علي مفتاح - سافر... بعيدا عنك قريبا منهم

سافر، وانطلق بعيدا عنك قريبا منك، سافر لكي ترى الفرق بين الانسان والانسان، بين المكان والمكان، احزم أفكارك وجهز متاعك النفسي وانطلق اليك بعيدا عنك، سافر لتتعرف عليك خارج سياقاتك المعدة لك مسبقا، سافر واترك خلفك قوالب الايمان والفكر المعلب ببرهان، ارمي وراء ظهرك أناشيد العروبة وقومية الانتساب، كسر تماثيل الزعماء كل الزعماء والفقهاء كل الفقهاء، واحمل رؤوسهم الى أقصى مكان في الأرض غير الأرض، وعلمهم معنى الله ومعنى الأرض والوطن.

سافر لكي تنبعث من جديد، بعيدا عن فكر السبايا والعبيد، بعيدا عن مناهج الوعد والوعيد، بعيدا عن الرعية المصلوبة المغلولة بالحديد، سافر.. ولا تخبر أحدا أنك اعتنقت الدين الجديد، وأنك مشيت بينهم قرونا ولم تشاهد بينهم من يقف وقفة حق وعدل، منبطحون على بطونهم، يرددون خلف الإمام أن الجهر بالحق من الكبائر، والدعوة للعدل من أكبر الآثام.

سافر.. وانسف تاريخهم المجيد، اعزف على مسامعهم معزوفة حقدك الازلي: الفقر والجوع والموت بالوراثة، الطعن والغدر والتربص للضوء بالوراثة، وأغاني المجد والتمجيد بالوراثة، سافر.. واحمل كل بقاياك، طفولتك المسبية وأنت على ظهر أمك، تلتقط وجوها تلاشت ملامحها، وجه بألف عاهة والبقية الباقية تخطط لنسف الظهر الذي يحملك، سافر.. واحمل جواز موتك الموقع من الجهات الرسمية، لا تترك قبرك هناك، احمله على ظهرك كما حملتك أمك، لا تترك بصمة أو ذكرى، اذهب لإدارة الحالة اللامدنية، وتوسل كبيرهم كي يحذف اسمك من كل سجلات الولادة، مزقها ومزق اسمك وتاريخك وتاريخهم وارحل.

سافر.. ضع أحلامك في سلة المهملات واغلق باب المفاوضات مع المثقف والمناضل الذي كنته، اذهب اليك وحدك من دونك، لا تسأل عن الرفاق، كلهم منشغلون بكتابة بيان استنكاري على قرار التجنيد الاجباري في مسيرة الميوعة وقتل الجمال، كتبوا البيان رفاق الحرمان، وانزووا بأنفسهم يمينا، فكروا في ما ملكت الأيمان، وما استعصى من الأحلام، والرقص الإباحي فوق ظهر الأوطان، ورددوا خلف الناطق الرسمي باسم الخرفان: وكفى الله اليساريين شر النضال.

سافر.. الى أبعد نقطة حط الرحال، ارمي خلفك سنوات النضال، لا تهتم بالمعسكرات والمعتقلات، لا تفشي حنينك للرصاص ولسنواته، للزعيم المفدى وكلماته، اكتب مرثية للغضب الجماعي، وقصيدة مدح في زمن العفن، وابصق في وجه الموت الذي أمهلك لتكون شاهدا على موت الكرامة وموت الانسان والوطن.

سافر.. بعيدا عنك قريبا منهم، اترك لهم وصيتك الأخيرة كأن تكتب مثلا أن الشمس لا تسكن قلوبا مثل قلوبكم، انكم تكرهون النور وتحبون ظلمة القبور، فادخلوا مقابركم آمنين، وضاعفوا من شحنة أن تكونوا أبد الدهر مسالمين، مدوا ظهوركم للجلد، ووجوهكم للصفع، وامسحوا أحذية جلاديكم، واسحبوا الموت اليكم بأياديكم، أعيدوا ترتيب حياتكم على إيقاع الانقراض الكلي، لا تستغيثوا بالرجال الأبطال، لقد انقرضوا في زمن البغال، اليد في اليد وسيروا نحو انتحاركم الجماعي، تذكروا فقط وأنتم تسقطون من أعلى الجبل ان تهتفوا بحياة من صنع هذه المأساة، وأنه تبرع لكم بتذاكر سفر نحو الموت دونما معاناة، وانكم قبلتم مراقصة الموت من أعلى، لتعانقوا من جديد، وأنتم ترتطمون بالأسفل، انبطاحكم الأبدي والأزلي، طوبى لكم يا أهل العشيرة، طوبى لسياسة تقويمكم المستنيرة، طوبى لكم بهذه الحياة، لقد اخترتم الطريق الأسهل، المفروش بالمذلة، وطوبى لكاتب هذه الفصول، الذي اختار أسلوب الهدم من أجل البناء على المقاس.

سافر.. قريبا منك بعيدا عنهم، مزق ثوب المدينة، وجلد المدينة، وأفكار المدينة، وسر في اتجاه الفكرة الأم، حيث الانسان ولد عاريا الا من أفكاره ورغباته، فجر قلبك الذي يعشق الشعر ويعشق المرأة ويعشق السفر اليه والى أعماق الانسان، سر عاريا الا منك، واوشم في كل خطوة على جسدك إشارات اللاعودة اليك، حاول أن تجرب، أن تعيش بلا لغة، فالأخيرة تبقى أتفه اكتشافات الانسان، بسبب لغة الخطابات عشنا الخيبات والويلات، وبسببها كتبت الشعر لامرأة عشقتها وتزوجتها، ثم طلقتها لغويا وواقعيا، اللغة حقل من المتفجرات، فاصلة أو نقطة ممكن أن تنسف مسار حياة، عد لرشدك واصرخ في وجوههم كالرضع لكي يستجيبوا لكل طلباتك، اقتل لغتك الأم واقتل معها سكوت الأب منذ أول صفعة تلقاها من رب معمله، اللغة مشنقة كل الحالمين بفجر آخر وحياة أخرى، اللغة سجن يتنقل ما بين حرف علة وحرف نعت، والوصف والموصوف وشاية لكل النهايات .

سافر.. لأقصى نقطة من أناك، وأعد بخطوك كتابة العالم، ارسمه، انحته، جسده في مسرحيتك الأخيرة، كل التماثيل التي صنعت هذا العالم بكل آلامه واحباطاته، تقف الى جانبك على خشبة مسرحك، اكتب لكل واحد منهم دورا على المقاس، جرده من نبل الانسان ومن الإحساس، واسأل من صنعوا هذا التاريخ عن كل تلك الثنائيات الغبية، شر/خير، حرب/سلم، سجن/حرية، حب/كراهية، اسأل كل الديانات فيهم عن الله وعن الانسان، اسأل كتبهم المقدسة وغير المقدسة: ما هي حدود الايمان بالإنسان والأوطان؟ هل الانسان قضية أم وسيلة؟ هل كل تلك الحروب امتداد لقصة القتل الأولى، أم أنها خلقها الانسان بلا هوية، وهو يحاول عبثا تقليد خالقه؟ الحرب في كل اللغات هي مجرد كلمة صغيرة، لماذا حولتموها الى معجم جامع لكل الويلات والانتكاسات.

سافر.. بالقرب من خصمك قد تجد أناك، واحمل في حقيبتك عينات من كل تلك النخب، السياسة رسم منافق للإنسان والوطن، السياسة إعاقة فكرية للثقافة وللمثقف، السياسة اكليل بلاستيكي يصدح بالوهم لكل من نظر اليه أو لمسه، كلا السياسة هي الدفاع عن الحق والعدل وعن الحرية، السياسة هي الانتماء هي الهوية، السياسة مبادئ وقيم، ولم تكن أبد الدهر مرآة مكسورة تبيع الوهم، رحل الجميع وتركونا وراءهم خرفانا تتقن المشي وسط القطيع، فلا الشعر غير من ملامحنا ولا الرواية والمسرح فتحت أعيننا، منذ الفرز الأول لصناديق الاقتراع، منذ كانت الحياة وكل مشاهدها مجرد أبيض في أسود، ونحن نبحث عن من يتبرع لنا بحفنة شعير، شمعة وحصير، نمارس الجنس كبقية المخلوقات بشغف كبير، ولا نسأل ما مصير صناديق الاقتراع؟ من فاز ومن انحاز لنصرة الراعي من البعير، أكيد انهزمنا وفازت أجهزتهم، فنحن لا نعرف ومنذ الأزل سوى الانهزام، والبكاء فوق نهد عشيقاتنا، والتبول في الشوارع، والخشوع في ليلة القدر، وقتل الله عند قبر ولينا الصالح، والاستمناء على صورة راقصة عارية وهي تقصف بمؤخرتها غريزتنا بكل أنواع المدافع، والذهاب للحج ورمي الشيطان شيطاننا الجميل بشتى أنواع الورود، والانحناء لمقدم الحي ولموكبه وهو يمشي مزهوا في الشوارع،

سافر.. واقطع عهدا على نفسك أن لا تعود اليك، الى الشاعر والمناضل الذي كنته، سافر.. فأنت وأنا ونحن جميعا بكل بساطة لم نكن سوى خير أمة أخرجت لليأس.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى