ج3
31- غسان كنفاني: القراءة وإساءة القراءة والذاكرة الخداعة
أفدت، وأنا أكتب عن أدب غسان كنفاني، من الدراسات السابقة التي أنجزت عنه.
أقرأ الأعمال أولاً - أي المتن، ثم أقرأ الهامش - أي الدراسات، ولم أكن لأسلم باستنتاجات الدارسين، إذ كنت أتأكد من المتن.
هكذا فعلت عندما كتبت عن البنية السردية في الرواية الفلسطينية. قرأت دراسة رأى صاحبها وهو يدرس «ما تبقى لكم» الآتي:
«يختفي الراوي كلية في رواية «ما تبقى لكم»». ولما عدت إلى الرواية وجدت أن السارد حاضر في صفحاتها الأولى.
وأردت مرة أن أتأكد من دقة أحكام ناقد أصدر كتاباً عن غسان دون أن يفيد من الدراسات السابقة، فعدت إلى المتن، وهو «رجال في الشمس»، للتأكد من استنتاجاته - أي الناقد.
يورد الناقد الآتي:
«لم تحدد الرواية عبر السرد الزمن الذي حدثت فيه الأحداث بالضبط، ولكن سياق السرد والأحداث والقرائن تشير إلى أن الأحداث حدثت بعد النكبة، وربما يصح اعتبار سنة النشر الأولى ١٩٦٣ زمناً روائياً - أي زمن القص (زمن وقوع الأحداث) بلغة النقد الروائي..».
وإذا كانت النكبة حدثت في ١٩٤٨ فإن المتن يخبرنا أن سفر الفلسطينيين الثلاثة إلى الكويت كان بعد عشر سنوات تماماً - أي في ١٩٥٨، لا في سنة ١٩٦٣.
لقد اختلطت على الناقد مصطلحات الزمن فلم يميز تمييزاً دقيقاً بينها؛ زمن الكتابة وزمن النشر وزمن السرد والزمن الروائي، ولا أريد أن أكتب هنا عن الزمن النفسي وهو في الرواية مهم جداً.
الناقد نفسه لم يكن ملماً إلماماً كافياً بحياة غسان واللغات التي أتقنها وقرأ فيها. مثلاً يذهب إلى أن غسان يناقش «أثر الأدب المكتوب باللغة العبرية في الحركة الصهيونية» وأنه - أي غسان - يعد «من الرواد الذين اهتموا بالأدب العبري...» ولم يكن غسان يقرأ بالعبرية، بل بالإنجليزية.
في موطن ثالث يخلط بين مروان وأبيه، فأبو مروان هو من كان يطمح أن يتحرك من بيت الطين الذي يشغله في المخيم، لا ابنه مروان «ويصورها غسان بقوله متحدثاً عن مروان...». إن الكلام هو كلام مروان في رسالته إلى أمه حين يأتي على ذكر أبيه الذي ترك عائلته ليتزوج من امرأة تملك البيت.
في كتاب صدر مؤخراً في طبعتين يقول مؤلفه إنه يقدم قراءة مختلفة يتكرر الخطأ نفسه في أربعة مواقع، فخلدون/ دوف الجندي يصبح خالد الفدائي، وخالد الفدائي يصبح الجندي الإسرائيلي.
وفي إحدى الدراسات لـ»عائد إلى حيفا» يعود فارس اللبدة إلى بيته في حي العجمي في عكا، ويعيد صورة أخيه بدر «لأنه لم يحافظ على البيت وعكا»، علما أن مدينة فارس التي يزورها هي يافا.
وثمة باحث يكتب عن «ما تبقى لكم» ويشير إلى تأثرها بـ»الصخب والعنف» لفوكنر ودائرة الطباشير القوقازية» لبريخت، والصحيح هو أن غسان أفاد من بريخت في «عائد إلى حيفا».
وفي كتاب عن الرواية الفلسطينية باللغة الإنجليزية نقل إلى العربية صار الأستاذ سليم في «رجال في الشمس» «أبو سليم»، وصارت الرواية نفسها «في صميمها رواية الطبقة العاملة وقصة العدالة المهاجرة التي يمكن الاستغناء عنها ولفظها».
وليس في الرواية شيء من هذا، فلا كتابة عن طبقة عاملة ولا هناك من يستغني عنها ويلفظها.
الجمعة ١/ ٩ / ٢٠٢٣ قرأت مقالة عن غسان في جريدة أردنية لأكاديمي يتناول فيها شخصية أبو الخيزران في «رجال في الشمس» وفيها يرد الآتي:
«فالرجل كما تصوره الرواية وكما دل عليه عنوانها فاقد الرجولة... وفي تاريخه أنه عمل قبل العام ١٩٤٨مع الجيش البريطاني ولم يساعد المجاهدين الفلسطينيين على مقاومة العصابات الصهيونية».
وعدا أن عنوان الرواية لا يدل على أن أبو الخيزران فاقد الرجولة، فنحن نعرف هذا من المتن، فإن الرجل انضم إلى المجاهدين ولبى دعوتهم وقاد المصفحة وفي المعركة فقد رجولته.
لا أريد أن أبرئ نفسي أيضاً، فمرة وأنا أكتب عن «غسان ساخراً» ذهبت إلى أنه كذلك في كتابه «فارس.. فارس» ولم تبد السخرية في رواياته، ثم وأنا أعيد مؤخراً قراءة «رجال في الشمس» عثرت على مواطن قليلة ساخرة. كما أخطأت مرة حين ذهبت إلى أن المرحومة شادية أبو غزالة هي الشخصية النسوية في «برقوق نيسان» ثم عرفت أنها وداد قمري.
ترى ما الذي يجعلنا نقع في إساءة القراءة هذه؟
يكتب (بيرسي لوبوك) في كتابه «صنعة الرواية» فصلاً عنوانه «قراءة الرواية» يرى فيه «أن بداية النقد هي القراءة السليمة» فالذاكرة خداعة، والاعتماد عليها وحدها في النقد لا يكفي.
ويرى التفكيكيون أن كل قراءة هي إساءة قراءة، وأن القارئ قد يعود إلى قراءته في وقت لاحق فينقضها، إذ من الممكن أنه في لحظة قراءته الأولى كان يقرأ ما في عقله أيضاً، وما في عقله قد يختلف من وقت إلى آخر.
هناك اجتهاد آخر هو أن كثيراً من الدارسين يعتمدون على قراءة دراسات سابقة عن النصوص ولا يعودون إلى النصوص للتأكد منها.
هل اقتصر هذا على غسان كنفاني ونصوصه؟
يبدو أنه من الملح التوقف أيضاً أمام إميل حبيبي وروايته «المتشائل» فقد تكتمل الصورة ويتحقق الغرض من وراء كتابة هذه الكتابة.
عادل الأسطة
2023-09-10
***
32- في ذكرى غسان كنفاني: غسان وحضوره في الروايتين الفلسطينية والعربية
مرّة أثار قارئ أدب غسان كنفاني السؤال التالي: من يكمل روايات غسان كنفاني غير المكتملة؟
ومرّة قرأنا خبراً عن الروائي الإسرائيلي سامي ميخائيل وإحدى رواياته التي عدّت متمّمة لإحدى روايات كنفاني. (سامي ميخائيل يلبي نداءنا، الأيام، 24/4/2006).
في ذكرى كنفاني، الغائب الحاضر، يراود المرء السؤال التالي: ما مدى حضوره في الرواية الفلسطينية والعربية؟
من خلال متابعتي للأدبيات الفلسطينية والعربية تكونت لديَّ قناعة أن أكثر ثلاثة أدباء فلسطينيين كان لهم حضور في النصوص الأدبية هم كنفاني ودرويش وحبيبي؟ ومن خلال تدريسي وحواراتي مع القراء ألاحظ أن الأولين، كنفاني ودرويش، هما الأكثر قراءة.
