كيف تراجع الأدب الروسي
مثل الأدب الروسي رافدا هاما من أعظم الروافد الأدبية للإنسانية في العصور الحديثة، ولكن مع مكانته الرفيعة فقد خفت هذا الأدب بشكل كبير، مما يترك حيرة حول أسباب ذلك. ويقدم الباحث الروسي فلاديمير أكيموف قراءته لمسارات الأدب الروسي من الذروة إلى التراجع كاشفا عن أسباب كثيرة أدت إلى ذلك.
ظل الأدب الروسي دائما مرتبطا بالحياة الاجتماعية والتاريخ ومصير الشعب، فضلا عن أنه كان ملتحما بها. يمكن القول بصورة محددة بأن هذا الأدب جاء نتيجة لهذا الاتصال وهذه القرابة. يقول نيكولاي بيردياييف عن الأدب الروسي في القرن العشرين “لم يولد هذا الأدب من فائض الإبداع السعيد، وإنما من العذاب والمصير المؤلم للإنسان وللشعب، من البحث عن السعادة الإنسانية الشاملة”، وفي هذا وذاك فإن تاريخ القرن لم يبخل على هذا ولا على ذاك بالعذاب والبحث، الذي فاق نصيب التاريخ الروسي منه كل مقياس.
وهذا يتجلى في أعمال أدباء استثنائيين، أمثال دوستويفسكي وتولستوي وتشيخوف وبوشكين ومكسيم جوركي وأنا أخماتوفا وغيرهم كثيرون، أسهموا إسهامات مهمة في فهم النفس الإنسانية وتوغلوا في أعماقها.
الأدب الموجه
جاء الكتاب “مئة عام من الأدب الروسي: دليلك إلى الأدب الروسي في القرن العشرين” للكاتب والأكاديمي الروسي المعاصر فلاديمير أكيموف، ليقدم لنا صورة تفصيلية عن هذا الأدب طوال القرن العشرين، فإلى جانب تتبع مساره، وانتصاراته وإخفاقاته، وتأثير الهزات التاريخية عليه، والتغيرات التي طرأت عليه، يتطرق إلى المدارس المتعدّدة التي كانت جزءا أساسيا من الحركة الأدبية والاجتماعية مثل مدرسة جوركي، فضلا عن الأدب البروليتاري الذي أعلن عن نفسه في هذا القرن، وكذلك أدب المهجر الذي عاش ما يزيد عن سبعين عاما في انفصال مأساوي عن الوطن الأم، والذي كانت له صورته المركبة وتاريخه الخاص. كما يفيض علينا بالمئات من الكتب التي طواها النسيان نتيجة عدم نشرها على الإطلاق واحتراق مخطوطاتها بنيران العصر.
يؤكد أكيموف أن القرن العشرين قرن تاريخي يتسم بالاتساع والوحدة. ويقول “نجد في داخل المئة عام الأدبية الأخيرة عددا من المراكز والمراحل، تميز كل منها بسمات خاصة. وقد تحدد المضمون التاريخي لكل منها، باقتراب الأدب في تلك المراحل، بدرجة تزيد أو تقل، من الواقع ومدى تفاعله مع الظروف الخارجية والداخلية للحياة، مع الإمكانات المتاحة للكلمة. يمكننا أن نشير إلى المراحل التي مر بها هذا البناء المتجانس على الإطلاق للعملية الأدبية لنبرز المنعطفات الحادة ونقاط الانطلاق والصدمات والفواصل التحولية فيه، والتي تميزت بالاستقرار النسبي، وكذلك الأوقات التي جرت فيها الطفرات والفترات الانتقالية”.
الكتاب يقدم لنا صورة تفصيلية للأدب الروسي طوال القرن العشرين متتبعا مساره، وانتصاراته وإخفاقاته ومدارسه والهزات التي طالته
ويضيف “تشكّل السنوات التالية هذه المراحل: 1905 ـ 1907، 1917 ـ 1921، 1929 ـ 1933، 1946، 1988 ـ 1991. في هذه الفترات الزمنية القصيرة نسبيّا اكتسبت أحداث الحياة الأدبية طابع ‘الانفجارات’ والتغيرات النوعية الحادة. وكذلك كانت هناك فترات أخرى أكثر استمرارية، وهي السنوات: 1892 ـ 1905، 1907 ـ 1917، 1921 ـ 1929، 1932 ـ 1941، 1941 ـ 1945، 1946 ـ 1955، 1956 ـ 1968، 1969 ـ 1988، وفيها توسع وتطور وتأكد هذا النمط من الحياة الأدبية، الذي جاء انتصاره نتيجة ﻟ’الانفجار’ الذي سبقه، إذ حدث تفاعل سهل لأساليب التناول واختلاف الاتجاهات، كما ظهرت إمكانية التعددية الثقافية”.
ويتابع “من الضروري أن نأخذ في الاعتبار أن كل عصر أدبي كانت لديه دوافعه أو معوقاته، ومن السهل تحديد كل منها. مثلا الحماية التي تفرضها الدولة، عندما يدخل الأدب بشكل صريح ضمن ملكية السلطة ويعمل على خدمتها ﺑ’الإيمان والحقيقة’. على هذا النحو كان الأدب السوفييتي الأرثوذوكسي. وقد كان للنضال السياسي والاجتماعي أثر ملحوظ على حركة الحياة الأدبية، وخاصة إبّان المنعطفات التاريخية الحادة. وأخيرا، فقد كان لاتخاذ الإجراءات المنظمة للكلمة، ونعني بها على سبيل المثال، فرض الرقابة عليها، نفوذ كبير في سياق الأحداث”.
ويكشف أنه على امتداد القرن تركت الرقابة الدينية تارة، والمدنية تارة أخرى، فضلا عن الرقابة الأيديولوجية الحكومية (والأخيرة تم توظيفها على نحو لم يسبق له مثيل في العصر السوفييتي) أثرا واضحا، على نحو أو آخر، على طابع الحياة الأدبية الروسية. على أنه كانت هناك أيضا، كما نعلم، آليات أخرى داخلية عميقة، كانت حركتها أكثر أهمية على نحو لا يقاس بغيرها. وأحيانا كان الأدب يبدو وكأنه يحلّق عاليا بجناحين وفي ظروف هي الأكثر سوءا (في سنوات الحرب الوطنية العظمى مثلا). وفي أحيان أخرى كانت الحياة الأدبية تبدو عقيمة لسنوات بأكملها على الرغم من غياب أي عوائق خارجية. إذن، فإن الأدب الروسي في القرن الأخير، والذي تشكّل في خضم تناقضاته العميقة كافة، يمثّل لنا عصرا بأكمله.
محاولة إخراج أدب جديد بخصائص محددة مسبقا شهدت في روسيا أمام أعيننا فشلا ذريعا واضحا للعيان
ويقول أكيموف إن “في العصر السوفييتي وعلى مدى عشرات السنين كان تاريخ أدبنا (وكذلك وطننا) يتعرض للكثير من التبسيط والإفقار. ومن هذا التاريخ الذي تم اختزاله في الصراع الطبقي وحده، جرى استبعاد كل ما لا يدخل في الأطر الضيقة للنظرية اللينينية المعتمدة، التي تتحدث عن ثقافتين متناقضتين في الثقافة القومية، وكذلك كل ما لا يتفق مع التعاليم المعروفة عن المراحل الثلاث لحركة التحرر الوطني، كما كان يجب أن تدخل العملية الأدبية بعد ثورة أكتوبر في المنظومة الستالينية ‘الاتجاه القصير’، ثم تتفق مع مراحل وأطوار بناء الاشتراكية المتطورة. أصبحت الطبيعة الروحية ـ الجمالية للأدب مهملة، وجرى تأكيد وتمجيد أهمية خدمة الأدب للمجتمع بشكل مبالغ فيه. وأدّى تسييس تاريخ الأدب إلى انعزال الأدب الروسي في الفترة السوفييتية عن كل ثراء، وتعقيد العملية الأدبية القومية، وعن قيمتها ومعالمها الرئيسية الثابتة”.
ويشير إلى أن في الأدب الروسي الكلاسيكي وحتى في أعمال فناني “عصره الذهبي” كان يوصي برؤية “الكاشفين للحقائق” و”المناضلين في سبيل الحرية” وحدهم فقط، لذلك فإن إبداعهم، العميق للغاية، كان يتحدد إجمالا باعتباره “واقعية نقدية”. وكذلك فإن الأدب السوفييتي قد تم فصله بحاجز أيديولوجي منيع، عن أدب “العصر الفضي” الذي فتح على تخوم القرنين، إمكانية النهضة القومية (رغم الافتراء عليه واستيعابه بشكل غاية في الضيق والتحيز).
لقد حاولوا بالأدب السوفييتي تقويم وصنع الروايات والقصائد والأغنيات طبقا للطلب الاجتماعي. ورغم أنه بدا في بعض الأحيان أن أصحاب الطلب قد نجحوا، لكن في واقع الأمر فإن محاولة إخراج أدب جديد بخصائص محددة مسبقا شهدت، للأسف، أمام أعيننا، فشلا ذريعا واضحا للعيان. إن الأدب السوفييتي “الموجّه” الذي كان يبدو حتى وقت قريب منتصرا يستعرض تأثيره وانتشاره، قد فقد فجأة هذا وذاك. وبقدر ما كان يعلو عاما بعد عام على الأجنحة الاصطناعية للظروف، بقدر ما سقط اليوم. ولم يكن غير هذا ممكنا، إذ إن خلف هذا الارتفاع الوهمي والسقوط الواقعي يقف انتقام عدم فهم القوانين الداخلية للفن وارتباطه الخاص بالعالم وبحياة الشعوب وبالتاريخ القومي وبروح الإنسان.
الأدب وروح الشعب
يتساءل أكيموف ما الذي يجب تأكيده هنا من حيث المبدأ؟ ويرى أن روح الشعب وأصالته تتجسدان بشكل فطري في ثقافته القومية بكل أبعادها؛ من دعائمه العميقة غير المرئية، حتى العادات والتقاليد اليومية. هذه القوة ـ المنظومة الثقافية القومية ـ لم يحدث أبدا أن تمكّن أحد من اصطناعها، كما أن التحكم فيها أيضا غير ممكن، بل على العكس، فهي التي تتحكم وتخلق أسلوب حياة الأمة وتحدّد هيئة الشعب، وكل مظاهره الفنية والذهنية (بما في ذلك الأدب).
يشدد الكاتب على أن الأدب الحقيقي يشكّل وحدة عضوية وعميقة من حيث أسسه القومية. ويمكن إدراك وفهم هذه الأسس والسماح بالتعبير عنها بحرية في العمل الأدبي، ولكن يمكن إفسادها وتشويه الإبداع. شيء واحد غير ممكن وهو صنع قيم أدبية مخالفة لروح الشعب و”حسب الرغبة الشخصية”.
ومع ذلك فإن الأدب في حد ذاته ليس أبديّا. إذا شئنا الدقة فإنه في التطور الكامل المتناغم للثقافة القومية (والممكن، مع ذلك، نظريّا فقط؛ حيث إنه لا يتحقق في الحياة الواقعية) عندما تنشأ خبرة كل إنسان عفْويّا وباكتمال من خبرة الشعب ثم تصب فيه من جديد، فإن الأدب بمعنى ما هو متخصص ومهني وموجود في نصوص مكتوبة، يمكن ألّا يتحقق وجوده.
وليس في هذا أي شيء مأساوي، فهذا لا يعوق أبدا التعبير كامل القيمة عن الثراء الفني والذهني والشعوري والعملي للحياة في الكلمة القومية، في الإبداع الشعبي الشفوي المسيطر الذي يظهر عفْويّا ويعيش حياة ثرية متنوعة، في الفولكلور الذي يملك بطبيعته طابعا تركيبيّا جامعا لكل ما على الأرض وما فيه. لم يكن لدى الروس حتى زمن ما يطلق عليه اسم الأدب، أما الكلمة فكانت موجودة.
ويوضح أن الأدب يظهر عندما يصبح هذا التناغم المثالي للثقافة القومية مختلّا بحدة، وعندما تصبح مستويات وبنى الثقافة القومية منفصلة وغير متزنة؛ عندئذ يظهر العلم المتخصص؛ الأدب والسياسة والطب والقانون وما إلى ذلك. في القدر التاريخي للأمة تغيّر هزة ما علاقة مستويات وعناصر الثقافة القومية، ويؤدي هذا إلى إعادة بناء كل منطوقها بقدر أو بآخر، وعندها يظهر الأدب الذي يبدأ في القيام بدور نوع من الدواء الذي يؤثر على الجسم المريض للحياة القومية. ويبدو أن هذا هو ما حدث في روسيا منذ عدة قرون، في البداية في عصر إيفان الرهيب، ثم بعد ذلك بشكل أكثر وضوحا في زمن بطرس الأكبر والعقود التي سبقته، عندما أصبحت الكلمة المكتوبة والمطبوعة تؤثر بشكل أكثر وضوحا على سير أحداث الحياة العامة.
إن التغلب على النزعة الانفصالية الإقطاعية، ثم الإصلاحات الدينية، المرتبطة بالانشقاق الكنسي والسياسة الاجتماعية الحادة، قد أدت إلى تحطم العناصر الأساسية للثقافة القومية. لقد قام بطرس الأكبر وورثته الروحيون، بما في ذلك البلاشفة، “بتنحية روسيا جانبا”. لقد انطلقوا جميعا من فكرة إمكانية التحكم في حياة الشعب والمجتمع وثقافته طبقا لأفكار القادة ورغباتهم الشخصية سواء كانوا هم: الكنيسة أو الزعيم أو الحزب أو الطبقة أو العلماء وما إلى ذلك من “المصلحين”. ليس مهمّا من الذي يمكن أن يكون هو هذه القوة القائدة، المهم هو أن روح الشعب وعفْويته الثقافية الخلّاقة وعالمه الثقافي، تصبح مقهورة وتعاد صياغتها بإرادة وفكر الإصلاحيين الثوار.
ويتابع أكيموف أن في القرن العشرين، في أثناء حالة الانفجار الثوري، قام مكسيم جوركي، الذي كان كما هو معروف، يعلي من قدر التأثير الثقافي الخارجي على “الشعب الجاهل”، بالتعبير عن هذا الأمل في إعادة صياغة الأسس العميقة للحياة الشعبية، فكتب عام 1917 “نحن نستعد، ونحن مطالبون ببناء حياة جديدة على المبادئ التي طالما حلمنا بها. إننا ندرك هذه المبادئ بالعقل، وهي معروفة لنا نظريّا، ولكن هذه المبادئ غير موجودة في غرائزنا، وسيكون من الصعب للغاية علينا أن ندخلها في الحياة العملية، وفي نمط الحياة الروسي القديم. إن هذا صعّب علينا أن ندخلها بوجه خاص لأننا، وأكرّر، شعب غير مؤدب اجتماعيّا على الإطلاق” (أفكار في غير أوانها).
ومن المفهوم أن مثل تلك التوجهات البعيدة عن الحياة العملية، وعن فطرة الإبداع الشعبي، كان من السهل التعبير عنها بوسائل المواعظ الأدبية، وفي الأشكال النظرية والرمزية، كما أنها ملائمة لكونها تؤثر على الحياة مع كونها لا تخضع للاختبار المباشر بخبرات الحياة. وهكذا فقد اتضح أن الكلمة في المقام الأول، أدبية ومطبوعة ومنشورة، هي الوعاء الأوسع للنبض الذهني والانفعالي الإداري. وعلى مر السنين خاصة من منتصف القرن التاسع عشر، أصبحت تكتسب أهمية متزايدة كوسيلة للتأثير على عقول المثقفين (بل غير المثقفين خاصة)، ويزداد انفصالها عن العفوية الحية للوجود الشفهي في الأوساط الشعبية، ويتم تثبيتها على الورق وصقلها في أشكال مختلفة، وتصبح مكتوبة، أدبية.
وهكذا يمكن القول بشكل مبسّط، بأنه منذ حوالي ثلاثة قرون يظهر في روسيا أدب متخصص، سرعان ما قامت القوى الديناميكية الإصلاحية للمجتمع بوضعه في خدمة أهدافها أكثر من وضعه في خدمة أهداف الشعب. ويكتسب الأدب وظائف لا تتميّز بها الكلمة الشفهية، وينفصل عن الحياة اليومية للأمة بكل تدفّقها، ويستعلي عليها، وبدلا من خدمة الحياة والتعلم منها، يبدأ في تغييرها وتعليمها.
يشار إلى أن أكيموف ختم الكتاب بفصل أورد فيه شهادات عن كتاب مشهورين تركوا بالفعل أثرا حقيقيا على مسيرة الحياة الاجتماعية الأدبية. وفي نهاية كل شهادة يقدم معلومات ببليوغرافية موجزة، وقد وضعت هذه الشهادات في ترتيب زمني وفقا لسنة ميلاد الكتّاب، الأمر الذي يتفق مع الهدف الرئيسي للكتاب وهو تقديم صورة حية للأدب الروسي من خلال الأحداث والأشخاص، من خلال طبائعهم ومصائرهم الخاصة، لا مجرد تجميع لعدد من الحقائق فحسب.
محمد الحمامصي
كاتب مصري
مثل الأدب الروسي رافدا هاما من أعظم الروافد الأدبية للإنسانية في العصور الحديثة، ولكن مع مكانته الرفيعة فقد خفت هذا الأدب بشكل كبير، مما يترك حيرة حول أسباب ذلك. ويقدم الباحث الروسي فلاديمير أكيموف قراءته لمسارات الأدب الروسي من الذروة إلى التراجع كاشفا عن أسباب كثيرة أدت إلى ذلك.
ظل الأدب الروسي دائما مرتبطا بالحياة الاجتماعية والتاريخ ومصير الشعب، فضلا عن أنه كان ملتحما بها. يمكن القول بصورة محددة بأن هذا الأدب جاء نتيجة لهذا الاتصال وهذه القرابة. يقول نيكولاي بيردياييف عن الأدب الروسي في القرن العشرين “لم يولد هذا الأدب من فائض الإبداع السعيد، وإنما من العذاب والمصير المؤلم للإنسان وللشعب، من البحث عن السعادة الإنسانية الشاملة”، وفي هذا وذاك فإن تاريخ القرن لم يبخل على هذا ولا على ذاك بالعذاب والبحث، الذي فاق نصيب التاريخ الروسي منه كل مقياس.
وهذا يتجلى في أعمال أدباء استثنائيين، أمثال دوستويفسكي وتولستوي وتشيخوف وبوشكين ومكسيم جوركي وأنا أخماتوفا وغيرهم كثيرون، أسهموا إسهامات مهمة في فهم النفس الإنسانية وتوغلوا في أعماقها.
الأدب الموجه
جاء الكتاب “مئة عام من الأدب الروسي: دليلك إلى الأدب الروسي في القرن العشرين” للكاتب والأكاديمي الروسي المعاصر فلاديمير أكيموف، ليقدم لنا صورة تفصيلية عن هذا الأدب طوال القرن العشرين، فإلى جانب تتبع مساره، وانتصاراته وإخفاقاته، وتأثير الهزات التاريخية عليه، والتغيرات التي طرأت عليه، يتطرق إلى المدارس المتعدّدة التي كانت جزءا أساسيا من الحركة الأدبية والاجتماعية مثل مدرسة جوركي، فضلا عن الأدب البروليتاري الذي أعلن عن نفسه في هذا القرن، وكذلك أدب المهجر الذي عاش ما يزيد عن سبعين عاما في انفصال مأساوي عن الوطن الأم، والذي كانت له صورته المركبة وتاريخه الخاص. كما يفيض علينا بالمئات من الكتب التي طواها النسيان نتيجة عدم نشرها على الإطلاق واحتراق مخطوطاتها بنيران العصر.
يؤكد أكيموف أن القرن العشرين قرن تاريخي يتسم بالاتساع والوحدة. ويقول “نجد في داخل المئة عام الأدبية الأخيرة عددا من المراكز والمراحل، تميز كل منها بسمات خاصة. وقد تحدد المضمون التاريخي لكل منها، باقتراب الأدب في تلك المراحل، بدرجة تزيد أو تقل، من الواقع ومدى تفاعله مع الظروف الخارجية والداخلية للحياة، مع الإمكانات المتاحة للكلمة. يمكننا أن نشير إلى المراحل التي مر بها هذا البناء المتجانس على الإطلاق للعملية الأدبية لنبرز المنعطفات الحادة ونقاط الانطلاق والصدمات والفواصل التحولية فيه، والتي تميزت بالاستقرار النسبي، وكذلك الأوقات التي جرت فيها الطفرات والفترات الانتقالية”.
الكتاب يقدم لنا صورة تفصيلية للأدب الروسي طوال القرن العشرين متتبعا مساره، وانتصاراته وإخفاقاته ومدارسه والهزات التي طالته
ويضيف “تشكّل السنوات التالية هذه المراحل: 1905 ـ 1907، 1917 ـ 1921، 1929 ـ 1933، 1946، 1988 ـ 1991. في هذه الفترات الزمنية القصيرة نسبيّا اكتسبت أحداث الحياة الأدبية طابع ‘الانفجارات’ والتغيرات النوعية الحادة. وكذلك كانت هناك فترات أخرى أكثر استمرارية، وهي السنوات: 1892 ـ 1905، 1907 ـ 1917، 1921 ـ 1929، 1932 ـ 1941، 1941 ـ 1945، 1946 ـ 1955، 1956 ـ 1968، 1969 ـ 1988، وفيها توسع وتطور وتأكد هذا النمط من الحياة الأدبية، الذي جاء انتصاره نتيجة ﻟ’الانفجار’ الذي سبقه، إذ حدث تفاعل سهل لأساليب التناول واختلاف الاتجاهات، كما ظهرت إمكانية التعددية الثقافية”.
ويتابع “من الضروري أن نأخذ في الاعتبار أن كل عصر أدبي كانت لديه دوافعه أو معوقاته، ومن السهل تحديد كل منها. مثلا الحماية التي تفرضها الدولة، عندما يدخل الأدب بشكل صريح ضمن ملكية السلطة ويعمل على خدمتها ﺑ’الإيمان والحقيقة’. على هذا النحو كان الأدب السوفييتي الأرثوذوكسي. وقد كان للنضال السياسي والاجتماعي أثر ملحوظ على حركة الحياة الأدبية، وخاصة إبّان المنعطفات التاريخية الحادة. وأخيرا، فقد كان لاتخاذ الإجراءات المنظمة للكلمة، ونعني بها على سبيل المثال، فرض الرقابة عليها، نفوذ كبير في سياق الأحداث”.
ويكشف أنه على امتداد القرن تركت الرقابة الدينية تارة، والمدنية تارة أخرى، فضلا عن الرقابة الأيديولوجية الحكومية (والأخيرة تم توظيفها على نحو لم يسبق له مثيل في العصر السوفييتي) أثرا واضحا، على نحو أو آخر، على طابع الحياة الأدبية الروسية. على أنه كانت هناك أيضا، كما نعلم، آليات أخرى داخلية عميقة، كانت حركتها أكثر أهمية على نحو لا يقاس بغيرها. وأحيانا كان الأدب يبدو وكأنه يحلّق عاليا بجناحين وفي ظروف هي الأكثر سوءا (في سنوات الحرب الوطنية العظمى مثلا). وفي أحيان أخرى كانت الحياة الأدبية تبدو عقيمة لسنوات بأكملها على الرغم من غياب أي عوائق خارجية. إذن، فإن الأدب الروسي في القرن الأخير، والذي تشكّل في خضم تناقضاته العميقة كافة، يمثّل لنا عصرا بأكمله.
محاولة إخراج أدب جديد بخصائص محددة مسبقا شهدت في روسيا أمام أعيننا فشلا ذريعا واضحا للعيان
ويقول أكيموف إن “في العصر السوفييتي وعلى مدى عشرات السنين كان تاريخ أدبنا (وكذلك وطننا) يتعرض للكثير من التبسيط والإفقار. ومن هذا التاريخ الذي تم اختزاله في الصراع الطبقي وحده، جرى استبعاد كل ما لا يدخل في الأطر الضيقة للنظرية اللينينية المعتمدة، التي تتحدث عن ثقافتين متناقضتين في الثقافة القومية، وكذلك كل ما لا يتفق مع التعاليم المعروفة عن المراحل الثلاث لحركة التحرر الوطني، كما كان يجب أن تدخل العملية الأدبية بعد ثورة أكتوبر في المنظومة الستالينية ‘الاتجاه القصير’، ثم تتفق مع مراحل وأطوار بناء الاشتراكية المتطورة. أصبحت الطبيعة الروحية ـ الجمالية للأدب مهملة، وجرى تأكيد وتمجيد أهمية خدمة الأدب للمجتمع بشكل مبالغ فيه. وأدّى تسييس تاريخ الأدب إلى انعزال الأدب الروسي في الفترة السوفييتية عن كل ثراء، وتعقيد العملية الأدبية القومية، وعن قيمتها ومعالمها الرئيسية الثابتة”.
ويشير إلى أن في الأدب الروسي الكلاسيكي وحتى في أعمال فناني “عصره الذهبي” كان يوصي برؤية “الكاشفين للحقائق” و”المناضلين في سبيل الحرية” وحدهم فقط، لذلك فإن إبداعهم، العميق للغاية، كان يتحدد إجمالا باعتباره “واقعية نقدية”. وكذلك فإن الأدب السوفييتي قد تم فصله بحاجز أيديولوجي منيع، عن أدب “العصر الفضي” الذي فتح على تخوم القرنين، إمكانية النهضة القومية (رغم الافتراء عليه واستيعابه بشكل غاية في الضيق والتحيز).
لقد حاولوا بالأدب السوفييتي تقويم وصنع الروايات والقصائد والأغنيات طبقا للطلب الاجتماعي. ورغم أنه بدا في بعض الأحيان أن أصحاب الطلب قد نجحوا، لكن في واقع الأمر فإن محاولة إخراج أدب جديد بخصائص محددة مسبقا شهدت، للأسف، أمام أعيننا، فشلا ذريعا واضحا للعيان. إن الأدب السوفييتي “الموجّه” الذي كان يبدو حتى وقت قريب منتصرا يستعرض تأثيره وانتشاره، قد فقد فجأة هذا وذاك. وبقدر ما كان يعلو عاما بعد عام على الأجنحة الاصطناعية للظروف، بقدر ما سقط اليوم. ولم يكن غير هذا ممكنا، إذ إن خلف هذا الارتفاع الوهمي والسقوط الواقعي يقف انتقام عدم فهم القوانين الداخلية للفن وارتباطه الخاص بالعالم وبحياة الشعوب وبالتاريخ القومي وبروح الإنسان.
الأدب وروح الشعب
يتساءل أكيموف ما الذي يجب تأكيده هنا من حيث المبدأ؟ ويرى أن روح الشعب وأصالته تتجسدان بشكل فطري في ثقافته القومية بكل أبعادها؛ من دعائمه العميقة غير المرئية، حتى العادات والتقاليد اليومية. هذه القوة ـ المنظومة الثقافية القومية ـ لم يحدث أبدا أن تمكّن أحد من اصطناعها، كما أن التحكم فيها أيضا غير ممكن، بل على العكس، فهي التي تتحكم وتخلق أسلوب حياة الأمة وتحدّد هيئة الشعب، وكل مظاهره الفنية والذهنية (بما في ذلك الأدب).
يشدد الكاتب على أن الأدب الحقيقي يشكّل وحدة عضوية وعميقة من حيث أسسه القومية. ويمكن إدراك وفهم هذه الأسس والسماح بالتعبير عنها بحرية في العمل الأدبي، ولكن يمكن إفسادها وتشويه الإبداع. شيء واحد غير ممكن وهو صنع قيم أدبية مخالفة لروح الشعب و”حسب الرغبة الشخصية”.
ومع ذلك فإن الأدب في حد ذاته ليس أبديّا. إذا شئنا الدقة فإنه في التطور الكامل المتناغم للثقافة القومية (والممكن، مع ذلك، نظريّا فقط؛ حيث إنه لا يتحقق في الحياة الواقعية) عندما تنشأ خبرة كل إنسان عفْويّا وباكتمال من خبرة الشعب ثم تصب فيه من جديد، فإن الأدب بمعنى ما هو متخصص ومهني وموجود في نصوص مكتوبة، يمكن ألّا يتحقق وجوده.
وليس في هذا أي شيء مأساوي، فهذا لا يعوق أبدا التعبير كامل القيمة عن الثراء الفني والذهني والشعوري والعملي للحياة في الكلمة القومية، في الإبداع الشعبي الشفوي المسيطر الذي يظهر عفْويّا ويعيش حياة ثرية متنوعة، في الفولكلور الذي يملك بطبيعته طابعا تركيبيّا جامعا لكل ما على الأرض وما فيه. لم يكن لدى الروس حتى زمن ما يطلق عليه اسم الأدب، أما الكلمة فكانت موجودة.
ويوضح أن الأدب يظهر عندما يصبح هذا التناغم المثالي للثقافة القومية مختلّا بحدة، وعندما تصبح مستويات وبنى الثقافة القومية منفصلة وغير متزنة؛ عندئذ يظهر العلم المتخصص؛ الأدب والسياسة والطب والقانون وما إلى ذلك. في القدر التاريخي للأمة تغيّر هزة ما علاقة مستويات وعناصر الثقافة القومية، ويؤدي هذا إلى إعادة بناء كل منطوقها بقدر أو بآخر، وعندها يظهر الأدب الذي يبدأ في القيام بدور نوع من الدواء الذي يؤثر على الجسم المريض للحياة القومية. ويبدو أن هذا هو ما حدث في روسيا منذ عدة قرون، في البداية في عصر إيفان الرهيب، ثم بعد ذلك بشكل أكثر وضوحا في زمن بطرس الأكبر والعقود التي سبقته، عندما أصبحت الكلمة المكتوبة والمطبوعة تؤثر بشكل أكثر وضوحا على سير أحداث الحياة العامة.
إن التغلب على النزعة الانفصالية الإقطاعية، ثم الإصلاحات الدينية، المرتبطة بالانشقاق الكنسي والسياسة الاجتماعية الحادة، قد أدت إلى تحطم العناصر الأساسية للثقافة القومية. لقد قام بطرس الأكبر وورثته الروحيون، بما في ذلك البلاشفة، “بتنحية روسيا جانبا”. لقد انطلقوا جميعا من فكرة إمكانية التحكم في حياة الشعب والمجتمع وثقافته طبقا لأفكار القادة ورغباتهم الشخصية سواء كانوا هم: الكنيسة أو الزعيم أو الحزب أو الطبقة أو العلماء وما إلى ذلك من “المصلحين”. ليس مهمّا من الذي يمكن أن يكون هو هذه القوة القائدة، المهم هو أن روح الشعب وعفْويته الثقافية الخلّاقة وعالمه الثقافي، تصبح مقهورة وتعاد صياغتها بإرادة وفكر الإصلاحيين الثوار.
ويتابع أكيموف أن في القرن العشرين، في أثناء حالة الانفجار الثوري، قام مكسيم جوركي، الذي كان كما هو معروف، يعلي من قدر التأثير الثقافي الخارجي على “الشعب الجاهل”، بالتعبير عن هذا الأمل في إعادة صياغة الأسس العميقة للحياة الشعبية، فكتب عام 1917 “نحن نستعد، ونحن مطالبون ببناء حياة جديدة على المبادئ التي طالما حلمنا بها. إننا ندرك هذه المبادئ بالعقل، وهي معروفة لنا نظريّا، ولكن هذه المبادئ غير موجودة في غرائزنا، وسيكون من الصعب للغاية علينا أن ندخلها في الحياة العملية، وفي نمط الحياة الروسي القديم. إن هذا صعّب علينا أن ندخلها بوجه خاص لأننا، وأكرّر، شعب غير مؤدب اجتماعيّا على الإطلاق” (أفكار في غير أوانها).
ومن المفهوم أن مثل تلك التوجهات البعيدة عن الحياة العملية، وعن فطرة الإبداع الشعبي، كان من السهل التعبير عنها بوسائل المواعظ الأدبية، وفي الأشكال النظرية والرمزية، كما أنها ملائمة لكونها تؤثر على الحياة مع كونها لا تخضع للاختبار المباشر بخبرات الحياة. وهكذا فقد اتضح أن الكلمة في المقام الأول، أدبية ومطبوعة ومنشورة، هي الوعاء الأوسع للنبض الذهني والانفعالي الإداري. وعلى مر السنين خاصة من منتصف القرن التاسع عشر، أصبحت تكتسب أهمية متزايدة كوسيلة للتأثير على عقول المثقفين (بل غير المثقفين خاصة)، ويزداد انفصالها عن العفوية الحية للوجود الشفهي في الأوساط الشعبية، ويتم تثبيتها على الورق وصقلها في أشكال مختلفة، وتصبح مكتوبة، أدبية.
وهكذا يمكن القول بشكل مبسّط، بأنه منذ حوالي ثلاثة قرون يظهر في روسيا أدب متخصص، سرعان ما قامت القوى الديناميكية الإصلاحية للمجتمع بوضعه في خدمة أهدافها أكثر من وضعه في خدمة أهداف الشعب. ويكتسب الأدب وظائف لا تتميّز بها الكلمة الشفهية، وينفصل عن الحياة اليومية للأمة بكل تدفّقها، ويستعلي عليها، وبدلا من خدمة الحياة والتعلم منها، يبدأ في تغييرها وتعليمها.
يشار إلى أن أكيموف ختم الكتاب بفصل أورد فيه شهادات عن كتاب مشهورين تركوا بالفعل أثرا حقيقيا على مسيرة الحياة الاجتماعية الأدبية. وفي نهاية كل شهادة يقدم معلومات ببليوغرافية موجزة، وقد وضعت هذه الشهادات في ترتيب زمني وفقا لسنة ميلاد الكتّاب، الأمر الذي يتفق مع الهدف الرئيسي للكتاب وهو تقديم صورة حية للأدب الروسي من خلال الأحداث والأشخاص، من خلال طبائعهم ومصائرهم الخاصة، لا مجرد تجميع لعدد من الحقائق فحسب.
محمد الحمامصي
كاتب مصري