منذ البداية، منذ الخطوة الأولى، ومع العنوان اللافت «سمكة زينة في صحن الخلود»، للشاعرة المصرية رضا أحمد، والذي يليق تماماً بديوان شعر، أو عنوان لقصيدة نثر تحديداً، يتوقع القارئ الحصيف مأدبة شعرية، تخرجه من الواقع المعقد لبعض الوقت. وتجعله منشغلاً بمطالعة نصوص تراوغ هذا العالم، نأياً، أو قرباً، أو عبر التماس معه، وتحاول تجاهل كل ما لا قيمة له، حتى لا تعيق علاقات الاتصال مع القارئ، من خلال تجربة تأملية في المقام الأول، تتغذى على الحالات الشعورية وتهتم بالصور المركبة للأشياء، والفواصل الدقيقة بينها.
من دون إهداء، ومن دون استهلال، أو استعارة حكمة من فيلسوف، أو مقولة شهيرة لأحد الكتاب الكبار، أو بعض أبيات من قصيدة لأحد فحول الشعراء، تضع الشاعرة بضع كلمات، في الصفحة الأولى للديوان، تحتوي على المعاني السابقة:
«الحقيقة غريبة ومهجورة
وأبعد من نظرة مؤمن
إلى إكليل زعفران
يلمع
فوق رأس الكهنة والقديسين».
لقد أرادت الاقتراب من الحقيقة في سطرين، متخلصة من الخطوات التقليدية، ومن كل ما هو نمطي في عالم مقدمات الكتب.
«وحوش في وردية ليليلة» هي أولى قصائد هذه المجموعة الشعرية. النص الذي لا يدير ظهره للمجاز، ويبايع السوريالية على نحو واضح:
«وقعت أحداث كل القصص التي أعرفها
في الليل
حيث الوحوش تستلم ورديتها
ببصمة إصبع وصرخة ألم،
انظر إلى هذا:
معي دموع تكفي سلالة ضباع
جاهزة للموت بلا أنياب».
وصف حالة كاملة من حالات الوجع الإنساني، في العمل، وفي الحياة على وجه العموم، لكنها تلجأ إلى التخفي وراء الشعر، وراء إمكانياته اللفظية، تبوح للعارفين، ولا تأبه بمن هو غافل، لاهٍ؛ فهذا نمط من البشر لا يعنيها عند البوح، وعبر المونولوجات المعذبة تمضي في خط درامي متصاعد، وهي تستعيد تجربة مربكة، خلّصها الشعر من السأم والرتابة، وأتاح لها مكاناً تحت سقفه اللامحدود.
في قصيدة «أحدثك من برج الساعة» ثمة سخرية من الحزن، حيث لا شيء يستحق أخذه على محمل الجد، فهناك عقبات كثيرة، الالتفات إليها يورث الألم، وربما الجنون، فقوانين العالم جد قاسية ومزعجة، على نحو مبالغ فيه:
"لم أعد أبكي؛
لا تهدري حزنك كله يا أمي
راقبي معي الطريقة التي نظرت بها إلى الخراف
إلى آخر زهرة برسيم
قضمها حمار في برنامج «توك شو»
ومنشوراً ناقماً
تحته توقيعات التنديد والرفض،
الشمس طفت إلى مستعمرة الجذام
تطلب اللجوء السياسي
والقاهرة محمية دلافين"
هل الأم هي الأم. أم الأم هي الوطن؟. لا يقين. طالما كان هناك نزوع سياسي، وحكايات مريرة حتى لو تدثرت بألف غطاء من ألاعيب الشعر: «مؤسف أن كلمة «لا» بين العظام والجلد». إنها الصرخات التي تعلن عن نفسها وسط ضباب اللغة ودخان القصيدة، مهما حاول الشاعر اللجوء إلى التخفي. فالشعر في النهاية أحد وسائل الوعي، والرؤية النقدية للواقع، وإعادة تشكيله.
لا بأس أيضاً، من بعض الرومانسية في هذا الزمن الجاف. بضع كلمات عن الحب، لدفع السأم غير المريح. تلقي سهام كيوبيد بسعادة، فلا شيء أخر في إمكانه المواساة قدر تقاسم الحياة مع حبيب، كما في قصيدة «سقوط متكرر»: «مليئة بالخوف والعمى/ تجرعت حبك كله حتى خلة أسنانك/ كل الأماكن التي أحببتها فيّ/ على علتها:/ شفتي/ لساني/ جوفي الرطب/ تصريف أفعالك ولثغتي،/ آلهة الضوء والماء / تغطي جسدي العاجي/ كيدَيْ فتى صغير/ وتغذى اسمك بالحنين حتى نبعي».
أما في قصيدة «كل ما يخطو في بالك»، ثمة مقطع، يتناول الحاجة إلى الحب، ولكن بنبرة جريحة تسري بين السطور، روح مرهقة تحاور الفراغ، تبحث عن شيء مفقود: «أعرف كيف بدأ البحر/ وأفكر في الحب/ ذلك الهيكل المالح الذي يتخلل أطيافنا الرخوة/ ليجعلنا قادرين على السير فوق الماء / خطوة واحدة/ ويفر منا بكل جبن الحياة،/ أسير دون وصاية ظل/ ودون مطاردة جسد ينتظرني؛/ ريشة تتراقص بين محفات الهواء/ لتنقل إلى الناس سيرة طيرها الذبيحة».
القصيدة طويلة، تعتمد على تقنية التداعي الحر، تيار الوعي يسري عبر أبياتها منذ البداية، حتى السطر الأخير، وإن كان وعياً شقياً، متعباً حتى الثمالة. إن الذات الساردة هنا تحكي حكايتها، في نوبة تطهير، ربما جاء الخلاص من كل ما يؤرقها في هذا العالم؛ الآلام المكدسة، الأحلام المجهضة «كل نوبات هلعي تناصر قضايا مستهلكة». تستعير أصوات نسائية عظيمة، تواقة إلى الحب، وإلى السكينة، حيث نشعر معها، في هذه القصيدة، بأنه قد تم وضع عذابات فرجينيا وولف، والتفافات مرغريت دوراس حول الحب والجنس، وحول السعادة المفقودة في هذه القصيدة. نلمس أرواحاً تحلق معها في هذا الفضاء، فثمة صوت أنثوي يخاطب العالم، يذكرنا بأصداء من الكاتبتين، عندما تنسجان التجارب الذاتية، بتركيز مكثف على الدقة الأسلوبية، وتدفق شعري لا يتناقض مع الوقائع المسرودة.
في قصيدة «حفل تخرج محدود»، ثمة تأريخ لفتى من الطبقة الكادحة، كشف موجز لمراحل من حياته، تحديداً أيام الدراسة، بدءاً من المرحلة الابتدائية، حيث الطفولة، زمن البراءة، والذاكرة القوية التي تختزن كل التفاصيل، حلوها ومرها:
«على سور المدرسة الابتدائية؛/ كبر النهر بعروق رمادية وظهر محدودب».
هكذا كان مفتتح الفقرة الأولى، أما ختامها فهو يعلن عن ماهية أي طفل هذا، الوسط الاجتماعي، والحياة العائلية، لقد جرى تجسيد كل ذلك على نحو جيد، والإعلان عن وضعه الإنساني حتى نستطيع المواصلة معه: «أن تستكين يدك في جيبك/ وتنبح أمام بيتك/ في محاولة لإضفاء الجدية/ ولو لمرة واحدة على جوعك.»
لقد وضعتنا في قلب الحياة التعيسة لهذا الفتى، ولكي نعرف أكثر، لا بد أن نخطو معها إلى مرحلة دراسية أخرى: على سور المدرسة الإعدادية/ أشعل الولد سيجارة/ ثم أطفأ الدخان الذي يحرس خوفه،/ اختبأت أصابعه يومها، فمه، حلقه ورئتاه/ خلف صفعة والده.
لا رفاهية إذاً، لا مجال للتدخين، لا يوجد المال الذي يتيح هذه التطلعات، فهي محض عادات مؤثَّمة، والصفعة دافعها الفقر، لا الدور التربوي. لنتقدم خطوة، نحو الانشغال المفرط بأشياء أخرى، تفاصيل الحياة السرية ونزوات المرحلة: لم يكن للمدرسة الثانوية سور/ فقط أيادٍ تتناول الخبرات مثل شمعة،/ الحب وليمة وحشية لنظرات جائعة.
ثم نهاية الرحلة: على أسوار الجامعة/ وضعوا لافتات التخدير/ مسرح عرائس تحت شمس بطيئة.
تلخيص موجز جداً، ومتدرج، اتخذ من مراحل التعليم تكأة لإنشاء دراما إنسانية مصغرة عن اللاجدوى.
في كثير من النصوص، نلمح خطاباً ثقافياً مبطناً، ومراجعات غير نمطية، تغتني بالمجاز أحياناً، وتبتعد قدر الإمكان عن التجريد، لتضفي على الكلمات وزناً أكبر. فالشاعرة رضا أحمد تنطلق من الواقعي دائماً، لكنها تخلصه من ثقله، ووطأته، عندما تلجأ إلى فائض الخيال لديها، وتقوم بدمج النقيضين في سياق القصيدة على نحو مبهر. معتمدة، غالباً، على ذكرى، أو فكرة، كما أن للحكاية، أيضاً، مكانتها الأثيرة لديها، وإن كانت تلجأ إلى التقطير، بما يتماشى مع جوهر الشعر، وبما لا يبهظه بالترهل، أو يصيبه بالعوار.
وهي تسعى إلى تسجيل كل ما يخطر لها، كأنها تصارع الوقت، وتكتب تاريخاً يخصها، تنزعه من بين فكي الزمان الهدام، متقمصة وظيفة الحكماء وهي تعيد تشكيله، وطرحه على الورق؛ لتطالعه مرة أخرى، ولكن من دون عناء، أو انقباض نفس في هذه المرة. فمثل هذه القصائد إذا وضعت تحت الضوء، قد تتاح لها، في الغالب، أن تعمر طويلاً أمام أدوات النقد.
في قصيدة «بنت تحمل كتاب الموتى»، ثمة تعبير قاسٍ عن الذات، مصارحة ضرورية، مراجعة الفجوات بين ما كان، وبين ما ينبغي أن يكون، محاولة الاقتراب من السامي، التوق إليه، والارتباط به، لكن يبدو أن تصاريف القدر لا تساعد على ذلك. تقول الشاعرة، بلا مبالاة:
«أدرك أنني أصف حياتي على نحو عادل؛/ أدفن وجهي تحت صفحة بيضاء/ وأدع كل امرأة ضجرة/ تطلب من رجلها أن يشتري لها هذه المأساة./ ذاكرتي السخيفة/ حملها ملاك إلى السماء في أجندة؛/ والرب يعيد قراءة ما أكتبه ويحاسبني أنا/ التي لا تُعدّل مطلقاً وضع حجر/ قذفته في القصيدة».
على هذا النحو، تمضي، كأنها تنسج سيرة ذاتية متخيلة لطفلة خائفة، ثم شابة تحمل كتاب الموتي. وتبحث عن الأساطير التي تركها الأجداد، ربما وجدت بين رموزها الملاذ: «ظلي/ أعزل ووحيد/ رغم هذا يمضي خلفي بثبات دائم بلا خوف؛/ أخشى أن ألتفت مرة فيطعنني.»
في قصيدة رائعة، لها عنوان موحٍ «ورشة لتقليم الذكريات»، عنوان يشي بالدافع الرئيس، على ما أعتقد، وراء هذا الديوان، تضعنا الشاعرة، عند خطوط التماس، مع أفكار الذات الشاعرة، إنها تصرح، بألم، وبصوت مخنوق بكثافة الرموز:
«لم أعد أقوى على اليأس،
أجدادي يتجولون في منتصف حياتي
بمنشة العناكب وسم الفئران،
يتحدثون عن حصتنا من الشمس والنيل والدعم…
وأبكي الرائحة المغرمة
التي يقطرون من أجلها أصيص صبار
يقف صفاً ثانياً على شرفة مغمورة بالياسمين،
هذا…
وقد أخبرتهم بعد أن أكل الملح رغيفي
أن المسافة بين نزيفي وولائي الأعمى
لا تتناسب مطلقاً مع حضن مفخخ بالطعنات».
من دون إهداء، ومن دون استهلال، أو استعارة حكمة من فيلسوف، أو مقولة شهيرة لأحد الكتاب الكبار، أو بعض أبيات من قصيدة لأحد فحول الشعراء، تضع الشاعرة بضع كلمات، في الصفحة الأولى للديوان، تحتوي على المعاني السابقة:
«الحقيقة غريبة ومهجورة
وأبعد من نظرة مؤمن
إلى إكليل زعفران
يلمع
فوق رأس الكهنة والقديسين».
لقد أرادت الاقتراب من الحقيقة في سطرين، متخلصة من الخطوات التقليدية، ومن كل ما هو نمطي في عالم مقدمات الكتب.
«وحوش في وردية ليليلة» هي أولى قصائد هذه المجموعة الشعرية. النص الذي لا يدير ظهره للمجاز، ويبايع السوريالية على نحو واضح:
«وقعت أحداث كل القصص التي أعرفها
في الليل
حيث الوحوش تستلم ورديتها
ببصمة إصبع وصرخة ألم،
انظر إلى هذا:
معي دموع تكفي سلالة ضباع
جاهزة للموت بلا أنياب».
وصف حالة كاملة من حالات الوجع الإنساني، في العمل، وفي الحياة على وجه العموم، لكنها تلجأ إلى التخفي وراء الشعر، وراء إمكانياته اللفظية، تبوح للعارفين، ولا تأبه بمن هو غافل، لاهٍ؛ فهذا نمط من البشر لا يعنيها عند البوح، وعبر المونولوجات المعذبة تمضي في خط درامي متصاعد، وهي تستعيد تجربة مربكة، خلّصها الشعر من السأم والرتابة، وأتاح لها مكاناً تحت سقفه اللامحدود.
في قصيدة «أحدثك من برج الساعة» ثمة سخرية من الحزن، حيث لا شيء يستحق أخذه على محمل الجد، فهناك عقبات كثيرة، الالتفات إليها يورث الألم، وربما الجنون، فقوانين العالم جد قاسية ومزعجة، على نحو مبالغ فيه:
"لم أعد أبكي؛
لا تهدري حزنك كله يا أمي
راقبي معي الطريقة التي نظرت بها إلى الخراف
إلى آخر زهرة برسيم
قضمها حمار في برنامج «توك شو»
ومنشوراً ناقماً
تحته توقيعات التنديد والرفض،
الشمس طفت إلى مستعمرة الجذام
تطلب اللجوء السياسي
والقاهرة محمية دلافين"
هل الأم هي الأم. أم الأم هي الوطن؟. لا يقين. طالما كان هناك نزوع سياسي، وحكايات مريرة حتى لو تدثرت بألف غطاء من ألاعيب الشعر: «مؤسف أن كلمة «لا» بين العظام والجلد». إنها الصرخات التي تعلن عن نفسها وسط ضباب اللغة ودخان القصيدة، مهما حاول الشاعر اللجوء إلى التخفي. فالشعر في النهاية أحد وسائل الوعي، والرؤية النقدية للواقع، وإعادة تشكيله.
لا بأس أيضاً، من بعض الرومانسية في هذا الزمن الجاف. بضع كلمات عن الحب، لدفع السأم غير المريح. تلقي سهام كيوبيد بسعادة، فلا شيء أخر في إمكانه المواساة قدر تقاسم الحياة مع حبيب، كما في قصيدة «سقوط متكرر»: «مليئة بالخوف والعمى/ تجرعت حبك كله حتى خلة أسنانك/ كل الأماكن التي أحببتها فيّ/ على علتها:/ شفتي/ لساني/ جوفي الرطب/ تصريف أفعالك ولثغتي،/ آلهة الضوء والماء / تغطي جسدي العاجي/ كيدَيْ فتى صغير/ وتغذى اسمك بالحنين حتى نبعي».
