أ. د. عبدالجبار الرفاعي - العقل يخضع لمساءلة العقل...

في الفلسفة يتغلب العقل ليصير هو المرجعية في الحكم والقرار، وبتغلُّبه يتحقق التفاعل الخلّاق بين العقل والروح والعاطفة. يضع العقل الروحَ والعاطفةَ في حدودهما، وهو الذي يصحّح المسار لهما على الدوام. تنحسر مرجعية العقل في مجتمعاتٍ غير متعلّمة تتفشّى فيها العبوديّة الطوعيّة، واستعباد الوعي، والانقياد الأعمى، وتخدير الضمير الأخلاقي. العاطفة والروح تعملان بخفاءٍ للتأثير في العقل، والتحكّم بتفسيراته وصناعة أحكامه وقراراته. يعود سوء الفهم بين الفلاسفة وطرائق فهمهم إلى تأثير الذات والعاطفة والروح في تفسيرات العقل وأحكامه، على الرغم من أن الفلاسفة هم الأكثر صرامةً في اعتماد العقل والعملِ على توظيفه في كلِّ شيء. لا خلاف في الفلسفة حول كون العقل هو الذي يرسم حدودَه، ويحدّد وظيفته، ويكتشف مصادر معرفته. الخلاف بين الفلاسفة أنفسهم حول حدود العقل، وماهية هذا العقل وتعريفه، ومجالاته، وكيفية إدراكه، ونوع مدركاته.
العقل الفلسفي هو الذي أولد العقل الحديث، تَوالد هذا العقل وتشكّل في فلسفة فرنسيس بيكون وديكارت وكانط وغيرهم من الفلاسفة، فكان العقل الفلسفي الحديث باعثًا أساسيًّا على وضع التاريخ البشري في مسار جديد، غادر فيه حالتَه الرتيبة التكرارية الطويلة، بعد أن لبثت البشريةُ آلاف السنين لم تحقّق المكاسب العلمية من الاكتشافات والاختراعات والتكنولوجيات المنجزة في القرون الثلاثة الأخيرة، وتحول عبرها الإنسانُ من الآلات اليدوية إلى المحرِّكات الحديثة، ومن وسائل النقل البدائية إلى القطار والسيارة والطائرة ووسائل النقل
المتطورة. وهكذا تواصلت هذه المكاسب بقفزات على شكل منعطفات، إلى أن وصلنا إلى هندسة الجينات، وتكنولوجيا المعلومات والذكاء الاصطناعي والروبوتات. كانت الفلسفة وستبقى تتفاعل مع النظريات العلمية والاكتشافات، تؤثر وتتأثر بها، تستجيبُ لما يستجدّ من اكتشافات في الفلك والفيزياء والأحياء وغيرهما من العلوم. لعلم الفلك الحديث، الذي بدأ مع كوبرنيكوس (1473 – 1543) ونظريته في مركزية الشمس ودوران الأرض والأجرام الأخرى في المجموعة الشمسية حولها، أثرٌ مباشر على التفكير الفلسفي والميتافيزيقي في أوروبا من بعده، وهكذا تأثر هذا التفكيرُ بقوانين الحركة والجاذبية العامة في فيزياء نيوتن (1642 – 1727)، كما تأثر لاحقًا بفيزياء الكوانتم لماكس بلانك (1858 – 1947)، والنظرية النسبية لأينشتاين (1879 – 1955)، وقبل ذلك تأثر بنظرية التطور لتشارلز داروين (1809 – 1882). الفلسفة لا تنتهي ولن تتوقفَ مادام الإنسان يندهش، ويفكّر، ويتساءل، ويشكّك، ‏ ويناقش، ويتحاور، ويختلف. لا تمثل الفلسفة مرحلة من مراحل تطور الوعي، الفلسفةُ تواكب الوعي ولا تتخلّف عنه، حتى لو ساد العلم الحياة. العلم يطرح على الفلسفة أسئلتَه ومشكلاته العويصة، وما يعجز عن اكتشاف طرق الخلاص منه في فضاء المادة والمحسوس والتجربة، الفلسفة لا سواها من يجيب عن ذلك. لم يولد العلم إلا ‏في أحضان الفلسفة، تظلّ الفلسفةُ تواكب العلم، تتغذّى بأسئلته الحائرة، ومشكلاتِه وأزماته خارج حدود المادة والتجربة، وترفده وتغذّيه بالأجوبة والحلول والرؤية لما تنتجه تطوراته من تساؤلات، ومشكلات معقدة، وأزمات روحيَّة وأخلاقيَّة ونفسيَّة ومعرفيَّة، سواء أكانت هذه المشكلات والأزمات فرديَّة أم مجتمعيَّة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى