سعيدة الرغيوي - روايةُ "أقفاص" للكاتب حسن إمامي... سِيرَةُ حَياةٍ وَأوْرَاقٍ من الْمَاضِي تَنْكَتِبُ أنْفَاساً سَرْدِية.

تقديم:

هُوَ الْمُبْدِعُ أَوْ الكاتِبُ، عِنْدَمَا تَسْكُنُهُ قَضَايَا الذّات وَالْعَالَم، يَجِدُ لَهُ مِسَاحَةً لِلْخَلْقِ الإبْدَاعِيِّ سَوَاءٌ عَنْ طَرِيقِ السّرْدِ الْوَاقِعِي أَوْ التَّخْيِيلِي، فَيَكُونُ مَعَ ذلكَ صوْت الذّات الْمُحَرّك والآمرِ بالانْكِتَابِ، حَاضِراً، مَسْمُوعاً يَسْتَنْطِقُ الْوَاقِع ((الماضي))؛ الَّذِي صَار تَخْيِيلاً وَإِبْدَاعاً مُنْضَوِياً تَحْتَ جِنْسٍ أَدَبِيٍّ مُعَيَّنٍ ..تَنْطَلِقُ الذَّاتُ وَتَتَحَرَّرُ مِنْ إسَار ضَيْقِ "المونولوغ" الدَّاخلي لتُسْمِعَ صَوْتَهَا الْخَاص فِي إطَارٍ يَسْمَحُ بالْقَوْلِ وَبِالْجَهْرِ وَبإِسْكَاتِ صَوْتِ الرَّقِيبِ، فَيُصْبِحُ الْمَكْتُوبُ "الإبداع" مُتَاحاً لِلْقِراءَةِ وَالتَّلَقِّي والتَّأوِيلِ وَالْإنصَاتِ. يَكُونُ الْقَارِئُ أَمَامَ الْمَكْتُوب وَجْهاً لِوَجْهٍ، لَا وَسِيطَ بَيْنَهُمَا؛ يَتَعَرًّى النَّص مِنْ خلَالِ الأصْوَات الَّتِي تتجاذب عَوالِمَهُ، فيتَحَوَّلُ الزَّمَنُ الْخًاصُّ وَالْأَفْضية إلَى أزْمِنَةٍ وَأَمْكِنَةٍ مُشْتَرَكَةٍ خَاضِعَةٍ لِمَنْطِقِ الْمُسَاءَلَةِ وَالْاسْتِنْطَاقِ مِنْ مُنْطَلَقَاتِ كُلِّ قَارِئٍ. إن رِوايَةٌ تُسَائِلُنَا، تَطْرَحُ عَطَشَهَا السَّرْدِيَّ، وأنْهُرِهَا أَمَامَنَا لِتَفْتِيتِ عَلامَاتِها وَرُمُوزِهَا "Symboles وأَيْقُوناتِهَا Icons. فَكُل رَمْزٍ وَكُلُّ صَوْتٍ دَاخِلَ المُخْتَبَرِ الْقِرَائِيِّ التَّحْلِيلِيِّ يَنْبَغِي أن يُشْرَبَ بِتَرَوٍّ.

1722444136342.png

أقفاص؛ رِوَايَةٌ تَنْضَوِي مِنْ خِلَالِ أَحْدَاثِهَا وَوَقَائِعِهَا ضِمْنَ أدَبِ الاعْتِقَالِ أَوْ أدَبِ السُّجُونِ، حَيْثُ تَأْتِي الرّواية "الْمَحْكِي الذَّاتي، لِتُعَرِّي وَاقِعاً عَايَشَهُ جَيْلُ السّبعِينِياتِ مِن الْقرْنِ الْعِشْرِين "سنوات الجمر والرّصَاص" والاعتقال القَسْري التَّعسُّفِي؛ الَّذِي كَانَ يَشْهَدُهُ المغرب. حِصَارٌ وتضْيِيقٌ عَلَى الْحُرِّيات وعلى الطلبة داخل الجامعات؛ التي كانت تعرف فصائل طُلاَّبية عِدَّة؛ على رأسها " أ.و.ط.م " (الاتحاد الوطني لطبلة المغرب)، الحركة الطُّلابية؛ التي ستفرز أصْواتا عدَّة تَبَنَّتْ الاتِّجَاهَ الشُّيُوعِي والتَّقَدُّمِي فِي إطار مُنَاخٍ يَعْرِفُ صِرَاع مُعَسْكَرَيْنِ: (المُعَسْكَرِ الشَّرْقِيِّ وَالْغَرْبِيِّ).

يُؤثِّثُ الكَاتبُ نبْضَهُ وأنفَاسَهُ الإبْدَاعِية بِطَرْقِ مَوْضُوعٍ: "أدب الاعْتِقَالِ السّياسِي" مُعْتَقَلِي الرَّأيِ "؛ وَغالِباً مَا يَكُونُ الْمُبْدِعُ قَدْ عَاشَ التَّجْرِبَة شَخْصِيا، أوْ عَايَشَهَا عَنْ كَثَبٍ مِنْ خِلَالِ تَتَبُّعِ تَفَاصِيلِ الاعْتِقَالاتِ السِّيَاسِيَّةِ فِي مُجْتَمَعِهِ أَوْ مُحِيطِهِ، أَوْ يَحْكِي عَنْهَا مِنْ خِلَالِ الإنْصَاتِ لِتَجْرِبَةِ مَنْ عَاشَهَا، فَيَصُوغُهَا فِي قَالَبٍ أدَبيٍّ؛ إمَّا رَسَائل أوْ مَسْرَحِياتٍ أو أنْفاسٍ شِعْرِية أوْ رِوَائيةٍ أو فِي أيِّ شَكْلٍ فَنِّيٍّ إبْدَاعيٍّ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُشَكِّلَ تَطْهِيراً لَهُ أَوْ لِصَاحِبِ تَجْرِبَةِ الْاعْتِقَالِ السِّيَاسِيِّ. وَالْأقفْاصُ؛ جَمْعُ قَفَصٍ، وَهُوَ الْمَكَانُ المُغْلَقُ؛ الَّذِي تَنْعَدِمُ فِيهِ الحُرِّية وَتُسْلَبُ.

1722444622839.png

وَقَبْلَ مُعَانَقَةِ الْعَمَلِ الإبْدَاعِي الَّذِي صَنَّفَهُ صَاحِبُهُ "حسن إمامي" فِي خَانَةِ الْجِنْسِ الرِّوَائِي ((رواية)) وَالَّذِي اجْتَرَحَ لَهُ عنوان : " أقفاص"، يَصُرُخُ فينا السُّؤال الآتي:

- مَا طَبِيعَةُ الأقْفَاص التِي يُثِيرُهَا هَذَا الْعَمَل الرِّوَائِي؟

إنَّ الْإنْسَانَ بِطَبْعِهِ يَمِيلُ إلى الْحُرِّيةِ وَيَنْتَفِضُ لأَجْلِهَا ويصرخُ فِي وجْهِ كُلِّ من يَعْقِلُ صَوْتَهُ، رَأيَهُ، أوْ يَسْعَى فِي سَبِيلِ التَّضْييقِ عَلَيْهِ. وَقَدْ ظَهرَتْ كِتاباتٌ وَأَدَبِياتٌ تُعْنَى بِمُناهَضَةِ كُلِّ أشْكَالِ التَّعَسُّفِ الَّتِي تُمَارَسُ فِي حَقِّ الْفَرْدِ أَو الْمُجْتَمَعِ، وَمِنْهَا كَمَا أَلْمَعْتُ فِي السَّابقِ مِن أسْطُرِ هذه الْوَرَقَةِ "أَدَبُ الْاعْتِقَالِ". فَكَيْفَ قَارَبَ الْكاتِبُ "حسن إمامي" هَذا الْمَوضُوع؟

غَالِباً مَا يَذْهَبُ ذِهْنُ القارِئ أَّولّ وَهْلةٍ إلَى مُقاربة الْمَوْضُوعِ مِنْ خِلَالِ الدّلالةِ الرَّمْزِيةِ لِلْأَقْفَاصِ، فَيُوحِي إِلَيْهِ بالسِّجْن، والْاعْتِقَالِ والْحِرْمَانِ مِن الْحُرِّيةِ؛ فَيَنْأَى بِذَلِكَ عن أقْفَاصٍ أُخْرَى مُرْتَبِطَة بِاعْتِقَالِ الفِكْر والرَّأْيِ والتَّعْبيرِ. وَهُنَا يَنْبغِي أَنْ نَنْظُرَ لِلْكَلمَةِ في مَعْنَاهَا الشّاسِعِ وَنَتْرُكَ للنَّصِ الإفْصَاحَ عَن الأسْئِلة الَّتِي تَعْبَثُ بأذْهَانِنَا، أوْ بِذهْن الْقارِئِ الْمُفْترَضِ لِمَوْضُوعِ الْكِتَابِ. وَلنكُنْ هُنَا مُحَايِدِينَ وَنَتْرُكَ للقارئِ كَشْفَ طَبِيعَةَ الْأقْفَاصِ؛ الَّتِي وَرَدَتْ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ وَالتَّعْريفِ، حَتَّى لَا يَذْهَبَ ذِهْن الْقَارِئ/ المُتَلَقِّي لِلْكِتَابِ بَعِيداً. فَالْقفَصُ يَنْهَضُ كَرَمْزٍ لِتَكْبِيلِ الْحُرِّيةِ وَالتّحَرُّكِ فِي مِسَاحَةٍ ضَيِّقةٍ، وَفِي الْغَالِبِ لَا يَسْمحُ بِمُمَارَسَةِ الْحَيَاةِ الطَّبِيعِيةِ الْاعْتِيَادِيةِ بِسَبَبِ وُجُودِ الأسْوَارِ والأقْفَالِ وَالْقُضْبَانِ... لِذَلِكَ عَلَيْنَا أَنْ نَتَرَيَّثَ قَلِيلاً قَبْلَ مُدَاهَمَةِ عَالَمِ الْأقْفَاص التِي كَتَبَهَا الكاتب "حسن إمامي"؛ فَفِعْلُ الْقِرَاءَةِ وَحْدَهُ كَفِيلٌ بِتَعْرِيةِ وَكَشْفِ خَبَايَا هَذِي الْأوْرَاقِ الْإِبْدَاعِيةِ.

ولنستبعدْ الْقِراءَات السَّابِقة لنُصُوصٍ أُخْرَى تَنَاوَلَتْ أَدَب السُّجُون وَالْاعْتِقَالِ؛ لِأنَّ لِكُلِّ تَجْرِبَةٍ إِبْدَاعِيةٍ خُصُوصِيَّاتها وَمُسَوِّغَاتها التِي أسْهَمَتْ فِي انْكِتَابِهَا وَانْوِجَادِهَا، إذْ لَا يَنْبَغِي قِرَاءة هَذا النّص كَمَا قرأنا "العريس" لصلاح الوديع، أو كما قرأنا "التَّيْهَاء" و "كان وأخواتها" لعبد القادر الشاوي" أو "قتل ميت" للسَّعدية السلايلي...الخ. فَلِكُلِّ نَص صَوْته الْخَاص النّاهضِ مِنْ عُمْقِ التَّجْرِبَة الإبْدَاعِية لِلذّات الْكَاتٍبةِ الْمُبْدِعَة الْحَاضِنَة لِلْعَمَلِ فِي غُرْبَتِهِ الْأُوْلَى وَعُزْلَتِهِ الْمَهِيبَة قبْلَ أنْ يَخْتَمِرَ وَيُصْبِحَ مُتَاحاً لِلْقَارِئِ / الْمُتَلَقِّي الْجَدِيدِ؛ حَيْثُ يَصِيرُ النَّص حَقْلاً لِتَجْرِيبِ قِرَاءَاتٍ وَمنَاهِج، ويخضع للتَّشْرِيحِ وَالْحَفْرِ وَتُنْبَشُ زَوَايَاهُ الْمظلمة ومغالقه؛ فتتكَشَّفُ مَرَايَاهُ أمَامَ الْمَلإ وَكُل وَاحِدٍ يتناوله مِن زاوِيةٍ يَرَاهَا أقرب إِلَيْهِ فَيُفْشِي النَّص / الإبْدَاعُ بِسِرٍّهِ / أسْرَارِهِ لِلْقَارِئِ الْعَمِيقِ الْمُنَاضِلِ الَّذِي لَا يَكَلُّ مِنْ مُرَاوَدَتهِ وَلَا يَتْعَبُ فِي نِزَالِهِ مِنْ أَوَّلِ جَوْلَةٍ.

لَمْ يَكْنْ السَّارِدُ فِي وَضْعِيةِ خَوْفّ، بَلْ الطَّرَف الآخَر هُوَ الذي كان مسكونا بهذا الشّعُور، مثل ما وقع في عملية الاستنطاق اسْتِدْعَاء "عمران" إلى مكتب المدير بعد حَادثة النَّوْرَسِ الذي ألقى إليه بالسَّمكَة فِي ساحَة السِّجْنِ. إنَّ السّاردَ هُنا يَحْتَفِي بخوْفِ الجلاّدِ الَّذِي جَعَلَهُ في أقفْاصٍ، ليَتَّقِي صوته وَقُوَّتَهُ.

ومن أهم التيمات التي اشتغل عليها المتن السردي في رواية أقفاص، نجد ما يلي:


1ـ تيمة الألم والفقد والحنين:

تَكْشِفُ "أقفاص" عن ألم الفقد الذي عَاشهُ السّارد "عمران": معتقلٌ عَاش ألم النَّأْيِ عن عالمه الوَاقِعِي، وعن أسرته الصَّغيرة؛ أمه وأخته ورفيقته في قلاع الجامعة "وفاء". فالسِّجن والاعتقالُ جعلاه يعيشُ سَنواتٍ عِجافٍ، كما لو أنَه " يوسف"؛ فكانت الذَّات الْمُعتَقَلة تَعِيشُ الألم والْجُنُون، وكأنَّا به يَسْتنْجِدُ بِالْجُنُون ليتغلب على ألمِ فِرَاقِ عالمه الصّغير؛ أمه وأخته وحبيبته "وفاء". هو الحنين في ظِلِّ الاعتقال ترياقٌ وبلسَمٌ لجراحِ الذَّات المُكْتوِية بِالْبِعادِ والْحِرْمَان النَّفْسِي والجَسَدي "الْجِنسي" الذي عَبَّرَ عنْهُ السًّارِد وهو يسترجع صوت "وفاء".


2 ـ تيمة الجنون الحكيم:

يُمارسُ "عمران بن يوسف اليوغا، الأمر الذي جعل محيط السجن يتعجب من سلوكاته وهدوئه. فهو مثل مجنون يجابه الوجع والألم بجنونه الخاص: ممارسة "اليوغا". فكانت كتابته لأول قصة نشرتها نادية صديقة وفاء بالملحق الثَّقافي لجريدة وطنية، نادية التي كانت تتردد على زيارته. القصة التي حملت عنوان "عمران والنَّورس". القصة التي كانت شَرارة اشْتعالِ حرِيق الكِتابة وَعِشْقِهَا، واهتمام العالم الخارجي بهذا الإبداع الآتي من عوالم منسية.

هكذا أصبحت الرواية تكشف عن تجربة الاعتقال التي عاشها السَّارد وكيف ترجم تفاصِيلها؛

- في تجربة اليوغا والاستحمام بأشعة الشمس في الساحة، والتي كانت ملاذا للتخلص من الرُّطوبة والاعتلالِ.

- المقارنة المفارقة في سخرية بين صوته الراغب في التحرر المشبع بالفكر التَّقدُّمِي، وصوت حَارس السِّجن "عبد الله" التَّوَّاق إلى الإشْبَاع الرُّوحِيِّ، وذلك التلاحم القائم بين الروحين ـ الصوتين أو الوجدانيين: السجين والحارس السجن.


3 ـ نهل السّارد من القصص القرآني:

في قراءة حارس المعتقل لسورة يوسف، وفي تسمية المعتقل السياسي بعمران بن يوسف والنبي بيوسف بن يعقوب، وفي ظرفية اعتقال الشخصيتين ودورهما الريادي بعد السجن، وإن كان ذلك بحسب ظروف وأبعاد كل منهما في سياقه التاريخي والموضوعي، نجد هذ النهل من القصص القرآني وبنائه السردي. هناك عملية قلب للأسماء والأدوار المتشابهة بين شخصيتين: شخصية عمران بن يوسف المعتقل السياسي، وشخصية النبي يوسف بن يعقوب عليهما السلام. غدر الإخوة وسجن المدينة ومبلغ العقل وحكمة النبوة عند النبي يوسف، تقابلها عملية سجن ومعاناة وقضية وطن وقضايا أمة ومطالب حقوقية وسياسية وحرية نشَدَها وناضل من أجلها عمران بن يوسف الشخصية الرئيسية في الرواية.

الفضاء في الرّواية وارتباطه بوضعية الأقفاص:

إن هذا المَحْكِي السَّرْدي؛ يجْعلُ من السِّجن والزّنزانة صوتاً يُعَرِّي التَّجْربة النَّفْسِية التِي عاشَها السَّارد "عمران بن يوسف"، في ظلِّ الاعتقال السِّياسِي؛ ومكابداته النَّفسية، وكيف اسْتطاع الحِفاظ علَى توَازُنِهِ النَّفْسِي؛ وَبِداية الْمَيْل للكتابَة؛ التِي من خلالها استطاعَ هزم خُيُوط الظَّلام والتَّخَلُّص مِن كَدَمَاتِ الْجَلَّادِينَ النَّفْسِية، وَحُضُور الأنثى في حياته: (الأم، الأخت، وفاء، المحامية، نادية).

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى