«نجيب محفوظ» غواص فى بحر الناس
- خالط المصريين على اخـتلاف فـئاتـهم
- «مري مون» بطل روايته مثال لحياته «كالتاريخ يفتح
أُذنيه لكل قائل ولا ينحاز لأحد»
- «بداية ونهاية» بدأت كفكرة كوميدية في ذهنه
وانتهت بمأساة نتيجة موضوعيته
اعتدنا واعتادت جماهير القراء أن يُطلق عليه لقب «الأستاذ»، فالكلمة إن أُطلقت في عالم الأدب صارت مرادفا لاسمه في الحال.. نجيب محفوظ.. هو الأستاذ بلا منازع، في سماء الكتابة هاديًا ومعلما للكُتاب، وفي دنيا القراءة مُحلقا بملايين البشر، في أجواء الإمتاع والأفكار والسحر.
لكننا هنا في ذكرى رحيله في الثلاثين من أغسطس عام 2006، نسعى إلى استعادة أستاذيته في جانب آخر منها، هو الحياة ومحبتها، وكيف عاش «الأستاذ» حياة بسيطة طبيعية، صادقة دون زيف أو أقنعة، دون افتعالٍ أو تعالٍ، دون انتفاخ أو عزلة أو كذب، رغم أنه النجم اللامع الذي أنار طريق البشر، الجاد المجد المجتهد، «النجيب المحفوظ» داخل أعماق القلوب، لكنه لم يختلف، إنما عاش حياته كما أحب، خالط الناس على اختلاف فئاتهم وطبقاتهم، ذاب فيهم ووسطهم كملح الأرض، فانعكس ذلك كله في كتابته وأدبه؛ واقعيةً وعمقًا، تشويقًا وصدقًا.
الحكاية بدأت منذ النشأة؛ حكاية محبة الناس والأماكن والطرقات، علمته إياها دون قصد أو تخطيط أمه، فاطمة؛ السيدة الأمية التي لم تكن تقرأ أو تكتب، لكنه رآها على حد وصفه «مخزنا للثقافة الشعبية»، كثيرا ما اصطحبته في طفولته لزيارة سيدنا الحسين والمتحف المصري ودير مار جرجس!.
كل هذا التنوع والانفتاح والمحبة، خط ملامح العتبة الأولى في شخصية وحياة نجيب محفوظ، حتى صار يشعر بنشوة غريبة أشبه بنشوة العشاق، كلما سار في حي الحسين، مسقط رأسه ومحل نشأته، إلى درجة الإحساس بالحنين إليه حد الألم، كما قال الأستاذ بنفسه للكاتب الراحل رجاء النقاش، في كتاب «نجيب محفوظ.. صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته»، لكن ألم الحنين لم يهدأ داخله إلا بالكتابة عن الحي، الذي سكن وجدانه، منذ الميلاد إلى الممات.
الكتابة قرينة الفضول والشغف، لصيقة التطلع للرؤية والتجربة، الفهم والمعرفة، مما يقترن في أحيان كثيرة بـ «الشقاوة!»، التي يصف الأستاذ نفسه بها في مرحلة الطفولة، فيكشف أن والدته كانت تحرص على بقائه في البيت خشية أن يتوه في منطقة الجمالية الأشبه ببيت جحا، من حيث ضيق شوارعها وتعقيدها، لكنها تسمح له أحيانا باللعب أمام البيت مع أبناء الجيران، ولم تضربه في حياتها.. إلا مرة واحدة!.
يحكي هو القصة بنفسه، ونستطيع الآن تخيل ضحكة الأستاذ خلال حكيه لرجاء النقاش؛ تلك الضحكة الشقية البريئة براءة الأطفال، التي لازمته طوال عمره.
يقول: «ذات يوم كنت ألعب مع خادمتنا الصغيرة «زكية» وأحضرت شفرة حلاقة، وأقنعتها ببراءة الأطفال أنني طبيب، وأستطيع أن أجري لها عملية جراحية في يدها، وصدقتني، وأعطتني ذراعها، فجرحتها. ولما رأت «زكية» منظر الدم صرخت، وجاءت أمي فزعة، وصفعتني على وجهي وتوعدتني بقطع يدي بالشفرة، وعند سماعي هذا التهديد شعرتُ بالرعب وهربت منها».
كبر الطفل نجيب، وعاش الحياة كما هي، فكتب عنها كما عرفها، من عالمه، وواقعه. واستمد من الوظيفة الحكومية «مادة إنسانية عظيمة»، كما يقول، ونماذج بشرية كانت غائبة عن حياته لم يعرفها من قبل. لم يكتب يومًا عن شيء لا يعرفه، لذا غابت حياة الريف والصعيد عن رواياته، فهو لم يزر الريف إلا مرة واحدة، لم يتعمق خلالها بالطبع في حياة الفلاحين وتفاصيلها، أما الصعيد فلم يذهب إليه أبدا في حياته كلها، بفعل الكسل ليس أكثر، فكيف يكتب عما لم يسبر غوره ويدرك حقيقته؟!.
ويكاد يكون من المستحيل الإلمام بالشخصيات الحقيقية التي اختار «نجيب» أن يعبر عنها بالأدب، أو الأحداث الواقعية التي كانت تدفعه في لحظة ما إلى اتخاذ قرار الكتابة بناء عليها، لكن الحقيقة ظلت دوما هي المحرك الرئيسي في الإبداع المحفوظي، دون أن يعني هذا بحال من الأحوال نقلها كما هي، بل إن الدوافع الأولى لكتابة أعمال بعينها ربما كانت متناقضة مع ما انتهى إليه العمل، إذ تجول الواقعة الحقيقية في جنبات حدائق الإبداع، ثم تلقي نفسها في غمار نهر الخيال، تسبح فيه، تنغمس داخله، فيصل مسار النهر أحيانا إلى مصب مغاير تمام المغايرة لدوافع الكتابة الأولى.
ومن الأمثلة على ذلك، رواية «بداية ونهاية»، بدأت في ذهن الأستاذ كفكرة كوميدية وإذا بها تنتهي بمأساة!..كيف؟.. السؤال يطرحه الكاتب أحمد فضل شبلول على الأستاذ نجيب في روايته «الليلة الأخيرة في حياة نجيب محفوظ»، التي تدور في إطار خيالي، لكن بالاستناد إلى لقاءاته وحواراته، ومراجع عن أدبه وحياته.
يجيب الأستاذ: «كان هناك مجموعة من الناس كنت أبغضهم، هم أبطال القصة، عرفتهم في صباي، وكانوا مجردين من الحياء، ويستولون على مصروفي، مستغلين بؤسهم، أو يحتالون عليَّ بشتى الطرق لأدفع لهم ثمن تذكرة الترام. كنت أعلم أنهم يستغلون عاطفتي للاستحواذ عليَّ وعلى مالي القليل، ولذلك فكرت في كتابة قصة كوميدية أسخر منهم، وأكشف عن روحهم الاستغلالية التي تبرر نفسها بالفقر، ولكن عندما بدأتُ الكتابة أعملتُ عقلي، وبدأتُ أنظر إليهم بأكثر من زاوية، وكانت النتيجة أن كتبتُ مأساة، ومعنى هذا أن النظرة الموضوعية تقضي حتى على الميول الشخصية».
ما أعظمك من رجل.. ما أرجحك من عقل، يستبصر الحكمة دون انفعال، يحركه في كتابته الحقيقة والضمير، له هدف ورؤية دوما بالفن، فهو لا يهذي أو يثرثر، ولذلك بدأ الاتجاه إلى كتابة الرواية الواقعية، في توقيت لم يعبأ فيه بالهجوم الشديد ضدها، من جانب الكاتبة الإنجليزية فرجينيا وولف، التي يتم اعتبارها إحدى أيقونات الأدب العالمي، وقيامها بالتبشير بـ «تيار الوعي»، والكتابات التي كثيرا ما تأتي ملغزة، عصية على الفهم، تحركها اضطرابات نفسية لدى الكاتب أكثر مما تسبقها فكرة عميقة أو رؤية واضحة.. لكن نجيب محفوظ شيء آخر تماما، نسيج وحده.
رجل أحب الناس، وكتب منهم ولهم، فأحبوه وصدقوه، ورفعوه إلى عنان السماء كما يستحق، لأنه ارتبط دوما بالأرض، يجلس في المقهى، يتمشى في الطرقات، يصافح الناس، يعشق السينما، ويلعب كرة القدم!.
في لقاء تليفزيوني، يشرح نجيب محفوظ نظام حياته الذي اضطر إليه ولم يختره، فيرسم دون أن يشعر ملامح صورة «أستاذيته» في الحياة كلها، مما يصلح درسا وعلامة لمختلف الفئات والأجيال، من القراء وغير القراء على السواء، فالدرس إنساني، صالح للتطبيق في كل مجال، لا مجال الكتابة فحسب.
يقول: «يعاب عليَ أحيانا أنني منظم في حياتي، باعتبار أن الفنان لا يمكن أن يكون هكذا، إنما فوضوي وثائر، لكن الحقيقة أنني فُرض عليَّ التنظيم بسبب تعدد هواياتي، منذ أن كنتُ طالبا، فقد كان لا بد من أن أنجح في دراستي، لأن ظروف حياتي لا تسمح لي بالسقوط، وفي الوقت نفسه فإنني كنت لاعب كرة، فيجب أن ألعب، وأحب السينما، فيجب أن أذهب يوم الخميس إليها، وأحب أن أستمع إلى أم كلثوم، فيجب أن أسمعها.. فكيف يمكن الجمع بين كل هذا؟».
يجيب الأستاذ بنفسه عن سؤاله بكلمة واحدة هي: «التنظيم»، بأن يمنح كل شيء وقتا محددا، لأنه إن كان قد وضع مسألة الوقت خلف ظهره ولم يهتم بها، لأصبح شيئا واحدا فقط مما سبق؛ لاعب كرة لكن فاشل في دراسته، أو موظف لكن... أو أو... وهكذا.
وتتواصل، وتتزايد، أهمية التنظيم في حياة نجيب محفوظ، كما يقول، بعد أن صار موظفا، إذ أصبح كل المتاح لديه من اليوم كي يفعل ما يحب هو فترة ما بعد دوام العمل؛ «بعد الظهر، فإما أن أنظمها لأكتب أو.. راحت»، خصوصا أنه لم ينقطع عن محبة الثقافة والقراءة طوال عمره؛ «فالتنظيم فُرض عليَّ فرضا، لأجل حياتي الأدبية».
ويتذكر الأستاذ لحظات كان يفيق فيها من نومه الساعة الثالثة صباحا، شاعرا وقتها بأنه يتمنى أن يكتب، لكنه يعلم ضرورة أن يستيقظ في موعد محدد في الصباح كي يذهب إلى عمله في وزارة الأوقاف، لأجل التوقيع بالحضور وبدء العمل، فكان يتخلى عن نشوة الكتابة ويؤجلها، لينام!.
وبالتالي؛ كان حتميا أن تصبح الكتابة لديه بين الساعة الرابعة والسابعة فقط، وبالتعود «بقت تيجي»، وتأتي معها النشوة المصاحبة للكتابة، فعندما يقوم المرء بتعويد نفسه على تناول طعام الغداء الساعة الثانية ظهرا مثلا، سوف يجد نفسه في الثانية إلا الربع، كما يقول، «حيموت من الجوع».
ويحسم الأمر قائلا إنه لم يحدث أبدا أن جلس للكتابة يوما دون رغبة، لكن ما حدث هو أن الرغبة قد دخلت في إطار التنظيم، فصارت تأتي في وقتها المحدد.. ويوجه لمحاوره سؤاله، «لزمته» لتأكيد الفكرة، قائلا: «مش واخد بالك؟».
«وُلِدت الرغبة في أعقاب نظرة مفعمة بالإثارة، والسفينة تشق طريقها ضد التيار الهادئ القوي في أواخر فصل الفيضان»، إنه السطر الأول في رواية «العائش في الحقيقة»، التي سعى بطلها الشاب المعذب «مري مون» إلى معرفة حقيقة «أمنحتب الرابع»؛ أحد ملوك الأسرة الثامنة عشرة المعروف باسم «إخناتون»، في الحقبة التالية لسقوطه، بعد اختلاف وتعدد الآراء حوله وثورته الدينية، بين مؤيد ومعارض.
أراد «مري مون» أن يعرف الحكاية من وجهات نظر مختلفة، سعى إلى إدراك الحقيقة، ليعيش فيها. وكذلك كان نجيب محفوظ، وكانت حياته، سعيا دائما متواصلا ممتدا، بحثا عن الحقيقة، دون انحيازات سياسية كاذبة، أو انشغال بصراعات فارغة، إنما كان انحيازه الثابت إلى الإنسان؛ سعادته وحريته وتقدمه.
اختار محفوظ سبيله بنفسه، وكان أقرب ما يكون إلى بطله، «مري مون»، الذي كتب عنه في روايته: «اخترتَ سبيلك بنفسك يا مري مون، فاذهب في رعاية الآلهة، أجدادك ذهبوا للحرب أو السياسة أو التجارة، أما أنت فتريد الحقيقة، وكلٌّ على قدر هِمَّته، ولكن احذر أن تَستفزَّ صاحبَ سلطان أو تَشمت بساقط في النسيان، كُن كالتاريخ يفتح أُذنيه لكل قائل ولا ينحاز لأحد، ثم يُسلِّم الحقيقة ناصعةً هِبةً للمُتأمِّلين».
وقد تسلمنا الحقيقة والصدق والعمق بالفعل، ميراثا عن الأستاذ، النجيب المحفوظ، المتربع على عرش العقول والقلوب، وها نحن نحاول جاهدين أن نفتح خزائن التركة في ذكرى رحيله، نتلمس الخطى، لعلنا ندرك معالم طريقنا، نحو ميلاد جديد لنا.
الأهرام.. ملحق الجمعة
- خالط المصريين على اخـتلاف فـئاتـهم
- «مري مون» بطل روايته مثال لحياته «كالتاريخ يفتح
أُذنيه لكل قائل ولا ينحاز لأحد»
- «بداية ونهاية» بدأت كفكرة كوميدية في ذهنه
وانتهت بمأساة نتيجة موضوعيته
اعتدنا واعتادت جماهير القراء أن يُطلق عليه لقب «الأستاذ»، فالكلمة إن أُطلقت في عالم الأدب صارت مرادفا لاسمه في الحال.. نجيب محفوظ.. هو الأستاذ بلا منازع، في سماء الكتابة هاديًا ومعلما للكُتاب، وفي دنيا القراءة مُحلقا بملايين البشر، في أجواء الإمتاع والأفكار والسحر.
لكننا هنا في ذكرى رحيله في الثلاثين من أغسطس عام 2006، نسعى إلى استعادة أستاذيته في جانب آخر منها، هو الحياة ومحبتها، وكيف عاش «الأستاذ» حياة بسيطة طبيعية، صادقة دون زيف أو أقنعة، دون افتعالٍ أو تعالٍ، دون انتفاخ أو عزلة أو كذب، رغم أنه النجم اللامع الذي أنار طريق البشر، الجاد المجد المجتهد، «النجيب المحفوظ» داخل أعماق القلوب، لكنه لم يختلف، إنما عاش حياته كما أحب، خالط الناس على اختلاف فئاتهم وطبقاتهم، ذاب فيهم ووسطهم كملح الأرض، فانعكس ذلك كله في كتابته وأدبه؛ واقعيةً وعمقًا، تشويقًا وصدقًا.
الحكاية بدأت منذ النشأة؛ حكاية محبة الناس والأماكن والطرقات، علمته إياها دون قصد أو تخطيط أمه، فاطمة؛ السيدة الأمية التي لم تكن تقرأ أو تكتب، لكنه رآها على حد وصفه «مخزنا للثقافة الشعبية»، كثيرا ما اصطحبته في طفولته لزيارة سيدنا الحسين والمتحف المصري ودير مار جرجس!.
كل هذا التنوع والانفتاح والمحبة، خط ملامح العتبة الأولى في شخصية وحياة نجيب محفوظ، حتى صار يشعر بنشوة غريبة أشبه بنشوة العشاق، كلما سار في حي الحسين، مسقط رأسه ومحل نشأته، إلى درجة الإحساس بالحنين إليه حد الألم، كما قال الأستاذ بنفسه للكاتب الراحل رجاء النقاش، في كتاب «نجيب محفوظ.. صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته»، لكن ألم الحنين لم يهدأ داخله إلا بالكتابة عن الحي، الذي سكن وجدانه، منذ الميلاد إلى الممات.
الكتابة قرينة الفضول والشغف، لصيقة التطلع للرؤية والتجربة، الفهم والمعرفة، مما يقترن في أحيان كثيرة بـ «الشقاوة!»، التي يصف الأستاذ نفسه بها في مرحلة الطفولة، فيكشف أن والدته كانت تحرص على بقائه في البيت خشية أن يتوه في منطقة الجمالية الأشبه ببيت جحا، من حيث ضيق شوارعها وتعقيدها، لكنها تسمح له أحيانا باللعب أمام البيت مع أبناء الجيران، ولم تضربه في حياتها.. إلا مرة واحدة!.
يحكي هو القصة بنفسه، ونستطيع الآن تخيل ضحكة الأستاذ خلال حكيه لرجاء النقاش؛ تلك الضحكة الشقية البريئة براءة الأطفال، التي لازمته طوال عمره.
يقول: «ذات يوم كنت ألعب مع خادمتنا الصغيرة «زكية» وأحضرت شفرة حلاقة، وأقنعتها ببراءة الأطفال أنني طبيب، وأستطيع أن أجري لها عملية جراحية في يدها، وصدقتني، وأعطتني ذراعها، فجرحتها. ولما رأت «زكية» منظر الدم صرخت، وجاءت أمي فزعة، وصفعتني على وجهي وتوعدتني بقطع يدي بالشفرة، وعند سماعي هذا التهديد شعرتُ بالرعب وهربت منها».
كبر الطفل نجيب، وعاش الحياة كما هي، فكتب عنها كما عرفها، من عالمه، وواقعه. واستمد من الوظيفة الحكومية «مادة إنسانية عظيمة»، كما يقول، ونماذج بشرية كانت غائبة عن حياته لم يعرفها من قبل. لم يكتب يومًا عن شيء لا يعرفه، لذا غابت حياة الريف والصعيد عن رواياته، فهو لم يزر الريف إلا مرة واحدة، لم يتعمق خلالها بالطبع في حياة الفلاحين وتفاصيلها، أما الصعيد فلم يذهب إليه أبدا في حياته كلها، بفعل الكسل ليس أكثر، فكيف يكتب عما لم يسبر غوره ويدرك حقيقته؟!.
ويكاد يكون من المستحيل الإلمام بالشخصيات الحقيقية التي اختار «نجيب» أن يعبر عنها بالأدب، أو الأحداث الواقعية التي كانت تدفعه في لحظة ما إلى اتخاذ قرار الكتابة بناء عليها، لكن الحقيقة ظلت دوما هي المحرك الرئيسي في الإبداع المحفوظي، دون أن يعني هذا بحال من الأحوال نقلها كما هي، بل إن الدوافع الأولى لكتابة أعمال بعينها ربما كانت متناقضة مع ما انتهى إليه العمل، إذ تجول الواقعة الحقيقية في جنبات حدائق الإبداع، ثم تلقي نفسها في غمار نهر الخيال، تسبح فيه، تنغمس داخله، فيصل مسار النهر أحيانا إلى مصب مغاير تمام المغايرة لدوافع الكتابة الأولى.
ومن الأمثلة على ذلك، رواية «بداية ونهاية»، بدأت في ذهن الأستاذ كفكرة كوميدية وإذا بها تنتهي بمأساة!..كيف؟.. السؤال يطرحه الكاتب أحمد فضل شبلول على الأستاذ نجيب في روايته «الليلة الأخيرة في حياة نجيب محفوظ»، التي تدور في إطار خيالي، لكن بالاستناد إلى لقاءاته وحواراته، ومراجع عن أدبه وحياته.
يجيب الأستاذ: «كان هناك مجموعة من الناس كنت أبغضهم، هم أبطال القصة، عرفتهم في صباي، وكانوا مجردين من الحياء، ويستولون على مصروفي، مستغلين بؤسهم، أو يحتالون عليَّ بشتى الطرق لأدفع لهم ثمن تذكرة الترام. كنت أعلم أنهم يستغلون عاطفتي للاستحواذ عليَّ وعلى مالي القليل، ولذلك فكرت في كتابة قصة كوميدية أسخر منهم، وأكشف عن روحهم الاستغلالية التي تبرر نفسها بالفقر، ولكن عندما بدأتُ الكتابة أعملتُ عقلي، وبدأتُ أنظر إليهم بأكثر من زاوية، وكانت النتيجة أن كتبتُ مأساة، ومعنى هذا أن النظرة الموضوعية تقضي حتى على الميول الشخصية».
ما أعظمك من رجل.. ما أرجحك من عقل، يستبصر الحكمة دون انفعال، يحركه في كتابته الحقيقة والضمير، له هدف ورؤية دوما بالفن، فهو لا يهذي أو يثرثر، ولذلك بدأ الاتجاه إلى كتابة الرواية الواقعية، في توقيت لم يعبأ فيه بالهجوم الشديد ضدها، من جانب الكاتبة الإنجليزية فرجينيا وولف، التي يتم اعتبارها إحدى أيقونات الأدب العالمي، وقيامها بالتبشير بـ «تيار الوعي»، والكتابات التي كثيرا ما تأتي ملغزة، عصية على الفهم، تحركها اضطرابات نفسية لدى الكاتب أكثر مما تسبقها فكرة عميقة أو رؤية واضحة.. لكن نجيب محفوظ شيء آخر تماما، نسيج وحده.
رجل أحب الناس، وكتب منهم ولهم، فأحبوه وصدقوه، ورفعوه إلى عنان السماء كما يستحق، لأنه ارتبط دوما بالأرض، يجلس في المقهى، يتمشى في الطرقات، يصافح الناس، يعشق السينما، ويلعب كرة القدم!.
في لقاء تليفزيوني، يشرح نجيب محفوظ نظام حياته الذي اضطر إليه ولم يختره، فيرسم دون أن يشعر ملامح صورة «أستاذيته» في الحياة كلها، مما يصلح درسا وعلامة لمختلف الفئات والأجيال، من القراء وغير القراء على السواء، فالدرس إنساني، صالح للتطبيق في كل مجال، لا مجال الكتابة فحسب.
يقول: «يعاب عليَ أحيانا أنني منظم في حياتي، باعتبار أن الفنان لا يمكن أن يكون هكذا، إنما فوضوي وثائر، لكن الحقيقة أنني فُرض عليَّ التنظيم بسبب تعدد هواياتي، منذ أن كنتُ طالبا، فقد كان لا بد من أن أنجح في دراستي، لأن ظروف حياتي لا تسمح لي بالسقوط، وفي الوقت نفسه فإنني كنت لاعب كرة، فيجب أن ألعب، وأحب السينما، فيجب أن أذهب يوم الخميس إليها، وأحب أن أستمع إلى أم كلثوم، فيجب أن أسمعها.. فكيف يمكن الجمع بين كل هذا؟».
يجيب الأستاذ بنفسه عن سؤاله بكلمة واحدة هي: «التنظيم»، بأن يمنح كل شيء وقتا محددا، لأنه إن كان قد وضع مسألة الوقت خلف ظهره ولم يهتم بها، لأصبح شيئا واحدا فقط مما سبق؛ لاعب كرة لكن فاشل في دراسته، أو موظف لكن... أو أو... وهكذا.
وتتواصل، وتتزايد، أهمية التنظيم في حياة نجيب محفوظ، كما يقول، بعد أن صار موظفا، إذ أصبح كل المتاح لديه من اليوم كي يفعل ما يحب هو فترة ما بعد دوام العمل؛ «بعد الظهر، فإما أن أنظمها لأكتب أو.. راحت»، خصوصا أنه لم ينقطع عن محبة الثقافة والقراءة طوال عمره؛ «فالتنظيم فُرض عليَّ فرضا، لأجل حياتي الأدبية».
ويتذكر الأستاذ لحظات كان يفيق فيها من نومه الساعة الثالثة صباحا، شاعرا وقتها بأنه يتمنى أن يكتب، لكنه يعلم ضرورة أن يستيقظ في موعد محدد في الصباح كي يذهب إلى عمله في وزارة الأوقاف، لأجل التوقيع بالحضور وبدء العمل، فكان يتخلى عن نشوة الكتابة ويؤجلها، لينام!.
وبالتالي؛ كان حتميا أن تصبح الكتابة لديه بين الساعة الرابعة والسابعة فقط، وبالتعود «بقت تيجي»، وتأتي معها النشوة المصاحبة للكتابة، فعندما يقوم المرء بتعويد نفسه على تناول طعام الغداء الساعة الثانية ظهرا مثلا، سوف يجد نفسه في الثانية إلا الربع، كما يقول، «حيموت من الجوع».
ويحسم الأمر قائلا إنه لم يحدث أبدا أن جلس للكتابة يوما دون رغبة، لكن ما حدث هو أن الرغبة قد دخلت في إطار التنظيم، فصارت تأتي في وقتها المحدد.. ويوجه لمحاوره سؤاله، «لزمته» لتأكيد الفكرة، قائلا: «مش واخد بالك؟».
«وُلِدت الرغبة في أعقاب نظرة مفعمة بالإثارة، والسفينة تشق طريقها ضد التيار الهادئ القوي في أواخر فصل الفيضان»، إنه السطر الأول في رواية «العائش في الحقيقة»، التي سعى بطلها الشاب المعذب «مري مون» إلى معرفة حقيقة «أمنحتب الرابع»؛ أحد ملوك الأسرة الثامنة عشرة المعروف باسم «إخناتون»، في الحقبة التالية لسقوطه، بعد اختلاف وتعدد الآراء حوله وثورته الدينية، بين مؤيد ومعارض.
أراد «مري مون» أن يعرف الحكاية من وجهات نظر مختلفة، سعى إلى إدراك الحقيقة، ليعيش فيها. وكذلك كان نجيب محفوظ، وكانت حياته، سعيا دائما متواصلا ممتدا، بحثا عن الحقيقة، دون انحيازات سياسية كاذبة، أو انشغال بصراعات فارغة، إنما كان انحيازه الثابت إلى الإنسان؛ سعادته وحريته وتقدمه.
اختار محفوظ سبيله بنفسه، وكان أقرب ما يكون إلى بطله، «مري مون»، الذي كتب عنه في روايته: «اخترتَ سبيلك بنفسك يا مري مون، فاذهب في رعاية الآلهة، أجدادك ذهبوا للحرب أو السياسة أو التجارة، أما أنت فتريد الحقيقة، وكلٌّ على قدر هِمَّته، ولكن احذر أن تَستفزَّ صاحبَ سلطان أو تَشمت بساقط في النسيان، كُن كالتاريخ يفتح أُذنيه لكل قائل ولا ينحاز لأحد، ثم يُسلِّم الحقيقة ناصعةً هِبةً للمُتأمِّلين».
وقد تسلمنا الحقيقة والصدق والعمق بالفعل، ميراثا عن الأستاذ، النجيب المحفوظ، المتربع على عرش العقول والقلوب، وها نحن نحاول جاهدين أن نفتح خزائن التركة في ذكرى رحيله، نتلمس الخطى، لعلنا ندرك معالم طريقنا، نحو ميلاد جديد لنا.
الأهرام.. ملحق الجمعة