قبل وفاة محمود درويش بأشهر اتصلت بي دارسة فلسطينية من اللّد تسألني عن الشاعر الذي كان موضع رسالة تعدها لجامعة إسرائيلية، عنوان الرسالة: تأثير درويش في الوعي الشعبي الفلسطيني. وفي العام 2011 زرت (فاس) المغربية لأشارك في مؤتمر عن علاقة الأدب العربي بالآداب العالمية: التأثر والتأثير، وأهداني الدكتور المصطفى عمراني رسالته: “مناهج الدراسات السردية وإشكالية التلقّي: روايات غسان كنفاني نموذجاً” (2011)، وفيها يدرس دراسات دارسي كنفاني، أكثرهم، فثمة دراسات مهمة جداً لم يأت عليها، وحين قلت له عنها، أخبرني أنه لم يستطع الحصول عليها، فلم يكن ثمة من يتعاون معه من أجل توفيرها.
في النصوص الروائية الفلسطينية حضرت روايات محددة لكنفاني دون غيرها وأهمها: “رجال في الشمس” (1963) و”عائد إلى حيفا” (1969). حضرت هذه كما لم تحضر أية رواية لغسان، أو أية مسرحية أو أية قصة قصيرة.
الخزان وما يرمز إليه، والسؤال: لماذا لم يدقوا جدران الخزان، والمقارنة بين نهاية الرواية ونهاية فيلم “المخدوعون” لتوفيق صالح، وتعريف الوطن ومأساة (دوف): الإنسان قضية أم أنه من لحم ودم؟
في رواية أحمد حرب “الجانب الآخر لأرض الميعاد” (1990) حضر أبو قيس وحضر الخزان وحضر السؤال، بل إن الرواية كلها حضرت لتعد مسرحية تمثل، فهي تتشابه مع ما يجري. يوم صدرت الرواية كانت انتفاضة 1987 في ذروتها، وكان الفلسطينيون يدقون الجدران. وتساءل المثقف/ الكاتب عن نهاية الرواية التي رأى فيها نهاية محبطة (ص137، ص138).
ولم تختلف رواية زياد عبد الفتاح “ما علينا” (2004) كثيراً عن رواية حرب، فلقد كان حضور كنفاني فيها لافتاً، وستحضر فيها شخصية أبو الخيزران بدلالاتها الرمزية. في الدول العربية يسرقون مال إحدى الشخصيات وأغراضها، فيتذكر أبا الخيزران الذي سرق الساعات.. “وربما الخواتم والنقود من الموتى، في رواية كنفاني” (ص121 من طبعة دار الهلال).
في رواية عاطف أبو سيف “حياة معلقة” (2014) يحلم أحد الفلسطينيين بأنه “سيكون أشطر من غسان كنفاني لو كتب رواية” ص65، ويرى أن الأبناء “يعيدون سيرة الآباء، وكأن ثمة شيئاً في التاريخ لا يمضي” (ص27) كأنه يريد أن يعيد سيرة غسان، ويتحدث عن الحلم الجماعي والحلم الفردي، وهذا مغزى رواية “رجال في الشمس”، فلقد قتل غسان أبطاله لأنهم بحثوا عن حلول فردية، لا عن حلول جماعية. وكما كان غسان يربط بين أحداث جرت في أزمنة مختلفة، في رواية “ما تبقى لكم” (1966)، فقد امتازت رواية أبو سيف بهذا.
هل رأى إلياس خوري الكاتب اللبناني نفسه وريث غسان كنفاني؟ وهل أراد أن يُكمل ما لم يُكمله غسان؟
الإجابة عن السؤال السابق نعثر عليها في رواية “باب الشمس” (1998) في (ص43)، إذ كان يفترض في غسان أن يكتب رواية يونس وقصته، ولكنه لم يفعل لأسباب، مع أن د. جورج حبش كان أرسل غسان إلى يونس ليصغي منه إلى قصته. دوّن غسان حكاية يونس ولم يكتبها، وهناك أسباب فيها أن حكاية يونس لم تكن اكتملت لتصبح ذات دلالة رمزية، ومنها أن “الموساد” اغتال غسان في 1972، وربما يكون عزم على كتابة القصة، كما فعل في روايات أخرى، ولكن استشهاده حال دون الكتابة. وما لم يكتبه غسان كتبه إلياس.
في روايتي إلياس “باب الشمس” و”أولاد الغيتو” ما يذكّر بقوة بروايتي غسان “رجال في الشمس” و”عائد إلى حيفا”، وبشكل أقل بالرواية غير المكتملة “الأعمى والأطرش”.
الأسئلة إياها: لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟ والنهاية ما بين الرواية والفيلم الذي أنتجه وأخرجه توفيق صالح “المخدوعون”، والدلالة الرمزية للرواية. وقصة (دوف) الذي غدا إسرائيلياً، بعد أن تركه أبواه سعيد. س وصفية في سريره في حيفا في 1948.
إن حكاية بطل رواية “أولاد الغيتو” تستحضر حكاية خلدون (دوف)، وهناك ما هو أكثر من هذا: “هل صحيح يا أبي إنهم صنعوا بلداً أوروبياً؟” (ص371، وهذا ما ورد على لسان صفية تقريباً في “عائد إلى حيفا”.
وموت وضاح اليمن في الصندوق، في الرواية التي أراد آدم أن يكتبها، لا تختلف عن موت أبطال كنفاني في الخزان.
غسان كنفاني الذي استشهد في 8/7/1972، ما زال حاضراً، وبقوة، في أذهان القراء، وفي نصوص الروائيين أيضاً!!
الايام
***
33- غسان كنفاني ... ورقة من غزة
أحاول أن أتذكر أول نص قرأته لغسان كنفاني ومتى قرأته، فلا تسعفني الذاكرة.
ربما أكون قرأت "نجران تحت الصفر" ليحيى يخلف قبل أن أقرأ أي كتاب أو قصة لغسان، وإن كان ثمة سبب فهو أنني درست في الأردن، ولم تكن كتب غسان تباع في المكتبات هناك، أو أنها كانت تباع دون أن أعثر عليها أو أتعثر بها، فيما كانت رواية يحيى الصادرة حديثا عن دار الآداب - طبعا في حينه في أواسط 70 ق20 - تباع في مكتبة في الجامعة الأردنية، مكتبة تبيع الكتب الصادرة حديثاً في بيروت.
وربما عرفت غسان في العام 1977، بعد استشهاده بخمس سنوات، وتحديداً يوم أعادت دار صلاح الدين في القدس ودار الأسوار في عكا طباعة نتاجه الأدبي.
قرأته ولم أكتف بهذا، بل أخذت أعرف طلاب المدرسة الصلاحية في نابلس، وطلاب المدرسة العقربانية في الأغوار به، إذ بدأت تأسيس مكتبة صفية يسهم الطلبة فيها، هل كنت يومها متهوراً؟
أحببت غسان من خلال نتاجه، ومن خلال رثاء محمود درويش النثري له "غزال يبشر بزلزال"، ولا أعرف، حتى اللحظة، نصاً شعرياً لدرويش في رثاء غسان.
ولما كنت، في مدارس الوكالة، أسهم في النشاط الثقافي الخارجي، فقد اقترحت نص درويش لمسابقة الإلقاء، لمدارس الوكالة في منطقة شمال الضفة، وهكذا حفظه بعض الطلاب عن ظهر قلب، ومنذ غدوت محاضراً في جامعة النجاح الوطنية، في العام 1982، غدا غسان حاضراً في مساقاتي باستمرار.
كاتب متجدد :
ما من عام يمر إلاّ وكتبت مقالاً في ذكراه أو شاركت في ندوة حول أدبه أو ترجمت كتاباً صغير الحجم عنه أو دراسة حول نص من نصوصه، أو كتبت ورقة لمؤتمر حول أدبه وتأثره بالآداب العالمية، ومنها الصهيونية، أو تأثيره في الأدب الفلسطيني.
وأحياناً كثيرة تجدُّ مناسبة ما، فأرى في نصوص غسان ما يسعف في الاعتماد عليها لربط الحاضر في الماضي.
قبل أسبوعين كتب فتحي أبو مغلي في الأيام، في زاويته "طرطشات"، طرطشة عن بعض إخوتنا العائدين، إثر أوسلو، هؤلاء الذين أنهوا خدمتهم وتقاعدوا، وما عاد يربطهم بالوطن سوى راتب التقاعد، حيث حزموا حقائبهم ورحلوا.
أشار أبو مغلي في كتابته إلى محمود درويش وسطره: وطني ليس حقيبة. هذا إذا لم تخني الذاكرة، ولفت أنظار العائدين إلى أن الوطن غدا لهم حقيبة وراتبا، ليس أكثر.
طرطشة أبو مغلي أعادتني إلى قصة كنفاني "ثلاث أوراق من فلسطين" من مجموعته "أرض البرتقال الحزين" (1963)، وتحديداً الورقة الثالثة التي عنوانها "ورقة من غزة".
هكذا ذهبت إلى أن كنفاني كاتب ما زال يقرأ، وما زالت نصوصه طازجة، كأنها كتبت للتو، مع أنه مر على كتابة القصة ثمانية وخمسون عاماً تقريباً.
قبل فترة نشرت في الأيام الفلسطينية، في زاوية دفاتر، مقالة تمحورت حول سحر خليفة وعزمي بشارة (8/9/2013) وأتيت فيها على رحيل هذين والإقامة في المنفى، متتبعيْن خطى محمود درويش الذي غادر في 1970، ولم يعد إلاّ بعد (أوسلو) ليستقر في رام الله.
وكانت هجرته أثارت ضجة كبيرة، وظل هو يعبّر عن ندمه لقيامه بها: لماذا نزلت عن الكرمل؟ سحر خليفة غضبت مني، ولا أعرف رد فعل عزمي بشارة.
ملاحظة فتحي أبو مغلي هي ملاحظة قديمة جديدة، فقد ترددت على لسان بعض موظفي وزارة الثقافة، وهم يتحدثون عن أسماء أدبية بارزة عادت إلى الضفة إثر أوسلو، ولكنها سرعان ما غادرت الوطن، بعد أن حصلت على وظيفة في الوزارة، ولم تعد تتردد على الوزارة إلاّ لتسأل عن العلاوة السنوية، كأن الضفة لم ترق لهؤلاء، وكأنهم اعتادوا على العواصم الكبيرة أو.. أو.. أو....
ورقة من غزة :
فكرة الصمود على أرض الوطن وعدم مغادرته تعود إلى فترة مبكرة.
إميل حبيبي عاد إلى فلسطين، إثر نكبة 1948، متسللاً وقرر أن يظل في حيفا، وكلنا نعرف عبارته الشهيرة التي طلب من أهله وأصدقائه أن يكتبوها على شاهد قبره "باقٍ في حيفا". هل كان غسان كنفاني حين كتب قصته "ورقة من غزة" (1956) سمع بإميل حبيبي؟
كان كنفاني، يوم كتب قصته، يقيم في الكويت، ومن خلال إقامته هناك استوحى أفكاراً وشخصيات وأحداثاً مر بها الفلسطينيون المقيمون هناك. فكرة رواية "رجال في الشمس" (1963) مثلاً، وربما فكرة "ورقة من غزة" فلم يكن غسان يقيم في غزة، ولم يكن أقام فيها، وأظن أنه زارها في 60 ق20.
قصة القصة:
القصة التي اتخذت شكل الرسالة تدور حول صديقين تربيا معاً في غزة، وتعلّما، وقررا أن يعملا في الكويت ليوفرا المال، ومن ثم ليسافرا إلى كاليفورنيا، ويواصلا الدراسة هناك في جامعاتها، وبذلك يصبحان غنيين، يودعان الفقر، ويهربان من غزة، ويستمتعان بملذات الحياة، "إنني أكره غزة، ومن في غزة: كل شيء في هذا البلد المقطوع يذكرني بلوحات فاشلة رسمها بالدهان الرمادي إنسان مريض، نعم.." "ما هذا الشيء الغامض الذي كان يربطنا إلى غزة فيحد من حماسنا إلى الهروب؟" وحين يعود إليها الراوي/ كاتب الرسالة الضمني، بعد إقامة عام في الكويت، ليقضي إجازته فيها وجدها كما عهدها وصديقه مصطفى تماماً: "انغلاقاً كأنه غلاف داخلي، ملتف على نفسه، لقوقعة صدفة قذفها الموج إلى الشاطئ الرملي اللزج قرب المسلخ، غزة هذه أضيق من نفس نائم أصابه كابوس مريع، بأزقتها الضيقة، ذات الرائحة الخاصة، رائحة الهزيمة والفقر...." (ص344، أ. ك).
ومع أن مصطفى سافر إلى كاليفورنيا، ودرس في جامعتها، وأعد العدة لصديقه حتى يلتحق به، إلاّ أن الصديق يقرر البقاء في غزة وعدم العودة إلى الكويت أو السفر إلى كاليفورنيا والسبب يكمن في أنه رأى ابنة أخيه الشهيد نادية، وقد بترت ساقها، في غارة صهيونية، من أعلى الفخذ.
أرادت نادية أن تنقذ أخويها، فأصيبت، وكان بإمكانها أن تهرب فتنجو، ولكنها لم تفعل، وهكذا تعلم عمها منها درس التضحية بالذات من أجل الآخرين." لن آتي إليك.. بل عد أنت لنا. عد.. لتتعلم من ساق نادية المبتورة من أعلى الفخذ، ما هي الحياة، وما قيمة الوجود.. عد يا صديقي فكلنا ننتظرك". (ص350).
سميح القاسم: إليك هناك حيث تموت
بعد كتابة كنفاني قصته بعشر سنوات كتب سميح القاسم قصيدته الشهيرة "إليك هناك حيث تموت" ووجهها لصديق قديم يقيم في بيروت طلب منه، بعد هزيمة حزيران مباشرة، أن يغادر حيفا وأن يقيم في بيروت، ففيها الحياة أرحب -لم يكن محمود درويش هاجر بعد، والقصيدة أسيئت قراءتها - ولم ترق الرسالة لسميح فهاجم صديقه القديم وأنهى قصيدته بقوله:
"إليك هناك.. يا جرحي ويا عاري/ ويا ساكب ماء الوجه في ناري/ إليك إليك من قلبي المقاوم جائعاً عاري/ تحياتي وأشواقي/ ولعنة بيتك الباقي". هل اختلفت قصيدة عبد اللطيف عقل التي كتبها بعد عشرين عاماً تقريباً من كتابة القاسم قصيدته عن قصيدة الأخير؟ وسينهي عقل قصيدته بقوله:
"شكراً يا صديق طفولتي/ اختلفت بنا السبلُ
أنا نبض التراب دمي/ فكيف أخون نبض دمي وارتحل".
كأننا لا رحنا ولا جينا. ما كتبه كنفاني كتبه القاسم وعقل، بل ومحمود درويش أيضاً في 2002: "واقفون هنا. قاعدون هنا. دائمون هنا/ خالدون هنا. ولنا هدف واحد واحد: أن نكون". و... و... كأن كنفاني كتب للتو قصته!! كأنه.
عادل الأسطة
2014-07-06
***
34- غسان كنفاني في ذكراه 52
في الحرب الدائرة حاليا ، في جنوب فلسطين وشمالها / الجنوب اللبناني وفي الضفة الغربية ، منذ ٧ أكتوبر لم يغب أدباء فلسطينيون راحلون عن مقالاتي في جريدة الأيام الفلسطينية وموقع السكة الإخباري ويومياتي في صفحتي في الفيس بوك . إبراهيم طوقان وعبد الكريم الكرمي ( أبو سلمى ) وغسان كنفاني وسميرة عزام وفدوى طوقان ومحمود درويش وإميل حبيبي وسميح القاسم وأحمد دحبور وغيرهم وغيرهم . وأكاد أجزم أنه ما من مقال كتبته خلا من اقتباس أو تضمين ، من قصيدة أو قصة قصيرة أو رواية ، فالحدث يستدعي شبيهه والكتابة التي كتبت فيه أيضا ، وليست الكتابة كتابة يصح فيها القول ” ما أرانا نقول إلا معادا مكرورا ” ، أو ينطبق عليها نقد قارئي الجزء الأول من رواية إميل حبيبي ” الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد ابي النحس المتشائل ” ( ١٩٧٤ ) له – وهو ما أورده إميل في الجزء الثاني – ونصه :
” احتفز الأستاذ ليشب فوقع دون كنديد إلى الوراء مائتي عام ”
في إشارة إلى رواية الفرنسي ( فولتير ) ” كنديد ” .
ولا بأس من الاستشهاد برأي حبيبي في الموضوع :
” لا تلمني ، بل لم هذه الحياة التي لم تتبدل منذ ذلك الحين ، سوى أن ” الدورادو ” قد ظهرت فعلا على هذا الكوكب ” ، والدورادو هي بلد خيالي ساده العدل . ( هل قصد حبيبي الاتحاد السوفيتي ؟) .
وحكايتنا ، نحن الفلسطينيين ، منذ ١٩٤٨ ، لا تتغير إلا في التفاصيل ، ولم يغد قطاع غزة أو مناطق السلطة الفلسطينية الدورادو بشر بها الرئيس الفلسطيني أبو عمار – سنغافورة .
وأكاد أجزم أن نصوص غسان كنفاني ومحمود درويش كانت ، منذ ٧ اكتوبر ، في نصوصي على الأقل ، الأكثر حضورا . ويتطلب استقصاء ما حضر منها إعادة قراءة كل ما كتبت ورصده وتوثيقه . ولعل سبب حضور تلك النصوص يعود إلى تدريسي المتواصل لها والكتابة عنها في الصحف والمجلات ووسائل التواصل الاجتماعي وإلى مشاركتي في مؤتمرات وندوات عديدة خص القائمون عليها هذين الاسمين أكثر من غيرهما .
في نهاية شباط ٢٠٢٤ شاركت في ندوة ، في معرض الكتاب في سلطنة عمان ، تمحورت حول ” الأرض في الأدب الفلسطيني ” ركز فيها صبحي حديدي على أشعار محمود درويش وفخري صالح على على شعر درويش ووليد سيف وعز الدين المناصرة وأنا على بدايات الرواية الفلسطينية وروايات غسان كنفاني . لقد دعيت إلى الندوة لمقال نشرته في الحرب تحت عنوان ” هل تتواطأ ارض غزة مع أبنائها ضد غزاتها ” ، بل إن المقال نفسه كان سببا لإجراء حوار ثقافي معي حول فكرته ، وفيه ركزت على روايات كنفاني ” رجال في الشمس ” و ” ما تبقى لكم ” و ” العاشق ” ، وهي روايات ، بالإضافة إلى روايتي ” عائد إلى حيفا ” و ” أم سعد ” ، اقتبست منها كثيرا في الأشهر التسعة الأخيرة .
هل اقتصر الأمر على الروايات وحسب ؟ وماذا عن قصص غسان كنفاني القصيرة ؟
أشير ابتداء إلى أن غسان حضر في مجالنا الثقافي روائيا أكثر من حضوره كاتب قصة قصيرة وكاتب مسرحية وأيضا كاتب مقال سياسي أو أدبي أو اجتماعي . ويستطيع المرء أن يتأكد من هذا إن رصد ما كتب عنه في كل جنس أدبي من الأجناس المشار إليها . بل إن الأسئلة التي آثارها في رواياته كانت الأكثر حضورا . سؤال الوطن وسؤال لماذا لم يدقوا جدران الخزان وسؤال كان عليكم ألا تخرجوا وعبارات ” خيمة عن خيمة بتفرق ” و ” تستطيعان البقاء مؤقتا في بيتنا ، فذلك شيء تحتاج تسويته إلى حرب ” و … و … و .
ولا أظن أن القراء ، وأنا مثلهم ، استحضرنا ونحن نحكي عن أدب غسان ، من قصصه القصيرة ومسرحياته ، أسئلة وعبارات شاعت شيوع الأسئلة والعبارات السابقة .
ولأنني درست بعض قصصه القصيرة فقد حضرت في كتاباتي ولم تحضر في كتابات كتاب آخرين ، ومن هذه القصص قصة ” ثلاث أوراق من فلسطين ” وتحديدا ” ورقة من غزة ” وقصة ” درب إلى خائن ” وقصة ” الصغير يذهب إلى المخيم / أو زمن الاشتباك ” وقصة ” كعك على الرصيف ” وقصة ” القميص المسروق ” .
حضرت قصة ” ورقة من غزة ” لأنها تحكي عن المكان نفسه – أي غزة – وعذابات أهلها والاعتداءات الإسرائيلية المتكررة عليه وفكرة البقاء في المكان وعدم مغادرته .
وحضرت قصة ” درب إلى خائن ” لأنها حكت عن حصار النظام العربي للفلسطيني ومنعه من التسلل إلى بلاده التي طرد منها والوقوف في وجهه إن فعل ذلك وملاحقته وإن أمكن منعه من دخوله أراضيها – أي أراضي البلد العربي .
وحضرت قصة ” الصغير يذهب إلى المخيم ” لأنها تأتي على اشتباك الفلسطينيين مع الحياة يوميا وتراجع الفضائل في زمن الاشتباك ؛ لأن الفضيلة الأولى في زمن الاشتباك هي أن تبقى على قيد الحياة ، ومنذ ٧ أكتوبر وأهل قطاع غزة من المدنيين يشتبكون مع الحياة في كل شيء : الحصول على خيمة أو رغيف خبز أو شربة ماء أو جرة غاز أو علبة دواء أو ملابس شتوية أو صيفية أو حتى حفر قبر لدفن الموتى وما أكثرهم !
وحضرت قصة ” كعك على الرصيف ” لأن أطفال غزة منذ بداية الحرب لم يذهبوا إلى المدارس التي صارت مراكز إيواء للسكان المدمرة بيوتهم ، بل ساحوا – أي الأطفال – في الشوارع يبيعون ” الشيبس ” وكعك العيد وأشياء أخرى .
وحضرت قصة ” القميص المسروق ” حضورا لافتا أيضا وذلك لأنها تأتي على سرقة مخصصات اللاجئين الفلسطينيين في المخيمات والتلاعب بها ومعاناة أصحابها من الجوع والبرد والاستغلال ، وهذه موضوعات قال فيها أبناء قطاع غزة منذ ٧ أكتوبر ٢٠٢٣ أطنانا من الكلام إن كان الكلام يوزن حقا وكتبوا فيها الكثير والكتابة يمكن أن تقاس أحجامها عموما كما ويمكن أن يميز بينها نوعا ، وهناك كلام من ذهب أو يقاس بميزان الذهب .
إننا نقرأ في صفحات أبناء قطاع غزة النشيطين فيسبوكيا عشرات ، إن لم يكن مئات ، المنشورات التي تأتي على الاستغلال وسوء التوزيع والسوق السوداء وجشع التجار والسرقات و .. و … وهذا كله لم تخل منه كتابات غسان الروائية والقصصية . إن قصة ” القميص المسروق ” مثال لذلك وقبلها قصة سميرة عزام ” لأنه يحبهم ” .
هل يتذكر مثلا قراء رواية ” رجال في الشمس ” جشع المهربين عبر الحدود الأردنية – العراقية والحدود العراقية الكويتية واستغلالهم حاجة الفلسطيني للوصول إلى الكويت . إن ما حدث في معبر رفح قبل اجتياحها لهو شبيبه بما حدث مع أبو قيس وأسعد ومروان .
في ” رجال في الشمس ” يتحول فلسطينيان شاركا في حرب العام ١٩٤٨ إلى سائقي سيارات يهربان الفلسطينيين بسياراتهما عبر الحدود مقابل مبالغ مالية . يهرب أبو العبد الشاب أسعد من الأردن إلى العراق مقابل مبلغ عشرين دينارا ويراعيه في ذلك لأنه كان يعرف والد أسعد ” بل إننا قاتلنا سوية في الرملة منذ عشر سنوات ” – أي منذ ١٩٤٨ . ويهرب أبو الخيزران الذي أصيب في حرب ١٩٤٨ الفلسطينيين الثلاثة ؛ أبو قيس وأسعد ومروان ، عبر الحدود العراقية الكويتية بعد صفقة راعى فيها ظروفهم ، قياسا إلى ما طلبه منهم الرجل العراقي السمين صاحب مكتب التهريب هذا الذي بدا فظا جلفا طويل اليد بذيء اللسان .
***
ـــــــــــــــ
31- غسان كنفاني: القراءة وإساءة القراءة والذاكرة الخداعة
أفدت، وأنا أكتب عن أدب غسان كنفاني، من الدراسات السابقة التي أنجزت عنه.
أقرأ الأعمال أولاً - أي المتن، ثم أقرأ الهامش - أي الدراسات، ولم أكن لأسلم باستنتاجات الدارسين، إذ كنت أتأكد من المتن.
هكذا فعلت عندما كتبت عن البنية السردية في الرواية الفلسطينية. قرأت دراسة رأى صاحبها وهو يدرس «ما تبقى لكم» الآتي:
«يختفي الراوي كلية في رواية «ما تبقى لكم»». ولما عدت إلى الرواية وجدت أن السارد حاضر في صفحاتها الأولى.
وأردت مرة أن أتأكد من دقة أحكام ناقد أصدر كتاباً عن غسان دون أن يفيد من الدراسات السابقة، فعدت إلى المتن، وهو «رجال في الشمس»، للتأكد من استنتاجاته - أي الناقد.
يورد الناقد الآتي:
«لم تحدد الرواية عبر السرد الزمن الذي حدثت فيه الأحداث بالضبط، ولكن سياق السرد والأحداث والقرائن تشير إلى أن الأحداث حدثت بعد النكبة، وربما يصح اعتبار سنة النشر الأولى ١٩٦٣ زمناً روائياً - أي زمن القص (زمن وقوع الأحداث) بلغة النقد الروائي..».
وإذا كانت النكبة حدثت في ١٩٤٨ فإن المتن يخبرنا أن سفر الفلسطينيين الثلاثة إلى الكويت كان بعد عشر سنوات تماماً - أي في ١٩٥٨، لا في سنة ١٩٦٣.
لقد اختلطت على الناقد مصطلحات الزمن فلم يميز تمييزاً دقيقاً بينها؛ زمن الكتابة وزمن النشر وزمن السرد والزمن الروائي، ولا أريد أن أكتب هنا عن الزمن النفسي وهو في الرواية مهم جداً.
الناقد نفسه لم يكن ملماً إلماماً كافياً بحياة غسان واللغات التي أتقنها وقرأ فيها. مثلاً يذهب إلى أن غسان يناقش «أثر الأدب المكتوب باللغة العبرية في الحركة الصهيونية» وأنه - أي غسان - يعد «من الرواد الذين اهتموا بالأدب العبري...» ولم يكن غسان يقرأ بالعبرية، بل بالإنجليزية.
في موطن ثالث يخلط بين مروان وأبيه، فأبو مروان هو من كان يطمح أن يتحرك من بيت الطين الذي يشغله في المخيم، لا ابنه مروان «ويصورها غسان بقوله متحدثاً عن مروان...». إن الكلام هو كلام مروان في رسالته إلى أمه حين يأتي على ذكر أبيه الذي ترك عائلته ليتزوج من امرأة تملك البيت.
في كتاب صدر مؤخراً في طبعتين يقول مؤلفه إنه يقدم قراءة مختلفة يتكرر الخطأ نفسه في أربعة مواقع، فخلدون/ دوف الجندي يصبح خالد الفدائي، وخالد الفدائي يصبح الجندي الإسرائيلي.
وفي إحدى الدراسات لـ»عائد إلى حيفا» يعود فارس اللبدة إلى بيته في حي العجمي في عكا، ويعيد صورة أخيه بدر «لأنه لم يحافظ على البيت وعكا»، علما أن مدينة فارس التي يزورها هي يافا.
وثمة باحث يكتب عن «ما تبقى لكم» ويشير إلى تأثرها بـ»الصخب والعنف» لفوكنر ودائرة الطباشير القوقازية» لبريخت، والصحيح هو أن غسان أفاد من بريخت في «عائد إلى حيفا».
وفي كتاب عن الرواية الفلسطينية باللغة الإنجليزية نقل إلى العربية صار الأستاذ سليم في «رجال في الشمس» «أبو سليم»، وصارت الرواية نفسها «في صميمها رواية الطبقة العاملة وقصة العدالة المهاجرة التي يمكن الاستغناء عنها ولفظها».
وليس في الرواية شيء من هذا، فلا كتابة عن طبقة عاملة ولا هناك من يستغني عنها ويلفظها.
الجمعة ١/ ٩ / ٢٠٢٣ قرأت مقالة عن غسان في جريدة أردنية لأكاديمي يتناول فيها شخصية أبو الخيزران في «رجال في الشمس» وفيها يرد الآتي:
«فالرجل كما تصوره الرواية وكما دل عليه عنوانها فاقد الرجولة... وفي تاريخه أنه عمل قبل العام ١٩٤٨مع الجيش البريطاني ولم يساعد المجاهدين الفلسطينيين على مقاومة العصابات الصهيونية».
وعدا أن عنوان الرواية لا يدل على أن أبو الخيزران فاقد الرجولة، فنحن نعرف هذا من المتن، فإن الرجل انضم إلى المجاهدين ولبى دعوتهم وقاد المصفحة وفي المعركة فقد رجولته.
لا أريد أن أبرئ نفسي أيضاً، فمرة وأنا أكتب عن «غسان ساخراً» ذهبت إلى أنه كذلك في كتابه «فارس.. فارس» ولم تبد السخرية في رواياته، ثم وأنا أعيد مؤخراً قراءة «رجال في الشمس» عثرت على مواطن قليلة ساخرة. كما أخطأت مرة حين ذهبت إلى أن المرحومة شادية أبو غزالة هي الشخصية النسوية في «برقوق نيسان» ثم عرفت أنها وداد قمري.
ترى ما الذي يجعلنا نقع في إساءة القراءة هذه؟
يكتب (بيرسي لوبوك) في كتابه «صنعة الرواية» فصلاً عنوانه «قراءة الرواية» يرى فيه «أن بداية النقد هي القراءة السليمة» فالذاكرة خداعة، والاعتماد عليها وحدها في النقد لا يكفي.
ويرى التفكيكيون أن كل قراءة هي إساءة قراءة، وأن القارئ قد يعود إلى قراءته في وقت لاحق فينقضها، إذ من الممكن أنه في لحظة قراءته الأولى كان يقرأ ما في عقله أيضاً، وما في عقله قد يختلف من وقت إلى آخر.
هناك اجتهاد آخر هو أن كثيراً من الدارسين يعتمدون على قراءة دراسات سابقة عن النصوص ولا يعودون إلى النصوص للتأكد منها.
هل اقتصر هذا على غسان كنفاني ونصوصه؟
يبدو أنه من الملح التوقف أيضاً أمام إميل حبيبي وروايته «المتشائل» فقد تكتمل الصورة ويتحقق الغرض من وراء كتابة هذه الكتابة.
عادل الأسطة
2023-09-10
***
32- في ذكرى غسان كنفاني: غسان وحضوره في الروايتين الفلسطينية والعربية
مرّة أثار قارئ أدب غسان كنفاني السؤال التالي: من يكمل روايات غسان كنفاني غير المكتملة؟
ومرّة قرأنا خبراً عن الروائي الإسرائيلي سامي ميخائيل وإحدى رواياته التي عدّت متمّمة لإحدى روايات كنفاني. (سامي ميخائيل يلبي نداءنا، الأيام، 24/4/2006).
في ذكرى كنفاني، الغائب الحاضر، يراود المرء السؤال التالي: ما مدى حضوره في الرواية الفلسطينية والعربية؟
من خلال متابعتي للأدبيات الفلسطينية والعربية تكونت لديَّ قناعة أن أكثر ثلاثة أدباء فلسطينيين كان لهم حضور في النصوص الأدبية هم كنفاني ودرويش وحبيبي؟ ومن خلال تدريسي وحواراتي مع القراء ألاحظ أن الأولين، كنفاني ودرويش، هما الأكثر قراءة.
قبل وفاة محمود درويش بأشهر اتصلت بي دارسة فلسطينية من اللّد تسألني عن الشاعر الذي كان موضع رسالة تعدها لجامعة إسرائيلية، عنوان الرسالة: تأثير درويش في الوعي الشعبي الفلسطيني. وفي العام 2011 زرت (فاس) المغربية لأشارك في مؤتمر عن علاقة الأدب العربي بالآداب العالمية: التأثر والتأثير، وأهداني الدكتور المصطفى عمراني رسالته: “مناهج الدراسات السردية وإشكالية التلقّي: روايات غسان كنفاني نموذجاً” (2011)، وفيها يدرس دراسات دارسي كنفاني، أكثرهم، فثمة دراسات مهمة جداً لم يأت عليها، وحين قلت له عنها، أخبرني أنه لم يستطع الحصول عليها، فلم يكن ثمة من يتعاون معه من أجل توفيرها.
في النصوص الروائية الفلسطينية حضرت روايات محددة لكنفاني دون غيرها وأهمها: “رجال في الشمس” (1963) و”عائد إلى حيفا” (1969). حضرت هذه كما لم تحضر أية رواية لغسان، أو أية مسرحية أو أية قصة قصيرة.
الخزان وما يرمز إليه، والسؤال: لماذا لم يدقوا جدران الخزان، والمقارنة بين نهاية الرواية ونهاية فيلم “المخدوعون” لتوفيق صالح، وتعريف الوطن ومأساة (دوف): الإنسان قضية أم أنه من لحم ودم؟
في رواية أحمد حرب “الجانب الآخر لأرض الميعاد” (1990) حضر أبو قيس وحضر الخزان وحضر السؤال، بل إن الرواية كلها حضرت لتعد مسرحية تمثل، فهي تتشابه مع ما يجري. يوم صدرت الرواية كانت انتفاضة 1987 في ذروتها، وكان الفلسطينيون يدقون الجدران. وتساءل المثقف/ الكاتب عن نهاية الرواية التي رأى فيها نهاية محبطة (ص137، ص138).
ولم تختلف رواية زياد عبد الفتاح “ما علينا” (2004) كثيراً عن رواية حرب، فلقد كان حضور كنفاني فيها لافتاً، وستحضر فيها شخصية أبو الخيزران بدلالاتها الرمزية. في الدول العربية يسرقون مال إحدى الشخصيات وأغراضها، فيتذكر أبا الخيزران الذي سرق الساعات.. “وربما الخواتم والنقود من الموتى، في رواية كنفاني” (ص121 من طبعة دار الهلال).
في رواية عاطف أبو سيف “حياة معلقة” (2014) يحلم أحد الفلسطينيين بأنه “سيكون أشطر من غسان كنفاني لو كتب رواية” ص65، ويرى أن الأبناء “يعيدون سيرة الآباء، وكأن ثمة شيئاً في التاريخ لا يمضي” (ص27) كأنه يريد أن يعيد سيرة غسان، ويتحدث عن الحلم الجماعي والحلم الفردي، وهذا مغزى رواية “رجال في الشمس”، فلقد قتل غسان أبطاله لأنهم بحثوا عن حلول فردية، لا عن حلول جماعية. وكما كان غسان يربط بين أحداث جرت في أزمنة مختلفة، في رواية “ما تبقى لكم” (1966)، فقد امتازت رواية أبو سيف بهذا.
هل رأى إلياس خوري الكاتب اللبناني نفسه وريث غسان كنفاني؟ وهل أراد أن يُكمل ما لم يُكمله غسان؟
الإجابة عن السؤال السابق نعثر عليها في رواية “باب الشمس” (1998) في (ص43)، إذ كان يفترض في غسان أن يكتب رواية يونس وقصته، ولكنه لم يفعل لأسباب، مع أن د. جورج حبش كان أرسل غسان إلى يونس ليصغي منه إلى قصته. دوّن غسان حكاية يونس ولم يكتبها، وهناك أسباب فيها أن حكاية يونس لم تكن اكتملت لتصبح ذات دلالة رمزية، ومنها أن “الموساد” اغتال غسان في 1972، وربما يكون عزم على كتابة القصة، كما فعل في روايات أخرى، ولكن استشهاده حال دون الكتابة. وما لم يكتبه غسان كتبه إلياس.
في روايتي إلياس “باب الشمس” و”أولاد الغيتو” ما يذكّر بقوة بروايتي غسان “رجال في الشمس” و”عائد إلى حيفا”، وبشكل أقل بالرواية غير المكتملة “الأعمى والأطرش”.
الأسئلة إياها: لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟ والنهاية ما بين الرواية والفيلم الذي أنتجه وأخرجه توفيق صالح “المخدوعون”، والدلالة الرمزية للرواية. وقصة (دوف) الذي غدا إسرائيلياً، بعد أن تركه أبواه سعيد. س وصفية في سريره في حيفا في 1948.
إن حكاية بطل رواية “أولاد الغيتو” تستحضر حكاية خلدون (دوف)، وهناك ما هو أكثر من هذا: “هل صحيح يا أبي إنهم صنعوا بلداً أوروبياً؟” (ص371، وهذا ما ورد على لسان صفية تقريباً في “عائد إلى حيفا”.
وموت وضاح اليمن في الصندوق، في الرواية التي أراد آدم أن يكتبها، لا تختلف عن موت أبطال كنفاني في الخزان.
غسان كنفاني الذي استشهد في 8/7/1972، ما زال حاضراً، وبقوة، في أذهان القراء، وفي نصوص الروائيين أيضاً!!
الايام
***
33- غسان كنفاني ... ورقة من غزة
أحاول أن أتذكر أول نص قرأته لغسان كنفاني ومتى قرأته، فلا تسعفني الذاكرة.
ربما أكون قرأت "نجران تحت الصفر" ليحيى يخلف قبل أن أقرأ أي كتاب أو قصة لغسان، وإن كان ثمة سبب فهو أنني درست في الأردن، ولم تكن كتب غسان تباع في المكتبات هناك، أو أنها كانت تباع دون أن أعثر عليها أو أتعثر بها، فيما كانت رواية يحيى الصادرة حديثا عن دار الآداب - طبعا في حينه في أواسط 70 ق20 - تباع في مكتبة في الجامعة الأردنية، مكتبة تبيع الكتب الصادرة حديثاً في بيروت.
وربما عرفت غسان في العام 1977، بعد استشهاده بخمس سنوات، وتحديداً يوم أعادت دار صلاح الدين في القدس ودار الأسوار في عكا طباعة نتاجه الأدبي.
قرأته ولم أكتف بهذا، بل أخذت أعرف طلاب المدرسة الصلاحية في نابلس، وطلاب المدرسة العقربانية في الأغوار به، إذ بدأت تأسيس مكتبة صفية يسهم الطلبة فيها، هل كنت يومها متهوراً؟
أحببت غسان من خلال نتاجه، ومن خلال رثاء محمود درويش النثري له "غزال يبشر بزلزال"، ولا أعرف، حتى اللحظة، نصاً شعرياً لدرويش في رثاء غسان.
ولما كنت، في مدارس الوكالة، أسهم في النشاط الثقافي الخارجي، فقد اقترحت نص درويش لمسابقة الإلقاء، لمدارس الوكالة في منطقة شمال الضفة، وهكذا حفظه بعض الطلاب عن ظهر قلب، ومنذ غدوت محاضراً في جامعة النجاح الوطنية، في العام 1982، غدا غسان حاضراً في مساقاتي باستمرار.
كاتب متجدد :
ما من عام يمر إلاّ وكتبت مقالاً في ذكراه أو شاركت في ندوة حول أدبه أو ترجمت كتاباً صغير الحجم عنه أو دراسة حول نص من نصوصه، أو كتبت ورقة لمؤتمر حول أدبه وتأثره بالآداب العالمية، ومنها الصهيونية، أو تأثيره في الأدب الفلسطيني.
وأحياناً كثيرة تجدُّ مناسبة ما، فأرى في نصوص غسان ما يسعف في الاعتماد عليها لربط الحاضر في الماضي.
قبل أسبوعين كتب فتحي أبو مغلي في الأيام، في زاويته "طرطشات"، طرطشة عن بعض إخوتنا العائدين، إثر أوسلو، هؤلاء الذين أنهوا خدمتهم وتقاعدوا، وما عاد يربطهم بالوطن سوى راتب التقاعد، حيث حزموا حقائبهم ورحلوا.
أشار أبو مغلي في كتابته إلى محمود درويش وسطره: وطني ليس حقيبة. هذا إذا لم تخني الذاكرة، ولفت أنظار العائدين إلى أن الوطن غدا لهم حقيبة وراتبا، ليس أكثر.
طرطشة أبو مغلي أعادتني إلى قصة كنفاني "ثلاث أوراق من فلسطين" من مجموعته "أرض البرتقال الحزين" (1963)، وتحديداً الورقة الثالثة التي عنوانها "ورقة من غزة".
هكذا ذهبت إلى أن كنفاني كاتب ما زال يقرأ، وما زالت نصوصه طازجة، كأنها كتبت للتو، مع أنه مر على كتابة القصة ثمانية وخمسون عاماً تقريباً.
قبل فترة نشرت في الأيام الفلسطينية، في زاوية دفاتر، مقالة تمحورت حول سحر خليفة وعزمي بشارة (8/9/2013) وأتيت فيها على رحيل هذين والإقامة في المنفى، متتبعيْن خطى محمود درويش الذي غادر في 1970، ولم يعد إلاّ بعد (أوسلو) ليستقر في رام الله.
وكانت هجرته أثارت ضجة كبيرة، وظل هو يعبّر عن ندمه لقيامه بها: لماذا نزلت عن الكرمل؟ سحر خليفة غضبت مني، ولا أعرف رد فعل عزمي بشارة.
ملاحظة فتحي أبو مغلي هي ملاحظة قديمة جديدة، فقد ترددت على لسان بعض موظفي وزارة الثقافة، وهم يتحدثون عن أسماء أدبية بارزة عادت إلى الضفة إثر أوسلو، ولكنها سرعان ما غادرت الوطن، بعد أن حصلت على وظيفة في الوزارة، ولم تعد تتردد على الوزارة إلاّ لتسأل عن العلاوة السنوية، كأن الضفة لم ترق لهؤلاء، وكأنهم اعتادوا على العواصم الكبيرة أو.. أو.. أو....
ورقة من غزة :
فكرة الصمود على أرض الوطن وعدم مغادرته تعود إلى فترة مبكرة.
إميل حبيبي عاد إلى فلسطين، إثر نكبة 1948، متسللاً وقرر أن يظل في حيفا، وكلنا نعرف عبارته الشهيرة التي طلب من أهله وأصدقائه أن يكتبوها على شاهد قبره "باقٍ في حيفا". هل كان غسان كنفاني حين كتب قصته "ورقة من غزة" (1956) سمع بإميل حبيبي؟
كان كنفاني، يوم كتب قصته، يقيم في الكويت، ومن خلال إقامته هناك استوحى أفكاراً وشخصيات وأحداثاً مر بها الفلسطينيون المقيمون هناك. فكرة رواية "رجال في الشمس" (1963) مثلاً، وربما فكرة "ورقة من غزة" فلم يكن غسان يقيم في غزة، ولم يكن أقام فيها، وأظن أنه زارها في 60 ق20.
قصة القصة:
القصة التي اتخذت شكل الرسالة تدور حول صديقين تربيا معاً في غزة، وتعلّما، وقررا أن يعملا في الكويت ليوفرا المال، ومن ثم ليسافرا إلى كاليفورنيا، ويواصلا الدراسة هناك في جامعاتها، وبذلك يصبحان غنيين، يودعان الفقر، ويهربان من غزة، ويستمتعان بملذات الحياة، "إنني أكره غزة، ومن في غزة: كل شيء في هذا البلد المقطوع يذكرني بلوحات فاشلة رسمها بالدهان الرمادي إنسان مريض، نعم.." "ما هذا الشيء الغامض الذي كان يربطنا إلى غزة فيحد من حماسنا إلى الهروب؟" وحين يعود إليها الراوي/ كاتب الرسالة الضمني، بعد إقامة عام في الكويت، ليقضي إجازته فيها وجدها كما عهدها وصديقه مصطفى تماماً: "انغلاقاً كأنه غلاف داخلي، ملتف على نفسه، لقوقعة صدفة قذفها الموج إلى الشاطئ الرملي اللزج قرب المسلخ، غزة هذه أضيق من نفس نائم أصابه كابوس مريع، بأزقتها الضيقة، ذات الرائحة الخاصة، رائحة الهزيمة والفقر...." (ص344، أ. ك).
ومع أن مصطفى سافر إلى كاليفورنيا، ودرس في جامعتها، وأعد العدة لصديقه حتى يلتحق به، إلاّ أن الصديق يقرر البقاء في غزة وعدم العودة إلى الكويت أو السفر إلى كاليفورنيا والسبب يكمن في أنه رأى ابنة أخيه الشهيد نادية، وقد بترت ساقها، في غارة صهيونية، من أعلى الفخذ.
أرادت نادية أن تنقذ أخويها، فأصيبت، وكان بإمكانها أن تهرب فتنجو، ولكنها لم تفعل، وهكذا تعلم عمها منها درس التضحية بالذات من أجل الآخرين." لن آتي إليك.. بل عد أنت لنا. عد.. لتتعلم من ساق نادية المبتورة من أعلى الفخذ، ما هي الحياة، وما قيمة الوجود.. عد يا صديقي فكلنا ننتظرك". (ص350).
سميح القاسم: إليك هناك حيث تموت
بعد كتابة كنفاني قصته بعشر سنوات كتب سميح القاسم قصيدته الشهيرة "إليك هناك حيث تموت" ووجهها لصديق قديم يقيم في بيروت طلب منه، بعد هزيمة حزيران مباشرة، أن يغادر حيفا وأن يقيم في بيروت، ففيها الحياة أرحب -لم يكن محمود درويش هاجر بعد، والقصيدة أسيئت قراءتها - ولم ترق الرسالة لسميح فهاجم صديقه القديم وأنهى قصيدته بقوله:
"إليك هناك.. يا جرحي ويا عاري/ ويا ساكب ماء الوجه في ناري/ إليك إليك من قلبي المقاوم جائعاً عاري/ تحياتي وأشواقي/ ولعنة بيتك الباقي". هل اختلفت قصيدة عبد اللطيف عقل التي كتبها بعد عشرين عاماً تقريباً من كتابة القاسم قصيدته عن قصيدة الأخير؟ وسينهي عقل قصيدته بقوله:
"شكراً يا صديق طفولتي/ اختلفت بنا السبلُ
أنا نبض التراب دمي/ فكيف أخون نبض دمي وارتحل".
كأننا لا رحنا ولا جينا. ما كتبه كنفاني كتبه القاسم وعقل، بل ومحمود درويش أيضاً في 2002: "واقفون هنا. قاعدون هنا. دائمون هنا/ خالدون هنا. ولنا هدف واحد واحد: أن نكون". و... و... كأن كنفاني كتب للتو قصته!! كأنه.
عادل الأسطة
2014-07-06
***
34- غسان كنفاني في ذكراه 52
في الحرب الدائرة حاليا ، في جنوب فلسطين وشمالها / الجنوب اللبناني وفي الضفة الغربية ، منذ ٧ أكتوبر لم يغب أدباء فلسطينيون راحلون عن مقالاتي في جريدة الأيام الفلسطينية وموقع السكة الإخباري ويومياتي في صفحتي في الفيس بوك . إبراهيم طوقان وعبد الكريم الكرمي ( أبو سلمى ) وغسان كنفاني وسميرة عزام وفدوى طوقان ومحمود درويش وإميل حبيبي وسميح القاسم وأحمد دحبور وغيرهم وغيرهم . وأكاد أجزم أنه ما من مقال كتبته خلا من اقتباس أو تضمين ، من قصيدة أو قصة قصيرة أو رواية ، فالحدث يستدعي شبيهه والكتابة التي كتبت فيه أيضا ، وليست الكتابة كتابة يصح فيها القول ” ما أرانا نقول إلا معادا مكرورا ” ، أو ينطبق عليها نقد قارئي الجزء الأول من رواية إميل حبيبي ” الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد ابي النحس المتشائل ” ( ١٩٧٤ ) له – وهو ما أورده إميل في الجزء الثاني – ونصه :
” احتفز الأستاذ ليشب فوقع دون كنديد إلى الوراء مائتي عام ”
في إشارة إلى رواية الفرنسي ( فولتير ) ” كنديد ” .
