أمر من الرجل قد وقع، وقضاء قد حم على رأس المرأة. وكأن الدهر أبى منذ الأزل إلا أن يقطع أسباب المودة والصفاء بين الرجال والنساء، فسخر من غلاظ القلب والجسد من كاد لهن وتربص بهن، وزعم متلطفاً أنهن شر لا مفر منه ولا غناء عنه، فأساء الرجل إلى جنسه، والى من خلقت من نفسه؛ فكان كمن ضل وأضل. إذ كيف جاز في شرعة الحق والرجولة أن يخلق هذا الإنسان الجبار عداوة بين الجنسين، أو في دنيا مخلوقين بديعين؟ ومذ بدرت من الطبائع بوادر الخصومة والخلاف هب نفر من الرجال، وقد حسبوا أنهم يحسنون صنعاً، فتنادوا إلى ملاحاة النساء والغض من حسناتهن، ليقال إن العالم يشقى بشرهن ويعيا بأمرهن. وأخذ المتنادون والأشياع يهتفون في كل جريمة وقعت أو خصومة قامت: فتش عن المرأة. ثم غدا الناقمون مباهين بعداوة النساء، فروعت بنات حواء وفزعن إلى أخواتهن متسائلات: - من الشاهر سيفه الكاشر عن أنيابه، الناشر لمخالبه، يريد بنا الأذى وينوي لنا الردى. . .؟
فقلن هذا (أرثور) زائغ الفكر والشعور، رفع صوته في الغرب، فثارت به المرأة تتمنى جلده وتحطيمه. وذلك (التنوخي) الضرير نفث نقمته في أرجاء الشرق، فودت له النساء كل شقاء وفناء. وخلف من بعد هذين الناقمين خلف ورثوا عنهما المكايد والضغائن وصار إليهم بحورة الماكرين. . .
وبعد فما لامرأة اليوم حيلة بالأعداء الغابرين، فقد ماتوا وخلوا للمشايعين تراث العداوة لها؟ وكانت تحسب أنها استراحت من الأعداء، فإذا هم اليوم خصوم ألداء وحقدة أشداء، يتداولون بينهم ذلك التراث البغيض. من هؤلاء الخصوم في ديار العرب توفيق بن سليمان الذي جد في عداوته للمرأة فطعن عليها، ورماها بكل نقيصة في كتبه ومقالاته. واليوم ظهر في جنبه بوادي النيل عدو جديد. على أن أكثر هؤلاء الأعداء من الكاتبين والفلاسفة والكبراء، ما شاع ذكرهم ولا ذاع صيتهم إلا حين تهجموا على النساء بالمثالب والتسفيه، فإذا بمطاعنهم تدور وتحور، ويتردد صداها في كل مكان، وينبسط مداها مع الزمان، ويقبل على بضاعتهم الشامتون بالمرأة والغاضبون عليها، فيشترون من تلك البضاعة المزجاة ويرتأون آراءهم الفائلة، وإذا بها ترن في المسامع وتطوف بالمجامع؛ فيهتف التاريخ بأسماء: شوبنهور ونيتشه والمعري وتوفيق الحكيم وغيرهم. . .
ومن عجب أن يجور هؤلاء الأعلام على النساء بما يخالف العرف وينافي الواقع، ليكتسبوا من هذه المناوأة والمكابرة شهرة جديدة وصيتاً بعيداً. وطالما جار الثالبون على أنفسهم فتعسفوا وتكفلوا وكان خبطهم خبط أعشى. أليس منا أمهاتهم وأخواتهم وخالاتهم وجداتهم، ولم لا أقول زوجاتهم وبناتهم؟ ثم أستغفر الله مما وزل به اللسان، فإن كفيف المعرة كف نفسه عن المرأة، ولعل له عذراً، فلو كان كحل عينيه بجمال الغيد ولم يكن دميما لاجتاحت قلبه واحدة من النساء غيرت معالم اللزوميات، فلم يطعن علينا فيها بالتائيات، ولما أدارها معنا وقيعة سجالا وحرباً عوانا؛ فإن في كل بيت منها لسيفاً وسنانا. ولقد بنى أبو العلاء صروح شعره على ذم المرأة وما دل عليها، وكان منها أو إليها، فالدنيا عنده أم دفر، وهو أبداً ينحت أثلتها ويبري عودها، معتقداً أن كل خطب فيها سببه المرأة؛ فهو هدام معطل، لو أوتي قوة شمشون وكان مسبل الشعور لدك بهن العالم وأقفر الوجود. ومن يدري فلعل شوبنهور أو نيتشه وسواهما من أعداء المرأة في الغرب والشرق إذ كرهوها وصفدوها، كانت وراء كل منهم امرأة أفسدت عليه نعيم الحياة، وسودت في عينيه بياض الدنيا؛ فحسب الغدر والكيد كله من شيم النساء. وإذا كان لهؤلاء الأعداء الغابرين معاذيرهم في الغضب على النساء وفي عهود كن مستضعفات، فأي عذر للناقمين منهن في عصرنا؟ وكأن هذه النقمة من أكابر الكاتبين في أيامنا خصومة بهم أو دلالة عليهم، فإذا ركد لهم صيت أو فتر من حولهم إعجاب هزوا لأنفسهم رياح الشهرة بمقال يرسلونه، أو رأي يقولونه، في شأن المرأة، فقذفوا بالباطل عليها، ودعوا الرجال إلى البطش بها، وعد الحقوق التي تطلبها ضرباً من الأوهام والأباطيل. من هؤلاء الأعداء المكابرين الكاتب المصري توفيق الحكيم الذي يجهر بعدائه للنساء في كل نهزة، ويسخر قلمه للسخر منهن ومن ثقافتهن. وما كان هذا منه إلا ألعوبة أدبية يلوح بها في وجوه الناس ليزيدهم لآثاره تقديراً وعليها إقبالاً. ولعلهم كانوا كذلك بادئ الرأي، أما وقد عرفوا أفانينه فإن توفيقاً أصبح لدى العارفين أديب تربص وانتهاز، فمنذ عهد قريب دعا قومه إلى تعدد الزوجات، وحين نشر الدكتور طه حسين كتابه الأخير (أحلام شهرزاد) ضاقت عين الحكيم عن تسريح النظر في هذه الأحلام التي صور فيها الأديب العميد (شهرزاد) في رداء من الحصافة والذكاء. ولما رآها مرت أمامه شهرزاد التي صورها خليعة ماجنة. ومن قبل نشر الأستاذ توفيق الحكيم فصولاً عرى فيها المرأة من مواهب الفن فزعم أنها لا تحسن إنشاء القصص التمثيلية ولا تستطيع أن تكون موسيقية تبتكر الألحان، وقد فاته من أدبنا القديم براعة المغنيات في عصر بني العباس، وفي العصر الحاضر من أهل اللحون نساء في المشارق والمغارب. أما الروايات التمثيلية فعهد العرب بها جديد، ولننتظر فإن الزمان لم ينفد أمده، وما زال الإنسان حياً، فإن في مأتى الدهر نجوماً ستنجم يكون بينها مؤلفات للمسرح وموسيقيات. ومن أعجب العجب أن تسكن عداوة الحكيم للنساء أشهراً لتكون وحياً جديداً للأستاذ عباس محمود العقاد، فقد نشر هذا الأديب العظيم مقالين زعم فيهما أن المرأة لا تجيد من الفنون غير فن الرواية، وكأن هذا الفن في نظره أهزولة هينة على كل كاتب، وقال إن المرأة ليست بشاعرة مبتكرة بل هي مقصرة ومكررة، لأن الشعر ابتكار واقتدار، وأنها لم تنبغ حتى فيما هو أقرب إليها وأحرى أن تتفوق به على الرجل وهو الرثاء، وإذا كانوا يضربون المثل بالخنساء فإنه ليس في ديوانها غير أبيات متفرقات في البكاء لا ترتقي إلى منزلة الشعر السيار، إذ كله تكرير لمعنى واحد، ولا يصح أن يقال إنه معنى من معاني القريحة والخيال. وقال العقاد أيضاً: إن التصوير كالتمثيل والمرأة فيه غير مبدعة. ولم تعرف نابغة فيه خلقت دوراً من محض خيالها وتفكيرها كما يتفق لنوابغ الممثلين من الرجال. وهكذا رأينا هذا الكاتب الكبير يجرد المرأة من مزايا الإبداع والإجادة حتى في صناعاتها الخاصة بها، كالطهي والوشي والزينة والخياطة؛ فزعم أن الرجل يبذها فيها وينافسها، ونحن نقول إن في عديد شاعرات الغرب قديماً وحديثاً، وفي شاعرات العرب اللواتي - روى شعرهن أبو تمام وأبو نواس، أو التي ينشرن القريض لغة الضاد أو بلغة الفرنسيين - ما ينقض رأي العقاد؛ وفي الأديبات المعاصرات من أحرزت جائزة نوبل التي ما أحسب الأستاذ العقاد يزهد فيها، وفي النساء ممثلات كساره برنارد وراشيل، ومصورات لا يحصى لهن تعداد، أليس فيما أشرت إليه حجة بالغة عليه؟ ونحن لم ننس بعد مرثيته لفقيدة الأدب في الشرق الآنسة (مي). فعداوة العقاد إذن كعداوة الحكيم وكلاهما أديب أعزب وعن النساء بمعزل، بل ما دار لدى الأول بين يديه في صحن داره كما يذكر هو في كتابه (عالم السدود والقيود) غير خادمه الساذج، وما وقفت في مطبخه طاهية ولا جارية، بل لم تخطر في فناء بيته وحجراته امرأة يدعوها بأم أولاده، والحكيم يعيش مفرداً متجافياً عن المرأة، وقد آثر مرة ألفة حمار كما قال عن نفسه في كتابه (حمار الحكيم). ويثور بالمرأة أديب آخر يمزح مزاحاً فيه حلاوة وفيه مرارة هو الأستاذ المازني الذي يتندر على المرأة ويستهزئ بها في كثير من قصصه ومقالاته، حتى أن زوجته وبناته لا يسلمن من أهكوماته وزرايته. وأحسب هذه الضروب من الأدب العابث بالنساء أصبح لدى معشر من أدباء العصر أفكوهة الفن وطرفة التجديد، وما المرأة في هذا الزمان إلا مستيقظة من سبات، ناهضة من خمول وهوان، فعلام يحول أدباؤنا دون تحريرها ورقيها، ويباهون بالعداوة لها وبالزراية عليها، وكان الأولى لهم أن يعالجوا مشاكلها ويتفقدوها في مجتمعاتهم، ويجعلوا منها شريكاً في حياة كاملة طيبة، وما بال هؤلاء الأعداء - وما جادت الأيام بأندادهم إلا على هامات العصور - يسخرون أقلامهم للهدم والتحطيم، وقد شرفها الله فأقسم بها وما كان مدادها إلا ليشرق من سواده نور الحق والخير على بياض الأوراق؟ ليتهم سخروها لرعاية المرأة ورفعتها، ولسوف تأتي الأجيال القابلة فينظر أهلوها في آثار هؤلاء الناقمين على النساء، فيرون أن بعضهم كانوا لاهين مباهين بأدب لحمته وهم وخيال وسداه زهو وتحريف، ينتزعوه أحياناً من الأساطير ويرددونه في الأدب الحديث باسم الفن والتجديد لقوم حرام عليهم اللهو والهزل والدنيا جادة في اقتحام الأمجاد وبناء الأجيال، وهكذا نراهم غير جادين في آرائهم أو مخلصين لدعواهم، ولو كانوا يريدون بالنساء خيراً ونفعاً لأنشأوا لهن أدباً يبصرهن ويعصمهن ويجمع قواهن في قوة الرجال فما ينبغي أن يتخلفن عن مسايرتهم في ركب الحياة
يقول الراسخون في العلم والنافذون بأبصارهم إلى عالم الغيب: إن في حياة كل أديب امرأة كان لها تأثير في توجيهه ونبوغه، وهذا ما ردده توفيق الحكيم منذ سنتين: (فمن أفواهكم ندينكم) يا أعداء المرأة؛ لولا نساء أظلمت عليكم قلوبهن فلم تدخلوها لما كانت عداوتكم، وإذا دعوتم إلى تحقير المرأة والبطش بها فإن وراء دعوتكم تشفياً وانتقاماً، فقد يكون الدهر إبتلاكم بأهواء الحسان، أو بلوتم زيوف النساء فتجافيتم عن الخوالص الصحاح
ثم ابحثوا أيها المنصفون تاريخ السرائر والنفوس، فلن تجدوا منذ حواء واحدة من النساء قد نصبت نفسها لعداوة الرجال، ولو بحثتم عن أعداء النساء منذ آدم لوجدتم فيهم الكثير، فخلوا عنكم أيها الأعداء، وحسبكم تسفيهاً للمرأة وتجريحاً، وعلام هذه البغيضة منكم والقطيعة، فما العمر مديداً حتى يحتمل فيه الكدر والخصام، ولا فيه صفاء يدوم لإنسان.
