عالم الأحلام
كان رجب مولعاً بعالم الحمير والجياد، أمله أن يتمكن - عندما يكبر - أن يشتري حصاناً كبيرا ليجر عربة بنز يتفسح بها على كورنيش البحر. وكان يتحدث كثيرا عن والده مسعود - الذي لديه قسم زبالة في حي سبورتنج - وعن حماره الأبيض القوي.عندما إشتراه والده كان يعض كل الحمير التي تقترب منه، ويجن عندما يرى أمامه حماراً آخر، فيشد لجامه، ويهجم عليه يعضه ويرفسه في عنف، حتى خافته كل حمير الحارة وإبتعدوا عنه.
رغم هذا كان هذا الحمار فيه عيبين كبيرين هما: خوفه من رؤية رءوس البقر والجواميس المعلقة لدى الجزارين، ما أن يراها حتى ينهق ويرتعد، ويُسرع بعيدًا عنها، وخوفه أيضا من -المياه، فإذا إقترب من شارع فيه مياه يجفل، ثم يرتد إلى الخلف ويحرن ويمتنع عن التقدم إلى الأمام خطوة واحدة، فينزل عامل مسعود ويضربه دون فائدة. رغم هذا كان رجب يثني علي جمار والده كثيرا ويصفه بالشجاعة والقوة. وينتقص من قيمة حمار زوج عمته الذي يسكن معهم في نفس البيت، كان أسود وأكثر طولا وعرضا من الحمار الآخر، لكنه هادئ ولا يجري أبدا على الشر. إذا ما قابله حمار مسعود بنهيقه وثورته؛ يبتعد عنه في هدوء وكأن شيئا لم يحدث. فيقول رجب عنه: إنه ني وجبان.
.....
يذهب سعد مع جده عبد العال ( زوج عمة رجب) إلى قسم الزبالة الذي يمتلكه في حي محرم بك، والذي يبدأ من خلف شارع عرفان من ناحية شارع الإسكندراني، وينتهي بعد المحكمة، سكان هذه المنطقة من الطبقة المتوسطة التي لا تدفع أجرة كبيرة، بعكس سكان قسم زبالة مسعود الذين يدفعون أكثر، خاصة الخواجات الذين كانوا موجودين وقتذاك. مازال سعد يذكر هذه الأيام، الصباح المبكر، وجده عبد العال بقامته القصيرة، ووجهه الجميل المائل للإحمرار، وطاقيته التي كانت قبعة وجدها في الزبالة؛ ففردها وغطى بها رأسه، وبنطلونه الطويل دائما، الذي يثنيه ثنيات كبيرة واضحة، وجلوسه على عريش العربة الفارغة، ويصعد إبنه جابر وسعد إبن إبنته إلى صندوق العربة المرتفع يتمازحان، أو يتشاجران داخل العربة. يقود عبد العال العربة، ويتوقف أحيانا أمام بائعة كسكسي، فلاحة بيضاء تقف في تقاطع شارعي محمد العباسي المهدى والأمير أحمد رفعت، تصحو مبكرة لتلحق الزبالين قبل الذهاب إلى أعمالهم، ودكان عم ياسين المواجه للمحكمة. الرجل يحب عبد العال، يمازحه طوال الوقت، ويقدم إليهم الإفطار؛ شاي بلبن وعيش فينو من فرن في شارع الإسكندراني القريب جدا، أو شوربة العدس والفول والطعمية، ويبدأ العمل.
جابر، خال سعد، الذي يكبره بعام واحد يعرف أصول المهنة أكثر منه، لابد أن تحمل القفة الكبيرة فوق ظهرك وتصعد بها فارغة إلى الدور الأخير، ثم تبدأ في حمل الزبالة وتهبط بها.
ضغط سعد على جرس الباب، ففتحت إمرأة شابة سمراء، نظرت إلى ذلك الطفل الصغير الممتلئ في دهشة، قال في خجل: الزبالة.
فضحكت المرأة بصوت مرتفع ونادت أختها الكبيرة التي في الداخل قائلة: شوفي عبد العال جايب لنا إيه!
وجاءت الأخرى مسرعة، وقفتا على الباب تضحكان لرؤية ذلك الزبال الصغير.
.....
كان حمار عبد العال الأسود الطيب يجر العربة المُحملة بالزبالة الثقيلة، ويقف في مكان كل يوم دون مساعدة من أحد، فهو يعرف الأماكن التي سبق أن حددها عبد العال للوقوف: أمام خرابة، ثم قريبا من بيت أم بعجر المواجه لمدرسة صلاح الدين، بعيدا عن النوافذ والشرفات. يقف الحمار أمام هذه الأماكن، فيضع عبد العال له طعامه، وعندما يرفع الطعام عنه، يعرف الحمار المطلوب منه، فيسير دون قول، ويقف دون قول، بجوار بيت إمرأة مجنونة تقف في الشرفة وتحدث نفسها وتصيح.
بعد أن يحملوا زبالة القسم كله، يركب سعد فوق العربة، ويجلس عبد العال على العريش، وأحيانا يجلس جابر - إبنه - بجواره، ويذهبون إلى المقلب على ترعة المحمودية ليلقوا الزبالة هناك. ويبدأ الفرز، الورق يوضع في أجولة من الخيش. والأقمشة المهترئة توضع في قفة كبيرة، والزجاجات والعلب الفارغة توضع في قفف كبيرة.. إلخ. بعد ذلك يحملون هذه الأشياء ويذهبون بها إلى تاجر الورق، وتظل الزبالة المتبقية في مكانها، فهناك يربون الخنازير التي ترتع وتأكل من هذه الزبالة، والمتبقي يبيعه عمال المقلب إلى الفلاحين ليتخذونه سماداً لأراضيهم.
عندما يشم سعد رائحة الزبالة المتجمعة في مكان لمدة طويلة يتذكرهذه الأيام.
.....
لم يتحقق لرجب ما أراد، فبعد حصوله على شهادة الثانوية العامة، كانت البلاد في عز النكسة، نتيجة لهزيمة مريرة من إسرائيل في عام 1967، والدولة في حاجة إلي طيارين كثيرين جدد، فقبلوه في كلية الطيران، فإرتدى بذلة طلبة الكلية الجوية وسط دهشة أهالي غربال الذين أحسوا بأن عالماً جديداً ينتظر منطقة غربال، لكن لسوء الحظ فُصل من الكلية لأنه لم يحس بالأرض عند هبوطه بالطائرة، وأشاعت بعض النسوة هناك أنهم فصلوه بعد إكتشاف مهنة والده، فكيف يكون طيارا ووالده يعمل زبالا؟
عربات الزبالة وحرب 56
تقف عربات الزبالة في غربال أمام معظم البيوت، ترفع عريشيها لأعلي، كل عريش يحيط به طوق من الحديد، فيبدو من بعيد وهو معلق هكذا وكأنه فوهة مدفع. لذا، خاف الناس أيام حرب 56 وقالوا: إنزلوا سيقان هذه العربات لأسفل خشية أن تظنها طائرات العدو مدافع، فيدكون المنطقة بالقنابل.
وبالفعل نزلت أعرشة العربات إلى الأرض، ولم ترتفع إلا بعد أن إنتهت الحرب. وتكرر هذا في حرب 67 أيضا.
.....
عند المغرب يأخذ عبد العال حماره الأسود الطيب مثله إلى أعلى الجبل، حيث التراب بكثرة ليتمرغ هناك ويرفس بساقيه الأربعة وينهق براحته، هكذا يتمطع الحمار ويسترد قوته التي أُنهكت طوال ساعات العمل الطويلة. وهكذا يفعل كل أصحاب الحمير في المنطقة، ( لكن البلدية صنعت سلالم بازلتية، ووضعت ثلاث حدايد في أعلى الجبل حتى لا تقع السيارات من أعلى، فحرمت الحمير من التمرغ والراحة ( بعدها يجر عبد العال الحمار إلى أسطبل نزهة وهو مصنوع من الصفيح ومضاء بلمبات جاز خابية الضوء في الأركان.
......
وتستيقظ الحارة في الصباح على صياح، نظنه أول الأمر مشاجرة من المشاجرات الكثيرة التي تحدث في الحواري هناك، ونكتشف بعد ذلك أن أحد الحمير هرب من إسطبل نزهة.
هكذا الحمير، يخطر ببالها أن تهرب وترتاح ليوم أو يومين، فيشد الحمار الحبل المربوط فيه، ويهرب من باب الأسطبل المفتوح دائما ويجري بعيدا، وعندما يحس إنه إبتعد عن منطقة الخطر؛ يسير على مهله. ويجول بين الحدائق، ويأكل كما يشاء. يبحثون عنه، ويحس صاحبه بالأسى فكيف سيذهب اليوم إلى عمله، يبحث عن حمار آخر يشده مكان حماره الهارب، وفي معظم الأحيان لا يذهب إلى عمله في ذلك اليوم الذي يقضيه في البحث عن حماره. وفي كثير من الأحيان يعود الحمار وحده، يسير في العودة على مهله، يدلدل أذنيه، وينظر إلى الأرض كسيفاً، ويدخل الأسطبل دون قول، ويقف في مكانه كما كان.
آخرون يمتلكون الحمير في غربال
ليس الزبالون وحدهم الذين يمتلكون الحمير في منطقة غربال، فهناك طبقة جديدة ظهرت فعندما لا يجد الشاب عملاً؛ يشتري حمارًا وعربة كارو ويعمل عربجياً، ينقل الأمتعة، أو يذهب إلى وكالة الخضار والفاكهة في الحضرة، ويتعامل مع تجار سوق الخضار والفاكه.
بعض هؤلاء كان يذهب بحماره إلى محطة مصر ليؤجره للأطفال في الأعياد، يضع فرشاً فوق ظهر حماره، ويمسك عصا رفيعة، ويركب الأطفال، ويطوف بهم حول حدائق محطة مصر نظير قروش قليلة. لكن الزبالين لم يفعلوا هذا، فحميرهم لا تعمل إلا في نقل زبالتهم. وكان معنا شاب والده يعمل ملاحظ كناسين، كان مجنوناً بالحمير، فيعرض على أصحابهم أن يأخذهم ويذهب بهم إلى أعلى الجبل ليتمرغوا ويرتاحوا، أو يوصلهم لأسطبل نزهة وكانت تخطر لهذا الشاب أفكار غريبة، فمرة يضع قرن فلفل حار جدا في مؤخرة حمار وهو يجر العربة، فيأخذ الحمار في القفز بالعربة حتى يكاد يحطمها، ويجري في الحارة ويصطدم بالأشياء. ومرة أحد أصحاب الحمير ضرب هذا الشاب لأنه ركب حماره دون أذنه، كانت صفعة الرجل قوية، فأقسم الشاب أن ينتقم منه، وفي اليوم التالي دق مسمارا في ظهر الحمار، حتى سوس عظمه، وباعه الرجل بأبخس الأثمان، وهو يدعو على ذلك المؤذي الذي أذاه في حماره.
الزبالون يخافون العُرضي
يخاف الزبالون من أشياء كثيرة في عملهم، أول هذه الأشياء هو الطوربيل، فقد كانت البلدية تطاردهم بسيارة نقل كبيرة، فيرمون أجولتهم وقففهم بعد أن تمتلأ بالأشياء التي يجدونها في الزبالة، إلى طوربيلهم الكبير، والشيء الثاني هو إتهامهم بسرقة أي شيء يضيع في منطقتهم، ما أسهل كلمة (أقبضوا على الزبال). وهناك حكايات كثيرة حدثت في المنطقة أتهم فيها الكثير من الزبالين بالسرقة، وبعد أن ضُربوا وعذبوا عادوا إلى بيوتهم، ولم يحدث أن أدين زبال واحد بالسرقة. فهم لا يمكن أن يسرقوا، كيف يسرقون في أماكن (أكل عيشهم)؟ والشيء الثالث الذي يخافه الزبالون هو العُرضي الذي كان في حي محرم بك، قريبا جدا من قسم زبالة عبد العال (مكانه الآن مساكن شعبية ) يسير عسكري شرطة، ومعه سايس يحمل لجاماً في يده، ويوقفون العربات التي تجرها الحمير أو الجياد، يفتشون فيها، يرفعون أسرجتها عن ظهورها، فإذا وجدوها مريضة أو مجروحة في أي مكان من جسدها، يخلعونها عن العربة، ويضع السايس لجامه في رقبة الحمار أو الجواد ويأخذه إلى العُرضي. حينذاك يجر الزبال ومن معه العربة الثقيلة إلى البيت، أو مكان رمي الزبالة ويقضي الرجل أياماً عصيبة حزينة، تؤثر على بيته كله، فالحمار سيبقى في العرضي يعالجونه إلى أن يٌشفي، ثم يذهب لأخذه، فيقدمون إليه فاتورة العلاج التي عادة ما تكون ثقيلة لا يقدر عليها، لكنه يفرح بذلك فحماره العزيز سيعود إليه. وقد حدث أن أخذ مسعود سعدا إلى العرضي، وتسلم حماره الأبيض القوي الشرس، وقال لسعد: أصعد فوق ظهره وعد به إلى أسطبل نزهة لأني ذاهب إلى مشوار.
لكن سعدا خاف أن يركبه، وشده من الحبل المعقود في رقبته حتى الأسطبل.
(الذي منع سعد من ركوب الحمار ما حدث له عندما ذهب مع الأسرة بعد حرب 56 إلى الصعيد، فقد ركب حمارًا فضاق الحمار بثقل وزنه فأخذ خذ يقفز قفزات عالية حتى يزحزح هذا الجسم الثقيل عن ظهره إلى أن ألقي به على الأرض(
مَرْعِي يعود إلى غربال
عندما يأخذ العرضي حمارا من زبال في منطقة غربال، يبحث صاحبه عن مَرْعِي، فهو الحل الوحيد في مثل هذه الحالات. ومرعى هذا شاب قوي جدا، وجهه مستدير وجميل، شعره أصفر وعيناه عسليتان واسعتان، وشاربه أصفر، يرتدي ملابس قديمة، وطاقية من الصوف بأذنين يغطي بها أذنيه صيفا وشتاء. يذهب صاحب الحمار للبحث عن مرعي على ترعة المحمودية، حيث يعيش مع إمرأة هناك دون زواج، المرأة بدينة وأكبر منه سنا، تسكن كوخاً مقاماً على حافة الترعة دون ترخيص أو إذن من البلدية،) تأتى الحكومة من وقت لآخر وتهدم تلك الأكواخ الكثيرة المقامة، لكن بعد أيام قلائل يعودون لبنائها ثانية ويعيشون فيها) الزبالون لا يلجأون إلى مرعي إلا للشديد القوي، والشديد القوي هو العُرضى الذي أخذ حميرهم. فمرعي عبء على من يعمل عنده. هو وحده الذي يستطيع جر عربة زبالة ثقيلة خاصة في الصيف حيث يكثر قشر البطيخ الثقيل. مرعي يأكل كثيراً طوال وقت العمل، وجسده قوي وكبير، كما إنه يتعب الزبال الذي يعمل عنده، فلابد له من ميزانية خاصة. وبعد أن يعود بالعربة يجلس أمام باب شقة صاحب العمل كاشفا عن وسع فمه بإبتسامة ترافقه طوال الوقت، يعطيه الرجل أجرته وأكثر منها قائلا له: تعال يا مرعي في الغد بعد الفجر بقليل.
ليفهم مرعي أن المهمة إنتهت وعليه أن يعود إلى جسد المرأة البدينة وكوخها على ترعة المحمودية. لكنه لا يتحرك من مكانه، يظل مبتسماً في بلاهة كعادته، ويجلس في مواجهة باب الشقة المفتوح، فيقدمون إليه الطعام، يأكله في الخارج، وبعد أن ينتهي من أكله يظل في مكانه، فيقدمون إليه الشاي. الزبالون الذين تضطرهم ظروفهم للإستعانة بمرعي يخافون على زوجاتهم منه فهو رجل وسيم جدا وقوي جدا، والمرأة لا تريد أكثر من ذلك. لهذا تكون أيام صاحب الحمار المعدودة - حتى يعود حماره - من العرضي- أياماً صعبة ويكون في غاية التعب والقلق والعذاب.
ذكاء الحمير
قرأتُ وأنا صغير حكايات صبري موسى، قرأتُها متفرقة في مجلة صباح الخير، ومازلت أذكر أول حكاية فيها، عن رتل عربات كارو تنقل الخضار والفاكهة الآتية من القليوبية في الليل إلى وكالة الخضار والفاكهة في القاهرة،. حمار يجر عربة وخلفه باقي العربات.
الذين يقودون هذه العربات ينامون فوقها. والحمير إعتادت على السكة وتسير فيها دون معاونة من أحد. تصل هذه العربات إلى سوق الخضار والفاكهة في الصباح المبكر، لكن رجلاً سكراناً، طلعت في رأسه فكرة عجيبة، فأمسك أول حمار وشده إلى عرض الشارع لكي يعود ثانية إلى الطريق الذي جاءت منه كل العربات. فعادت العربات إلى القليوبية. وعندما إستيقظ الرجال الذين كانوا ينامون فوق عرباتهم، وجدوا أنفسهم في قريتهم في القليوبية.
........
وهكذا كان يفعل حمار عبد العال، يسير دون معاونة من أحد ويقف في الأماكن التي سبق أن حددها له عبد العال للوقوف. وحدث أن قبضت الشرطة في الصعيد على حمار محمل بالأسلحة وهو يسير وحده، فأخذوا الأسلحة عنه وتركوه، فعاد إلى بيته، فعرفوا الذين وضعوا الأسلحة فوق ظهره وقبضوا عليهم.
وحكى لي رجل كان يمتلك حماراً ينقل به بضاعته، ثم إستغنى عنه بسيارات النقل، فوضعه في أسطبل وأوصى عماله به خيرا، لكنهم أهملوه وتركوه دون أكل، فذهب لزيارته، فإذ بالحمار يبكي في أسى ويتمسح في صاحبه، فصاح الرجل في عماله غاضبا وقائلا: مزعلين الحمار ليه؟!
ثم ربت رأس الحمار وقدم إليه الطعام مواسياً، ووعده بأن هذا لن يحدث ثانية.
وحكى لي آخر- يمتلك عربة كبيرة يجرها حمار - إنه قرر أن يبيعه ليفك أزمته المالية، فإذا بالحمار، ولا يدري من الذي أخبره بما نوى أن يفعله صاحبه به، فقد إقترب الحمار من صاحبه، وأخذ يمسح برأسه في ظهره وكتفه، فقام الرجل وضمه لصدره قائلا: لن أبيعك مهما حدث.
ورأيتُ في سوق الجمعة- حيث يقف الباعة في أيام الأربعاء والخميس والجمعة لبيع الأشياء القديمة، فتزدحم الشوارع بالباعة وبالأشياء وبالمشترين، وتقف عربات تجرها الحمير والجياد في طريق ترام (6 ) التي تبدأ من قصر رأس التين وتنتهي في حي محرم بك- تأتي الترام، فيضغط سائقها على الجرس، فيبتعد الحمار بعربته وحده دون معاونة من أحد. ليفسح مكاناً لسير الترام وبعد أن تمر الترام يعود الحمار وحده ليقف في مكانه. كل هذا وصاحب العربة يتابعه وهو جالس مع باعة الأشياء القديمة يحدثهم ويسامرهم.
وحدث أن ضحي حمار بنفسه لينقذ الناس، فقد تجمعت المياه أسفل كوبري سموحة، وهي عادة ما تتجمع هكذا أيام المطر الغزير لدرجة أن ساكني هذه المنطقة يتعذر عليهم الخروج من بيوتهم والذهاب إلى أعمالهم، وكان يقف بعض الرجال يلبسون في أرجلهم أحذية طويلة، ويحملون الرجال والنساء والأطفال، ويعبرون بهم هذه المنطقة نظير أجر قليل.
حدث في هذه المنطقة أن غطت المياه الأسلاك الكهربائية العارية، فأدى هذا إلى كهربة الأرض والمياه، ومرت عربة كارو في هذه المنطقة، فصعقت الكهرباء الحمار ومات في الحال فعرف الناس أن هذه الأرض مكهربة، فتعاملوا معها على هذا الأساس، ولولا موت الحمار لمات كثير من الناس وهم يعبرون.
......
الغريب، رغم كل هذا، أن يرتبط الحمار بالغباء، ويقول يحيي حقي في كتابه الجميل وجدت راحتي مع الحمير: الحمار عينيه ذليلة وحزينة وتكاد تترقرق فيها الدموع، ليس في صوت حيوان آخر مثل هذه الحرقة والتفجع والمرارة. إنها صرخة عذاب وإستغاثة وإشهاد الناس في نوبة متفجرة من بكاء بلا دموع تمزق الهواء، ثم تذوب كأنها لم تكن.
وقد نعي الشاعر أبو الحسين الجزار حماره الذي نفق فقال:
مـا كـل حــين تـنجـح الأســـفـار نفق الحمار وبارت الأشعار
خِرْجي على كتفي وهأنا دائر بيـن البيـوت كأنني عـطــار
لـم أنــس حــدة نفســـه وكـأنـــه من أن تسابقه الرياح يغــار
ويلين في وقت المضيق فيلتوي فكـأنما بـيديك منـه ســـوار
ويسير في وقت الزحام برأسه حتى يحــيد أمامك الحضار
لـم أدر عـيباً فـيـه إلا أنـه مع ذا الذكاء يُقال عنه حمار!
كيف عانت مصر من أزمة الحمير
قال محدثي مندهشاً: ألم تلاحظ أن عدد الحمير قل بمصر في هذه الأيام؟.
قلت: ربما لأن سيارات النقل زاد عددها، فقل الإعتماد على الحمير.
قال محدثي لي: ذهبت إلى سوق الحمير، فلم أجد حمارا واحدا يصلح للعمل.
( يعقد كل يوم أحد، سوقا للحمير في حي المنشية، بجوار مستشفي بروك الخيري لعلاج الحيوانات – وبجوار المستشفي بيطار يقوم بتغيير حدوة الحمار، وبيع لوازمه)
وإكتشفت بعد ذلك سر إختفاء الحمير.
فقد جمع الشيخ زايد رئيس دولة الإمارات كل الحمير الموجودة في بلده وأرسلها إلى مصر – هدية – لكن بعض التجار الكبار علم أن المجاهدين الأفغان الذين يحاربون الروس في حاجة إلى البغال والحمير لكي تتسلق الجبال الوعرة حاملة السلاح والطعام والعتاد، فإشتروا كل ما يجدونه من حمير وبغال، وباعوها لسماسرة الحروب. وبهذا قل عدد الحمير في مصر.
كان رجب مولعاً بعالم الحمير والجياد، أمله أن يتمكن - عندما يكبر - أن يشتري حصاناً كبيرا ليجر عربة بنز يتفسح بها على كورنيش البحر. وكان يتحدث كثيرا عن والده مسعود - الذي لديه قسم زبالة في حي سبورتنج - وعن حماره الأبيض القوي.عندما إشتراه والده كان يعض كل الحمير التي تقترب منه، ويجن عندما يرى أمامه حماراً آخر، فيشد لجامه، ويهجم عليه يعضه ويرفسه في عنف، حتى خافته كل حمير الحارة وإبتعدوا عنه.
رغم هذا كان هذا الحمار فيه عيبين كبيرين هما: خوفه من رؤية رءوس البقر والجواميس المعلقة لدى الجزارين، ما أن يراها حتى ينهق ويرتعد، ويُسرع بعيدًا عنها، وخوفه أيضا من -المياه، فإذا إقترب من شارع فيه مياه يجفل، ثم يرتد إلى الخلف ويحرن ويمتنع عن التقدم إلى الأمام خطوة واحدة، فينزل عامل مسعود ويضربه دون فائدة. رغم هذا كان رجب يثني علي جمار والده كثيرا ويصفه بالشجاعة والقوة. وينتقص من قيمة حمار زوج عمته الذي يسكن معهم في نفس البيت، كان أسود وأكثر طولا وعرضا من الحمار الآخر، لكنه هادئ ولا يجري أبدا على الشر. إذا ما قابله حمار مسعود بنهيقه وثورته؛ يبتعد عنه في هدوء وكأن شيئا لم يحدث. فيقول رجب عنه: إنه ني وجبان.
.....
يذهب سعد مع جده عبد العال ( زوج عمة رجب) إلى قسم الزبالة الذي يمتلكه في حي محرم بك، والذي يبدأ من خلف شارع عرفان من ناحية شارع الإسكندراني، وينتهي بعد المحكمة، سكان هذه المنطقة من الطبقة المتوسطة التي لا تدفع أجرة كبيرة، بعكس سكان قسم زبالة مسعود الذين يدفعون أكثر، خاصة الخواجات الذين كانوا موجودين وقتذاك. مازال سعد يذكر هذه الأيام، الصباح المبكر، وجده عبد العال بقامته القصيرة، ووجهه الجميل المائل للإحمرار، وطاقيته التي كانت قبعة وجدها في الزبالة؛ ففردها وغطى بها رأسه، وبنطلونه الطويل دائما، الذي يثنيه ثنيات كبيرة واضحة، وجلوسه على عريش العربة الفارغة، ويصعد إبنه جابر وسعد إبن إبنته إلى صندوق العربة المرتفع يتمازحان، أو يتشاجران داخل العربة. يقود عبد العال العربة، ويتوقف أحيانا أمام بائعة كسكسي، فلاحة بيضاء تقف في تقاطع شارعي محمد العباسي المهدى والأمير أحمد رفعت، تصحو مبكرة لتلحق الزبالين قبل الذهاب إلى أعمالهم، ودكان عم ياسين المواجه للمحكمة. الرجل يحب عبد العال، يمازحه طوال الوقت، ويقدم إليهم الإفطار؛ شاي بلبن وعيش فينو من فرن في شارع الإسكندراني القريب جدا، أو شوربة العدس والفول والطعمية، ويبدأ العمل.
جابر، خال سعد، الذي يكبره بعام واحد يعرف أصول المهنة أكثر منه، لابد أن تحمل القفة الكبيرة فوق ظهرك وتصعد بها فارغة إلى الدور الأخير، ثم تبدأ في حمل الزبالة وتهبط بها.
ضغط سعد على جرس الباب، ففتحت إمرأة شابة سمراء، نظرت إلى ذلك الطفل الصغير الممتلئ في دهشة، قال في خجل: الزبالة.
فضحكت المرأة بصوت مرتفع ونادت أختها الكبيرة التي في الداخل قائلة: شوفي عبد العال جايب لنا إيه!
وجاءت الأخرى مسرعة، وقفتا على الباب تضحكان لرؤية ذلك الزبال الصغير.
.....
كان حمار عبد العال الأسود الطيب يجر العربة المُحملة بالزبالة الثقيلة، ويقف في مكان كل يوم دون مساعدة من أحد، فهو يعرف الأماكن التي سبق أن حددها عبد العال للوقوف: أمام خرابة، ثم قريبا من بيت أم بعجر المواجه لمدرسة صلاح الدين، بعيدا عن النوافذ والشرفات. يقف الحمار أمام هذه الأماكن، فيضع عبد العال له طعامه، وعندما يرفع الطعام عنه، يعرف الحمار المطلوب منه، فيسير دون قول، ويقف دون قول، بجوار بيت إمرأة مجنونة تقف في الشرفة وتحدث نفسها وتصيح.
بعد أن يحملوا زبالة القسم كله، يركب سعد فوق العربة، ويجلس عبد العال على العريش، وأحيانا يجلس جابر - إبنه - بجواره، ويذهبون إلى المقلب على ترعة المحمودية ليلقوا الزبالة هناك. ويبدأ الفرز، الورق يوضع في أجولة من الخيش. والأقمشة المهترئة توضع في قفة كبيرة، والزجاجات والعلب الفارغة توضع في قفف كبيرة.. إلخ. بعد ذلك يحملون هذه الأشياء ويذهبون بها إلى تاجر الورق، وتظل الزبالة المتبقية في مكانها، فهناك يربون الخنازير التي ترتع وتأكل من هذه الزبالة، والمتبقي يبيعه عمال المقلب إلى الفلاحين ليتخذونه سماداً لأراضيهم.
عندما يشم سعد رائحة الزبالة المتجمعة في مكان لمدة طويلة يتذكرهذه الأيام.
.....
لم يتحقق لرجب ما أراد، فبعد حصوله على شهادة الثانوية العامة، كانت البلاد في عز النكسة، نتيجة لهزيمة مريرة من إسرائيل في عام 1967، والدولة في حاجة إلي طيارين كثيرين جدد، فقبلوه في كلية الطيران، فإرتدى بذلة طلبة الكلية الجوية وسط دهشة أهالي غربال الذين أحسوا بأن عالماً جديداً ينتظر منطقة غربال، لكن لسوء الحظ فُصل من الكلية لأنه لم يحس بالأرض عند هبوطه بالطائرة، وأشاعت بعض النسوة هناك أنهم فصلوه بعد إكتشاف مهنة والده، فكيف يكون طيارا ووالده يعمل زبالا؟
عربات الزبالة وحرب 56
تقف عربات الزبالة في غربال أمام معظم البيوت، ترفع عريشيها لأعلي، كل عريش يحيط به طوق من الحديد، فيبدو من بعيد وهو معلق هكذا وكأنه فوهة مدفع. لذا، خاف الناس أيام حرب 56 وقالوا: إنزلوا سيقان هذه العربات لأسفل خشية أن تظنها طائرات العدو مدافع، فيدكون المنطقة بالقنابل.
وبالفعل نزلت أعرشة العربات إلى الأرض، ولم ترتفع إلا بعد أن إنتهت الحرب. وتكرر هذا في حرب 67 أيضا.
.....
عند المغرب يأخذ عبد العال حماره الأسود الطيب مثله إلى أعلى الجبل، حيث التراب بكثرة ليتمرغ هناك ويرفس بساقيه الأربعة وينهق براحته، هكذا يتمطع الحمار ويسترد قوته التي أُنهكت طوال ساعات العمل الطويلة. وهكذا يفعل كل أصحاب الحمير في المنطقة، ( لكن البلدية صنعت سلالم بازلتية، ووضعت ثلاث حدايد في أعلى الجبل حتى لا تقع السيارات من أعلى، فحرمت الحمير من التمرغ والراحة ( بعدها يجر عبد العال الحمار إلى أسطبل نزهة وهو مصنوع من الصفيح ومضاء بلمبات جاز خابية الضوء في الأركان.
......
وتستيقظ الحارة في الصباح على صياح، نظنه أول الأمر مشاجرة من المشاجرات الكثيرة التي تحدث في الحواري هناك، ونكتشف بعد ذلك أن أحد الحمير هرب من إسطبل نزهة.
هكذا الحمير، يخطر ببالها أن تهرب وترتاح ليوم أو يومين، فيشد الحمار الحبل المربوط فيه، ويهرب من باب الأسطبل المفتوح دائما ويجري بعيدا، وعندما يحس إنه إبتعد عن منطقة الخطر؛ يسير على مهله. ويجول بين الحدائق، ويأكل كما يشاء. يبحثون عنه، ويحس صاحبه بالأسى فكيف سيذهب اليوم إلى عمله، يبحث عن حمار آخر يشده مكان حماره الهارب، وفي معظم الأحيان لا يذهب إلى عمله في ذلك اليوم الذي يقضيه في البحث عن حماره. وفي كثير من الأحيان يعود الحمار وحده، يسير في العودة على مهله، يدلدل أذنيه، وينظر إلى الأرض كسيفاً، ويدخل الأسطبل دون قول، ويقف في مكانه كما كان.
آخرون يمتلكون الحمير في غربال
ليس الزبالون وحدهم الذين يمتلكون الحمير في منطقة غربال، فهناك طبقة جديدة ظهرت فعندما لا يجد الشاب عملاً؛ يشتري حمارًا وعربة كارو ويعمل عربجياً، ينقل الأمتعة، أو يذهب إلى وكالة الخضار والفاكهة في الحضرة، ويتعامل مع تجار سوق الخضار والفاكه.
بعض هؤلاء كان يذهب بحماره إلى محطة مصر ليؤجره للأطفال في الأعياد، يضع فرشاً فوق ظهر حماره، ويمسك عصا رفيعة، ويركب الأطفال، ويطوف بهم حول حدائق محطة مصر نظير قروش قليلة. لكن الزبالين لم يفعلوا هذا، فحميرهم لا تعمل إلا في نقل زبالتهم. وكان معنا شاب والده يعمل ملاحظ كناسين، كان مجنوناً بالحمير، فيعرض على أصحابهم أن يأخذهم ويذهب بهم إلى أعلى الجبل ليتمرغوا ويرتاحوا، أو يوصلهم لأسطبل نزهة وكانت تخطر لهذا الشاب أفكار غريبة، فمرة يضع قرن فلفل حار جدا في مؤخرة حمار وهو يجر العربة، فيأخذ الحمار في القفز بالعربة حتى يكاد يحطمها، ويجري في الحارة ويصطدم بالأشياء. ومرة أحد أصحاب الحمير ضرب هذا الشاب لأنه ركب حماره دون أذنه، كانت صفعة الرجل قوية، فأقسم الشاب أن ينتقم منه، وفي اليوم التالي دق مسمارا في ظهر الحمار، حتى سوس عظمه، وباعه الرجل بأبخس الأثمان، وهو يدعو على ذلك المؤذي الذي أذاه في حماره.
الزبالون يخافون العُرضي
يخاف الزبالون من أشياء كثيرة في عملهم، أول هذه الأشياء هو الطوربيل، فقد كانت البلدية تطاردهم بسيارة نقل كبيرة، فيرمون أجولتهم وقففهم بعد أن تمتلأ بالأشياء التي يجدونها في الزبالة، إلى طوربيلهم الكبير، والشيء الثاني هو إتهامهم بسرقة أي شيء يضيع في منطقتهم، ما أسهل كلمة (أقبضوا على الزبال). وهناك حكايات كثيرة حدثت في المنطقة أتهم فيها الكثير من الزبالين بالسرقة، وبعد أن ضُربوا وعذبوا عادوا إلى بيوتهم، ولم يحدث أن أدين زبال واحد بالسرقة. فهم لا يمكن أن يسرقوا، كيف يسرقون في أماكن (أكل عيشهم)؟ والشيء الثالث الذي يخافه الزبالون هو العُرضي الذي كان في حي محرم بك، قريبا جدا من قسم زبالة عبد العال (مكانه الآن مساكن شعبية ) يسير عسكري شرطة، ومعه سايس يحمل لجاماً في يده، ويوقفون العربات التي تجرها الحمير أو الجياد، يفتشون فيها، يرفعون أسرجتها عن ظهورها، فإذا وجدوها مريضة أو مجروحة في أي مكان من جسدها، يخلعونها عن العربة، ويضع السايس لجامه في رقبة الحمار أو الجواد ويأخذه إلى العُرضي. حينذاك يجر الزبال ومن معه العربة الثقيلة إلى البيت، أو مكان رمي الزبالة ويقضي الرجل أياماً عصيبة حزينة، تؤثر على بيته كله، فالحمار سيبقى في العرضي يعالجونه إلى أن يٌشفي، ثم يذهب لأخذه، فيقدمون إليه فاتورة العلاج التي عادة ما تكون ثقيلة لا يقدر عليها، لكنه يفرح بذلك فحماره العزيز سيعود إليه. وقد حدث أن أخذ مسعود سعدا إلى العرضي، وتسلم حماره الأبيض القوي الشرس، وقال لسعد: أصعد فوق ظهره وعد به إلى أسطبل نزهة لأني ذاهب إلى مشوار.
لكن سعدا خاف أن يركبه، وشده من الحبل المعقود في رقبته حتى الأسطبل.
(الذي منع سعد من ركوب الحمار ما حدث له عندما ذهب مع الأسرة بعد حرب 56 إلى الصعيد، فقد ركب حمارًا فضاق الحمار بثقل وزنه فأخذ خذ يقفز قفزات عالية حتى يزحزح هذا الجسم الثقيل عن ظهره إلى أن ألقي به على الأرض(
مَرْعِي يعود إلى غربال
عندما يأخذ العرضي حمارا من زبال في منطقة غربال، يبحث صاحبه عن مَرْعِي، فهو الحل الوحيد في مثل هذه الحالات. ومرعى هذا شاب قوي جدا، وجهه مستدير وجميل، شعره أصفر وعيناه عسليتان واسعتان، وشاربه أصفر، يرتدي ملابس قديمة، وطاقية من الصوف بأذنين يغطي بها أذنيه صيفا وشتاء. يذهب صاحب الحمار للبحث عن مرعي على ترعة المحمودية، حيث يعيش مع إمرأة هناك دون زواج، المرأة بدينة وأكبر منه سنا، تسكن كوخاً مقاماً على حافة الترعة دون ترخيص أو إذن من البلدية،) تأتى الحكومة من وقت لآخر وتهدم تلك الأكواخ الكثيرة المقامة، لكن بعد أيام قلائل يعودون لبنائها ثانية ويعيشون فيها) الزبالون لا يلجأون إلى مرعي إلا للشديد القوي، والشديد القوي هو العُرضى الذي أخذ حميرهم. فمرعي عبء على من يعمل عنده. هو وحده الذي يستطيع جر عربة زبالة ثقيلة خاصة في الصيف حيث يكثر قشر البطيخ الثقيل. مرعي يأكل كثيراً طوال وقت العمل، وجسده قوي وكبير، كما إنه يتعب الزبال الذي يعمل عنده، فلابد له من ميزانية خاصة. وبعد أن يعود بالعربة يجلس أمام باب شقة صاحب العمل كاشفا عن وسع فمه بإبتسامة ترافقه طوال الوقت، يعطيه الرجل أجرته وأكثر منها قائلا له: تعال يا مرعي في الغد بعد الفجر بقليل.
ليفهم مرعي أن المهمة إنتهت وعليه أن يعود إلى جسد المرأة البدينة وكوخها على ترعة المحمودية. لكنه لا يتحرك من مكانه، يظل مبتسماً في بلاهة كعادته، ويجلس في مواجهة باب الشقة المفتوح، فيقدمون إليه الطعام، يأكله في الخارج، وبعد أن ينتهي من أكله يظل في مكانه، فيقدمون إليه الشاي. الزبالون الذين تضطرهم ظروفهم للإستعانة بمرعي يخافون على زوجاتهم منه فهو رجل وسيم جدا وقوي جدا، والمرأة لا تريد أكثر من ذلك. لهذا تكون أيام صاحب الحمار المعدودة - حتى يعود حماره - من العرضي- أياماً صعبة ويكون في غاية التعب والقلق والعذاب.
ذكاء الحمير
قرأتُ وأنا صغير حكايات صبري موسى، قرأتُها متفرقة في مجلة صباح الخير، ومازلت أذكر أول حكاية فيها، عن رتل عربات كارو تنقل الخضار والفاكهة الآتية من القليوبية في الليل إلى وكالة الخضار والفاكهة في القاهرة،. حمار يجر عربة وخلفه باقي العربات.
الذين يقودون هذه العربات ينامون فوقها. والحمير إعتادت على السكة وتسير فيها دون معاونة من أحد. تصل هذه العربات إلى سوق الخضار والفاكهة في الصباح المبكر، لكن رجلاً سكراناً، طلعت في رأسه فكرة عجيبة، فأمسك أول حمار وشده إلى عرض الشارع لكي يعود ثانية إلى الطريق الذي جاءت منه كل العربات. فعادت العربات إلى القليوبية. وعندما إستيقظ الرجال الذين كانوا ينامون فوق عرباتهم، وجدوا أنفسهم في قريتهم في القليوبية.
........
وهكذا كان يفعل حمار عبد العال، يسير دون معاونة من أحد ويقف في الأماكن التي سبق أن حددها له عبد العال للوقوف. وحدث أن قبضت الشرطة في الصعيد على حمار محمل بالأسلحة وهو يسير وحده، فأخذوا الأسلحة عنه وتركوه، فعاد إلى بيته، فعرفوا الذين وضعوا الأسلحة فوق ظهره وقبضوا عليهم.
وحكى لي رجل كان يمتلك حماراً ينقل به بضاعته، ثم إستغنى عنه بسيارات النقل، فوضعه في أسطبل وأوصى عماله به خيرا، لكنهم أهملوه وتركوه دون أكل، فذهب لزيارته، فإذ بالحمار يبكي في أسى ويتمسح في صاحبه، فصاح الرجل في عماله غاضبا وقائلا: مزعلين الحمار ليه؟!
ثم ربت رأس الحمار وقدم إليه الطعام مواسياً، ووعده بأن هذا لن يحدث ثانية.
وحكى لي آخر- يمتلك عربة كبيرة يجرها حمار - إنه قرر أن يبيعه ليفك أزمته المالية، فإذا بالحمار، ولا يدري من الذي أخبره بما نوى أن يفعله صاحبه به، فقد إقترب الحمار من صاحبه، وأخذ يمسح برأسه في ظهره وكتفه، فقام الرجل وضمه لصدره قائلا: لن أبيعك مهما حدث.
ورأيتُ في سوق الجمعة- حيث يقف الباعة في أيام الأربعاء والخميس والجمعة لبيع الأشياء القديمة، فتزدحم الشوارع بالباعة وبالأشياء وبالمشترين، وتقف عربات تجرها الحمير والجياد في طريق ترام (6 ) التي تبدأ من قصر رأس التين وتنتهي في حي محرم بك- تأتي الترام، فيضغط سائقها على الجرس، فيبتعد الحمار بعربته وحده دون معاونة من أحد. ليفسح مكاناً لسير الترام وبعد أن تمر الترام يعود الحمار وحده ليقف في مكانه. كل هذا وصاحب العربة يتابعه وهو جالس مع باعة الأشياء القديمة يحدثهم ويسامرهم.
وحدث أن ضحي حمار بنفسه لينقذ الناس، فقد تجمعت المياه أسفل كوبري سموحة، وهي عادة ما تتجمع هكذا أيام المطر الغزير لدرجة أن ساكني هذه المنطقة يتعذر عليهم الخروج من بيوتهم والذهاب إلى أعمالهم، وكان يقف بعض الرجال يلبسون في أرجلهم أحذية طويلة، ويحملون الرجال والنساء والأطفال، ويعبرون بهم هذه المنطقة نظير أجر قليل.
حدث في هذه المنطقة أن غطت المياه الأسلاك الكهربائية العارية، فأدى هذا إلى كهربة الأرض والمياه، ومرت عربة كارو في هذه المنطقة، فصعقت الكهرباء الحمار ومات في الحال فعرف الناس أن هذه الأرض مكهربة، فتعاملوا معها على هذا الأساس، ولولا موت الحمار لمات كثير من الناس وهم يعبرون.
......
الغريب، رغم كل هذا، أن يرتبط الحمار بالغباء، ويقول يحيي حقي في كتابه الجميل وجدت راحتي مع الحمير: الحمار عينيه ذليلة وحزينة وتكاد تترقرق فيها الدموع، ليس في صوت حيوان آخر مثل هذه الحرقة والتفجع والمرارة. إنها صرخة عذاب وإستغاثة وإشهاد الناس في نوبة متفجرة من بكاء بلا دموع تمزق الهواء، ثم تذوب كأنها لم تكن.
وقد نعي الشاعر أبو الحسين الجزار حماره الذي نفق فقال:
مـا كـل حــين تـنجـح الأســـفـار نفق الحمار وبارت الأشعار
خِرْجي على كتفي وهأنا دائر بيـن البيـوت كأنني عـطــار
لـم أنــس حــدة نفســـه وكـأنـــه من أن تسابقه الرياح يغــار
ويلين في وقت المضيق فيلتوي فكـأنما بـيديك منـه ســـوار
ويسير في وقت الزحام برأسه حتى يحــيد أمامك الحضار
لـم أدر عـيباً فـيـه إلا أنـه مع ذا الذكاء يُقال عنه حمار!
كيف عانت مصر من أزمة الحمير
قال محدثي مندهشاً: ألم تلاحظ أن عدد الحمير قل بمصر في هذه الأيام؟.
قلت: ربما لأن سيارات النقل زاد عددها، فقل الإعتماد على الحمير.
قال محدثي لي: ذهبت إلى سوق الحمير، فلم أجد حمارا واحدا يصلح للعمل.
( يعقد كل يوم أحد، سوقا للحمير في حي المنشية، بجوار مستشفي بروك الخيري لعلاج الحيوانات – وبجوار المستشفي بيطار يقوم بتغيير حدوة الحمار، وبيع لوازمه)
وإكتشفت بعد ذلك سر إختفاء الحمير.
فقد جمع الشيخ زايد رئيس دولة الإمارات كل الحمير الموجودة في بلده وأرسلها إلى مصر – هدية – لكن بعض التجار الكبار علم أن المجاهدين الأفغان الذين يحاربون الروس في حاجة إلى البغال والحمير لكي تتسلق الجبال الوعرة حاملة السلاح والطعام والعتاد، فإشتروا كل ما يجدونه من حمير وبغال، وباعوها لسماسرة الحروب. وبهذا قل عدد الحمير في مصر.