سفيان صلاح هلال - الرقة والشفافية في شعر أبي نواس...

الشعر العربي أغلى ميرثنا من الفنون الإنسانية، ويرى الجاحظ أن العرب أمة شاعرة وفي شعرها فضلها على الأمم. والشعر العربي مر بنقلات جوهرية عبر تاريخه جاءت بمجهود شاعر أحيانا وبمجهود جماعة شعرية في أحيان أخرى. وأبو نواس الحسن بن هانئ واحد من أهل الخطوة في الشعر العربي ورغم أنه لم يخرج عن بحور الشعر العربية، فهو المشهود له أنه خلَّصَ النص من المقدمات والترتيب الموضوعي والنظم المتكرر مما كان شائعا، فجاء نصه بسيطا وعميقا حتى يظن المتلقي أنه يستطيع أن يكتب مثله، ربما لأنه يلمس جوهر الموضوع مباشرة وببعدٍ نفسي يمنحه المشاركة الوجدانية من المتلقي؛ حتى أن الشاعر -كما قال عباس العقاد في كتابه (أبونواس الحسن بن هانئ) والذي أعادت إصداره دار الهندواي في2017 - صار شخصية رمزية عامة يلصق باسمه ما قال وما قال الآخرون أحيانا على لسانه من لمحات فطنة وتخييل ضمني فيه من الإحالات ما يشبع رغبة العامة في التعبير، ورغم هذا فشعره عميق قابل لتعدد التجليات، وإن كان اشتهر بالخروج عن التقاليد الأخلاقية الراسخة عند العرب في بعض نصوصه والتي استفاض العقاد في البحث عن دوافعها النفسية وأرجعها إلى النرجسية لا إلى دوافع أخلاقية بكتابه سابق الذكر.
وبغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع ما قاله، فأبو نواس شاعر يحب الوضوح والشفافية في الحياة وفي كل تفاصيلها وأظن أنه كتب بطريقته الصادمة رغبة في التشجيع عليهما أكثر من رغبته في الفضيحة فرجل يعتز بنفسه ويقول: لَقَد زادَني تيهاً عَلى الناسِ أَنَّني · أَرانِيَ أَغناهُم وَإِن كُنتُ ذا فَقرِ" لا يمكن أن يكون متهتكا داعية عهر خاصة أن شعره يمتاز برقة وشفافية في صوره لا يمكنهما أن تنبعا إلا من روح شاعرة وكاشفة وربما وصفه لحالة لم يرها ولكن عاشها الخليفة وطلب من الشعراء تصويرها لدال على ما أزعم
"نَضَت عَنها القَميصَ لِصَبِّ ماءِ
فَوَرَّدَ وَجهَها فُرطُ الحَياءِ
وَقابَلَتِ النَسيمَ وَقَد تَعَرَّت
بِمُعتَدِلٍ أَرَقَّ مِنَ الهَواءِ
وَمَدَّت راحَةً كَالماءِ مِنها
إِلى ماءٍ مُعَدٍّ في إِناءِ،"
سنجد في النص فضلا عن المجيء بالرقة على وزن أفعل التفضيل في قوله (بِمُعتَدِلٍ أَرَقَّ مِنَ الهَواءِ) فمفردات النسيم والماء والهواء وكلها تدل على الشفافية والرقة معا، واختيار كلمة قميص وهو الأكشف من الثياب يدل أيضا على انغماس روح الشاعر في فلك معادل لصوره في وصفه الشعري ومما يلفت النظر أن الشاعر المتهم بالمجون والتهتك يمدح الحياء ويجعله يزيد من الحسن والبهاء (فَوَرَّدَ وَجهَها فُرطُ الحَياءِ)
إن الرغبة في عالم واضح يتساوى مع نفس الشاعر نراه جليا في قصة البنت التي فتنته مشيتها ورآها تلبس البراقع وتحمل جرة ماء وقد أراد أن يكشف عالم هذه الأنثى كله فتعلل بالعطش فلما رأى جمالها قال: "إذا بارك الله في ملبس فلا بارك الله في البراقع" ويذهب أكثر من دارس لشعر أبي نواس أن المجون في شعره لم يكن أصيلا يقصد به المجون؛
فالعميد طه حسين في كتابه حديث الأربعاء يرى أن تمرد أبي نواس كان رغبة في التجديد لا في المجون ولكنه لفت النظر أن الشاعر تغزل بالإيماء والجواري ولم يتغزل بالحرائر! وهذه الملاحظة مما أتخده دليلا على حب أبي نواس لما هو واضح، فالجواري حتى في التشريع الديني لا يلزمهن ستر كل الجسد مما يجعل أنوثتهن أكثر وضوحا كما أن المجتمع كان لا يعيب عليهن تجليات الأنوثة كما يحظر ذلك على الحرائر وبالتالي فهن تحولن لمعادلات موضوعية في شعره للحرية والوضوح والشفافية أكثر من كونهن شخصيات حقيقية يقصد وصفهن بالذات. و "جنان" حبيبته الأشهر تقول "وإن وقفت له كيما يكلمني في الموضع الخلو لم ينطق من الحصر" إنه شخصية منطلقة في الشعر، ولكنه شديد الحياء في الواقع مما يدل على أن شعره يعبر عن معادل يتمناه لا عن واقع يعيشه.
والشفافية في التصوير تنزاح من عالم النساء إلى عالم الخمر. والخمر في شعر التراث العربي ارتبطت بأشياء كثيرة غير السكر المادي المعروف عنها فتحولت رمزا في الشعر الصوفي لاختراق حواجز الرؤية والاندماج مع مطلق الرؤى عبر حالات الذهن والوجدان والروح في انفصال عن ظاهر العالم، وادماج مع جواهره. كما صارت الخمريات مرآة يعرض فيها الشعراء هموما سياسية واجتماعية لا يمكن التعبير عنها من عقل مدرك في عالم محاصر بأعراف وتقاليد ونظم سياسية وأخلاقية صارمة؛ وأظن أن أبي نواس لعبت الخمر في شعره مثل هذا الدور فعبر من خلالها عن هوسه بالرقة والشفافية والحرية: "قَــامَــتْ بِــإِبْــرِيــقِــهَـا وَاللَّـيْـلُ مُـعْـتَـكِـرٌ
فَــلَاحَ مِــنْ وَجْــهِــهَـا فِـي الْـبَـيْـتِ لَأْلَاءُ
فَــأَرْسَــلَــتْ مِــنْ فَـمِ الْإِبْـرِيـقِ صَـافِـيَـةً
كَـــأَنَّـــمَــا أَخْــذُهَــا بِــالْــعَــيْــنِ إِغْــفَــاءُ
رَقَّــتْ عَــنِ الْــمَــاءِ حَـتَّـى مَـا يُـلَائِـمُـهَـا
لَــطَــافَــةً وَجَــفَــا عَــنْ شَــكْـلِـهَـا الْـمَـاءُ
فَــلَــوْ مَــزَجْــتَ بِــهَــا نُــورًا لَــمَــازَجَـهَـا
حَـــــتَّــــى تَــــوَلَّــــدَ أَنْــــوَارٌ وَأَضْــــوَاءُ،" إننا في الأبيات نرى متقابلين: الليل وهو معادل الظلام الذي يستر الأشياء في مقابل الخمر ولكن خمر أبي نواس هنا ليست الخمر المغيبة والتي طلبها في بعض قصائده لتذهب عنه ثقل العالم وقال فيها "ألا فاسقِني خمراً، وقل لي: هيَ الخمرُ،
ولا تسقني سرّاً إذا أمكن الجهرُ
فما العيْشُ إلاّ سكرَة ٌ بعد سكرة ٍ،
فإن طال هذا عندَهُ قَصُرَ الدهرُ
وما الغَبْنُ إلاّ أن ترَانيَ صاحِيا
و ما الغُنْمُ إلا أن يُتَعْتعني السكْرُ" إنها في الرائية تعني الخمر حقا يريدها أن تخلص نفسه المعذبة الكارهة لغموض ما حولها في الحياة والتي تتوق في الأبيات اللاحقة للإفصاح عن اسم محبوبته وحبه في دلالة صريحة عن الكشف، أما في الهمزية فالخمر كاشفة مقابلة لليل الساتر وأوصاف الإضاءة والرقة والصفاء واللطافة تلازمها فَــلَــوْ مَــزَجْــتَ بِــهَــا نُــورًا لَــمَــازَجَـهَـا حَـــــتَّــــى تَــــوَلَّــــدَ أَنْــــوَارٌ وَأَضْــــوَاءُ، والمعاني واضحة وهي تنم عن نفس ترى عوالم هذه المفردات وتحبها وتعكسها على معادلات الجمال في الكون. الأمثلة في شعر أبي نواس عن رقته وشفافيته وطلبهما للحياة حوله لا تنتهي ولا تقف عند العالم المعاش والملموس بل تتعداه لعالم الأحلام فنجده في مقطوعته " إِذا التَقى في النَومِ طَيفانا
عادَ لَنا الوَصلُ كَما كانا
يا قُرَّةَ العَينَينِ ما بالُنا
نَشقى وَيَلتَذُّ خَيالانا
لَو شِئتَ إِذ أَحسَنتِ لي في الكَرى
أَتمَمتِ إِحسانَكِ يَقظانا" إنه في هذه الأبيات مرة أخرى يضع الكرى مقابلا للصحو ويسبق الحداثيين وما بعد الحداثيين شاعرا بنصه العمودي، ويعيش الحلم بديلا عن الواقع، لكنه يدرك هذا ويسعى لتحقيقه ولا يكتفي به تخييلا شعريا.. فالحق إذا كان الشعر تخييل كما يقول الجاحظ، فأبو نواس في مقدمة الشعراء فهو الرافض دائما للواقع المظلم الحي في خياله عن عالم يطلبه من الرقة والوضوح والحرية والجمال واللطافة والنقاء

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى