ما أبدأ به هذه المقالة، هو توضيح كلمة "عنعنة". هذه الكلمةٌ تُستعمل في مجال نقلِ أو انتقال الأحاديث النبوية، الصادرة عن الرسول محمد (ص)، من راوٍ إلى آخر. فنقول مثلا روى فلانٌ عن فلانٍ، وروى فلانٌ آخر عن فلانٍ إلى أن تصلَ سلسلة الرُّواة إلى صحابي عايش الرسول (ص) وسمع ما قاله أو نطق به من أحاديث.
وهذا الانتقال من راوٍ إلى آخر، هو ما يُسمِّيه علماءُ وفقهاءُ الدين السَّند أو الإسناد. والإسنادُ، أي سلسلة الرُّواة، ينتهي، كما سبق الذكرُ، بصَحابي سمع ما نطق به الرسول (ص) من أحاديث. أما الحديث نفسُه، فهو ما اصطلح عليه علماء وفقهاء الدين ب"المَتن". والمَتن هو صُلب أو موضوع الحديث، أي ما انتهى إليه الإسنادُ من كلام الرسول (ص).
وبما أنه من المستحيل أن تُنقلَ أحاديثُ الرسول (ص) لفظيا، أي كما نطقَ بها حرفيا، فإن علماءَ الدين وفقهائه، ركَّزوا اهتمامَهم على الصفات أو الشروط التي يجب أن تتوفَّرَ في الراوي لتُعطى مصداقيةٌ وثقةٌ لما رواه من حديث. ومن ضِمن هذه الصفات، أذكرُ، على سبيل المثال الاستقامة، العدل، أن يكونَ مسلِما، بالغا، عاقلا وبعيدا كل البُعد عن كل ما قد يُفسد مروءتَه ونُبلَه.
إذن، كل الأحاديث التي وصلتنا، بعد مرور أزيد من 14 قرنا على وفاة الرسول (ص) و 12 قرنا على البدء في تدوين الأحاديث، صِحَّتها مبنيةٌ، فقط وحصريا، على استقامة وعدل ومروءة ونُبل الرُّواة. وهذا يعني أن هؤلاء الرُّواة كانوا مصنَّفين في أعلى درجات الاستقامة والعدل والمروءة والنُبل، وخصوصا، الصحابة منهم، لأن هؤلاء الصحابة هم مَن عايشَ الرسول (ص) ويوجدون في قمَّة سلسلة الرُّواة. وهذا يعني، كذلك، أن الرُّواةَ، وعلى رأسهم الصحابة معصومون من الخطأ.
لكن، قبل أن أُجيبَ على السؤال الذي هو عنوان هذه المقالة، أي : "هل رُواةُ الحديث كلَّهم عُدولٌ؟، دعوني أوضِّح ثلاثةَ مفاهيم التي هي "مسلم"، "راوي" و "صحابي".
"المسلم" هو كل شخصٍ اتَّخذ الإسلامَ كدينٍ. لكن المسلمَ لا يكتمل إسلامُه إلا إذا انصهر إيمانُه بإسلامه، مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى : "قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَـٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (الحجرات، 14).
و"الرَّاوِي" هو اسم فاعِلٍ وجمعُه "رواةٌ"، مشتقٌّ من فعل "روى". فنقول مثلا : فلانٌ روى حكايةً أو أخبارا، أي نقلها أو ذكرها أو أسمعها للغير. إذن راوي الحديث النبوي، هو كل شخصٍ يروي الحديثَ، أي يسردُه وينقُله ليكونَ الناسُ على علمٍ به.
أما "الصَّحَابي" وجمعُه "صَحَابَة"، فهو الإسمٌ الذي يُطلق على مجموعة الناس الذين كانوا من أصحاب الرسول محمد (ص). وكان الصحابةُ من المهاجرين والأنصار يعاشِرون الرسول (ص) ويلتقون به ويأخذون عنه أمورَ الدين. وصفةُ "صحابي" تقتضي أن يموتَ هذا الصحابي وهو مسلمٌ. وحسب الأرقام المُتوفِّرة، كان عددُ الصحابة يُناهِز 114 ألف صحابي إلى حين وفاة الرسول (ص).
بعد هذه التَّوضيحات، إن المنطِقَ والبحث عن الحقيقة يفرضان علينا طرحَ بعض الاسئلة. وأهمُّ هذه الأسئلة هو، في نظري، الآتي :
"انطلاقا من التَّوضيحات حول المفاهيم الثلاثة (مسلم، راوي وصحابي) المشار إليها أعلاه، فهل من المنطقي ان يُصدِّقَ عقلٌ سليمُ البُنيانِ أن جميعَ الرُّواة وجميعَ الصحابة الذين عاشوا الرسول والذين عددُهم، حسب ما هو متوفِّر من الأرقام، يُناهز 114 ألف صحابي، والذين سمعوا أحاديثَ الرسول (ص) كانوا كلهم عدولا؟
وكلمة "عدول" هي جمعُ عدلِ أو عادل، وتعني أن هؤلاء الرُّواة والصحابة كانوا مستقمين، يقولون الحقَّ ولا شيءَ غير الحق. وحسب ما هو معروفٌ فقهياً، الناس العدول هم الناس الذين يجتنبون الكبائر والصغائر ويتحاشون التصرفات التي تُسيء لمروئتهم.
وما يثيرُ الانتباهَ، هو أن كثيرا من الرُّواة لم يروا ولم يعاشروا لا الصحابة ولا الرسول. فكيف لرواةٍ لم يروا ولم يُعايشوا لا الصحابة ولا الرسول (ص)، وتفصلهم عن هؤلاء الصحابة والرسول عشراتُ أو مئات السنين، أن لا يطرأَ على تفكيرهم أي تغيير وأن لا يكونَ لهم ميول سياسي أو انتماءٌ مذهبي…؟
ولماذا العقلُ السليمُ لا يمكن أن يُصدِّق أن الرواةَ والصحابة كانوا كلُّهم عدولا، أي مستقيمين وصادقين في أقوالهم وأفعالهم؟ وفي هذا الصدد، المنطق يقول قد يكون من بين الرواة والصحابة ناسٌ عدولٌ وقد يكون من بينهم، كذلك، ناسٌ غير عدول. لماذا؟
أولا، لأن الذي يكتفي بسماع الحديث، ليس مؤكَّدا أنه أدرك وفهِم ما أراد الرسول أن يُبلِّغَه للناس. والحقيقة أن الرَّاوي والصحابي، وحتى إن دوَّنا الحديث كتابةً، فلا يمكن أن يُدركوا معناه ومحتواه إلا انطلاقا من خلفياتِهما الفكرية والثقافية الآنية. كما أن المنطقَ لا يقبل أن يكونَ لجميع الرُّواة والصحابة نفس الإدراك لنفس الأحاديث. والدليل على ذلك أن علماءَ الدين وفقهائه يفسِّرون القرآن والسُّنة، كلٌّ حسب قناعاته الفكرية والثقافية، وقد أقول، السياسية.
ثانيا، وما قولكم في معركتي الجمل وصَفِّين اللتان قاتل فيهما الصحابةُ بعضُهم بعضاً وكان فيها عددُ القتلى بالآلاف، واللهُ، سبحانه وتعالى، يقول : "وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (النساء، 93). فهل الصحابة كلهم عدول؟
ثالثا، وما قولكم في أن بعضَ الصحابة كذبوا على الرسول (ص) بادِّعائهم أن بيوتَهم غير آمنة (إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ)، وبالتالي، لا يمكن أن يذهبوا للقتال في سبيل الله، مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى : "وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (الأحزاب، 13). فهل الصحابة كلهم عدول؟
رابعا، وما قولكم في صحابة مصنَّفين في خانة المنافقين؟ إذ، بمجرَّدِ ما يغادرون صُحبةَ الرسول (ص)، يقولون للناس أقوالا مخالِفة لتلك التي نطق بها الرسول (ص)، مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى : "وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا (النساء، 81). فهل الصحابة كلهم عدول؟
خامسا، وخلاصة القول، إن علماءَ وفقهاءَ الدين يُخفون الحقيقةَ عن الناس. وإخفاءُ الحقيقة عن الناس، لا يمكن تفسيرُه إلا بكون هؤلاء العلماء والفقهاء لهم أهدافٌ مُبيَّتة تتجلى، إما في اعتبار أنفسهم امتداداً للإرادة الإلهية (واللهُ غَنِيٌّ عن العباد)، وإما يريدون أن يبقوا مُسيطرين على عقول الناس ومنعها من التَّفكير، وإما أنهم يعتبرون كلامَهم أو تفاسيرَهم مطلقة، وبالتالي، لا يمكن التَّشكيكُ فيها.
سادسا، واللهُ، سبحانه وتعالى، أخبرنا بأن الصحابةَ ليسوا كلهم عدولا كما يدَّعي علماء وفقهاء الدين. بل، بعد وفاة الرسول (ص)، منهم مَن سيبقى مؤمنا، ومنهم مَن سيتراجع عن إيمانُه؟ مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى : "وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (آل عمران، 144).
ثم هل بإمكاننا أن نحكمَ على الناس ونقول بأنهم مستقيمون، فقط، من خلال ما ينطقون به من أقوالٍ وما يُظهرونه من سلوك؟
هنا، المنطق يقول بأن الإنسانَ الذي يبدو مستقيما وصادقا قد يُخفي في صدره نفاقا أو سلوكا منافيا لإيمانه الظاهري sa foi apparente. كلنا بشرٌ والبشَر ليسوا معصومين من الخطأ، طِبقاً لما قاله الرسول (ص) : "كل بني آدم خطَّاءٌ وخير الخطَّائين التَّوابون".
والبشر ليس لهم القدرة على الاطِّلاع على ما يُخفيه الآخرون في صدورِهم. الله، سبحانه وتعالى، هو وحده قادر على معرفة ما تُخفيه صدورُ الناس، مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى : "يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (التغابن، 4).
ومنَ يدَّعي بأنه قادرٌ على معرفة ما تُخفيه الصدورُ، فلا فرقَ بينه وبين المُشعودين و"الشُّوافات". إذن، فالادِّعاء بأن "الرُّواة والصحابة كلهم عدول" أمرٌ تحوم حوله الشكوك! وهذا لا يعني، على الإطلاق، أنه لا يوجَدُ، من بين الرُّواة والصحابة ناسٌ مستقيمون ومن ذوي المروءة العالية. كل شيءٍ ممكن في حياة الناس، الصواب واردٌ والخطأ، هو الآخر، واردٌ.
1."مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى : "يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا" (النساء، 28). فماذا تعني "...وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا"؟ تعني أنه، مهما بلغت عظمةُ الإنسان وقدرتَه على إنتاج الفكر والعلم…، فإنه يبقى ضعيفا أمام القدرة الإلهية. وضعف الإنسان ينطلق من فكره لأن هذا الأخير، مهما تطوَّرَ ومهما ارتقى، يبقى عاجِزاً عن معرفة ما هو مطلقٌ وما هو غيبي.
2. كذلك مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى : "وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَـٰذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا" (الكهف، 54). في هذه الآية، يُخبرنا، سبحانه وتعالى، بأنه ذكرَ، في القرآن الكريم، الكثيرَ من الأمثال، لعل الإنسان يستفيد منها ويتَّخذَها نبراسا لحياته، كمؤمنٍ، لكنه، رغم معرفته لهذه الأمثال، فإنه يُجادل polémiquer، يخاصم disputer، يُساجل rivaliser، يتفلسف philosopher، يقبل accepter، يرفض refuser، يُخالف s'opposer، يناقش discuter…
وهذا الانتقال من راوٍ إلى آخر، هو ما يُسمِّيه علماءُ وفقهاءُ الدين السَّند أو الإسناد. والإسنادُ، أي سلسلة الرُّواة، ينتهي، كما سبق الذكرُ، بصَحابي سمع ما نطق به الرسول (ص) من أحاديث. أما الحديث نفسُه، فهو ما اصطلح عليه علماء وفقهاء الدين ب"المَتن". والمَتن هو صُلب أو موضوع الحديث، أي ما انتهى إليه الإسنادُ من كلام الرسول (ص).
وبما أنه من المستحيل أن تُنقلَ أحاديثُ الرسول (ص) لفظيا، أي كما نطقَ بها حرفيا، فإن علماءَ الدين وفقهائه، ركَّزوا اهتمامَهم على الصفات أو الشروط التي يجب أن تتوفَّرَ في الراوي لتُعطى مصداقيةٌ وثقةٌ لما رواه من حديث. ومن ضِمن هذه الصفات، أذكرُ، على سبيل المثال الاستقامة، العدل، أن يكونَ مسلِما، بالغا، عاقلا وبعيدا كل البُعد عن كل ما قد يُفسد مروءتَه ونُبلَه.
إذن، كل الأحاديث التي وصلتنا، بعد مرور أزيد من 14 قرنا على وفاة الرسول (ص) و 12 قرنا على البدء في تدوين الأحاديث، صِحَّتها مبنيةٌ، فقط وحصريا، على استقامة وعدل ومروءة ونُبل الرُّواة. وهذا يعني أن هؤلاء الرُّواة كانوا مصنَّفين في أعلى درجات الاستقامة والعدل والمروءة والنُبل، وخصوصا، الصحابة منهم، لأن هؤلاء الصحابة هم مَن عايشَ الرسول (ص) ويوجدون في قمَّة سلسلة الرُّواة. وهذا يعني، كذلك، أن الرُّواةَ، وعلى رأسهم الصحابة معصومون من الخطأ.
لكن، قبل أن أُجيبَ على السؤال الذي هو عنوان هذه المقالة، أي : "هل رُواةُ الحديث كلَّهم عُدولٌ؟، دعوني أوضِّح ثلاثةَ مفاهيم التي هي "مسلم"، "راوي" و "صحابي".
"المسلم" هو كل شخصٍ اتَّخذ الإسلامَ كدينٍ. لكن المسلمَ لا يكتمل إسلامُه إلا إذا انصهر إيمانُه بإسلامه، مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى : "قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَـٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (الحجرات، 14).
و"الرَّاوِي" هو اسم فاعِلٍ وجمعُه "رواةٌ"، مشتقٌّ من فعل "روى". فنقول مثلا : فلانٌ روى حكايةً أو أخبارا، أي نقلها أو ذكرها أو أسمعها للغير. إذن راوي الحديث النبوي، هو كل شخصٍ يروي الحديثَ، أي يسردُه وينقُله ليكونَ الناسُ على علمٍ به.
أما "الصَّحَابي" وجمعُه "صَحَابَة"، فهو الإسمٌ الذي يُطلق على مجموعة الناس الذين كانوا من أصحاب الرسول محمد (ص). وكان الصحابةُ من المهاجرين والأنصار يعاشِرون الرسول (ص) ويلتقون به ويأخذون عنه أمورَ الدين. وصفةُ "صحابي" تقتضي أن يموتَ هذا الصحابي وهو مسلمٌ. وحسب الأرقام المُتوفِّرة، كان عددُ الصحابة يُناهِز 114 ألف صحابي إلى حين وفاة الرسول (ص).
بعد هذه التَّوضيحات، إن المنطِقَ والبحث عن الحقيقة يفرضان علينا طرحَ بعض الاسئلة. وأهمُّ هذه الأسئلة هو، في نظري، الآتي :
"انطلاقا من التَّوضيحات حول المفاهيم الثلاثة (مسلم، راوي وصحابي) المشار إليها أعلاه، فهل من المنطقي ان يُصدِّقَ عقلٌ سليمُ البُنيانِ أن جميعَ الرُّواة وجميعَ الصحابة الذين عاشوا الرسول والذين عددُهم، حسب ما هو متوفِّر من الأرقام، يُناهز 114 ألف صحابي، والذين سمعوا أحاديثَ الرسول (ص) كانوا كلهم عدولا؟
وكلمة "عدول" هي جمعُ عدلِ أو عادل، وتعني أن هؤلاء الرُّواة والصحابة كانوا مستقمين، يقولون الحقَّ ولا شيءَ غير الحق. وحسب ما هو معروفٌ فقهياً، الناس العدول هم الناس الذين يجتنبون الكبائر والصغائر ويتحاشون التصرفات التي تُسيء لمروئتهم.
وما يثيرُ الانتباهَ، هو أن كثيرا من الرُّواة لم يروا ولم يعاشروا لا الصحابة ولا الرسول. فكيف لرواةٍ لم يروا ولم يُعايشوا لا الصحابة ولا الرسول (ص)، وتفصلهم عن هؤلاء الصحابة والرسول عشراتُ أو مئات السنين، أن لا يطرأَ على تفكيرهم أي تغيير وأن لا يكونَ لهم ميول سياسي أو انتماءٌ مذهبي…؟
ولماذا العقلُ السليمُ لا يمكن أن يُصدِّق أن الرواةَ والصحابة كانوا كلُّهم عدولا، أي مستقيمين وصادقين في أقوالهم وأفعالهم؟ وفي هذا الصدد، المنطق يقول قد يكون من بين الرواة والصحابة ناسٌ عدولٌ وقد يكون من بينهم، كذلك، ناسٌ غير عدول. لماذا؟
أولا، لأن الذي يكتفي بسماع الحديث، ليس مؤكَّدا أنه أدرك وفهِم ما أراد الرسول أن يُبلِّغَه للناس. والحقيقة أن الرَّاوي والصحابي، وحتى إن دوَّنا الحديث كتابةً، فلا يمكن أن يُدركوا معناه ومحتواه إلا انطلاقا من خلفياتِهما الفكرية والثقافية الآنية. كما أن المنطقَ لا يقبل أن يكونَ لجميع الرُّواة والصحابة نفس الإدراك لنفس الأحاديث. والدليل على ذلك أن علماءَ الدين وفقهائه يفسِّرون القرآن والسُّنة، كلٌّ حسب قناعاته الفكرية والثقافية، وقد أقول، السياسية.
ثانيا، وما قولكم في معركتي الجمل وصَفِّين اللتان قاتل فيهما الصحابةُ بعضُهم بعضاً وكان فيها عددُ القتلى بالآلاف، واللهُ، سبحانه وتعالى، يقول : "وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (النساء، 93). فهل الصحابة كلهم عدول؟
ثالثا، وما قولكم في أن بعضَ الصحابة كذبوا على الرسول (ص) بادِّعائهم أن بيوتَهم غير آمنة (إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ)، وبالتالي، لا يمكن أن يذهبوا للقتال في سبيل الله، مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى : "وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (الأحزاب، 13). فهل الصحابة كلهم عدول؟
رابعا، وما قولكم في صحابة مصنَّفين في خانة المنافقين؟ إذ، بمجرَّدِ ما يغادرون صُحبةَ الرسول (ص)، يقولون للناس أقوالا مخالِفة لتلك التي نطق بها الرسول (ص)، مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى : "وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا (النساء، 81). فهل الصحابة كلهم عدول؟
خامسا، وخلاصة القول، إن علماءَ وفقهاءَ الدين يُخفون الحقيقةَ عن الناس. وإخفاءُ الحقيقة عن الناس، لا يمكن تفسيرُه إلا بكون هؤلاء العلماء والفقهاء لهم أهدافٌ مُبيَّتة تتجلى، إما في اعتبار أنفسهم امتداداً للإرادة الإلهية (واللهُ غَنِيٌّ عن العباد)، وإما يريدون أن يبقوا مُسيطرين على عقول الناس ومنعها من التَّفكير، وإما أنهم يعتبرون كلامَهم أو تفاسيرَهم مطلقة، وبالتالي، لا يمكن التَّشكيكُ فيها.
سادسا، واللهُ، سبحانه وتعالى، أخبرنا بأن الصحابةَ ليسوا كلهم عدولا كما يدَّعي علماء وفقهاء الدين. بل، بعد وفاة الرسول (ص)، منهم مَن سيبقى مؤمنا، ومنهم مَن سيتراجع عن إيمانُه؟ مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى : "وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (آل عمران، 144).
ثم هل بإمكاننا أن نحكمَ على الناس ونقول بأنهم مستقيمون، فقط، من خلال ما ينطقون به من أقوالٍ وما يُظهرونه من سلوك؟
هنا، المنطق يقول بأن الإنسانَ الذي يبدو مستقيما وصادقا قد يُخفي في صدره نفاقا أو سلوكا منافيا لإيمانه الظاهري sa foi apparente. كلنا بشرٌ والبشَر ليسوا معصومين من الخطأ، طِبقاً لما قاله الرسول (ص) : "كل بني آدم خطَّاءٌ وخير الخطَّائين التَّوابون".
والبشر ليس لهم القدرة على الاطِّلاع على ما يُخفيه الآخرون في صدورِهم. الله، سبحانه وتعالى، هو وحده قادر على معرفة ما تُخفيه صدورُ الناس، مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى : "يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (التغابن، 4).
ومنَ يدَّعي بأنه قادرٌ على معرفة ما تُخفيه الصدورُ، فلا فرقَ بينه وبين المُشعودين و"الشُّوافات". إذن، فالادِّعاء بأن "الرُّواة والصحابة كلهم عدول" أمرٌ تحوم حوله الشكوك! وهذا لا يعني، على الإطلاق، أنه لا يوجَدُ، من بين الرُّواة والصحابة ناسٌ مستقيمون ومن ذوي المروءة العالية. كل شيءٍ ممكن في حياة الناس، الصواب واردٌ والخطأ، هو الآخر، واردٌ.
1."مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى : "يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا" (النساء، 28). فماذا تعني "...وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا"؟ تعني أنه، مهما بلغت عظمةُ الإنسان وقدرتَه على إنتاج الفكر والعلم…، فإنه يبقى ضعيفا أمام القدرة الإلهية. وضعف الإنسان ينطلق من فكره لأن هذا الأخير، مهما تطوَّرَ ومهما ارتقى، يبقى عاجِزاً عن معرفة ما هو مطلقٌ وما هو غيبي.
2. كذلك مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى : "وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَـٰذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا" (الكهف، 54). في هذه الآية، يُخبرنا، سبحانه وتعالى، بأنه ذكرَ، في القرآن الكريم، الكثيرَ من الأمثال، لعل الإنسان يستفيد منها ويتَّخذَها نبراسا لحياته، كمؤمنٍ، لكنه، رغم معرفته لهذه الأمثال، فإنه يُجادل polémiquer، يخاصم disputer، يُساجل rivaliser، يتفلسف philosopher، يقبل accepter، يرفض refuser، يُخالف s'opposer، يناقش discuter…