(دمشق)
وداد سكاكيني
مجلة الرسالة - العدد 532
بتاريخ: 13 - 09 - 1943
فقلن هذا (أرثور) زائغ الفكر والشعور، رفع صوته في الغرب، فثارت به المرأة تتمنى جلده وتحطيمه. وذلك (التنوخي) الضرير نفث نقمته في أرجاء الشرق، فودت له النساء كل شقاء وفناء. وخلف من بعد هذين الناقمين خلف ورثوا عنهما المكايد والضغائن وصار إليهم بحورة الماكرين. . .
وبعد فما لامرأة اليوم حيلة بالأعداء الغابرين، فقد ماتوا وخلوا للمشايعين تراث العداوة لها؟ وكانت تحسب أنها استراحت من الأعداء، فإذا هم اليوم خصوم ألداء وحقدة أشداء، يتداولون بينهم ذلك التراث البغيض. من هؤلاء الخصوم في ديار العرب توفيق بن سليمان الذي جد في عداوته للمرأة فطعن عليها، ورماها بكل نقيصة في كتبه ومقالاته. واليوم ظهر في جنبه بوادي النيل عدو جديد. على أن أكثر هؤلاء الأعداء من الكاتبين والفلاسفة والكبراء، ما شاع ذكرهم ولا ذاع صيتهم إلا حين تهجموا على النساء بالمثالب والتسفيه، فإذا بمطاعنهم تدور وتحور، ويتردد صداها في كل مكان، وينبسط مداها مع الزمان، ويقبل على بضاعتهم الشامتون بالمرأة والغاضبون عليها، فيشترون من تلك البضاعة المزجاة ويرتأون آراءهم الفائلة، وإذا بها ترن في المسامع وتطوف بالمجامع؛ فيهتف التاريخ بأسماء: شوبنهور ونيتشه والمعري وتوفيق الحكيم وغيرهم. . .
ومن عجب أن يجور هؤلاء الأعلام على النساء بما يخالف العرف وينافي الواقع، ليكتسبوا من هذه المناوأة والمكابرة شهرة جديدة وصيتاً بعيداً. وطالما جار الثالبون على أنفسهم فتعسفوا وتكفلوا وكان خبطهم خبط أعشى. أليس منا أمهاتهم وأخواتهم وخالاتهم وجداتهم، ولم لا أقول زوجاتهم وبناتهم؟ ثم أستغفر الله مما وزل به اللسان، فإن كفيف المعرة كف نفسه عن المرأة، ولعل له عذراً، فلو كان كحل عينيه بجمال الغيد ولم يكن دميما لاجتاحت قلبه واحدة من النساء غيرت معالم اللزوميات، فلم يطعن علينا فيها بالتائيات، ولما أدارها معنا وقيعة سجالا وحرباً عوانا؛ فإن في كل بيت منها لسيفاً وسنانا. ولقد بنى أبو العلاء صروح شعره على ذم المرأة وما دل عليها، وكان منها أو إليها، فالدنيا عنده أم دفر، وهو أبداً ينحت أثلتها ويبري عودها، معتقداً أن كل خطب فيها سببه المرأة؛ فهو هدام معطل، لو أوتي قوة شمشون وكان مسبل الشعور لدك بهن العالم وأقفر الوجود. ومن يدري فلعل شوبنهور أو نيتشه وسواهما من أعداء المرأة في الغرب والشرق إذ كرهوها وصفدوها، كانت وراء كل منهم امرأة أفسدت عليه نعيم الحياة، وسودت في عينيه بياض الدنيا؛ فحسب الغدر والكيد كله من شيم النساء. وإذا كان لهؤلاء الأعداء الغابرين معاذيرهم في الغضب على النساء وفي عهود كن مستضعفات، فأي عذر للناقمين منهن في عصرنا؟ وكأن هذه النقمة من أكابر الكاتبين في أيامنا خصومة بهم أو دلالة عليهم، فإذا ركد لهم صيت أو فتر من حولهم إعجاب هزوا لأنفسهم رياح الشهرة بمقال يرسلونه، أو رأي يقولونه، في شأن المرأة، فقذفوا بالباطل عليها، ودعوا الرجال إلى البطش بها، وعد الحقوق التي تطلبها ضرباً من الأوهام والأباطيل. من هؤلاء الأعداء المكابرين الكاتب المصري توفيق الحكيم الذي يجهر بعدائه للنساء في كل نهزة، ويسخر قلمه للسخر منهن ومن ثقافتهن. وما كان هذا منه إلا ألعوبة أدبية يلوح بها في وجوه الناس ليزيدهم لآثاره تقديراً وعليها إقبالاً. ولعلهم كانوا كذلك بادئ الرأي، أما وقد عرفوا أفانينه فإن توفيقاً أصبح لدى العارفين أديب تربص وانتهاز، فمنذ عهد قريب دعا قومه إلى تعدد الزوجات، وحين نشر الدكتور طه حسين كتابه الأخير (أحلام شهرزاد) ضاقت عين الحكيم عن تسريح النظر في هذه الأحلام التي صور فيها الأديب العميد (شهرزاد) في رداء من الحصافة والذكاء. ولما رآها مرت أمامه شهرزاد التي صورها خليعة ماجنة. ومن قبل نشر الأستاذ توفيق الحكيم فصولاً عرى فيها المرأة من مواهب الفن فزعم أنها لا تحسن إنشاء القصص التمثيلية ولا تستطيع أن تكون موسيقية تبتكر الألحان، وقد فاته من أدبنا القديم براعة المغنيات في عصر بني العباس، وفي العصر الحاضر من أهل اللحون نساء في المشارق والمغارب. أما الروايات التمثيلية فعهد العرب بها جديد، ولننتظر فإن الزمان لم ينفد أمده، وما زال الإنسان حياً، فإن في مأتى الدهر نجوماً ستنجم يكون بينها مؤلفات للمسرح وموسيقيات. ومن أعجب العجب أن تسكن عداوة الحكيم للنساء أشهراً لتكون وحياً جديداً للأستاذ عباس محمود العقاد، فقد نشر هذا الأديب العظيم مقالين زعم فيهما أن المرأة لا تجيد من الفنون غير فن الرواية، وكأن هذا الفن في نظره أهزولة هينة على كل كاتب، وقال إن المرأة ليست بشاعرة مبتكرة بل هي مقصرة ومكررة، لأن الشعر ابتكار واقتدار، وأنها لم تنبغ حتى فيما هو أقرب إليها وأحرى أن تتفوق به على الرجل وهو الرثاء، وإذا كانوا يضربون المثل بالخنساء فإنه ليس في ديوانها غير أبيات متفرقات في البكاء لا ترتقي إلى منزلة الشعر السيار، إذ كله تكرير لمعنى واحد، ولا يصح أن يقال إنه معنى من معاني القريحة والخيال. وقال العقاد أيضاً: إن التصوير كالتمثيل والمرأة فيه غير مبدعة. ولم تعرف نابغة فيه خلقت دوراً من محض خيالها وتفكيرها كما يتفق لنوابغ الممثلين من الرجال. وهكذا رأينا هذا الكاتب الكبير يجرد المرأة من مزايا الإبداع والإجادة حتى في صناعاتها الخاصة بها، كالطهي والوشي والزينة والخياطة؛ فزعم أن الرجل يبذها فيها وينافسها، ونحن نقول إن في عديد شاعرات الغرب قديماً وحديثاً، وفي شاعرات العرب اللواتي - روى شعرهن أبو تمام وأبو نواس، أو التي ينشرن القريض لغة الضاد أو بلغة الفرنسيين - ما ينقض رأي العقاد؛ وفي الأديبات المعاصرات من أحرزت جائزة نوبل التي ما أحسب الأستاذ العقاد يزهد فيها، وفي النساء ممثلات كساره برنارد وراشيل، ومصورات لا يحصى لهن تعداد، أليس فيما أشرت إليه حجة بالغة عليه؟ ونحن لم ننس بعد مرثيته لفقيدة الأدب في الشرق الآنسة (مي). فعداوة العقاد إذن كعداوة الحكيم وكلاهما أديب أعزب وعن النساء بمعزل، بل ما دار لدى الأول بين يديه في صحن داره كما يذكر هو في كتابه (عالم السدود والقيود) غير خادمه الساذج، وما وقفت في مطبخه طاهية ولا جارية، بل لم تخطر في فناء بيته وحجراته امرأة يدعوها بأم أولاده، والحكيم يعيش مفرداً متجافياً عن المرأة، وقد آثر مرة ألفة حمار كما قال عن نفسه في كتابه (حمار الحكيم). ويثور بالمرأة أديب آخر يمزح مزاحاً فيه حلاوة وفيه مرارة هو الأستاذ المازني الذي يتندر على المرأة ويستهزئ بها في كثير من قصصه ومقالاته، حتى أن زوجته وبناته لا يسلمن من أهكوماته وزرايته. وأحسب هذه الضروب من الأدب العابث بالنساء أصبح لدى معشر من أدباء العصر أفكوهة الفن وطرفة التجديد، وما المرأة في هذا الزمان إلا مستيقظة من سبات، ناهضة من خمول وهوان، فعلام يحول أدباؤنا دون تحريرها ورقيها، ويباهون بالعداوة لها وبالزراية عليها، وكان الأولى لهم أن يعالجوا مشاكلها ويتفقدوها في مجتمعاتهم، ويجعلوا منها شريكاً في حياة كاملة طيبة، وما بال هؤلاء الأعداء - وما جادت الأيام بأندادهم إلا على هامات العصور - يسخرون أقلامهم للهدم والتحطيم، وقد شرفها الله فأقسم بها وما كان مدادها إلا ليشرق من سواده نور الحق والخير على بياض الأوراق؟ ليتهم سخروها لرعاية المرأة ورفعتها، ولسوف تأتي الأجيال القابلة فينظر أهلوها في آثار هؤلاء الناقمين على النساء، فيرون أن بعضهم كانوا لاهين مباهين بأدب لحمته وهم وخيال وسداه زهو وتحريف، ينتزعوه أحياناً من الأساطير ويرددونه في الأدب الحديث باسم الفن والتجديد لقوم حرام عليهم اللهو والهزل والدنيا جادة في اقتحام الأمجاد وبناء الأجيال، وهكذا نراهم غير جادين في آرائهم أو مخلصين لدعواهم، ولو كانوا يريدون بالنساء خيراً ونفعاً لأنشأوا لهن أدباً يبصرهن ويعصمهن ويجمع قواهن في قوة الرجال فما ينبغي أن يتخلفن عن مسايرتهم في ركب الحياة
يقول الراسخون في العلم والنافذون بأبصارهم إلى عالم الغيب: إن في حياة كل أديب امرأة كان لها تأثير في توجيهه ونبوغه، وهذا ما ردده توفيق الحكيم منذ سنتين: (فمن أفواهكم ندينكم) يا أعداء المرأة؛ لولا نساء أظلمت عليكم قلوبهن فلم تدخلوها لما كانت عداوتكم، وإذا دعوتم إلى تحقير المرأة والبطش بها فإن وراء دعوتكم تشفياً وانتقاماً، فقد يكون الدهر إبتلاكم بأهواء الحسان، أو بلوتم زيوف النساء فتجافيتم عن الخوالص الصحاح
ثم ابحثوا أيها المنصفون تاريخ السرائر والنفوس، فلن تجدوا منذ حواء واحدة من النساء قد نصبت نفسها لعداوة الرجال، ولو بحثتم عن أعداء النساء منذ آدم لوجدتم فيهم الكثير، فخلوا عنكم أيها الأعداء، وحسبكم تسفيهاً للمرأة وتجريحاً، وعلام هذه البغيضة منكم والقطيعة، فما العمر مديداً حتى يحتمل فيه الكدر والخصام، ولا فيه صفاء يدوم لإنسان.
(دمشق)
وداد سكاكيني
مجلة الرسالة - العدد 532
بتاريخ: 13 - 09 - 1943