ولا بأس من الاستشهاد برأي حبيبي في الموضوع :
” لا تلمني ، بل لم هذه الحياة التي لم تتبدل منذ ذلك الحين ، سوى أن ” الدورادو ” قد ظهرت فعلا على هذا الكوكب ” ، والدورادو هي بلد خيالي ساده العدل . ( هل قصد حبيبي الاتحاد السوفيتي ؟) .
وحكايتنا ، نحن الفلسطينيين ، منذ ١٩٤٨ ، لا تتغير إلا في التفاصيل ، ولم يغد قطاع غزة أو مناطق السلطة الفلسطينية الدورادو بشر بها الرئيس الفلسطيني أبو عمار – سنغافورة .
وأكاد أجزم أن نصوص غسان كنفاني ومحمود درويش كانت ، منذ ٧ اكتوبر ، في نصوصي على الأقل ، الأكثر حضورا . ويتطلب استقصاء ما حضر منها إعادة قراءة كل ما كتبت ورصده وتوثيقه . ولعل سبب حضور تلك النصوص يعود إلى تدريسي المتواصل لها والكتابة عنها في الصحف والمجلات ووسائل التواصل الاجتماعي وإلى مشاركتي في مؤتمرات وندوات عديدة خص القائمون عليها هذين الاسمين أكثر من غيرهما .
في نهاية شباط ٢٠٢٤ شاركت في ندوة ، في معرض الكتاب في سلطنة عمان ، تمحورت حول ” الأرض في الأدب الفلسطيني ” ركز فيها صبحي حديدي على أشعار محمود درويش وفخري صالح على على شعر درويش ووليد سيف وعز الدين المناصرة وأنا على بدايات الرواية الفلسطينية وروايات غسان كنفاني . لقد دعيت إلى الندوة لمقال نشرته في الحرب تحت عنوان ” هل تتواطأ ارض غزة مع أبنائها ضد غزاتها ” ، بل إن المقال نفسه كان سببا لإجراء حوار ثقافي معي حول فكرته ، وفيه ركزت على روايات كنفاني ” رجال في الشمس ” و ” ما تبقى لكم ” و ” العاشق ” ، وهي روايات ، بالإضافة إلى روايتي ” عائد إلى حيفا ” و ” أم سعد ” ، اقتبست منها كثيرا في الأشهر التسعة الأخيرة .
هل اقتصر الأمر على الروايات وحسب ؟ وماذا عن قصص غسان كنفاني القصيرة ؟
أشير ابتداء إلى أن غسان حضر في مجالنا الثقافي روائيا أكثر من حضوره كاتب قصة قصيرة وكاتب مسرحية وأيضا كاتب مقال سياسي أو أدبي أو اجتماعي . ويستطيع المرء أن يتأكد من هذا إن رصد ما كتب عنه في كل جنس أدبي من الأجناس المشار إليها . بل إن الأسئلة التي آثارها في رواياته كانت الأكثر حضورا . سؤال الوطن وسؤال لماذا لم يدقوا جدران الخزان وسؤال كان عليكم ألا تخرجوا وعبارات ” خيمة عن خيمة بتفرق ” و ” تستطيعان البقاء مؤقتا في بيتنا ، فذلك شيء تحتاج تسويته إلى حرب ” و … و … و .
ولا أظن أن القراء ، وأنا مثلهم ، استحضرنا ونحن نحكي عن أدب غسان ، من قصصه القصيرة ومسرحياته ، أسئلة وعبارات شاعت شيوع الأسئلة والعبارات السابقة .
ولأنني درست بعض قصصه القصيرة فقد حضرت في كتاباتي ولم تحضر في كتابات كتاب آخرين ، ومن هذه القصص قصة ” ثلاث أوراق من فلسطين ” وتحديدا ” ورقة من غزة ” وقصة ” درب إلى خائن ” وقصة ” الصغير يذهب إلى المخيم / أو زمن الاشتباك ” وقصة ” كعك على الرصيف ” وقصة ” القميص المسروق ” .
حضرت قصة ” ورقة من غزة ” لأنها تحكي عن المكان نفسه – أي غزة – وعذابات أهلها والاعتداءات الإسرائيلية المتكررة عليه وفكرة البقاء في المكان وعدم مغادرته .
وحضرت قصة ” درب إلى خائن ” لأنها حكت عن حصار النظام العربي للفلسطيني ومنعه من التسلل إلى بلاده التي طرد منها والوقوف في وجهه إن فعل ذلك وملاحقته وإن أمكن منعه من دخوله أراضيها – أي أراضي البلد العربي .
وحضرت قصة ” الصغير يذهب إلى المخيم ” لأنها تأتي على اشتباك الفلسطينيين مع الحياة يوميا وتراجع الفضائل في زمن الاشتباك ؛ لأن الفضيلة الأولى في زمن الاشتباك هي أن تبقى على قيد الحياة ، ومنذ ٧ أكتوبر وأهل قطاع غزة من المدنيين يشتبكون مع الحياة في كل شيء : الحصول على خيمة أو رغيف خبز أو شربة ماء أو جرة غاز أو علبة دواء أو ملابس شتوية أو صيفية أو حتى حفر قبر لدفن الموتى وما أكثرهم !
وحضرت قصة ” كعك على الرصيف ” لأن أطفال غزة منذ بداية الحرب لم يذهبوا إلى المدارس التي صارت مراكز إيواء للسكان المدمرة بيوتهم ، بل ساحوا – أي الأطفال – في الشوارع يبيعون ” الشيبس ” وكعك العيد وأشياء أخرى .
وحضرت قصة ” القميص المسروق ” حضورا لافتا أيضا وذلك لأنها تأتي على سرقة مخصصات اللاجئين الفلسطينيين في المخيمات والتلاعب بها ومعاناة أصحابها من الجوع والبرد والاستغلال ، وهذه موضوعات قال فيها أبناء قطاع غزة منذ ٧ أكتوبر ٢٠٢٣ أطنانا من الكلام إن كان الكلام يوزن حقا وكتبوا فيها الكثير والكتابة يمكن أن تقاس أحجامها عموما كما ويمكن أن يميز بينها نوعا ، وهناك كلام من ذهب أو يقاس بميزان الذهب .
إننا نقرأ في صفحات أبناء قطاع غزة النشيطين فيسبوكيا عشرات ، إن لم يكن مئات ، المنشورات التي تأتي على الاستغلال وسوء التوزيع والسوق السوداء وجشع التجار والسرقات و .. و … وهذا كله لم تخل منه كتابات غسان الروائية والقصصية . إن قصة ” القميص المسروق ” مثال لذلك وقبلها قصة سميرة عزام ” لأنه يحبهم ” .
هل يتذكر مثلا قراء رواية ” رجال في الشمس ” جشع المهربين عبر الحدود الأردنية – العراقية والحدود العراقية الكويتية واستغلالهم حاجة الفلسطيني للوصول إلى الكويت . إن ما حدث في معبر رفح قبل اجتياحها لهو شبيبه بما حدث مع أبو قيس وأسعد ومروان .
في ” رجال في الشمس ” يتحول فلسطينيان شاركا في حرب العام ١٩٤٨ إلى سائقي سيارات يهربان الفلسطينيين بسياراتهما عبر الحدود مقابل مبالغ مالية . يهرب أبو العبد الشاب أسعد من الأردن إلى العراق مقابل مبلغ عشرين دينارا ويراعيه في ذلك لأنه كان يعرف والد أسعد ” بل إننا قاتلنا سوية في الرملة منذ عشر سنوات ” – أي منذ ١٩٤٨ . ويهرب أبو الخيزران الذي أصيب في حرب ١٩٤٨ الفلسطينيين الثلاثة ؛ أبو قيس وأسعد ومروان ، عبر الحدود العراقية الكويتية بعد صفقة راعى فيها ظروفهم ، قياسا إلى ما طلبه منهم الرجل العراقي السمين صاحب مكتب التهريب هذا الذي بدا فظا جلفا طويل اليد بذيء اللسان .
***
ـــــــــــــــ