المحامي علي ابوحبله - المثقفون التضليل يون

إعداد وتقرير المحامي علي ابوحبله


يذهلني كل اولئك المثقفين والخبراء الذين لا يتورعون عن اللجوء الى حجج مخادعة، وعن إطلاق الأكاذيب، من أجل حصد التأييد. تبدو وقاحتهم وانعدام ذمتهم بلا حد، وتشكل ورقة رابحة، وبدلا من مقابلتهم بالاستهجان العام يقابلون بمزيد من التهليل،، هكذا يستهل باسكال بونيفاس كتابه قبل أن يشير إلى نوعين من المثقفين ممن يقصد ويسمي الفريق الأول منهم المثقفون المزيفون الذين لكي يتمكنوا من إقناع المشاهدين أو المستمعين أو القراء يلجأون إلى حجج هم أنفسهم لا يصدقونها. قد يؤمنون بقضية لكنهم يعمدون إلى وسائل غير شريفة للدفاع عنها. أما الفريق الثاني ويعتبرهم بونيفاس أسوأ من الفريق الأول فهم المثقفون المرتزقة الذين، على حد وصفه، لا يؤمنون بشئ سوى أنفسهم، ويتظاهرون بالانتساب إلى قضايا، ليس لقناعتهم بصحتها، بل لأنها في تقديرهم واعدة ولها مردود مهم وتسير في اتجاه الرياح السائدة.
ويرى المؤلف أن كلا الفريقين يدرك مخالفته للأمانة الفكرية لكنه لا يعبأ بها لأن الغاية تبرر الوسيلة ولأنهم يرون أن الجمهور العريض ليس ناضجا بما يكفي، وبالتالي يمكن توجيهه ولو بوسائل لا تنطبق عليها معايير الأمانة. كما يرى أن أعضاء الفريقين، المزيفين والمرتزقة لا تتعرض وسائلهم للعقاب، لأن الكذب لم يعد سببا لفقدان الأهلية. »فمن الحماقة عدم الاستفادة من ذلك«.
مع ذلك يؤكد المؤلف أن الجمهور في النهاية يفهم في النهاية حقيقة الأمور، ولو خدع جانب منه في البداية فإنه يفهم الحقائق في النهاية.
يستعرض باسكال بونيفاس بعض الأسباب التي سهلت ظهور فئة المثقفين المزيفين موضحا أن الإعلام بأشكاله المعاصرة يتحمل جانبا كبيرا من ذلك، و مشيرا إلى أنه فى السابق حين كان أحد عمالقة الفكر مثل سارتر أو غيره يودون طرح قضية ما فإنهم كانوا يقومون بتأليف كتاب في الموضوع، أما الآن فهم يفضلون الظهور في وسائل الإعلام، بدلا من إنجاز منتج فكري حقيقي. ويرى بالتالي أن المعايير اختلفت، إذ أصبحت الصورة مفضلة على اللغة. من يبدو ظريفا ومن يجيد التعبير عن نفسه مفضلا عمن يفكر على نحو سليم ومتسق. وتزامن هذا مع الدخول القوي للأخلاق في الأجندة الدولية، بالإضافة إلى العولمة وتطور وسائل الاتصال، واعتبارا من تلك اللحظة لم يعد هدف الخبراء والإعلاميين إعلام الجمهور بل بالعكس؛ التأثير عليه لمصلحة بعض الداعمين أو الرعاة . ويصف بونيفاس ذلك بأنه خيانة جديدة وجوهرية يقوم بها المثقفون. يتحول الوصول إلى الرأي العام بالنسبة لهم إلى وسيلة لتسويق أنفسهم. فهم يستخدمون الجمهور ولا يضعون أنفسهم في خدمته.
أما الأسوأ من ذلك فهو عندما تتحول النزعة الأخلاقية إلى مكارثية حقيقية. حيث يميل البعض الى اعتبار الخصم كائنا لا أخلاقيا، يجب محاربة حججه وحتى منعها(..) وهم بتصرفهم على هذا النحو يغادرون الجدل الفكري ليدخلوا في نوع من الإرهاب الفكري. يضرب الكاتب عددا من الأمثلة على ما يمارسه من يسميهم المثقفين المزيفين في فرنسا من تضليل إعلامي تجاه كل ما يخص العرب والمسلمين، بدعوى محاربة الإرهاب حيث أصبح الدفاع عن إسرائيل يمر بشيطنة الفلسطينيين والتوسع إلى شيطنة العرب والمسلمين بعد الربط بينهم وبين الإرهاب على نحو لا يقبل التفريق. والهدف كما يراه المؤلف أن يكف المراقبون عن انتقاد الاحتلال والقمع الذي يتعرض له الفلسطينيون.
كما يرى أن الذين يقومون بفضح ما يسمونه الاسلام الفاشي يفعلون ذلك لنجدة مجمعات الصناعة العسكرية التي ازدهرت عن طريق تشجيع سباق التسلح لا سيما فى أثناء الحرب الباردة.
وفيما يتعلق بممارسات من يسميهم المزيفين في وقائع الربيع العربي يعلق المؤلف قائلا:
شرحوا لنا من قبل بأن تأخر هذه البلدان الذي لا شك فى أنه فطري جعلها محكمة الإغلاق في وجه الديمقراطية. كان ذلك يبرر الحرب من أجل تحرير هذه الشعوب من حكامها الطغاة، مثلما حدث في العراق. تحرر شعب تونس وشعب مصر بنفسيهما. إنه الموت الثاني للمحافظين الجدد. هذا يبرهن أن الديمقراطيات تتشكل من الداخل.
يخصص الكاتب قسما تاليا في الكتاب لعدد من الشخصيات الإعلامية في فرنسا ممن يرى أنهم مارسوا التضليل الإعلامي على حد وصفه. وهم: الكسنر آدلر، المحاور في احدى القنوات الفرنسية، كارولين فوريست، الاعلامية والصحفية والناشطة المدافعة عن حقوق المرأة، محمد سيفاوي الصحفي الذي يؤيد إسرائيل على حد قول الكاتب، تيريز تلبش مديرة الشئون الاستراتيجية في وكالة الطاقة الذرية، فريدريك إنسل الذي يقدم نفسه بوصفه خبيرا في شئون الشرق الأوسط، فرانسوا هزبورغ، مستشار وزير الدفاع الاسبق، فيليب فال الإعلامي والصحفي، وبرنار هنري ليفي، المفكر الذي يخصه الكاتب بتاريخ مفصل منذ بداية ظهوره وحتى اليوم.
خلال هذه التفاصيل يتعرف القارئ ليس على ما يرى الكاتب أنه تورط من تلك الأسماء فيما يسميه التضليل الإعلامي، فقط، بل وأيضا على الكثير من القضايا التي لا تخص فرنسا فقط بل والعرب بشكل عام لأنها تتعلق بوقائع مثل الكاريكاتير المسىء للنبي محمد مثلا، وفكرة الحجاب، وحرب العراق.
لكن ما يبدو مذهلا حقا هو تعرض المؤلف لتوضيح ان بعض هؤلاء المذكورين يتحول إلى قوة مؤثرة على الإعلام والنشر بفضل شبكات العلاقات، تمنع انتقادهم بل وقيام بعض المحررين او الناشرين بنوع من الرقابة الذاتية في الإعلام لكل ما قد يتعرض لهم.
قراءة هذا الكتاب في الحقيقة هي بمثابة قراءة موازية للواقع الإعلامي العربي ، فكل مما يذكر في الكتاب في الحقيقة يحيل على تفاصيل واقعنا الإعلامي بشكل مثير. ولعل هذا جانب كبير من أهمية هذا الكتاب، لكنه في الوقت نفسه يوضح أيضا كيف أن الأزمة الإعلامية اليوم طالت حتى أعتى الديمقراطيات مثل فرنسا ما يجعلنا نعيد تأمل فكرة الديمقراطية بالفعل ، ومدى حقيقة وأصالة صورة ما نطالب به اليوم من ديمقراطية، إذ كيف لديمقراطية حقيقية أن تفرز إعلاما مزيفا؟ بصياغة أخرى كيف تنقى الديمقراطية من عوامل تزييفها؟

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى