إذا كان المعيار في الشعر على رأي المعاصرين يكمن من خلال تأثيره على المتلقي، لما يثيره من عاطفة متوهجة وصدق عميق، فإنّ الشعر الذي تناول قضية الإمام الحسين عليه السلام يقف في الذروة من ذلك الشعر العاطفي الصادق، حيث دخلت هذه الأشعار في الذاكرة الشعبية، وارتبطت بالوشائج القلبية والفكرية للجماهير، فكانت هذه الحماسة المبثوثة في الشعر الحسيني مبعث غيظ الظالمين والفاسدين والمنحرفين والطغاة. يقول أحمد أمين: (وكانت هذه القصائد الباكية .. صدىً للدماء المسفوحة، والجثث المطروحة، وكانت ذكراها تبعث في كل جيل حزناً، فيبعث الحزن أدباً..) [1]
جرياً على النهج التقليدي للشعراء العرب في استهلال قصائدهم بالوقوف عند الأطلال والرسوم واستدعاء المكان الذي له عبق الماضي، يطل علينا مظفر النواب بقصيدته (الوقوف بين السماوات ورأس الإمام الحسين) من خلال استدعاء (مكة) وما تحمله من رمزية لها دلالاتها في التاريخ العربي، وإسقاط هذه الرمزية على شخصية الإمام الحسين كامتداد لرسالة جده الرسول عليه الصلاة والسلام، حيث لا يحتاج مثل الحسين لبيان رسمي لرسالته فيكفيه أنه حفيد الرسول وتضمخت حياته بأريج النبوة وعبق الوحي، يتمثل الشاعر نفسه وهو يقف أمام ضريح الحسين:
فضةٌ
مِن صلاةٍ
تعمُّ الدخولْ
والحمائمُ أسرابُ نورٍ
تلوذُ بريحانةٍ
أترعتها ينابيعُ مكةَ
أعذبَ ما تستطيعُ
ولستُ أبالغُ
أنك وحيٌ
تأخّر
بعد الرسولْ.
وبلغة صوفية شفافة يحلق الشاعر عالياً في لحظة تجلي مع الروح، حيث ضريح المعشوق له تلك السلطة الروحية، فما بالك بهيبة المعشوق نفسه، ذلك المعشوق الذي غمره جده الرسول وأمه البتول بحنانٍ نادر:
ومن المسكِ للروحِ أجنحةٌ وفضاءٌ
كأني أعلو
ويجذبُني أنْ ترابُك هيهات يُعلى عليه
وبعض الترابِ سماءٌ
تنيرُ العقولْ
ليس ذا ذهباً ما أقبّلُ
بل حيثُ قبّل جدّك
من وجنتيكَ
ودرَّ حليب البتولْ.
وإذ يقف الشاعر في محراب معشوقه الإمام الحسين، يستعيد أجواء كربلاء، حيث قعقعة السيوف وصهيل الخيول، والخُطب والحماسة والظمأ والقتل، ولكنه يرى من شباك الضريح أنّ الحسين لم يقتل، فها هو حي يرزق يطوف بهالة من النور حول أرجاء الضريح، وحين يذهل الشاعر من هذا الموقف، يتذكر أنّ الحسين ليس كأي فرد في الأمة فهو ابن فاطمة وعلي، وفخامة الاسم والنسب تكفي عن الشرح:
لم يزل هِمماً للقتالِ
تُرابُك
أسمعُ هولَ السيوفِ
ووهجَ ضماك ينيرُ الضريحَ
ويوشكُ قفلُ ضريحكَ
أن يتبلج عنك
أراكَ بكلِّ المرايا
على صهوةٍ من ضياءٍ
وتخرج منها.
فأذهل أنك أكثر منا حياةً
ألست الحسينَ بنَ فاطمة وعليْ
لماذا الذهول؟
لا شك أنّ موقف الإمام الحسين الرجولي والبطولي في ذلك اليوم العاشورائي، كان درسا بليغاً لكل المناضلين والأحرار وهم يحثون الخطى في درب الحرية، حيث يستلهم الشاعر ذلك الموقف، وتلك الشهادة رغم مأساتها ووجعها فهي شهادة متميزة وفريدة، فشهادة بطعم شهادة الحسين لهي الفخر مهما كانت تداعياتها وآثارها، وإذا كان الحسين وحيداً في ذلك الموقف فها هو اليوم قد صار أمة:
تعلمتُ منك ثباتي
وقوةَ حُزني وحيداً
فكم كنت يومَ الطفوف وحيداً
ولم يكُ أشمخَ منكَ
وأنت تدوسُ عليك الخيولْ.
ويستمر الشاعر في منولوجه وهو يستدعي أجواء المأساة الدامية، حيث مشهد رأس الإمام الحسين المحزوز، وحرق الخيام، وهو مشهد أقرح الجفون وأدمى العيون، فبكى من في السماء كما بكى من في الأرض:
من بعيدٍ رأيتَ
ورأسُك كان يُحزُّ
حريقَ الخيامِ
فأسبلتَ جفنيكَ فوق الحريقِ حَناناً
بكى اللهُ فيك بصمتٍ
وتم الكتابُ
فدمعك كان ختام النـزولْ.
ويعود الشاعر ثانية لاستدعاء ثنائية الموت/الحياة، فالإمام الحسين بموقفه الشامخ يكون قد استعصى على الموت، وإذ خذله من خذله وبقي وحيداً يجود بنفسه، فها هو الدهر قد بايعه، فصار من الخالدين، وصار مشروع شهادة يتجدد في كل زمان ومكان، أليس حري بجنة الله أن يكون سيدها الحسين؟ وأن تكون هي الساعية إليه لا هو إليها، وهذه مفارقة قلما وجدناها عند شاعر آخر غير النواب:
وبايعك الدهرُ
وارتابَ في نفسه الموتُ
مما يراكَ
بكل شهيدٍ.
فأين تُرى جنةٌ
لتوازن هذا مقامَك؟
هل كنتَ تسعى إليها
حثيثَ الخطى،
أم تُرى جنة الله
كانت تريد إليك الوصول؟
من أخطر ما يفتك بالأمة ويضعفها ويشتت شملها، هو ذلك الخطاب الطائفي المتعالي والمتعجرف الذي يصدر من هذا الطرف أو ذاك، فينتصر كل فريق لطائفته ومذهبه من دون تبصّر ولا روية، فأين موقع الحسين من ذلك الخطاب الطائفي؟ نقرأ ما بين سطور القصيدة أنّ الشاعر أراد للأمة أن تستثمر رمزية الحسين للنهوض والانبعاث لا التقوقع والخمود والخمول، فالحسين للجميع وهو أكبر من الطائفة أو الطائفية:
وعاشت ذئابٌ من الطائفية
تفتك بالناس.
ما أنت طائفةٌ
إنما أمةٌ للنهوضِ.
تواجه ما سوف يأتي
إذ الشرُ يعلنُ دولته بالطبولْ.
ما زال الشاعر في مناجاته يقف أمام ضريح الحسين، وإذ يصبّر نفسه عن البكاء لأن الحسين أسمى وأرقى من ذلك رغم عظم المأساة وهول الفاجعة، إلا أنّ دموعه قد سبقته ليس من أجل الحسين فحسب، بل لأنّ قضية الحسين تتكرر في القضية الفلس ــ طينية، فخانها من خانها وتاجر باسمها من تاجر، وكأنّ التاريخ يعيد نفسه ولكن بصورة أخرى .. ويبقى العراق حديث الساعة ويوسف زمانه حين تكالب عليه الأشقاء:
لستُ أبكي
فإنك تأبى بكاء الرجالِ
ولكن ذرفتني أمام الضريح عيوني
يُطافُ برأسك فوق الرماحِ…
ورأس فلسطين أيضاً يُطافُ به...
في بلاد العروبةِ
يا للمروءةِ
والعبقرية بالجُبن…
أما العراقُ… فيُنسى لأنّ ضريحك
عاصمةُ الله فيه.
وجودُ بنيه، أقلُّ من الجود والروح
جودٌ خجولْ.
يلتحق الشاعر بقافلة الحسين، ليكون من أنصاره ليسجل له موقفاً ضد الظلم والانحراف والعبودية، فموقف الحسين في كربلاء تخطى الزمان والمكان وصار ملهماً للثوار وعشاق المبادئ والقيم والمُثل العُليا في العالم، والتحاق الشاعر بقافلة الحسين وإن كان مجازياً فقد تعرض بسببه كما يقول إلى سهام النقد المغرضة، .. يستدعي الشاعر ثنائية الحسين/العراق ، حيث يعاني كلاهما لموقف الاستفراد والخذلان:
ها أنا عُرضةٌ للسهامِ
التحاقاً بموقفك الفذّ
يوم ترجّلت… بين الرماحِ
كأنك أنت الذي فوقَ خيول الزمان
فما وقفةُ العز يوم الطفوف مِنَ الأمس؟
بل للزمان جميعاً.
وهذا العراقُ… وقد رجلتهُ جيوش الحصارِ
وحيداً يصولْ.
وهكذا نجد أنّ الشاعر مظفر النواب يحلّق في مناجاته للإمام الحسين، فيسمو بروحه إلى عالم الأرواح الشفافة، فيلتقي بالإمام الحسين ويراه ويحدثه، ويلتحق بموقفه ليستمد منه الإباء والثبات والمقاومة.
جرياً على النهج التقليدي للشعراء العرب في استهلال قصائدهم بالوقوف عند الأطلال والرسوم واستدعاء المكان الذي له عبق الماضي، يطل علينا مظفر النواب بقصيدته (الوقوف بين السماوات ورأس الإمام الحسين) من خلال استدعاء (مكة) وما تحمله من رمزية لها دلالاتها في التاريخ العربي، وإسقاط هذه الرمزية على شخصية الإمام الحسين كامتداد لرسالة جده الرسول عليه الصلاة والسلام، حيث لا يحتاج مثل الحسين لبيان رسمي لرسالته فيكفيه أنه حفيد الرسول وتضمخت حياته بأريج النبوة وعبق الوحي، يتمثل الشاعر نفسه وهو يقف أمام ضريح الحسين:
فضةٌ
مِن صلاةٍ
تعمُّ الدخولْ
والحمائمُ أسرابُ نورٍ
تلوذُ بريحانةٍ
أترعتها ينابيعُ مكةَ
أعذبَ ما تستطيعُ
ولستُ أبالغُ
أنك وحيٌ
تأخّر
بعد الرسولْ.
وبلغة صوفية شفافة يحلق الشاعر عالياً في لحظة تجلي مع الروح، حيث ضريح المعشوق له تلك السلطة الروحية، فما بالك بهيبة المعشوق نفسه، ذلك المعشوق الذي غمره جده الرسول وأمه البتول بحنانٍ نادر:
ومن المسكِ للروحِ أجنحةٌ وفضاءٌ
كأني أعلو
ويجذبُني أنْ ترابُك هيهات يُعلى عليه
وبعض الترابِ سماءٌ
تنيرُ العقولْ
ليس ذا ذهباً ما أقبّلُ
بل حيثُ قبّل جدّك
من وجنتيكَ
ودرَّ حليب البتولْ.
وإذ يقف الشاعر في محراب معشوقه الإمام الحسين، يستعيد أجواء كربلاء، حيث قعقعة السيوف وصهيل الخيول، والخُطب والحماسة والظمأ والقتل، ولكنه يرى من شباك الضريح أنّ الحسين لم يقتل، فها هو حي يرزق يطوف بهالة من النور حول أرجاء الضريح، وحين يذهل الشاعر من هذا الموقف، يتذكر أنّ الحسين ليس كأي فرد في الأمة فهو ابن فاطمة وعلي، وفخامة الاسم والنسب تكفي عن الشرح:
لم يزل هِمماً للقتالِ
تُرابُك
أسمعُ هولَ السيوفِ
ووهجَ ضماك ينيرُ الضريحَ
ويوشكُ قفلُ ضريحكَ
أن يتبلج عنك
أراكَ بكلِّ المرايا
على صهوةٍ من ضياءٍ
وتخرج منها.
فأذهل أنك أكثر منا حياةً
ألست الحسينَ بنَ فاطمة وعليْ
لماذا الذهول؟
لا شك أنّ موقف الإمام الحسين الرجولي والبطولي في ذلك اليوم العاشورائي، كان درسا بليغاً لكل المناضلين والأحرار وهم يحثون الخطى في درب الحرية، حيث يستلهم الشاعر ذلك الموقف، وتلك الشهادة رغم مأساتها ووجعها فهي شهادة متميزة وفريدة، فشهادة بطعم شهادة الحسين لهي الفخر مهما كانت تداعياتها وآثارها، وإذا كان الحسين وحيداً في ذلك الموقف فها هو اليوم قد صار أمة:
تعلمتُ منك ثباتي
وقوةَ حُزني وحيداً
فكم كنت يومَ الطفوف وحيداً
ولم يكُ أشمخَ منكَ
وأنت تدوسُ عليك الخيولْ.
ويستمر الشاعر في منولوجه وهو يستدعي أجواء المأساة الدامية، حيث مشهد رأس الإمام الحسين المحزوز، وحرق الخيام، وهو مشهد أقرح الجفون وأدمى العيون، فبكى من في السماء كما بكى من في الأرض:
من بعيدٍ رأيتَ
ورأسُك كان يُحزُّ
حريقَ الخيامِ
فأسبلتَ جفنيكَ فوق الحريقِ حَناناً
بكى اللهُ فيك بصمتٍ
وتم الكتابُ
فدمعك كان ختام النـزولْ.
ويعود الشاعر ثانية لاستدعاء ثنائية الموت/الحياة، فالإمام الحسين بموقفه الشامخ يكون قد استعصى على الموت، وإذ خذله من خذله وبقي وحيداً يجود بنفسه، فها هو الدهر قد بايعه، فصار من الخالدين، وصار مشروع شهادة يتجدد في كل زمان ومكان، أليس حري بجنة الله أن يكون سيدها الحسين؟ وأن تكون هي الساعية إليه لا هو إليها، وهذه مفارقة قلما وجدناها عند شاعر آخر غير النواب:
وبايعك الدهرُ
وارتابَ في نفسه الموتُ
مما يراكَ
بكل شهيدٍ.
فأين تُرى جنةٌ
لتوازن هذا مقامَك؟
هل كنتَ تسعى إليها
حثيثَ الخطى،
أم تُرى جنة الله
كانت تريد إليك الوصول؟
من أخطر ما يفتك بالأمة ويضعفها ويشتت شملها، هو ذلك الخطاب الطائفي المتعالي والمتعجرف الذي يصدر من هذا الطرف أو ذاك، فينتصر كل فريق لطائفته ومذهبه من دون تبصّر ولا روية، فأين موقع الحسين من ذلك الخطاب الطائفي؟ نقرأ ما بين سطور القصيدة أنّ الشاعر أراد للأمة أن تستثمر رمزية الحسين للنهوض والانبعاث لا التقوقع والخمود والخمول، فالحسين للجميع وهو أكبر من الطائفة أو الطائفية:
وعاشت ذئابٌ من الطائفية
تفتك بالناس.
ما أنت طائفةٌ
إنما أمةٌ للنهوضِ.
تواجه ما سوف يأتي
إذ الشرُ يعلنُ دولته بالطبولْ.
ما زال الشاعر في مناجاته يقف أمام ضريح الحسين، وإذ يصبّر نفسه عن البكاء لأن الحسين أسمى وأرقى من ذلك رغم عظم المأساة وهول الفاجعة، إلا أنّ دموعه قد سبقته ليس من أجل الحسين فحسب، بل لأنّ قضية الحسين تتكرر في القضية الفلس ــ طينية، فخانها من خانها وتاجر باسمها من تاجر، وكأنّ التاريخ يعيد نفسه ولكن بصورة أخرى .. ويبقى العراق حديث الساعة ويوسف زمانه حين تكالب عليه الأشقاء:
لستُ أبكي
فإنك تأبى بكاء الرجالِ
ولكن ذرفتني أمام الضريح عيوني
يُطافُ برأسك فوق الرماحِ…
ورأس فلسطين أيضاً يُطافُ به...
في بلاد العروبةِ
يا للمروءةِ
والعبقرية بالجُبن…
أما العراقُ… فيُنسى لأنّ ضريحك
عاصمةُ الله فيه.
وجودُ بنيه، أقلُّ من الجود والروح
جودٌ خجولْ.
يلتحق الشاعر بقافلة الحسين، ليكون من أنصاره ليسجل له موقفاً ضد الظلم والانحراف والعبودية، فموقف الحسين في كربلاء تخطى الزمان والمكان وصار ملهماً للثوار وعشاق المبادئ والقيم والمُثل العُليا في العالم، والتحاق الشاعر بقافلة الحسين وإن كان مجازياً فقد تعرض بسببه كما يقول إلى سهام النقد المغرضة، .. يستدعي الشاعر ثنائية الحسين/العراق ، حيث يعاني كلاهما لموقف الاستفراد والخذلان:
ها أنا عُرضةٌ للسهامِ
التحاقاً بموقفك الفذّ
يوم ترجّلت… بين الرماحِ
كأنك أنت الذي فوقَ خيول الزمان
فما وقفةُ العز يوم الطفوف مِنَ الأمس؟
بل للزمان جميعاً.
وهذا العراقُ… وقد رجلتهُ جيوش الحصارِ
وحيداً يصولْ.
وهكذا نجد أنّ الشاعر مظفر النواب يحلّق في مناجاته للإمام الحسين، فيسمو بروحه إلى عالم الأرواح الشفافة، فيلتقي بالإمام الحسين ويراه ويحدثه، ويلتحق بموقفه ليستمد منه الإباء والثبات والمقاومة.