نشأت في بيت أكثر ما فيه الكتب، فقد كان أبي المرحوم أحمد تيمور ولوعًا بجمع ما تمخضت عنه القرائح العربية في كل علم وفن، ولا يكاد يدع منها مطبوعًا أو مخطوطًا في الشرق والغرب.. ولعله كان بالمخطوطات أشد ولعًا وحرصه على اقتنائها أبعد مدى...
ومرت الأيام تباعًا، والخزانة التيمورية - التي تحتل الآن مكانا كريما من دار الكتب المصرية - تكبر وأنا أكبر معها، وأزداد من تقدير لها... وكان أبي ينفق أطيب وقته بين حجراتها، ويرصد أعظم جهده في سبيلها، حتى لقد خيل لي وهو يتنقل بين أصونتها ورفوفها - أنه قد غدا فيها كتابا حيا ينطق بما بين دفتيه! ولما اشتد عودي، وأحسنت القراءة والكتابة، ألفيت أبي يهدي إليّ مجلدًا ضخمًا من كتاب "ألف ليلة وليلة" في طبعة مهذبة محلاة بالتصاوير، فما هي إلا أن أقبلت على الكتاب، أسبح فيما حوى من حكايات شائقة، وكنت أجمع من يرغب في الاستماع من عشيرة البيت، فأعيد عليهم تلاوة ما قرأت...
ولعل السر في إعجابي بـ ألف ليلة وليلة" في تلك المرحلة من حياتي هو مشابهتها "للحواديت" وهي القصص الخرافية التي استمعنا إليها من العجائز، يسامرننا بها في عهد الطفولةرالأولى، فكأنما كنت بقراءة "ألف يلة وليلة" استعيد سذاجة ذلك العهد المحبب الأنيس، وما بنا إلا من يشعر بحنين إلى بواكير أيامه وهو حديث عهد بالحياة...
مع الأبطال في مغامرات الحياة
لم يكن كل ما يعجبنا في "الف ليلة وليلة" مجرد شبهها بالقصص البطولية الساذجة، فقد راقنا منها مع ذلك اتساع الخيال، وخلابة الأحداث وطرافة الصور، والجو الشرقي الساحر الذي يمت إلى نفوسنا بأوثق الأسباب،ذلك الجو الحافل بالمغامرات التي تهفو نفوسنا إلى مزاولتها، نشرك الأبطال فيما يقومون به من أعمال، وما يخوضون من أخطار.. نرتفع مع "الرخ" إلى السمةات العلا، ثم نهبط من وادي "الثعابين" إلى "مغارة الموتى".. وإذا نحن ننفذ منها إلى "مدينة النحاس" نهيم في صمتها الرهيب، ثم لا نلبث أن نثوب إلى الأهل والأحباب محملين بالذهب والفضة، محلين باللآليء واليواقيت!..
الموهبة.. وعناصر الخلق
لا ريب أن في "ألف ليلة وليلة" مما يذكي في نفس القارئ موهبة التخيل، ويعده بعناصر الخلق القصصي.. ولم يكن عبثًا أن يقول "فولتير" أنه قرأ "ألف ليلة وليلة" مرات قبل أن يجري قلمة بكتابة قصة، وأنه تمنى أن يفقد ذاكرته ليستطيع أن يقراها من جديد بمثل اللذة التي قرأها بها أول مرة!
لقد آثار كتاب "ألف ليلة وليلة" ميلي إلى قراءة أمثاله، فأمدتني مكتبة أبي بما أطمح إليه.. وأذكر أنه كان فيما قرأت يومئذ من كتاب الأسعار ونوادر الإخباريين كتاب "أعلام الناس بما وقع للبرامكة مع بني العباس"، وكتاب "نفحة اليمن بما يزيل الهم والشجن" وغيرهما من النظائر والأشباه..
وامتدت عيني إلى ما تحويه خزانة أبي من روايات عصرية مترجمة، فوجدتني أجنح إلى إيثار "القصص البوليسي"، أعني قصص الحيلة والجريمة، فأذكر منها الآن روايات "نقولا كارتر"، و"شرلوك هولمز"، و"سنكار"، ففتنت أيما فتنة بما يبديه الأبطال من ذكاء وسعة خاطر وحضور بديهة، وقدرة بارعة على التخلص من المأزق.. كذلك أعجبت بما تدير القصص من مفاجآت مثيرة تملك على القارئ انتباهه، وتحمله على متابعة القراءة في شوق موصول...
فشلت باكورتي القصصية الأولى
في صيف من الأصياف، وأنا مغمور بما قرأت، وما وعيت، من هذا اللون القصصي الغربي، سافرنا إلى الضيعة في الريف، والحياة هناك هادئة يتسع فيها وقت الفراغ والجو هنا مهيأ للتأمل والانطلاق في آفاق الخيال...
فألفيتني أخلو إلى نفسي، وأغلق الباب دوني، وأجلس إلى أوراقي وأقلامي أدبج قصة هندية الأحداث، بطلها ضابط إنجليزي يجني على فتاة وطنية، فينبري أهلوها يثأرون لها وينتقمون ممن أساء إليها.
وجعلت للقصة عنوانا عظيما هو: "الشرف الرفيع" وما فاتني أن أرصع القصة ببيت المتنبي: "وحتى لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم"
ولما أتممت تحبير القصة، هرعت بها إلى أبي ورجوت منه أن يبعث بها إلى إحدى الصحف لكي تنشرها باسمي، فألقى أبي على القصة نظرة خاطفة، ثم ابتسم لي، وربت على كتفي، وقال:
- حسنًا ما كتبت، وسأنظر فيما رغبت فيه من نشر القصة..
وانقضت أيام، وأنا أرقب ظهور القصة العظيمة وطال ارتقابي، حتى ألهتني الشواغل.. وبعد حين صادفت باكورتي القصصية مسجاة في زاوية من مكتب أبي تشكو الصد والإعراض... فأدركني عليها الشفاق، وهممت أن أتناولها، ولكن اكباري لأبي منعني أن أفعل، فانتظرت حتى لقيته وفاتحته في الأمر، فطلب أن أعاود تجربة الكتابة مرة أخرى، لعلي أبلغ من التوفيق ما لم يتح لي في التجربة الأولى!
وإذا كان أبي صاحب الفضل الأول في إذكاء موهبتي الكتابية بما يسر لي من المطالعة في صباي الباكر، فإن الذي بعثني على أن أكتب في جد وتصميم هو شقيقي المرحوم محمد تيمور، إذ وجه موهبتي توجيها استفاد من ثقافته وخبرته وذوقه، وكان يومئذ قد عاد من فرنسا بعد أن قضى ثلاث سنوات يتزود من الأدب العصري الأوربي ما طاب له أن يتزود...
الهبوط من سماء الخيال المجنح
في البداية، كنت إذا تحرك قلمي على الورق ألفيتني أوثر ذلك اللون الذي كان يسمى حيئنذ، و"الشعر المنثور"، أبث كلماته ما يضطرم به وجداني من عواطف ومشاعر وخطرات، ولم يكن ذلك الشعر يخلو من وشائج هي في باب القصة أدخل منها في باب المقال..
على أني كنت في هذا الاتجاه متأثرًا - لاشك - بما توهج في أفقنا لذلك العهد من لوامع أدب المهجر بأقلام "جبران، و"الريحاني" و"نعيمة"، ومن إليهم ممن فرقوا - إلى العربية أدبا عاطفيا إنسانيا جديد الروح..
وفي ذلك الوقت كنت أستنير بهدی شقیقي، فنصح لي فيما نصح بأن أطالع "حديث عيسى بن هشام" للأديب العربي الصميم محمد المويلحي، وقصة "زينب" للكاتب الاجتماعي المفكر محمد حسين هيكل، فلمحت فيها مسحة تختلف عن الأدب "الرومانسي" الذي كنت غارقا فيه.. مسحة تهبط بالقارئ من سماء الخيال المجنح حيث يعيش الناس كالملائكة فوق الضباب، إلى الأرض التي ندب فيها، فنرى الناس من حولنا بشرا مثلنا على فطرتهم التي خلقوا عليها.
مشاهد الحياة ولوامع الأفكار
ولم تقف مطالعتي عند الأدب العربي قديمة وحديثه، ما أُلِّف فيه وما تُرجم إليه فقد كانت معرفتي بالإنجليزية والفرنسية قد نمت نموا يمكنني من أن أقرأ الأدب الغربي في هاتين اللغتين..وأرشدني شقيقي إلى قراءة ما كتب "موباسان" الفرنسي و"تشيخوف" الروسي في مجموعاتهم القصصية، فقرأت لهما أوقل عببت من أقاصيصهما عبا.
ويبدو لي أن تأثري بما قرأت من أدب اللغتين الفرنسية والإنجليزية قد أغضب عليّ شيطان "الشعر المنثور" وهو يتخلى عني.. وجرى قلمي بقصة قصيرة هي "الشيخ جمعة"، وعلى إثرها كتبت قصة أخرى هي "يحفظ بشباك البريد" وقد أتيح لها أن تترجم بعد ذلك بسنتين إلى الإنجليزية في كتاب يضم نخبة من القصص في مختلف بلاد العالم، ولعلها كانت طليعة ما ترجم من الأدب المصري العصري إلى لغة أجنبية..
وفجعني القدر في شقيقي محمد تيمور سنة 1921 وهو من شبابه في عنفوان، وحوله هالة من الأماني تتألق، ولا تعرف مصيرها من بعده، أتخبو بموته، أم تتاح لها حياة وبقاء؟.. دارت عجلة الحياة تدفع بي في طريقها المعدود فأخذت جراح الفجيعة تندمل وإن كانت الذاكرة باقية بقاء الروح في الجسد الحي..
ووجدتني أنشط لبعض العمل، فلملمت ما تشعث من قواي وخطوت على الدرب في تؤدة وحذر، مهتديا بهدى شقيقي الراحل، وما أن أقبل عام 1925 حتى كان قد تجمع عندي ما يصح إخراجه في مجموعة قصصية، فسارعت إلى طبع كتابي الأول "الشيخ جمعة وقصص أخرى"، وأتبعته بكتابي الثاني "عم متولي".. وإذا أنا الزم نفسي التجرد للكتابة لا أكاد أنتهي من مجموعة حتى أكون قد نسجت الخيوط لمجموعة أخرى.. وتراءت لي مشاهد الحياة، وشخصيات الناس، وأحداث المجتمع، ولوامع الأفكار، كأنما هي بضاعة قابلة للعرض في مخيلتي الفنية داخل الإطار القصصي، أو كأنها هي ألواح محشوة أمام عيني، وعلى أن أنتقي منها ما أنقله في حروف وكلمات..
بعد مجموعتي القصصية الأولى توالت خطواتي على الطريق، حتى أخرجت من كتبي القصصية ما يبلغ الخمسين، منها ما ترجم إلى لغات شرقية، ومنها ما ترجم إلى لغات عربية.
ومرت الأيام تباعًا، والخزانة التيمورية - التي تحتل الآن مكانا كريما من دار الكتب المصرية - تكبر وأنا أكبر معها، وأزداد من تقدير لها... وكان أبي ينفق أطيب وقته بين حجراتها، ويرصد أعظم جهده في سبيلها، حتى لقد خيل لي وهو يتنقل بين أصونتها ورفوفها - أنه قد غدا فيها كتابا حيا ينطق بما بين دفتيه! ولما اشتد عودي، وأحسنت القراءة والكتابة، ألفيت أبي يهدي إليّ مجلدًا ضخمًا من كتاب "ألف ليلة وليلة" في طبعة مهذبة محلاة بالتصاوير، فما هي إلا أن أقبلت على الكتاب، أسبح فيما حوى من حكايات شائقة، وكنت أجمع من يرغب في الاستماع من عشيرة البيت، فأعيد عليهم تلاوة ما قرأت...
ولعل السر في إعجابي بـ ألف ليلة وليلة" في تلك المرحلة من حياتي هو مشابهتها "للحواديت" وهي القصص الخرافية التي استمعنا إليها من العجائز، يسامرننا بها في عهد الطفولةرالأولى، فكأنما كنت بقراءة "ألف يلة وليلة" استعيد سذاجة ذلك العهد المحبب الأنيس، وما بنا إلا من يشعر بحنين إلى بواكير أيامه وهو حديث عهد بالحياة...
مع الأبطال في مغامرات الحياة
لم يكن كل ما يعجبنا في "الف ليلة وليلة" مجرد شبهها بالقصص البطولية الساذجة، فقد راقنا منها مع ذلك اتساع الخيال، وخلابة الأحداث وطرافة الصور، والجو الشرقي الساحر الذي يمت إلى نفوسنا بأوثق الأسباب،ذلك الجو الحافل بالمغامرات التي تهفو نفوسنا إلى مزاولتها، نشرك الأبطال فيما يقومون به من أعمال، وما يخوضون من أخطار.. نرتفع مع "الرخ" إلى السمةات العلا، ثم نهبط من وادي "الثعابين" إلى "مغارة الموتى".. وإذا نحن ننفذ منها إلى "مدينة النحاس" نهيم في صمتها الرهيب، ثم لا نلبث أن نثوب إلى الأهل والأحباب محملين بالذهب والفضة، محلين باللآليء واليواقيت!..
الموهبة.. وعناصر الخلق
لا ريب أن في "ألف ليلة وليلة" مما يذكي في نفس القارئ موهبة التخيل، ويعده بعناصر الخلق القصصي.. ولم يكن عبثًا أن يقول "فولتير" أنه قرأ "ألف ليلة وليلة" مرات قبل أن يجري قلمة بكتابة قصة، وأنه تمنى أن يفقد ذاكرته ليستطيع أن يقراها من جديد بمثل اللذة التي قرأها بها أول مرة!
لقد آثار كتاب "ألف ليلة وليلة" ميلي إلى قراءة أمثاله، فأمدتني مكتبة أبي بما أطمح إليه.. وأذكر أنه كان فيما قرأت يومئذ من كتاب الأسعار ونوادر الإخباريين كتاب "أعلام الناس بما وقع للبرامكة مع بني العباس"، وكتاب "نفحة اليمن بما يزيل الهم والشجن" وغيرهما من النظائر والأشباه..
وامتدت عيني إلى ما تحويه خزانة أبي من روايات عصرية مترجمة، فوجدتني أجنح إلى إيثار "القصص البوليسي"، أعني قصص الحيلة والجريمة، فأذكر منها الآن روايات "نقولا كارتر"، و"شرلوك هولمز"، و"سنكار"، ففتنت أيما فتنة بما يبديه الأبطال من ذكاء وسعة خاطر وحضور بديهة، وقدرة بارعة على التخلص من المأزق.. كذلك أعجبت بما تدير القصص من مفاجآت مثيرة تملك على القارئ انتباهه، وتحمله على متابعة القراءة في شوق موصول...
فشلت باكورتي القصصية الأولى
في صيف من الأصياف، وأنا مغمور بما قرأت، وما وعيت، من هذا اللون القصصي الغربي، سافرنا إلى الضيعة في الريف، والحياة هناك هادئة يتسع فيها وقت الفراغ والجو هنا مهيأ للتأمل والانطلاق في آفاق الخيال...
فألفيتني أخلو إلى نفسي، وأغلق الباب دوني، وأجلس إلى أوراقي وأقلامي أدبج قصة هندية الأحداث، بطلها ضابط إنجليزي يجني على فتاة وطنية، فينبري أهلوها يثأرون لها وينتقمون ممن أساء إليها.
وجعلت للقصة عنوانا عظيما هو: "الشرف الرفيع" وما فاتني أن أرصع القصة ببيت المتنبي: "وحتى لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم"
ولما أتممت تحبير القصة، هرعت بها إلى أبي ورجوت منه أن يبعث بها إلى إحدى الصحف لكي تنشرها باسمي، فألقى أبي على القصة نظرة خاطفة، ثم ابتسم لي، وربت على كتفي، وقال:
- حسنًا ما كتبت، وسأنظر فيما رغبت فيه من نشر القصة..
وانقضت أيام، وأنا أرقب ظهور القصة العظيمة وطال ارتقابي، حتى ألهتني الشواغل.. وبعد حين صادفت باكورتي القصصية مسجاة في زاوية من مكتب أبي تشكو الصد والإعراض... فأدركني عليها الشفاق، وهممت أن أتناولها، ولكن اكباري لأبي منعني أن أفعل، فانتظرت حتى لقيته وفاتحته في الأمر، فطلب أن أعاود تجربة الكتابة مرة أخرى، لعلي أبلغ من التوفيق ما لم يتح لي في التجربة الأولى!
وإذا كان أبي صاحب الفضل الأول في إذكاء موهبتي الكتابية بما يسر لي من المطالعة في صباي الباكر، فإن الذي بعثني على أن أكتب في جد وتصميم هو شقيقي المرحوم محمد تيمور، إذ وجه موهبتي توجيها استفاد من ثقافته وخبرته وذوقه، وكان يومئذ قد عاد من فرنسا بعد أن قضى ثلاث سنوات يتزود من الأدب العصري الأوربي ما طاب له أن يتزود...
الهبوط من سماء الخيال المجنح
في البداية، كنت إذا تحرك قلمي على الورق ألفيتني أوثر ذلك اللون الذي كان يسمى حيئنذ، و"الشعر المنثور"، أبث كلماته ما يضطرم به وجداني من عواطف ومشاعر وخطرات، ولم يكن ذلك الشعر يخلو من وشائج هي في باب القصة أدخل منها في باب المقال..
على أني كنت في هذا الاتجاه متأثرًا - لاشك - بما توهج في أفقنا لذلك العهد من لوامع أدب المهجر بأقلام "جبران، و"الريحاني" و"نعيمة"، ومن إليهم ممن فرقوا - إلى العربية أدبا عاطفيا إنسانيا جديد الروح..
وفي ذلك الوقت كنت أستنير بهدی شقیقي، فنصح لي فيما نصح بأن أطالع "حديث عيسى بن هشام" للأديب العربي الصميم محمد المويلحي، وقصة "زينب" للكاتب الاجتماعي المفكر محمد حسين هيكل، فلمحت فيها مسحة تختلف عن الأدب "الرومانسي" الذي كنت غارقا فيه.. مسحة تهبط بالقارئ من سماء الخيال المجنح حيث يعيش الناس كالملائكة فوق الضباب، إلى الأرض التي ندب فيها، فنرى الناس من حولنا بشرا مثلنا على فطرتهم التي خلقوا عليها.
مشاهد الحياة ولوامع الأفكار
ولم تقف مطالعتي عند الأدب العربي قديمة وحديثه، ما أُلِّف فيه وما تُرجم إليه فقد كانت معرفتي بالإنجليزية والفرنسية قد نمت نموا يمكنني من أن أقرأ الأدب الغربي في هاتين اللغتين..وأرشدني شقيقي إلى قراءة ما كتب "موباسان" الفرنسي و"تشيخوف" الروسي في مجموعاتهم القصصية، فقرأت لهما أوقل عببت من أقاصيصهما عبا.
ويبدو لي أن تأثري بما قرأت من أدب اللغتين الفرنسية والإنجليزية قد أغضب عليّ شيطان "الشعر المنثور" وهو يتخلى عني.. وجرى قلمي بقصة قصيرة هي "الشيخ جمعة"، وعلى إثرها كتبت قصة أخرى هي "يحفظ بشباك البريد" وقد أتيح لها أن تترجم بعد ذلك بسنتين إلى الإنجليزية في كتاب يضم نخبة من القصص في مختلف بلاد العالم، ولعلها كانت طليعة ما ترجم من الأدب المصري العصري إلى لغة أجنبية..
وفجعني القدر في شقيقي محمد تيمور سنة 1921 وهو من شبابه في عنفوان، وحوله هالة من الأماني تتألق، ولا تعرف مصيرها من بعده، أتخبو بموته، أم تتاح لها حياة وبقاء؟.. دارت عجلة الحياة تدفع بي في طريقها المعدود فأخذت جراح الفجيعة تندمل وإن كانت الذاكرة باقية بقاء الروح في الجسد الحي..
ووجدتني أنشط لبعض العمل، فلملمت ما تشعث من قواي وخطوت على الدرب في تؤدة وحذر، مهتديا بهدى شقيقي الراحل، وما أن أقبل عام 1925 حتى كان قد تجمع عندي ما يصح إخراجه في مجموعة قصصية، فسارعت إلى طبع كتابي الأول "الشيخ جمعة وقصص أخرى"، وأتبعته بكتابي الثاني "عم متولي".. وإذا أنا الزم نفسي التجرد للكتابة لا أكاد أنتهي من مجموعة حتى أكون قد نسجت الخيوط لمجموعة أخرى.. وتراءت لي مشاهد الحياة، وشخصيات الناس، وأحداث المجتمع، ولوامع الأفكار، كأنما هي بضاعة قابلة للعرض في مخيلتي الفنية داخل الإطار القصصي، أو كأنها هي ألواح محشوة أمام عيني، وعلى أن أنتقي منها ما أنقله في حروف وكلمات..
بعد مجموعتي القصصية الأولى توالت خطواتي على الطريق، حتى أخرجت من كتبي القصصية ما يبلغ الخمسين، منها ما ترجم إلى لغات شرقية، ومنها ما ترجم إلى لغات عربية.