تظليل
الحياة ليست ما عشناها على وجه التحديد، وإنما ما نعيشها فعلاً، ما سنعيشها ليس باعتبارنا شركاء فيها طبعاً، وإنما لأنها تصل بين شخصين أحياناً: رجلاً وامرأة، كما لو أن أحدهما يتنفس بالآخر، يتظلل ويستطل به، يكون مؤشر نهوضه وقعوده به، مد شهيقه وزفيره، ليله ونهاره يتجليان باسمه، أن أحدهما وإن كان له اسمه الشخصي، صورته الشخصية، عنوانه الشخصي، مكان عمله، من يتعامل معهم، وشئون تتوقف عليه وحده..سوى أن تحرّيه يجلو ما هو أبعد، أعمق، أوسع، أطول، وأعرض مما تقدم: أن ثمة كائناً يقيم بين جنبيه، ويشكّل رؤيته ورؤياه، نبض قلبه، مؤاساة روحه لحظة الاختلاء بنفسه، خميرة إرادته الحية في البقاء، كأن حياته توقيف باسم من يحب...
بالطريقة هذه، بطريقة كهذه، يمكن الخروج إلى الحياة وهي تشير ببنانها إلى أمثلة يستحيل التفريق بين ظلّيْ شخصين، اقترنا مع بعضهما بعضاً ذات لحظة، وربما كان الذي قبلهما في عمر معين" صفرَ معرفة " لتشهد الحياة الزوجية هذه، كما لو أن كلاً منهما كان ينتظر منه أذناً ليسمع بها، عيناً ليرى بها، أنفاً ليشم خلاله، ذائقة أطايب ليرتاج إليها، قلباً ليطرب اعتماداً عليه، يداً يقطف كل مساء نجمة تومض بينهما ليسلكا طريق صبابة تزداد شفافية، روحاً تقفز إلى أبدية أخلصا لها...
أقولها، وأشدد على ما أقوله، وأنا في هذا العمر " قاربت السبعين عاماً، ولي زوجة وأولاد وأحفاد " ولي تجارب حياتية مع أشخاص متنوعي المشارب، عندما أتوقف مع الأكاديمي القانوني والمفكر والشاعر العراقي حكمت شبّر ( مواليد النجف 1938 ) صاحب عشرات الكتب في موضوعات شتى : قانونية، بحكم الاختصاص، وخاصة عن الرحلات والانطباعات الحياتية وشعرية ..
أن يكون قانونياً ويفصّل في القانون، باحثاً ومدققاً وقالباً إياه على وجوهه، فذلك ما يتوقف على مدى تفهمه لهذا القانون، أما أن يرفع من شأن تلك العاطفة التي تمد باسمها في كل شيء، حتى الجماد نفسه، إن أمعنا النظر في أمره وموقعه، وفي الكونيّ، وبها وفيها ترفَع حدود التفاعل، ومساحة الامتلاء بمأثرتها، وقوة الانتشار لآثارها أبعد من مسامات الجسد وشغاف القلب، أي الحب، إلى ما يشبه القانون. الحب قانوناً، القانون حباً، فذلك ما يتطلب التروي، وتبيّن المسوّغ في كل ذلك.
القانون له مرجعية مؤسساتية. فهمناها هذه. أما هنا مع الحب بالتأكيد، فليس من ضابط لاسمه، لمَا يخرج أو يدخل باسمه، إنما هي إشارات عائدة إلى من ينبض قلبه بإيقاع معين، ويشد إليه كامل حواسه بصيغة معينة، ويوقِف عليه حياته بالجملة، ويكون في عموم الجسد ذلك الاسم الحي، المتولَّه به، اسم امرأة يتردد، ويصاغ تحبباً، ذلك ما يستحق الإصغاء إلى قلب شاعره ومغزاه.
أشير إلى شاعرنا هنا حكت شبر، ومن تملّكت قلبه، روحه، وشغلته بكامله أي زوجته وبعد رحيلها الأبدي، ليبقيها، فلا تستبقي فيه شيئاً إلا وتترك عليه نقشاً ذلك الأثر الذي يعزز هذه العلاقة، وفي صوته المفعَم بحبها، وكتابته شعراً عنها، ما ينير المقصد.
أقولها، لأنني أعرفه عن قرب، حيث المتردد شعراً لا يترك مسافة لقرب أكثر مما عرِف عنه، وفي الذي أوقف عليه قلبه، وعمره الطاعن في السن، وله من عمر مكدود، وكأن الذي يكتبه في المجمل شعراً حباً بها، إيماناً بحقيقة وفائه لها، وهي إيمان اسماً وأمونة تحبباً، وأم نوار لقباً، لا يدع لحظة تعبره إلا وفي نفسه الحيّة استطالة رغبة وفيض حميّة عاشق من نوع آخر، لتأريخها حباً به
وفي مجموعته الشعرية الأحدث( أمّونة مازال حبك يسكن قلبي- دار الزمان، ط1، 2024،أكثر من 300 صفحة من القطع الوسط)، حيث تتفاعل النصوص الشعرية مع لوحات تمنح الكلمة عمقاً مضافاً، وشفافية رؤية أكثر كذلك، في مجموعته هذه، وبعد مجموعته السالفة ( إيمان قلادة قلبي )، الاسم الصحيح، وهنا في المجموعة الثانية الاسم المحبب" أمونة "، ثمة هذا الوله، هذا الهيام، هذه الصبابة، هذا الصب، وهذا التيتم.. هذه السلسلة الطويلة من صفات الحب التي أبدع فيها ابن حزم في " طوق الحمامة " ليعيش في ظل هذه الكثرة المناقبية من صفاتها في عزاء مفصَح عنه، وكأنه دخل معها في عقد أبدي حباً، كأنها تعيش معه، وهي في رحيلها الأبدي، كأنها تكتبه، إن جاز التعبير، وهي الروح التي تمثل أمام ناظريه، إلى درجة أن هاتفه الداخلي والمستهام يقول:
يا ليل الصب متى غده أقيام الساعة موعده
هكذا، أو ربما هكذا يستحيل المحبوب لحظة الشعور بالامتلاء به، ورفض الاعتراف برحيله، إلى المنتظَر والمتوقع الحضور في أي لحظة.
ومجموعته هذه تفصح في أغلب نصوصها( هنا نصوص مكتوبة لا علاقة لها بهذا الحب الذي يحمل بصمته!) عن هواه الخاص، عما تشتهيه روحه في روح يعيشها بكامل حواسه، مشاعره، انفاعلاته وهواجسه...إلخ
وما أسعى إليه في هذه المتابعة، هو التقدم بقراءة موجزة في هذه النصوص " الحبّية " وكيف أنها في بنيتها تشكل قصيدة واحدة، ولها مناخات مختلفة، ومنبعها ومراحها قلب واحد له لسان عاطفته، ولغة تعبيره، لأن الاسم المفعّل واحد، والصوت المفعَّل فيه واحد، هو الشاعر عينه. ودون أن أنوّه إلى الجاري رسماً للمشاعر والأحاسيس في هاتيك القصائد، التي كتبت تجاوباً مع تلك السجية في روحه، حيث الوزن له شأن آخر، مع وجود قافية أرادها الشاعر شاهدة على وحدة القصيدة وتعزيزاً- ربما- لتقدير ذوقي من لدنه، أنها الأقدر على تمثيل عاطفته المتدفقة حباً.
أنا أعيش " أمّونة " أنا أعيش
قلتُ إن الشاعر في نصوصه، وكما باح لنا نحن المقربون به طبعاً، وهو يقيم في حي سكني جميل في دهوك " أفرو سيتي " يشير إليها باسمها، معترفاً بما لا قدرة له على نسيانه، أي عن أنه يعيشها، كما لو أن أسلوب التمثّل يضمن له استمرارية مشتهاة، وما في ذلك من قدرة تحويل بالمشاعر، بالجسد الذي يعيش شيخوخته، إلى مسار حياتي آخر. الكلمات تأبيد لعمر لا يساوَم على قوته !
هناك كل ما يمكن التفكير لمنح إقدامه على تعميق هذه العلاقة تلك المشروعية والمساندة، وشفاعة أخلاق عملية في المتن. حيث لا حب إلا عبر التنازل لمحبوب كان حياً ذات يوم، وأصبح مؤثراً بعد رحيله تعبيراً عما كان عليه تأثيراً ومكانة. ثمة أرشفة بالصوت والصورة لتلك الحياة ولو باختصار.
العاشق عن قرب وعن بعد يلغي المسافة، يلغي الزمن، جرّاء هذه النوعية من العلاقات:
لا تلومينـــــــــي فلومك مرُّ
لم يكن في مرارة اللوم زهر
...
إن طعم الحــــــلاوة من شفتية
أحلى من الشهد فهل عنديذ صبر .. ص 7
في الحب لا مكان إلا لتلك الصراحة، لشجاعة الاعتراف بالكامن عاطفياً في الداخل، شجاعة تدع ساحة الوغى جانباً، لحساب ساحة غير مرئية، لكنها مرسوم بعلاماتها الفارقة بالكلمات، وهذه أكثر من كونها نزيلة صامتة على الورق.الحب مُعلّم ماهر هنا في تهذيب الجسد وتلقينه الحب الذي يبقيه على صراط المحبوب المستقيم. هكذا يقول الشعر. والشعر كشّاف أعماق وآفاق ومدشّن لها.
ومن المؤكد، من المؤكد ثانية وثالثة هنا، أن هذا الذي يرتقي إلى مستوى الأمثولة،وأن ينحّي تبعات الزمان والمكان جانباً، لضرورة مبررة. فمن يؤبَّد اسمه بالطريقة هذه، يكون كل ما يعرَف من شموخ، ومن تفان، ومن رؤيا، ومن سمو من مناقبه، وهي تشفع لكل مؤتى ومحرر باسمه هنا:
رحلتُ حبيبة قلبــــــــــــي وهي باسمة
قد عبرت وهي راحلة عن حبها السامي. ص 17
هذا الجمع بين الرحيل الذي يستدعي الحزن، الحداد، والانقباض، والبسمة أو الابتسامة، من مفارقات المشهد القاتل: مشهد الفراق الأبدي، ولكن الابتسامة تلطّف المرئي، وكأنها إشارة لماحة إلى أنها لم تمت أنها ستسكن إليه في قلبه، وما الشطر الثاني من البيت إلا ترجمان ذلك الحب، ذلك العمر المشترك والمعزز بوئام أثرى حياتهما معاً. لا يعود العمر كمياً، وإنما يحمَّل بالكيف هنا.
من المؤكد أن هذه الراحلة كانت في وضعية مفرد بصيغة الجمع، وهي تضم أفراد العائلة إليها:
رحلت أمونة وهجر الأحفاد عشهم
غابـــــــــــــــــــوا في وحشة السفر ..ص 20
في المعايشة المقامة على أساس الحب الاستثنائي، كل شيء يحال باسمها، المكان والزمان، والغم من أثريات الفراق طبعاً، وفي الوقت نفسه عربون محبة وإخلاص للحبيبة التي لا تنقسم اسماً، وشهادة حسية ملوَّح بها على أنها موجودة رغم انتفاء وجودها، وأن الشاعر المحب، المطعون في قلبه، جرّاء فقد لا قدرة له على منعه، يستحق براءة ذمة على حب فاض باسمها حتى فيما بعد:
وتمر أيامي حزينــــة والهــــــم يخترق السكينة
في عالم تعلو شجونه ويعيش أحبابـي بأيام ظنينه. ص 35
هذا الاستبداد الممارس على الجسد، أو المازوخية، كما يمكن القول من جهة من يمارس التحليل النفسي، يترجم مسلك صاحبه النفسي في المهوى الآخر، في مسقط حبها الذي يكون قلبه، أو مهبط صورتها الحية، حيث تكون روحه. لكان الاستبداد، كما هو الألم تعزيز لحميمية الذكرة، وتوقيف الذاكرة عليها، شعوراً منه، أنها ربما " أي الذاكرة " لا تفيها حقها في الحب .
ينظَر مثلاً في هذا التمثيل المكان، حيث النخل شريك في المقام شعراً" النخل مشتاق إليك ":
النخل مشتاق للمس أنملك
لكــــــــــــي يحيي العهود
ثمة:
يا نخلتي كنت ِ لي الكرم الكبير
وكان التمـــــــــر من يدك يجود. ص 59
شعور بالمرارة، وشعور بالمكان، ووعي مركَّب به، حين يجعله داخلاً معه، بكل ما فيه في الحداد.
إنها لمشكلة كبيرة وثقيلة الوطء، حين يُرى الآخر في الحضور المطلق، وتكلفة ذلك وهي باهظة جهة المعاناة:
إني أرى أنوارها تكشف شمس الضحى
فتوهجت أزهارها واحتلت الصُّـــــــرحا
وتموجت فــــــــــــــــــــي عشقها مرحا
سكرى يعربد قلبهــــــــــــــــــــــــا فرحا . ص 99
لا شيء يمكنه تمثيل هذا الحب بكل ملابساته، وأغواره، وأطواره، وألوانه، وتداعيات صوره وحقيقة مجريات أحداثه، بتاريخه الطويل، وشهادة الأمكنة التي عرِفت بوجود الحبيبين معاً داخل البيت وخارجه، والصعوبة أيضاً في كيفية تحويل الألم إلى لغة وثقل الموقف.
في " أمونة مازلت تسكن قلبي " اسم القصيدة التي حملت به المجموعة كاملة، ما ينوّه إلى هذا المصاب الجلل:
عشت الحياة مدللاً ومحلقُّ
كانت حبيبة قلبي ملؤها عبق
الشمس مشرقة وقلبي يخفق
ونسائم الحب الجميــل تحلق ..ص 116
كما قلت بداية، عن أن الشاعر موقّفٌ لسانه على حساب قلبه، دون أن يعبأ بحركية اللغة قواعدياً أو الوزن ومدى استقامته، فهو يأخذ ما يلبي حاجته، كفايته بالحرف، ما يهدىء روحه قليلاً، وليس ما يشغله بللغة وسلامتها في التعبير، كما الحال هنا وفي أمكنة أخرى.
هذا التقابل القائم بين عهدين، وبينهما غاية الخلاف، إشعار معتبَرٌ بالحياة الخصبة التي عاشها وإياها، وبؤسها تالياً.
إنها إشارات، رسائل، مشاهد تترى، تخرج من بين يديه يومياً، وهو يكتب كلماته التي تصله بحمّى قلبه، في الفراش، أو على طاولة ربما تئن تحت وقد المأساة التي تبقي الحداد مستمراً، وتلك الصعوبة في التواصل في حزن مميز كهذا.
ألم يقل في مكان آخر، وفي كلمة تتكرر تعزيزاً لهذا النوع من الحداد المرسَل باسمه إلى كل من يهمه الأمر، إشهاراً لواقعة قائمة ، تتجدد في روحه، ومن باب الإعلام بالذات، على أن حدثاً أصاب القلب في الصميم، ينوّه إليه هكذا:
حزينٌ، حزينٌ، حــــــــــــــــزينْ
ولن يفرح قلبـــــــي دوار السنين
إني أرى حزنــــــــــــــــــي يليق
بامرأة كريمة وزنها عالي الرنين . ص 127
وليجد في الاقتباس ما يحقق كفاية أخرى له مما يعتمر فيه من عواطف، في " أنت وطني ":
أنا يا عصفورة الشجن مثل عينيك بلا وطن
إني أرى وطنـــــــــــــــــــــــــــي فجراً بعينيك.. ص 142
هذا المزج، الدمج بين ما هو ممدد جغرافياً: الوطن، وما هو متشكل معنوياً: الحب، تأكيد على جواز اقتباس كهذا. وهدايته إلى روحه وبروحه. أليس الهوى جنون الروح وتتويهاً لها لزمن قد يطول؟
ذلك أجيزَ العمل بموجبه من قبل أهل الصنعة هذه: الشعر، وما أكثر ما قيل في هذا الجانب. لكأن الشعور بالوطن يأتي من جهة هذه المرأة. لم لا. ألا يقال في الوطن بـ " الوطن الأم "؟
والشاعر يمنح روحه مثل هذا التصرف واستثماره شعراً، لأن من أحب استثاء:
يا فتاتي كنت لي أجمــل حضن
فيك دفء الحياة وزهو الوجود..ص 204
أليس لهذا السبب، وكل ما هو خاص، يستحيل عاماً وفق قانون الحب المحوَّل باسمها:
أمونة لا لن تغيبي عن حياتــــــــــي الدنيوية
أنت ِ في قلبي وعقلي دائماً حتى بلوغ الأبدية ..ص232
قالها وسمّاها، حيث أمَّمَ لها حياة لا تفنى، وبذلك أجيز له أن يقول فيها ما يستطيع، ليكون في مقدوره التواصل معها. كما لو أن أورفيوساً يحضر باسمه، وهو ملتح، وهو في مثل عمره، لكن عينيه تشعان حباً وتبصران لمسافات بعيدة بعيدة، بحثاً عنها في " الأمام " أو في " الوراء " حيث تقيم أبدياً، وتكون جميلته الفاتنة يوريديس في انتظاره أو ملهمته في أشعاره التي يتوجب عليه كتابته، وبمقدار ما يمضي حباً ومن خلالها، تضمن له قرباً واقتراباً منها أكثر، ونيلَ حقاً في أن يراها حية ..تلك حيلة شعرية، ومنطق الذائقة الفنية في جمال مجسم في اسمه منتقى، اسم " مجرَّب " يستأهل كل هذا العناء في المكاشفة والكشف الحبيين.
ويكون للنداء مغزاه ومداه في التعبير عن نشيد إنشاده وواهب أبدية له، في " يا أم نوار " زوجته الراحلة:
يا أمّ نوّار قـــــــد طالت ليالينا
يكتمن حاضرنا يأوين ماضينا. ص 282
لكأنما هذا المضيّ قدماً في لملمة شتات روحه، في استقطار العالم بجهاته الأربع أرضاً وسماء، نوع من التأكيد على توقيف حياته المتبقية باسمها، وليس من شيء يستطيع تنحيته عنها، طالما أن كل شيء بات على علم بعلاقة الحب المائزة هذه:
يا باقة الورد هـــــل جئت تعزينا
قد كنت من قبلُ رمزاً في تلاقينا..ص300
ما قيل ويقال، وسيكون هناك المزيد والمستزاد من فيض هذا الحب في نصوص أخرى، سيكون في كل ذلك ما يجعل من قلب حكمت شبر أكثر تقبلاً لجسده الواهن، والروح أكثر اعترافاً به، وهو في هذا التفاني، هذه الميتات الرمزية المتسلسلة، هذا الحداد الذي ينتقل به من نص إلى آخر، عبر جسد يعلمنا رماده بنار تتقد حباً فيه، وأن رماده صك اعتراف بالحب الماضي والمستمر. وأن وراء البياض الذي يستحم رأسه ووجهه به شيباً، إنما هو طهرانية روح، ما أفخمها وأسلسلها من روح، أبت أن تعيش نهاره بليلها دون مهاتفة من طابق اسمها مسمّاها: إيمان، أمونة، إيمان إيقونة قلبه وعقله معاً.
هل من وفاء نظير هذا الوفاء، وما يجعل المرأة أكبر مما هي عليه، ولعلها حقيقتها في استحقاقها لحب كهذا، لحظة استشارة الحياة عينها، وربما سماع صوتها ولو همساً: هي هكذا، أنا المرأة ذاتها، ومن خلدت باسمه، أمنحه بركتي في البقاء..
عسى هذه الكلمات تفي ببعض الوفاء لصديق أخلص حباًلا يحاط به، لوجه أنثوي لم يكن نمطياً كما عرفناه عن قرب. عن قرب، وجه يضخ حياة ووداً تصديقاً لما سُطّر هنا حرفاً بحرف !!
دهوك
الحياة ليست ما عشناها على وجه التحديد، وإنما ما نعيشها فعلاً، ما سنعيشها ليس باعتبارنا شركاء فيها طبعاً، وإنما لأنها تصل بين شخصين أحياناً: رجلاً وامرأة، كما لو أن أحدهما يتنفس بالآخر، يتظلل ويستطل به، يكون مؤشر نهوضه وقعوده به، مد شهيقه وزفيره، ليله ونهاره يتجليان باسمه، أن أحدهما وإن كان له اسمه الشخصي، صورته الشخصية، عنوانه الشخصي، مكان عمله، من يتعامل معهم، وشئون تتوقف عليه وحده..سوى أن تحرّيه يجلو ما هو أبعد، أعمق، أوسع، أطول، وأعرض مما تقدم: أن ثمة كائناً يقيم بين جنبيه، ويشكّل رؤيته ورؤياه، نبض قلبه، مؤاساة روحه لحظة الاختلاء بنفسه، خميرة إرادته الحية في البقاء، كأن حياته توقيف باسم من يحب...
بالطريقة هذه، بطريقة كهذه، يمكن الخروج إلى الحياة وهي تشير ببنانها إلى أمثلة يستحيل التفريق بين ظلّيْ شخصين، اقترنا مع بعضهما بعضاً ذات لحظة، وربما كان الذي قبلهما في عمر معين" صفرَ معرفة " لتشهد الحياة الزوجية هذه، كما لو أن كلاً منهما كان ينتظر منه أذناً ليسمع بها، عيناً ليرى بها، أنفاً ليشم خلاله، ذائقة أطايب ليرتاج إليها، قلباً ليطرب اعتماداً عليه، يداً يقطف كل مساء نجمة تومض بينهما ليسلكا طريق صبابة تزداد شفافية، روحاً تقفز إلى أبدية أخلصا لها...
أقولها، وأشدد على ما أقوله، وأنا في هذا العمر " قاربت السبعين عاماً، ولي زوجة وأولاد وأحفاد " ولي تجارب حياتية مع أشخاص متنوعي المشارب، عندما أتوقف مع الأكاديمي القانوني والمفكر والشاعر العراقي حكمت شبّر ( مواليد النجف 1938 ) صاحب عشرات الكتب في موضوعات شتى : قانونية، بحكم الاختصاص، وخاصة عن الرحلات والانطباعات الحياتية وشعرية ..
أن يكون قانونياً ويفصّل في القانون، باحثاً ومدققاً وقالباً إياه على وجوهه، فذلك ما يتوقف على مدى تفهمه لهذا القانون، أما أن يرفع من شأن تلك العاطفة التي تمد باسمها في كل شيء، حتى الجماد نفسه، إن أمعنا النظر في أمره وموقعه، وفي الكونيّ، وبها وفيها ترفَع حدود التفاعل، ومساحة الامتلاء بمأثرتها، وقوة الانتشار لآثارها أبعد من مسامات الجسد وشغاف القلب، أي الحب، إلى ما يشبه القانون. الحب قانوناً، القانون حباً، فذلك ما يتطلب التروي، وتبيّن المسوّغ في كل ذلك.
القانون له مرجعية مؤسساتية. فهمناها هذه. أما هنا مع الحب بالتأكيد، فليس من ضابط لاسمه، لمَا يخرج أو يدخل باسمه، إنما هي إشارات عائدة إلى من ينبض قلبه بإيقاع معين، ويشد إليه كامل حواسه بصيغة معينة، ويوقِف عليه حياته بالجملة، ويكون في عموم الجسد ذلك الاسم الحي، المتولَّه به، اسم امرأة يتردد، ويصاغ تحبباً، ذلك ما يستحق الإصغاء إلى قلب شاعره ومغزاه.
أشير إلى شاعرنا هنا حكت شبر، ومن تملّكت قلبه، روحه، وشغلته بكامله أي زوجته وبعد رحيلها الأبدي، ليبقيها، فلا تستبقي فيه شيئاً إلا وتترك عليه نقشاً ذلك الأثر الذي يعزز هذه العلاقة، وفي صوته المفعَم بحبها، وكتابته شعراً عنها، ما ينير المقصد.
أقولها، لأنني أعرفه عن قرب، حيث المتردد شعراً لا يترك مسافة لقرب أكثر مما عرِف عنه، وفي الذي أوقف عليه قلبه، وعمره الطاعن في السن، وله من عمر مكدود، وكأن الذي يكتبه في المجمل شعراً حباً بها، إيماناً بحقيقة وفائه لها، وهي إيمان اسماً وأمونة تحبباً، وأم نوار لقباً، لا يدع لحظة تعبره إلا وفي نفسه الحيّة استطالة رغبة وفيض حميّة عاشق من نوع آخر، لتأريخها حباً به
وفي مجموعته الشعرية الأحدث( أمّونة مازال حبك يسكن قلبي- دار الزمان، ط1، 2024،أكثر من 300 صفحة من القطع الوسط)، حيث تتفاعل النصوص الشعرية مع لوحات تمنح الكلمة عمقاً مضافاً، وشفافية رؤية أكثر كذلك، في مجموعته هذه، وبعد مجموعته السالفة ( إيمان قلادة قلبي )، الاسم الصحيح، وهنا في المجموعة الثانية الاسم المحبب" أمونة "، ثمة هذا الوله، هذا الهيام، هذه الصبابة، هذا الصب، وهذا التيتم.. هذه السلسلة الطويلة من صفات الحب التي أبدع فيها ابن حزم في " طوق الحمامة " ليعيش في ظل هذه الكثرة المناقبية من صفاتها في عزاء مفصَح عنه، وكأنه دخل معها في عقد أبدي حباً، كأنها تعيش معه، وهي في رحيلها الأبدي، كأنها تكتبه، إن جاز التعبير، وهي الروح التي تمثل أمام ناظريه، إلى درجة أن هاتفه الداخلي والمستهام يقول:
يا ليل الصب متى غده أقيام الساعة موعده
هكذا، أو ربما هكذا يستحيل المحبوب لحظة الشعور بالامتلاء به، ورفض الاعتراف برحيله، إلى المنتظَر والمتوقع الحضور في أي لحظة.
ومجموعته هذه تفصح في أغلب نصوصها( هنا نصوص مكتوبة لا علاقة لها بهذا الحب الذي يحمل بصمته!) عن هواه الخاص، عما تشتهيه روحه في روح يعيشها بكامل حواسه، مشاعره، انفاعلاته وهواجسه...إلخ
وما أسعى إليه في هذه المتابعة، هو التقدم بقراءة موجزة في هذه النصوص " الحبّية " وكيف أنها في بنيتها تشكل قصيدة واحدة، ولها مناخات مختلفة، ومنبعها ومراحها قلب واحد له لسان عاطفته، ولغة تعبيره، لأن الاسم المفعّل واحد، والصوت المفعَّل فيه واحد، هو الشاعر عينه. ودون أن أنوّه إلى الجاري رسماً للمشاعر والأحاسيس في هاتيك القصائد، التي كتبت تجاوباً مع تلك السجية في روحه، حيث الوزن له شأن آخر، مع وجود قافية أرادها الشاعر شاهدة على وحدة القصيدة وتعزيزاً- ربما- لتقدير ذوقي من لدنه، أنها الأقدر على تمثيل عاطفته المتدفقة حباً.
أنا أعيش " أمّونة " أنا أعيش
قلتُ إن الشاعر في نصوصه، وكما باح لنا نحن المقربون به طبعاً، وهو يقيم في حي سكني جميل في دهوك " أفرو سيتي " يشير إليها باسمها، معترفاً بما لا قدرة له على نسيانه، أي عن أنه يعيشها، كما لو أن أسلوب التمثّل يضمن له استمرارية مشتهاة، وما في ذلك من قدرة تحويل بالمشاعر، بالجسد الذي يعيش شيخوخته، إلى مسار حياتي آخر. الكلمات تأبيد لعمر لا يساوَم على قوته !
هناك كل ما يمكن التفكير لمنح إقدامه على تعميق هذه العلاقة تلك المشروعية والمساندة، وشفاعة أخلاق عملية في المتن. حيث لا حب إلا عبر التنازل لمحبوب كان حياً ذات يوم، وأصبح مؤثراً بعد رحيله تعبيراً عما كان عليه تأثيراً ومكانة. ثمة أرشفة بالصوت والصورة لتلك الحياة ولو باختصار.
العاشق عن قرب وعن بعد يلغي المسافة، يلغي الزمن، جرّاء هذه النوعية من العلاقات:
لا تلومينـــــــــي فلومك مرُّ
لم يكن في مرارة اللوم زهر
...
إن طعم الحــــــلاوة من شفتية
أحلى من الشهد فهل عنديذ صبر .. ص 7
في الحب لا مكان إلا لتلك الصراحة، لشجاعة الاعتراف بالكامن عاطفياً في الداخل، شجاعة تدع ساحة الوغى جانباً، لحساب ساحة غير مرئية، لكنها مرسوم بعلاماتها الفارقة بالكلمات، وهذه أكثر من كونها نزيلة صامتة على الورق.الحب مُعلّم ماهر هنا في تهذيب الجسد وتلقينه الحب الذي يبقيه على صراط المحبوب المستقيم. هكذا يقول الشعر. والشعر كشّاف أعماق وآفاق ومدشّن لها.
ومن المؤكد، من المؤكد ثانية وثالثة هنا، أن هذا الذي يرتقي إلى مستوى الأمثولة،وأن ينحّي تبعات الزمان والمكان جانباً، لضرورة مبررة. فمن يؤبَّد اسمه بالطريقة هذه، يكون كل ما يعرَف من شموخ، ومن تفان، ومن رؤيا، ومن سمو من مناقبه، وهي تشفع لكل مؤتى ومحرر باسمه هنا:
رحلتُ حبيبة قلبــــــــــــي وهي باسمة
قد عبرت وهي راحلة عن حبها السامي. ص 17
هذا الجمع بين الرحيل الذي يستدعي الحزن، الحداد، والانقباض، والبسمة أو الابتسامة، من مفارقات المشهد القاتل: مشهد الفراق الأبدي، ولكن الابتسامة تلطّف المرئي، وكأنها إشارة لماحة إلى أنها لم تمت أنها ستسكن إليه في قلبه، وما الشطر الثاني من البيت إلا ترجمان ذلك الحب، ذلك العمر المشترك والمعزز بوئام أثرى حياتهما معاً. لا يعود العمر كمياً، وإنما يحمَّل بالكيف هنا.
من المؤكد أن هذه الراحلة كانت في وضعية مفرد بصيغة الجمع، وهي تضم أفراد العائلة إليها:
رحلت أمونة وهجر الأحفاد عشهم
غابـــــــــــــــــــوا في وحشة السفر ..ص 20
في المعايشة المقامة على أساس الحب الاستثنائي، كل شيء يحال باسمها، المكان والزمان، والغم من أثريات الفراق طبعاً، وفي الوقت نفسه عربون محبة وإخلاص للحبيبة التي لا تنقسم اسماً، وشهادة حسية ملوَّح بها على أنها موجودة رغم انتفاء وجودها، وأن الشاعر المحب، المطعون في قلبه، جرّاء فقد لا قدرة له على منعه، يستحق براءة ذمة على حب فاض باسمها حتى فيما بعد:
وتمر أيامي حزينــــة والهــــــم يخترق السكينة
في عالم تعلو شجونه ويعيش أحبابـي بأيام ظنينه. ص 35
هذا الاستبداد الممارس على الجسد، أو المازوخية، كما يمكن القول من جهة من يمارس التحليل النفسي، يترجم مسلك صاحبه النفسي في المهوى الآخر، في مسقط حبها الذي يكون قلبه، أو مهبط صورتها الحية، حيث تكون روحه. لكان الاستبداد، كما هو الألم تعزيز لحميمية الذكرة، وتوقيف الذاكرة عليها، شعوراً منه، أنها ربما " أي الذاكرة " لا تفيها حقها في الحب .
ينظَر مثلاً في هذا التمثيل المكان، حيث النخل شريك في المقام شعراً" النخل مشتاق إليك ":
النخل مشتاق للمس أنملك
لكــــــــــــي يحيي العهود
ثمة:
يا نخلتي كنت ِ لي الكرم الكبير
وكان التمـــــــــر من يدك يجود. ص 59
شعور بالمرارة، وشعور بالمكان، ووعي مركَّب به، حين يجعله داخلاً معه، بكل ما فيه في الحداد.
إنها لمشكلة كبيرة وثقيلة الوطء، حين يُرى الآخر في الحضور المطلق، وتكلفة ذلك وهي باهظة جهة المعاناة:
إني أرى أنوارها تكشف شمس الضحى
فتوهجت أزهارها واحتلت الصُّـــــــرحا
وتموجت فــــــــــــــــــــي عشقها مرحا
سكرى يعربد قلبهــــــــــــــــــــــــا فرحا . ص 99
لا شيء يمكنه تمثيل هذا الحب بكل ملابساته، وأغواره، وأطواره، وألوانه، وتداعيات صوره وحقيقة مجريات أحداثه، بتاريخه الطويل، وشهادة الأمكنة التي عرِفت بوجود الحبيبين معاً داخل البيت وخارجه، والصعوبة أيضاً في كيفية تحويل الألم إلى لغة وثقل الموقف.
في " أمونة مازلت تسكن قلبي " اسم القصيدة التي حملت به المجموعة كاملة، ما ينوّه إلى هذا المصاب الجلل:
عشت الحياة مدللاً ومحلقُّ
كانت حبيبة قلبي ملؤها عبق
الشمس مشرقة وقلبي يخفق
ونسائم الحب الجميــل تحلق ..ص 116
كما قلت بداية، عن أن الشاعر موقّفٌ لسانه على حساب قلبه، دون أن يعبأ بحركية اللغة قواعدياً أو الوزن ومدى استقامته، فهو يأخذ ما يلبي حاجته، كفايته بالحرف، ما يهدىء روحه قليلاً، وليس ما يشغله بللغة وسلامتها في التعبير، كما الحال هنا وفي أمكنة أخرى.
هذا التقابل القائم بين عهدين، وبينهما غاية الخلاف، إشعار معتبَرٌ بالحياة الخصبة التي عاشها وإياها، وبؤسها تالياً.
إنها إشارات، رسائل، مشاهد تترى، تخرج من بين يديه يومياً، وهو يكتب كلماته التي تصله بحمّى قلبه، في الفراش، أو على طاولة ربما تئن تحت وقد المأساة التي تبقي الحداد مستمراً، وتلك الصعوبة في التواصل في حزن مميز كهذا.
ألم يقل في مكان آخر، وفي كلمة تتكرر تعزيزاً لهذا النوع من الحداد المرسَل باسمه إلى كل من يهمه الأمر، إشهاراً لواقعة قائمة ، تتجدد في روحه، ومن باب الإعلام بالذات، على أن حدثاً أصاب القلب في الصميم، ينوّه إليه هكذا:
حزينٌ، حزينٌ، حــــــــــــــــزينْ
ولن يفرح قلبـــــــي دوار السنين
إني أرى حزنــــــــــــــــــي يليق
بامرأة كريمة وزنها عالي الرنين . ص 127
وليجد في الاقتباس ما يحقق كفاية أخرى له مما يعتمر فيه من عواطف، في " أنت وطني ":
أنا يا عصفورة الشجن مثل عينيك بلا وطن
إني أرى وطنـــــــــــــــــــــــــــي فجراً بعينيك.. ص 142
هذا المزج، الدمج بين ما هو ممدد جغرافياً: الوطن، وما هو متشكل معنوياً: الحب، تأكيد على جواز اقتباس كهذا. وهدايته إلى روحه وبروحه. أليس الهوى جنون الروح وتتويهاً لها لزمن قد يطول؟
ذلك أجيزَ العمل بموجبه من قبل أهل الصنعة هذه: الشعر، وما أكثر ما قيل في هذا الجانب. لكأن الشعور بالوطن يأتي من جهة هذه المرأة. لم لا. ألا يقال في الوطن بـ " الوطن الأم "؟
والشاعر يمنح روحه مثل هذا التصرف واستثماره شعراً، لأن من أحب استثاء:
يا فتاتي كنت لي أجمــل حضن
فيك دفء الحياة وزهو الوجود..ص 204
أليس لهذا السبب، وكل ما هو خاص، يستحيل عاماً وفق قانون الحب المحوَّل باسمها:
أمونة لا لن تغيبي عن حياتــــــــــي الدنيوية
أنت ِ في قلبي وعقلي دائماً حتى بلوغ الأبدية ..ص232
قالها وسمّاها، حيث أمَّمَ لها حياة لا تفنى، وبذلك أجيز له أن يقول فيها ما يستطيع، ليكون في مقدوره التواصل معها. كما لو أن أورفيوساً يحضر باسمه، وهو ملتح، وهو في مثل عمره، لكن عينيه تشعان حباً وتبصران لمسافات بعيدة بعيدة، بحثاً عنها في " الأمام " أو في " الوراء " حيث تقيم أبدياً، وتكون جميلته الفاتنة يوريديس في انتظاره أو ملهمته في أشعاره التي يتوجب عليه كتابته، وبمقدار ما يمضي حباً ومن خلالها، تضمن له قرباً واقتراباً منها أكثر، ونيلَ حقاً في أن يراها حية ..تلك حيلة شعرية، ومنطق الذائقة الفنية في جمال مجسم في اسمه منتقى، اسم " مجرَّب " يستأهل كل هذا العناء في المكاشفة والكشف الحبيين.
ويكون للنداء مغزاه ومداه في التعبير عن نشيد إنشاده وواهب أبدية له، في " يا أم نوار " زوجته الراحلة:
يا أمّ نوّار قـــــــد طالت ليالينا
يكتمن حاضرنا يأوين ماضينا. ص 282
لكأنما هذا المضيّ قدماً في لملمة شتات روحه، في استقطار العالم بجهاته الأربع أرضاً وسماء، نوع من التأكيد على توقيف حياته المتبقية باسمها، وليس من شيء يستطيع تنحيته عنها، طالما أن كل شيء بات على علم بعلاقة الحب المائزة هذه:
يا باقة الورد هـــــل جئت تعزينا
قد كنت من قبلُ رمزاً في تلاقينا..ص300
ما قيل ويقال، وسيكون هناك المزيد والمستزاد من فيض هذا الحب في نصوص أخرى، سيكون في كل ذلك ما يجعل من قلب حكمت شبر أكثر تقبلاً لجسده الواهن، والروح أكثر اعترافاً به، وهو في هذا التفاني، هذه الميتات الرمزية المتسلسلة، هذا الحداد الذي ينتقل به من نص إلى آخر، عبر جسد يعلمنا رماده بنار تتقد حباً فيه، وأن رماده صك اعتراف بالحب الماضي والمستمر. وأن وراء البياض الذي يستحم رأسه ووجهه به شيباً، إنما هو طهرانية روح، ما أفخمها وأسلسلها من روح، أبت أن تعيش نهاره بليلها دون مهاتفة من طابق اسمها مسمّاها: إيمان، أمونة، إيمان إيقونة قلبه وعقله معاً.
هل من وفاء نظير هذا الوفاء، وما يجعل المرأة أكبر مما هي عليه، ولعلها حقيقتها في استحقاقها لحب كهذا، لحظة استشارة الحياة عينها، وربما سماع صوتها ولو همساً: هي هكذا، أنا المرأة ذاتها، ومن خلدت باسمه، أمنحه بركتي في البقاء..
عسى هذه الكلمات تفي ببعض الوفاء لصديق أخلص حباًلا يحاط به، لوجه أنثوي لم يكن نمطياً كما عرفناه عن قرب. عن قرب، وجه يضخ حياة ووداً تصديقاً لما سُطّر هنا حرفاً بحرف !!
دهوك