أما في قصيدة «كل ما يخطو في بالك»، ثمة مقطع، يتناول الحاجة إلى الحب، ولكن بنبرة جريحة تسري بين السطور، روح مرهقة تحاور الفراغ، تبحث عن شيء مفقود: «أعرف كيف بدأ البحر/ وأفكر في الحب/ ذلك الهيكل المالح الذي يتخلل أطيافنا الرخوة/ ليجعلنا قادرين على السير فوق الماء / خطوة واحدة/ ويفر منا بكل جبن الحياة،/ أسير دون وصاية ظل/ ودون مطاردة جسد ينتظرني؛/ ريشة تتراقص بين محفات الهواء/ لتنقل إلى الناس سيرة طيرها الذبيحة».
القصيدة طويلة، تعتمد على تقنية التداعي الحر، تيار الوعي يسري عبر أبياتها منذ البداية، حتى السطر الأخير، وإن كان وعياً شقياً، متعباً حتى الثمالة. إن الذات الساردة هنا تحكي حكايتها، في نوبة تطهير، ربما جاء الخلاص من كل ما يؤرقها في هذا العالم؛ الآلام المكدسة، الأحلام المجهضة «كل نوبات هلعي تناصر قضايا مستهلكة». تستعير أصوات نسائية عظيمة، تواقة إلى الحب، وإلى السكينة، حيث نشعر معها، في هذه القصيدة، بأنه قد تم وضع عذابات فرجينيا وولف، والتفافات مرغريت دوراس حول الحب والجنس، وحول السعادة المفقودة في هذه القصيدة. نلمس أرواحاً تحلق معها في هذا الفضاء، فثمة صوت أنثوي يخاطب العالم، يذكرنا بأصداء من الكاتبتين، عندما تنسجان التجارب الذاتية، بتركيز مكثف على الدقة الأسلوبية، وتدفق شعري لا يتناقض مع الوقائع المسرودة.
في قصيدة «حفل تخرج محدود»، ثمة تأريخ لفتى من الطبقة الكادحة، كشف موجز لمراحل من حياته، تحديداً أيام الدراسة، بدءاً من المرحلة الابتدائية، حيث الطفولة، زمن البراءة، والذاكرة القوية التي تختزن كل التفاصيل، حلوها ومرها:
«على سور المدرسة الابتدائية؛/ كبر النهر بعروق رمادية وظهر محدودب».
هكذا كان مفتتح الفقرة الأولى، أما ختامها فهو يعلن عن ماهية أي طفل هذا، الوسط الاجتماعي، والحياة العائلية، لقد جرى تجسيد كل ذلك على نحو جيد، والإعلان عن وضعه الإنساني حتى نستطيع المواصلة معه: «أن تستكين يدك في جيبك/ وتنبح أمام بيتك/ في محاولة لإضفاء الجدية/ ولو لمرة واحدة على جوعك.»
لقد وضعتنا في قلب الحياة التعيسة لهذا الفتى، ولكي نعرف أكثر، لا بد أن نخطو معها إلى مرحلة دراسية أخرى: على سور المدرسة الإعدادية/ أشعل الولد سيجارة/ ثم أطفأ الدخان الذي يحرس خوفه،/ اختبأت أصابعه يومها، فمه، حلقه ورئتاه/ خلف صفعة والده.
لا رفاهية إذاً، لا مجال للتدخين، لا يوجد المال الذي يتيح هذه التطلعات، فهي محض عادات مؤثَّمة، والصفعة دافعها الفقر، لا الدور التربوي. لنتقدم خطوة، نحو الانشغال المفرط بأشياء أخرى، تفاصيل الحياة السرية ونزوات المرحلة: لم يكن للمدرسة الثانوية سور/ فقط أيادٍ تتناول الخبرات مثل شمعة،/ الحب وليمة وحشية لنظرات جائعة.
ثم نهاية الرحلة: على أسوار الجامعة/ وضعوا لافتات التخدير/ مسرح عرائس تحت شمس بطيئة.
تلخيص موجز جداً، ومتدرج، اتخذ من مراحل التعليم تكأة لإنشاء دراما إنسانية مصغرة عن اللاجدوى.
في كثير من النصوص، نلمح خطاباً ثقافياً مبطناً، ومراجعات غير نمطية، تغتني بالمجاز أحياناً، وتبتعد قدر الإمكان عن التجريد، لتضفي على الكلمات وزناً أكبر. فالشاعرة رضا أحمد تنطلق من الواقعي دائماً، لكنها تخلصه من ثقله، ووطأته، عندما تلجأ إلى فائض الخيال لديها، وتقوم بدمج النقيضين في سياق القصيدة على نحو مبهر. معتمدة، غالباً، على ذكرى، أو فكرة، كما أن للحكاية، أيضاً، مكانتها الأثيرة لديها، وإن كانت تلجأ إلى التقطير، بما يتماشى مع جوهر الشعر، وبما لا يبهظه بالترهل، أو يصيبه بالعوار.
وهي تسعى إلى تسجيل كل ما يخطر لها، كأنها تصارع الوقت، وتكتب تاريخاً يخصها، تنزعه من بين فكي الزمان الهدام، متقمصة وظيفة الحكماء وهي تعيد تشكيله، وطرحه على الورق؛ لتطالعه مرة أخرى، ولكن من دون عناء، أو انقباض نفس في هذه المرة. فمثل هذه القصائد إذا وضعت تحت الضوء، قد تتاح لها، في الغالب، أن تعمر طويلاً أمام أدوات النقد.
في قصيدة «بنت تحمل كتاب الموتى»، ثمة تعبير قاسٍ عن الذات، مصارحة ضرورية، مراجعة الفجوات بين ما كان، وبين ما ينبغي أن يكون، محاولة الاقتراب من السامي، التوق إليه، والارتباط به، لكن يبدو أن تصاريف القدر لا تساعد على ذلك. تقول الشاعرة، بلا مبالاة:
«أدرك أنني أصف حياتي على نحو عادل؛/ أدفن وجهي تحت صفحة بيضاء/ وأدع كل امرأة ضجرة/ تطلب من رجلها أن يشتري لها هذه المأساة./ ذاكرتي السخيفة/ حملها ملاك إلى السماء في أجندة؛/ والرب يعيد قراءة ما أكتبه ويحاسبني أنا/ التي لا تُعدّل مطلقاً وضع حجر/ قذفته في القصيدة».
على هذا النحو، تمضي، كأنها تنسج سيرة ذاتية متخيلة لطفلة خائفة، ثم شابة تحمل كتاب الموتي. وتبحث عن الأساطير التي تركها الأجداد، ربما وجدت بين رموزها الملاذ: «ظلي/ أعزل ووحيد/ رغم هذا يمضي خلفي بثبات دائم بلا خوف؛/ أخشى أن ألتفت مرة فيطعنني.»
في قصيدة رائعة، لها عنوان موحٍ «ورشة لتقليم الذكريات»، عنوان يشي بالدافع الرئيس، على ما أعتقد، وراء هذا الديوان، تضعنا الشاعرة، عند خطوط التماس، مع أفكار الذات الشاعرة، إنها تصرح، بألم، وبصوت مخنوق بكثافة الرموز:
«لم أعد أقوى على اليأس،
أجدادي يتجولون في منتصف حياتي
بمنشة العناكب وسم الفئران،
يتحدثون عن حصتنا من الشمس والنيل والدعم…
وأبكي الرائحة المغرمة
التي يقطرون من أجلها أصيص صبار
يقف صفاً ثانياً على شرفة مغمورة بالياسمين،
هذا…
وقد أخبرتهم بعد أن أكل الملح رغيفي
أن المسافة بين نزيفي وولائي الأعمى
لا تتناسب مطلقاً مع حضن مفخخ بالطعنات».