د. أحمد الحطاب - المسلمون لا يقرأون القرآنَ، وإذا قرأوه، لا يتدبَّرون آياتِه!

ما أستغرب له هو أن شريحةً عريضةً من المسلمين يتهافتون على قراءة القرآن الكريم في شهر رمضان ثم ينسونه إلى غاية شهر رمضان الموالي. أقول قراءة وليس تدبُّر الآيات. بل إن البعضَ منهم يتفاخر بخَتمِ هذا القرآن قراءَةً مع انتهاء الشهر الفضيل.

دعونا نكون عقلاء ومنطقيين! وكي نكونَ عقلاء ومنطقيين، علينا أن نَتعرَّفَ، أولا، على ماهية القرآن، ثم على الغاية من وجوده، أي ما هو القرآن وما هي الغاية من وجودِه؟

القرآن هو الوحي الذي أنزله اللهُ، سبحانه وتعالى، على الرسول والنبي محمد (ص) الذي اختاره، عزَّ وجلَّ، من بين عَرَبَ قريش ليُبلِّغَ رسالة الإسلام إلى جميع الناس.

أما الغاية من وجودِ القرآن، فهي نفس الغاية التي أنزل اللهُ، سبحانه وتعالى، من أجلها التوراةَ على موسى عليه السلام، والإنجيلَ على عيسى عليه السلام، أي توحيد الله، سبحانه وتعالى، وإرشاد الناس وهِدايتهم إلى الصراط المستقيم وإخراجهم من ظلمات الجهل إلى نور الحق والإيمان، مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى : "نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ" (آل عمران، 3).

في هذه الآية، كلام الله مُوجَّهٌ للرسول (ص)، قائلاً له : "نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ"، أي القرآن. "بِالْحَقِّ"، أي لا يكتنف هذا القرآنَ أدنى شك، وبعبارة أخرى، لا ريبَ فيه. "مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ"، أي مؤمناً بما أنزل الله من قبل من توراة وإنجيل.

وبما أن الغايةَ من القرآن الكريم هي توحيد الله، سبحانه وتعالى، وإرشاد الناس وهِدايتهم إلى الصراط المستقيم وإخراجهم من ظلمات الجهل إلى نور الحق والإيمان، فهو صالحٌ لكل زمان ومكان. لماذا؟

لأن الإنسان، من طبعه الجحود. ولهذا، فهو في حاجة دائمة لمن يُرشده ويُعيدُه إلى الطريق المستقيم، مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى : "وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ" (إبراهيم، 34). "إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ"، "لَظَلُومٌ"، أي يظلم نفسَه بنفسه و"كَفَّارٌ" يعني يجحد النِّعَمَ التي أنعَمَ بها الله، سبحانه وتعالى، على الناس. والقرآن الكريم هو الذي يُرشِدُه ويُعيده إلى الطريق المستقيم. ويقول، سبحانه وتعالى : "وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (الشمس، 7 و 8). فِعل "ألهم"، في هذه الآية، يعني جعل من نزعات النفس البشرية الفجور. والفجور هو ارتكاب المعاصي. وما يُثيرُ الانتباهَ، هو أن كلمةَ "فجور" جاءت قبل كلمة "تقوى".

فما دامت النفس البشرية تميل إلى الجحود وإلى الفجور، فهي في حاجة إلى من يُرشدها ويُعيدها إلى الطريق المستقيم. وهذا الإرشاد تجده هذه النفسُ في القرآن الكريم.

وما دام القرآن، كإرشادٍ وهدايةٍ للناس، صالحا لكل زمان ومكان، فهل يُعقلُ أن يتهافتَ على قراءته الناسُ في أيام رمضان دون الأيام الأخرى؟

المنطق يقول بأن إرشاد الناس وهدايتَهم إلى الصراط المستقيم يجب أن يستمرَّ طيلةَ الحياة أو ما دام هؤلاء الناس أحياء يُرزقون. إذن، قراءة القرآن عملٌ، من الأنفع، أن يكون مستمرا طول حياة الناس. وهذه بعض آيات القرآن الكريم تُبيِّن أهمِّيةَ قراءة القرآن باستمرار :

1."أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا" (الإسراء، 78). في هذه الآية، يُبيِّن لنا، سبحانه وتعالى، أهمِّيةَ قراءة القرآن قبل أو بعد صلاة الفجر. وبما أن الفجرَ صلاةٌ يومية، فقراءة القرآن، هي الأخرى، يومية.

2."هَـٰذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ: (الأنعام، 155). فكيف سيتَّبع الناسُ القرآنَ ويتَّقون إذا كانوا يقرأون هذا القرآن في شهر رمضان ويهجرونه في الأشهر الأخرى؟

وهِجران القرآن الكريم اشتكاه الرسول (ص)، في عهده، إلى الله، سبحانه وتعالى، الذي قال : "وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَـٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (الفرقان، 30).

وهذا يعني أن القوم الذين أنزل اللهُ، سبحانه وتعالى، القرآن على الرسول محمد (ص)، من أجل هدايتِهم، هجروه وتركوه وانشغلوا بأمور الدنيا. فما بالُك بالمسلمين حالياً، الذين تعقَّدت حياتُهم اجتماعيا، اقتصاديا وثقافيا وأصبحت المادة تُغري الكثيرين منهم؟

القرآن الكريم كتابُ حياةٍ، دينياً ودُنيوياً. والمسلمُ إذا كان مسلماً بالعبادات والمعاملات، فالقرآن الكريم هو مُوجِّهه نحو تجسيد هذه العبادات والمعاملات على أرض الواقع. بل إن القرآنَ الكريمَ صِلةُ وصلٍ بين المسلمين وجميع الناس وربِّ العالمين. وما دام صلة وصلٍ بين الخالق ومخلوقاته البشرية، وما دام كتابَ حياةٍ دينيا ودنيويا، فمن المفروض أن يستنِيرَ به المسلمون وغير المسلمين على امتداد الحياة.

ولا تفوتني الفرصة لأستحضرَ المقولة المشهورة التي مفادُها : "أمة إقرأ لا تقرأ". وهنا، لا بدَّ من الوقوف عند هذه الجملة لنعرفَ لماذا سُمِّيَ المسلمون ب"أمة إقرأ"، وكذلك لماذا قِيلَ ويُقَالُ إن هذه الأمة "لا تقرأ".

سمِّيَ المسلمون ب"أمة اقرأ" لأن اللهَ، سبحانه وتعالى، عندما اختار محمدا ليكون نبيا ورسولاً مكلَّفا بتبليغ رسالة الإسلام إلى الناس، كانت أول كلمة بدأ بها الوحيُ، هي كلمة "إِقْرَأْ" في صيغة الأمر. لا أريد أن أدخلَ في تفاصيل بداية هذا الوحي، أي هل كان النبي محمد (ص)، فعلا، أمياً أم غير أمي.

لكن ما يثير الانتباهَ، في بداية الوحيِ، هي الأهمِّية التي أعطاها، سبحانه وتعالى، للقراءة كأداةٍ فعالة لِما سيأتي من الوحي، وخصوصا، أن هذا الوحيَ نزل بلغة العرب، مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى : "وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلۡأَمِينُ عَلَىٰ قَلۡبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلۡمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيّٖ مُّبِينٖ" (الشعراء، 192، 193، 194 و 195).

ولو لم تكن اللغةُ، كأداةٍ للتواصل بجميع أشكاله بين الناس، مهمَّةً في حياة البشر، لَما أُنشِئَت المدرسةُ ولما كان أول عملٍ تقوم به هذه المدرسة، هو تعليم القراءة والكتابة، من خلال التَّعرُّف على الحروف الأبجِدية وتجميعها في كلمات وجُملٍ مفيدة.

أما لماذا "أمة إقرا" "لا تقرا"، فالأمر يكتسي طابعا سياسياً محضاً. ولتلخِيص هذا الطابع السياسي في بعض الكلمات، أقول : "مضت على استقلال البلاد ما يُقارب 70 سنة. وهذا الوقت كان كافيا للقضاء على الأمية والجهل، بصفة نهائية، لو كانت الإرادة السياسية القوية متوفِّرةً"

وبما أن هذه الإرادة السياسية غير متوفِّرة، فلا نزال نحارب الأميةَ analphabétisme والجهل ignorance والفقر pauvreté والتهميش marginalisation والهشاشة vulnérabilité والاقتصاد غير المُهيكل économie informelle ونتصارع مع جميع أنواع الفساد les différentes sortes de corruption …؟

إذن، يبدو لي أنه، إذا كانت "أمة إقرا" "لا تقرا"، فالأمرٌ قد يكون مقصوداً سياسيا!ً!!

وقبل أن أختمَ هذه المقالة، يجب أن نفرِّقَ بين قراءةِ القرآن لنقولَ، في النهاية، أننا ختمناه، وتدبُّرِ آياته للوقوف وقوفاً متأنِّياً عند كل ما أراده اللهُ، سبحانه وتعالى، أن يُبلِّغَه لنا من جكمةٍ وإرشادٍ وهدايةٍ…

فقراءة القرآن بدون تدبُّرٍ، مِثلُها مثلُ حِفظه عن ظهر قلب بدون تدبُّر. وخصوصا أن هذا القرآن مُتوفِّر اليوم في الشبكات الإلكترونية. والتدبُّرُ ليس هو القراءة!

التَّدبُّر هو مصدر فعل "تدبَّرَ". فحينما نقول "فلانٌ تدبَّرَ الأمرَ أو تدبَّرَ في الأمر"، فالمعنى المقصود هو التَّأمُّل والتَّفكُّر في الأمر بتأَنٍّ ومَهلٍ وتريُّثٍ. وقد أقول : "إن أمَّةً تتدبَّر آيات القرآن الكريم، خيرٌ من أمةٍ تقرأه لتتباهى بأنها ختمته!".

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى