رولا علي سلوم - البنى المعرفية والإبداعية المبتكرة في قصة (بورصة) للأديبة السورية صديقة علي

من المادية إلى المعنوية يطالعنا عنوان القصة القصيرة المعنون ب " بورصة "ليقود تفكيرنا إلى شيء ماديّ ثمين كالعملة الأجنبية؛ الدولار أو اليورو، أو معدن غالٍ كالألماس أو الذهب ..
تلك الأشياء المادية الثمينة هي التي يُقايض عليها في البورصة، لنجد في النهاية أنّ الدموع هي الشيء الثمين جداً بينها، والذي كان علامةً فارقةً لاختراع شخصية الدكتورة في القصة بعد تجارب كثيرة قامت بها من غير جدوى. وعندما يئست وقررت ترك العمل في المختبر سقطت دموعها فوق دورق التجربة، فتلوّن باللّون الوردي وكان الموقف بدايةً ليكون حلاً للمشكلة وليُكتشَف ذاك الوقود الجديد كبديلٍ عمّا نستخدمه في حياتنا من وقود البنزين وغيره..
استطاع هذا السائل الرخيص " الدمع" تشغيل محركٍ ضخمٍ، وتوردُ الكاتبة هذه الكلمة " الرخيص" إمعاناً في جذب نظر القارئ، فهل الدمع رخيصٌ حقاً؟؟ إنّه رخيصٌ لأنّه ينهمر من عيون المتعبين والموجوعين والفقراء والمرضى والثكالى، ومن عيون الجائعين والراحلين، نعم إنّه لذلك رخيص، كما هو الوجع والحزن والألم والفراق والفقد والموت والجوع و...
تأتي الفكرة هنا إبداعاً حقيقياً مبتكراً بقلم الكاتبة " صديقة علي"، إنّها تضع الدمع معادلاً موضوعيّاً مع الوقود، الدمع الرخيص، والوقود الغالي، فكم سيغيّرُ هذا الوقود وجه العالم ؟؟ وكم ستنقلبُ معادلة الحياة رأساً على عقب ؟؟
"الفقراء سينعمون بالدفء، وسترتاحين من أدراج بيتكِ العالي"، بهذه العبارات حاول مدير المختبر إقناع الدكتورة لمتابعة العمل في المختبر وإنتاج الوقود الثمين من هذا السائل الرخيص، ولكن؛ كيف سيتم الحصول عليه ؟؟ تُشكّلُ فرقُ لجمع الدمع من المقابر أولاً، ثم من دور الأيتام ثانياً، ثم من المشافي ورياض الأطفال ثالثاً، ثم من أبواب المنازل رابعاً، ثم من المطارات خامساً.. كلّ أماكن الوجع والألم والحزن كفيلةٌ بإهراق الدمع، أليس الدمع رخيصاً؟؟
ثم إنّه كذلك مع هؤلاء الموجوعين المتعبين من ثقل هذه الحياة، لقد خُصصتْ لتلك المهمة مناديل رخيصة، تحتوي اسفنجة رقيقة متصلة بماسورة صغيرة بلاستيكية مرقمة، وهذه المهمة ولّدت مهمة أخرى، وهي إيجاد تسعيرة منظمة لجودة الدمع، فكانت دموع الرجال هي الأغلى، تليها دموع الأطفال، ومن بعدها دموع النساء..
تلميحٌ ذكيٌ من الكاتبة أن تخصّ دموع الرجال بأنّها الأغلى، لأنّ الرجال عادةً لايبكون، لذلك؛ فإنّ سقوط الدمع من عيونهم يكون غالباً قليلاً و نادراً وثميناً جداً .. وقد رُفِضَتْ تلك الدموع المصطنعة والممزوجة برائحة البصل أو الدخان. أصبح الدمع الشغل الشاغل للناس،تساوتْ قيمته والخبز، وأُجبِرَ الأطفال بالضرب المبرّح لتتشكّلَ دموعهم، وتوسّلتْ النساء عيون أزواجهنّ لتأتي دمعاً.. هكذا أصبح للدمع ثمنٌ وقيمةٌ في البورصة. لكنّ المفارقة أنّ دموع المقابر جفّتْ لدى علمها بتسخير دمعها من أجل المال، فالعيون تجود بالدموع عندما تتألم وتحزن حقيقةً، وهي غالية لا ترخص كُرمى المال أو المتاجرة، على حين كانت دموع المسنين هي الأكثر تجميعاً، فالعجائز لايَعون وهم في خواتيم العمر أن تذهبَ دموعهم بعدما ذهب أحباؤهم وتركوهم للمجهول في دور المسنين. والمفارقة الأكبر أنّ زوجة مدير المختبر حققّتْ وسادتها حصيلةً عاليةً من الدموع، ما أشعر ذلك زوجها بالخجل، وقد تركتْ البيت لدى معرفتها باستغلال دموعها.. الطمع بجمع المال جعل مدير المختبر يُعِدّ براميل من الدمع، لولا ضمير المهندس الذي تنبّه وصحا لدى سماعه أصوات النحيب والبكاء الآتية من المستودع ليلاً ، وكان ذلك كفيلاً بتوقيف عمله، شاركته الدكتورة رفضها لهذا الاختراع من خلال قولها: " كأننا اشترينا دموع الناس وأوجاعهم معاً"، لكنّ طمع المدير قاده لاستيراد الدمع من الدول المجاورة، والتي عانت الموت والجوع جرّاء الحروب والقتل..
تأتي النهاية في القصة " بورصة" رائعةً مبتكرة أيضاً، فالأصوات التي كان يسمعها المهندس من المستودع من نحيبٍ وبكاء وأخبر بها مديره لم تكن مجرد هلوسات أو أحلام، إنّها دموع المقهورين مع آلامهم وأوجاعهم، وقد شكّلتْ انفجاراً مذهلاً في المختبر، أودتْ بكلّ شيء فيه.. راقبت الدكتورة المشهد من شرفة بيتها وكيف امتزجت ألسنةُ اللهب مع ليل المدينة المظلم ليتلاشى كلٌ منهما إلى زوال، لقد جاءت النهاية كما البداية ممتلئةً بالجدّة والابتكار والإبداع، فأن يكون الدمعُ مادةً ثمينةً تُشغّلُ المحركات الضخمة، ثم أن تكون دموع الناس حاملةً معها أوجاعهم التي سببّتْ الانفجار والدمار في النهاية..
مغزىً عميق قدّمته الكاتبة، لخصّه العنوان " بورصة"، حقاً تحوّل الدمع إلى بورصة، ألم تُحقّقُ الحروبُ بكلّ أدواتها المؤذية هذا المعنى؟؟!!
ألم تحققُ الحروبُ ضجةً في الإعلام أمام العالم؟؟ ألم تحقق هجرات الشعوب من أوطانها إلى بلاد أخرى؟؟ ألم يحقق غرق السفن والمراكب التي حملت المهاجرين وابتلاع البحر لهم ولأحلامهم؟؟
لقد ذهبت دموع الناس سدىً، لأنّ الدموع مرتبطةٌ بالوجع لصيقةٌ به، لاتنفصل عنه أبداً. الوجع والألم كانا وبالاً على مَن جعلوا من الدمع وسيلةً رخيصةً لجمع المال.
تنحو الكاتبة " صديقة علي" في أسلوبها القصيّ غالباً منحى الجدّة والابتكار في الفكرة التي تصوغها، وذلك بأسلوبٍ بسيطٍ سلسٍ عذبٍ واضح، مُطعّماً بالحوار والأساليب اللغوية المتعددة كالاستفهام والتعجب وغيرها.. إضافةً إلى تخيّرها مفرداتٍ لغويةٍ معينة تناسب الأفكار أولا، وتجذب القارئ ثانياً، وأمّا ما يُميّز قصتها فهو أنّ فكرتها تحملُ في أعماقها بُعداً فلسفياً وجودياً رائعاً، يشعر به مَن امتلك قلباً نقياً، وعقلاً ناضجاً، وروحاً شفيفةً، تصوغ الوجعَ وتعبّرُ عنه بجمالية فائقة الروعة، لاتنفصلُ عن الواقع المعاش أبداً، فهي معجونةٌ به، تتنفّسه بملء رئتيها، ولذلك تصلُ كلماتها إلى عقل القارئ بعذوبةٍ بالغة.
تحية كبيرة إلى يراعها الجميل الذي يُمتّعُ ذائقتنا الفنية دائماً، ومبارك لها نصها الفائز في مسابقة " ناجي التكريتي الدولية للإبداع القصصي " لعام ٢٠٢٤م .

رولا علي سلوم

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى