ناجي ظاهر - طامة* قصيدة النثر...

أود التأكيد بدايةً أننا عندما نفتح صفحة قصيدة النثر في أدبنا العربي الحديث، وفي أدينا المحلي خاصة، إنما نفتح واحدة من أصعب صفحات هذا الادب، فقد اتاحت قصيدة النثر المجال واسعًا امام كلّ من تمنّى أن يحظى بلقب شاعر، دون أي مؤهلات ودون أي إمكانيات ثقافية، عادة ما بتطلبها الادب عامة والشعر خاصة، ودون أي معرفة بفن القول، فراح مَن يعرف ومن لا يعرف، يكتب ما يعنّ على باله من تُرّهات وكلام فارغ بل يُسمن ولا يُغني، واصفًا ما يكتبه بأنه شعر وواصفًا نفسه بصفة الشاعر، الامر الذي دفع بالكثيرين مِن مُحبي الشعر والادب عامة، وكاتب هذه السطور واحد منهم، للانصراف عن قراءة الشعر، لما يُقدّمه "رواد" قصيدة النثر من كلام مُنفر، لا يُرضي سوى من يكتبه وآخرين ممن لا معرفة لهم بالشعر والادب عامة، لقد اساءت قصيدة النثر إلى الشعر، صارفةً مُحبيه عنه وعن ابوابه المُستباحة للجميع وفي طليعتهم مَن لا علم لهم بفن القول الشعر.. ولو بالحدّ الادنى.
هكذا بقي ما قرأناه واطّلعنا عليه من قصيدة النثر، مُجرّد تهويمات في فراغ لا حدود له، وكلام يناطح ذاته ولا يُخاطب الذائقة الأدبية العامة، إلا في حدود ضيّقة جدًا كما سلف، وهو ما دفعنا للعودة إلى النظر في الأسباب والمسببات الكامنة وراء هذا الانصراف عن الشعر وعن متابعته وقراءته مِن قبل الكثيرين، حدّ أن الناشرين، شرعوا في رفض طباعة المجموعات الشعرية، شاملين ضمن رفضهم هذا كلّ ما يُقترح عليهم للطباعة في كتاب، حتى لو كان من الشعر الجميل. هناك بالطبع العديد من الأسباب والمسببات لانصراف الكثيرين عن قراءة الشعر، غير تُرّهات قصيدة النثر وتابعتها قصيدة الهايكو. من أسباب هذا الانصراف هيمنة النوع الادبي الروائي على الساحتين العربية والأجنبية، واقتصار الجوائز على الرواية، لكن هذا ليس موضوعنا حاليا، لذا نتجاوز عنه عائدين إلى موضوعنا..
كما لكلّ ظاهرة تتعلّق بالأدب طرفان، أحدهما ذاتي والآخر موضوعي، كما ترى اخي القارئ، من المؤكد ان الانصراف عن قراءة الشعر، في صميمه قصيدة النثر، لا يشذ عن هذه القاعدة، ممثلة في العاملين الذاتي والموضوعي، بما انه ليس بإمكاننا معالجة الجانب الموضوعي، ممثلا بالقراء أولًا والناشرين والأوضاع العامة ثانيا، فإننا سنقصر حديثنا فيما يلي على العامل الذاتي في هذه القضية، قضية قصيدة النثر، الشائكة والشائقة في الآن ذاته. فما هو وضع هذه القصيدة، ما هو موقعها من الابداع الادبي عامة، ولماذا أدت دورًا هدامًا، أرى انه دفع الكثيرين او ساهم في دفعهم للتخفي والابتعاد عن قراءة الشعر. فيما يلي أقدّم اجتهادي الخاص في هذه المشكلة العويصة.
*تعتبر قصيدة النثر، قصيدة غريبة في ادبنا العربي الحديث، وقد يفاجأ البعض إذا ما قلنا له إن وضعها هذا في الآداب الأجنبية، لا يختلف عن وضعها في ادبنا، ذلك انها ما زالت هنا وهناك، شأنها شأن موسيقى الجاز، غريبة وتبحث لها عن مكان بين غيرها من الأنواع الأدبية، ومع استثناءات قليلة ذكرنا منها الشاعر الإنجليزي والت ويتمان صاحب أوراق العشب، وعدد قليل من الشعراء، بهذه اللغة او تلك، فإنه لا يوجد شعراء حقيقيون يكتبون هذه القصيدة، يزيد في هذه المعضلة تعقيدًا، أن ما نقرأه من النماذج التي تُكتب وتُنشر من هذا النوع الشعري، لا يوجد له أي أساس أو أصل في تراثنا العربي القديم، وهو ما يعني أنه غريب وهجين على هذا التراث، فماذا يعني هذا؟ إنه يعني أن قصيدة النثر ما هي الا بضاعة مستوردة، وليست أصيلة، وهنا قد يقول معترض، ولماذا نحرم أنفسنا ونمنعها من التأثر بثقافات اخرى، خاصة وأن العالم بات هذه الفترة أقل من قرية صغيرة، ربما عرفة صغيرة. فنرد عليه قائلين، إن ما تقوله صحيح إلى حدّ بعيد، لكن ألا تلاحظ معي أنه يوجد في العالم تعدديات ثقافية وأن كلًا مِن الثقافات العالمية تحاول أن تُحافظ على خصوصيتها في داخل الكلّ العالمي/ او العولمة؟.. ثم أليس مِن المُثير أن ما نقراه مُترجمًا من الشعر الأجنبي عادة ما يتفوّق على ما نقرأه من قصيدة النثر العربية؟.. أما فيما يتعلّق بقصيدة الهايكو** الأخت القريبة من قصيدة النثر، فإنها نوع شعري ياباني، تدفق إلى الساحة الأدبية الشعرية العربية بعد صدور كتاب ضمّ نماذج من الهايكو الياباني***، فاندفع مَن يعرف ومَن لا يعرف يكتب هذا النوع من الشعر، متناسيًا، في الاغلب عن جهل، أن لهذا النوع الشعري في لغته قواعد واسس، وكاتبًا فيه تُرّهات ما أنزل الله بها من سلطان، وكأنما تُراثنا العربي القديم، قد خلا مما يُمكننا أن نطوره، نضيف اليه ونقدمه من كتابات أدبية.
*يدّعي كتاب قصيدة النثر أنهم إنما يُريدون التجديد، وأن الاستسلام إلى طريقة واحدة ووحيدة في التعبير الشعري، يدُل في أبسط ما يدُل عليه، على محدودية تكاد تصل حدّ المُحاصرة الأدبية، وسؤالنا إلى هؤلاء هو: ألا توجد قيود وحدود وأسس لكلّ إنتاج أدبي في أي من اللغات؟.. ثم وهذا هو السؤال الأولى بالطرح، إذا أردت أن تُجدّد يا أخي، ألا يُفترض فيك أن تعرف ما تجدد فيه وتضيف إليه؟.. وهل انقلب مؤشر التجديد إلى مُجرّد اعتراضات لا معنى لها ولا مذاق، إن التجديد أيها السادة يحتاج الى معرفة مُتعمّقة لما نجدّد فيه وما نضيف إليه، وهنا اذكركم، بأن التجديد الذي أحدثته الموشحات الاندلسية في الشعر العربي، تطلّبت من أصحابها ان يكونوا على معرفة بالشعر العربي القديم، وهكذا ولد الموشح ابنا حقيقيًا وجديرًا للشعر العربي وليس مسخا هجينًا، كل ما يتطلّبه هو قِلةُ المعرفة ورصف الكلمات إلى جانب بعضها بعضًا وكفى الله المؤمنين شرّ القتال. لقد ذكرت في هذا السياق، في مقال سابق، أن كلّ من عرفتهم مِن أعلام قصيدة النثر، في بلادنا وفي الخارج، إنما توجّهوا إلى قصيدة النثر عن جهل وفلة معرفة، وأنا للحقيقة لم أكن أتحداهم ، وانما كنت اشير إلى ما هو أهم من التحدي، كنت أشير إلى أهمية أن يكون الإنتاج الادبي، شعرًا كان أو نثرًا، وليدًا حقيقيًا لثقافة ومعرفة، أما أن يكون الإنتاج الادبي، أيا كان نوعه، ناتجًا عن جهل وقلة معرفة، لا بالتراث ولا بالثقافة، فهذا ما لا يقبله الذوق السليم والعقل الفهيم. رحم الله زمانًا كان فيه مَن يُريد أن يكون شاعرًا أن يتبحّر في دنيا التراث والثقافة، حتى عُرف أن الشعراء هُم مَن يُجدّدون شباب اللغة واسسها، وهو ما جعلهم مراجع يُعتدّ بها وبما بدر عنها من قول رزين ومكين.
*الآن نصل إلى لُبّ الموضوع في مناقشتنا أسباب انصراف الناس عن قراءة الشعر، لا ريب في أن مُجمل الأسباب الواردة آنفًا، في مقدمتها السببان السابقان، كلّ هذه الأسباب أدت إلى تجرّؤ مَن يعرف ومَن لا يعرف إلى صعود سُلّم الشعر الصعب والطويل، وفق تعبير الشاعر العربي القديم الحُطيئة، هكذا شرع كلّ مَن وقع في مشكلة غرامية، أو اجتماعية أو أي نوع من المشاكل الكثيرة التي نعيشها جميعًا، في التوجّه إلى دفاتره وأقلامه، أو حاسوبه، والاخذ في تدبيج الكلام، غير آخذ في الحسبان ـن هناك من سيقرأه، ومن ينتظر كلمة مُعبرة ومؤثرة، وتقوم على أساس متين من المعرفة، التراثية والثقافية. وعندما يفرغ هذا المتوجه من كتابته، يسارع إلى نشرها في إحدى وسائل التواصل الاجتماعي او المواقع الالكترونية، أو يجمعها في دفتر أو صفحة الكترونية، ويُرسل بها إلى ناشر ما، فلا يكون من هذا إلا أن يرفض نشرها، عندها يلح "الشاعر" على الناشر، طالبا منه طباعة مجموعته تلك، واعدًا إياه بأن يدفع له مُقابل الطباعة، وعادة ما يكون مبلغًا ضئيلًا نسبيًا، فالطباعة الديجتالية، الرقمية، سهّلت امر الطباعة، وخفّضت بالتالي مقابلها إلى أقل القليل، عندها بستجيب الناشر للشاعر ويقوم بطباعة مجموعته تلك. فماذا يفعل الشاعر الغضّ الطري وقد وجد بين يديه مئة أو مئتي نسخة من كتابه، أو مجموعته الشعرية النثرية؟.. ها هو يفعل ما يفعله الكثيرون في هذه الفترة، إنه يُبادر بالتعاون مع هذه الجهة أو تلك، مِن الجهات الأدبية وما أكثرها، وما أكثر اشغالها، إلى إقامة أمسية أدبية، يدعو ‘ليها مَن يَعرف تمام المعرفة، أنهم سيكيلون له كلّ ما أراده ورجاه من مديح وثناء، وفي نهاية الأمسية يوزّع مجموعته المطبوعة في كتاب على الحاضرين. أما البقية فقد باتت واضحة، كلٌّ مِنَ الحاضرين يأخذ نسحته مِن المجموعة الجديدة، وعادة ما يتركها على أحد المقاعد القليلة المنتشرة في القاعة، أو يأخذها إلى بيته حيث يقذف بها في مكان قصي، لعلمه أنها لن تضيف إليه جديدًا ولن تثيره.
موجز القول، ان هذا كلّه، من الأسباب التي تقف وراء كتابة قصيدة النثر، تُنفّر القارئ المُحبّ للشعر وتجعله من كارهيه والمنصرفين عنه وعن أصحابه البعيدين عن كلّ ما هو معرفة، تراث وثقافة.. ما اصعب هذا. الا يحق لنا بعد هذا كله أن نضع عنوانًا لمقالتنا هذه، كما ورد أعلاه؟.. بلى نعتقد.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الطامة في أحد تفسيراتها الداهية.
**الهايكو هو نوع من الشعر الياباني يتألف من بيات واحد فقط، وهو مكون من سبعة عشر مقطعًا صوتيًا – باليابانية- ويُكتب عادة في ثلاثة أسطر- خمسة ثم خمسة.
***صدر كتاب الهايكو هذا قبل نحو ربع القرن ضمن سلسلة الكتب الكويتية الدورية الرائعة "ابداعات عالمية".

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى