذكرى 83 لميلاده.
وما زال الأستاذ خلف يملك ذاكرة قوية وإرادة صلبة وهِـمّة كبيرة لمواصلة العطاء الأدبي والفكري كما لمست منه ذلك في زيارتي الأخيرة إلى وادي سوف، ّ على موادعتي في مطار قمار إلى آخر لحظة.
تحية محبة وتقدير إليه وإلى كل الأدباء من جيله الذي ساهم في تحرير الوطن وبناء الجزائر.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى