أقول البلد وليس الدولة. البلد له مدلولٌ جُغرافي محض. والبلدُ اسمٌ يمكن أن يُطلَقَ على موطنٍ (مكانٍ) يسكنه عددٌ محدَّدٌ من الناس وله حدودٌ جغرافية تفصلُه عن موطِنٍ آخرَ مُجاورٍ له. كما يمكن أن يُطلَقَ اسمُ البلدِ على جزءٍ من نفس الموطِن أو على جزءٍ من موطنٍ آخر. والبلد، بهذا المعنى الجُغرافي، وردَ في القرآن الكريم، في الآيتين التَّاليتين:
1."وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَىٰ بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ (النحل، 7).
2."وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَىٰ بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَٰلِكَ النُّشُورُ (فاطر، 9).
في الآية الأولى، يتعلَّق الأمرُ بما سخَّره اللهُ، سبحانه وتعالى، من دَوابٍّ لحمل أثقال الناس أثناء التنقُّل من بلد (موطن) إلى (موطن) آخر أو من جزءٍ من نفس البلد إلى جزءٍ آخرَ منه. وأثناء التَّنقُّل، هناك إشاراتٌ طبيعية repères naturels يسترشد بها المُتنقِّلون لبلوغ البلد أو الجزء من البلد. هذا هو المفهوم الجغرافي للبلد، علماً أن هذا الأخير، بحدوده الجغرافية، يمكن أن يكونَ في شمال الكرة الأرضية أو في جنوبها أو في مشارقها ومغاربها.
في الآية الثانية، يتعلَّق الأمر بانتقال الرياح من بلدٍ إلى آخر أو من جزءٍ من نفس البلد إلى جزءٍ آخرَ منه. وانتقال الرياح له علاقة بالفارق différence بين حرارة وضغط الكُتَل الهوائية الموجودة في الجو atmosphère. بمعنى أنه، كلما كان هذا الفارقُ بين هذه الكُتَل مهمّاً، كلما كانت سرعة الرياح مرتفِعة. والرياح هي التي تنقل السخابَ من بلدٍ إلى آخرَ أو من جزءٍ من نفس البلد إلى جزءٍ آخر منه. كل هذه المعطيات données مُعطَياتٌ جغرافية. وبفضلها، يُمطر السحابُ ماءً يُحيِي به، سبحانه وتعالى، بلدا ميِّتاً. إلا أن هذه الآية، إذا كانت تُشير لمعطياتٍ جغرافية طبيعية، فإنها، في نفس الوقت، تبيِّن بأن الذي، جلَّت قدرتُه، إن كان قادرا على إحياء بلدٍ بعد موته، هو، كذلك، قادرٌ على إحياء الموتى يومَ القيامة (النُّشُورُ).
أما الدولة، فلها مدلولٌ جغرافي وسياسي. سياسيا، لا يمكن لبلَدٍ ما أن يكونَ دولةً إلا إذا توفَّرت فيه شروطٌ مُعيَّنة، من ضِمنها الحدود الحغرافية، علماً أن هذه الحدود، هي التي تُعطي للبلد، كدولةٍ، كِياناً سياسيا مُعترفٌ أو غير معترفٍ بحدوده الجغرافية، دوليا.
أقول، كذلك، "البلد العظيم" وليس "الدولة العُظمَى". لماذا؟ لأن عبارة "دولة عُظمى"، غالبا ما تقترِن بمفهوم القوة. وليس هذا هو ما أقصده ب"البلد العظيم". كلمة "عظيم" تقترِن، هنا، بالأخلاق السامية والرفيعة كالاحترام والتَّشريف والوَجاهَة والجودة والحكمة والرزانة والرصانة والفضيلة والتَّمجيد والاعتراف والعدل والمساواة والتسامح والأنصاف والفكر النقدي وبُعد النظر والاعتراف والتَّفتُّج épanouissement والتَّحرُّر émancipation الفكريين والاجتماعيين… وباختصار، كل ما يجعل من مواطني بلدٍ ما مواطنين مُخلَّقين، مُتمدِّنين وحضاريين.أو، بعبارة أخرى، كل ما يجعل من هؤلاء المواطنين، ناساً من ذوي العقليات المتفتِّحة والمتحرِّرة، التي لا تؤمن إلا بما هو منطقي، أي غير مخالفٍ أو مستفزٍّ للعقل.
وهنا يكمن الفرق الشاسع بين العقليات في البلدان العظيمة والعقليات في البلدان غير العظيمة. البلدان العظيمة، أولا وقبل كل شيءٍ، تبني الإنسانَ العظيمَ بأخلاقه وقِيمه الاجتماعية، وذلك عبر منظومات تربوية رفيعة الجودة والمستوى. وبناء الإنسان، في البلدان العظيمة، يحتل الصدارةَ في السياسات العمومية، وعلى رأسِها السياسات التَّربوية.
وإذا أردنا أن نسوقَ مثالا حيا للبلدان العظيمة والبلدان غير العظيمة، فما علينا إلا أن نُقارنَ بين البلدان الغربية والبلدان العربية، على الخصوص، والبلدان الإسلامية، على العموم.
البلدان الغربية تعتزُّ بعِلمانيتِها. والبلدان العربية والإسلامية تعتز بإسلامها. وكلُّهم على حق ولهم الحق في ذلك. فأين يكمُن الخللُ حتي بقيت البلدان العظيمة متطوِّرةً من حيث القيم الاجتماعية والعقليات، وبقيت البلدان العربية والإسلامية مُتأخِّرةً من حيث العقليات؟
الخلل يوجد في كيفية بناء الإنسان، وبالأخص، عبر المنظومات التَّربوية. ما يمكن قولُه، في هذا الصدد، هو أن المجتمعَ صورةٌ وفيَّة لمدرسته، والمدرسة صورةٌ وفيَّة لمجتمعِها. المدرسة العالية الجودة والأداء تُنجِب مجتمعاً راقيا، متمدِّناً، متحضِّرا ومتطوِّرا. والمجتمع الراقي والمتحضِّر لا يرضى إلا بمدرسةٍ تشبهُه وترقى به إلى أعلى المستويات.
البلدان العظيمة تعتز بعِلمانيتِها. وعِلمانيتُها هي التي مكَّنتها من احتلال الصدارة في الاقتصاد والإنتاج والصناعة والعلم والتِّكولونيا… والحضارة والفنون والثقافة…
البلدان العربية والإسلامية تعتزُّ بإسلامها. وكما سبق الذكر، الاعتزاز بالدين شيءٌ جميلٌ ومرغوب فيه، لكن شريطةَ أن يتشبَّثَ المسلمون بمبادئ الإسلام وقيمِه النبيلة.
ما تبرع فيه وتُتقنه البلدان العربية والإسلامية هي أشياءٌ لا تمتُّ بصلة للاسلام المنصوص عليه في القرآن الكريم. بل إنها تُخالفُه اختلافاً صادما. وما يُثيرُ الانتباهَ، هو أن هذه الاختلافات، جلُّها، من صُنع علماء وفقهاء الدين وجعلوها مُتوارَثة من جيلٍ إلى آخر. بل تغلُق كل الأبواب التي، إن فُتِحت، تُطلُّ على عقليات مُتنوِّرة، متفتِّحة ومُتحرِّرة فكريا واجتماعيا. ومن بين هذه الاختلافات، أذكر على سبيل المثال :
1.الدين (الإسلام) شأنٌ يدور بين خالِقٍ ومخلوق، وعلماء وفقهاء الدين جعلوه شأنا جماعيا. وهنا، فإنهم يخالِفون قول الله، سبحانه وتعالى، حين قال ويقول : "كُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (مريم، 95).
2. كونُ الدين شأناً جماعيا، من الواجب أو من المفروض أن يُفرضَ على جميع الناس. والله، سبحانه وتعالى، يقول : "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (البقرة، 256). أو يقول : "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (يونس، 99).
3.مَن تديَّن بدينٍ آخرَ غير الإسلام، فهو، في نظر كثيرٍ من المسلمين، كافرٌ أو مُشرِكٌ. والله، سبحانه وتعالى يقول : "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (البقرة، 62).
4.رجمُ الزاني والزانية والله، سبحانه وتعالى يقول :"الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ (النور، 2). قد يقول قائلٌ إنها سُنَّةٌ نبوية. أقول : فهل يُعقلُ أن يُخالفَ الرسولُ أوامرَ الله؟ فحينما يختار الله، سبحانه وتعالى، بشراً لتبليغ رسالة من رسالاتِه إلى الناس، فإنه يعلم علمَ اليقين أن هذا البشرَ صالحٌ لهذا التبليغ. فمن المستحيل أن لا يؤدِّيَ، على أحسن وجهٍ، الرسولُ المختارُ ما كلَّفه الله بتبليغه إلى الناس.
هذه ليست إلا بعض الاختلافات التي تتنافى مع الإسلام المنصوص عليه في القرآن الكريم. وغيرها كثير من قبيل قتل المرتد وتارك الصلاة بينما في القرآن الكريم ليس فيه ولو آية واحدة تأمر بقتل المرتد. بل القرآن الكريم لا يتحدَّث عن الصلاة الحركية بالتَّفصيل ولا عن أوقاتها ولا عن عدد ركعاتها ولا عن عددها في اليوم الواحد. قد يقول قائل إنها سنة نبوية. أقول : الرسول يَُبلِّغ ما هو مشُارٌ إليه في القرآن الكريم. ولا يمكن، على الإطلاق، أن يًضيفَ شيئا من عندِه. الصلاة الحركية متوارثة عبر الأجيال منذ عهد أبراهيم عليه السلام.
ما أختم به هذه المقالة، هو أن الدينَ، إن أراد الله، سبحانه وتعالى، أن يكونَ نِبراسا للمسلمين ليرقوا، بفضله، إلى درجة "البلدان العظيمة"، فالأغلبية الساحقة من المسلمين، صنعوا لهم علماءُ وفقهاءُ الدين ديناً موازيا، يُخالف، في جل أطوارِه، الدينَ المنصوصَ عليه في القرآن الكريم.
1."وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَىٰ بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ (النحل، 7).
2."وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَىٰ بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَٰلِكَ النُّشُورُ (فاطر، 9).
في الآية الأولى، يتعلَّق الأمرُ بما سخَّره اللهُ، سبحانه وتعالى، من دَوابٍّ لحمل أثقال الناس أثناء التنقُّل من بلد (موطن) إلى (موطن) آخر أو من جزءٍ من نفس البلد إلى جزءٍ آخرَ منه. وأثناء التَّنقُّل، هناك إشاراتٌ طبيعية repères naturels يسترشد بها المُتنقِّلون لبلوغ البلد أو الجزء من البلد. هذا هو المفهوم الجغرافي للبلد، علماً أن هذا الأخير، بحدوده الجغرافية، يمكن أن يكونَ في شمال الكرة الأرضية أو في جنوبها أو في مشارقها ومغاربها.
في الآية الثانية، يتعلَّق الأمر بانتقال الرياح من بلدٍ إلى آخر أو من جزءٍ من نفس البلد إلى جزءٍ آخرَ منه. وانتقال الرياح له علاقة بالفارق différence بين حرارة وضغط الكُتَل الهوائية الموجودة في الجو atmosphère. بمعنى أنه، كلما كان هذا الفارقُ بين هذه الكُتَل مهمّاً، كلما كانت سرعة الرياح مرتفِعة. والرياح هي التي تنقل السخابَ من بلدٍ إلى آخرَ أو من جزءٍ من نفس البلد إلى جزءٍ آخر منه. كل هذه المعطيات données مُعطَياتٌ جغرافية. وبفضلها، يُمطر السحابُ ماءً يُحيِي به، سبحانه وتعالى، بلدا ميِّتاً. إلا أن هذه الآية، إذا كانت تُشير لمعطياتٍ جغرافية طبيعية، فإنها، في نفس الوقت، تبيِّن بأن الذي، جلَّت قدرتُه، إن كان قادرا على إحياء بلدٍ بعد موته، هو، كذلك، قادرٌ على إحياء الموتى يومَ القيامة (النُّشُورُ).
أما الدولة، فلها مدلولٌ جغرافي وسياسي. سياسيا، لا يمكن لبلَدٍ ما أن يكونَ دولةً إلا إذا توفَّرت فيه شروطٌ مُعيَّنة، من ضِمنها الحدود الحغرافية، علماً أن هذه الحدود، هي التي تُعطي للبلد، كدولةٍ، كِياناً سياسيا مُعترفٌ أو غير معترفٍ بحدوده الجغرافية، دوليا.
أقول، كذلك، "البلد العظيم" وليس "الدولة العُظمَى". لماذا؟ لأن عبارة "دولة عُظمى"، غالبا ما تقترِن بمفهوم القوة. وليس هذا هو ما أقصده ب"البلد العظيم". كلمة "عظيم" تقترِن، هنا، بالأخلاق السامية والرفيعة كالاحترام والتَّشريف والوَجاهَة والجودة والحكمة والرزانة والرصانة والفضيلة والتَّمجيد والاعتراف والعدل والمساواة والتسامح والأنصاف والفكر النقدي وبُعد النظر والاعتراف والتَّفتُّج épanouissement والتَّحرُّر émancipation الفكريين والاجتماعيين… وباختصار، كل ما يجعل من مواطني بلدٍ ما مواطنين مُخلَّقين، مُتمدِّنين وحضاريين.أو، بعبارة أخرى، كل ما يجعل من هؤلاء المواطنين، ناساً من ذوي العقليات المتفتِّحة والمتحرِّرة، التي لا تؤمن إلا بما هو منطقي، أي غير مخالفٍ أو مستفزٍّ للعقل.
وهنا يكمن الفرق الشاسع بين العقليات في البلدان العظيمة والعقليات في البلدان غير العظيمة. البلدان العظيمة، أولا وقبل كل شيءٍ، تبني الإنسانَ العظيمَ بأخلاقه وقِيمه الاجتماعية، وذلك عبر منظومات تربوية رفيعة الجودة والمستوى. وبناء الإنسان، في البلدان العظيمة، يحتل الصدارةَ في السياسات العمومية، وعلى رأسِها السياسات التَّربوية.
وإذا أردنا أن نسوقَ مثالا حيا للبلدان العظيمة والبلدان غير العظيمة، فما علينا إلا أن نُقارنَ بين البلدان الغربية والبلدان العربية، على الخصوص، والبلدان الإسلامية، على العموم.
البلدان الغربية تعتزُّ بعِلمانيتِها. والبلدان العربية والإسلامية تعتز بإسلامها. وكلُّهم على حق ولهم الحق في ذلك. فأين يكمُن الخللُ حتي بقيت البلدان العظيمة متطوِّرةً من حيث القيم الاجتماعية والعقليات، وبقيت البلدان العربية والإسلامية مُتأخِّرةً من حيث العقليات؟
الخلل يوجد في كيفية بناء الإنسان، وبالأخص، عبر المنظومات التَّربوية. ما يمكن قولُه، في هذا الصدد، هو أن المجتمعَ صورةٌ وفيَّة لمدرسته، والمدرسة صورةٌ وفيَّة لمجتمعِها. المدرسة العالية الجودة والأداء تُنجِب مجتمعاً راقيا، متمدِّناً، متحضِّرا ومتطوِّرا. والمجتمع الراقي والمتحضِّر لا يرضى إلا بمدرسةٍ تشبهُه وترقى به إلى أعلى المستويات.
البلدان العظيمة تعتز بعِلمانيتِها. وعِلمانيتُها هي التي مكَّنتها من احتلال الصدارة في الاقتصاد والإنتاج والصناعة والعلم والتِّكولونيا… والحضارة والفنون والثقافة…
البلدان العربية والإسلامية تعتزُّ بإسلامها. وكما سبق الذكر، الاعتزاز بالدين شيءٌ جميلٌ ومرغوب فيه، لكن شريطةَ أن يتشبَّثَ المسلمون بمبادئ الإسلام وقيمِه النبيلة.
ما تبرع فيه وتُتقنه البلدان العربية والإسلامية هي أشياءٌ لا تمتُّ بصلة للاسلام المنصوص عليه في القرآن الكريم. بل إنها تُخالفُه اختلافاً صادما. وما يُثيرُ الانتباهَ، هو أن هذه الاختلافات، جلُّها، من صُنع علماء وفقهاء الدين وجعلوها مُتوارَثة من جيلٍ إلى آخر. بل تغلُق كل الأبواب التي، إن فُتِحت، تُطلُّ على عقليات مُتنوِّرة، متفتِّحة ومُتحرِّرة فكريا واجتماعيا. ومن بين هذه الاختلافات، أذكر على سبيل المثال :
1.الدين (الإسلام) شأنٌ يدور بين خالِقٍ ومخلوق، وعلماء وفقهاء الدين جعلوه شأنا جماعيا. وهنا، فإنهم يخالِفون قول الله، سبحانه وتعالى، حين قال ويقول : "كُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (مريم، 95).
2. كونُ الدين شأناً جماعيا، من الواجب أو من المفروض أن يُفرضَ على جميع الناس. والله، سبحانه وتعالى، يقول : "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (البقرة، 256). أو يقول : "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (يونس، 99).
3.مَن تديَّن بدينٍ آخرَ غير الإسلام، فهو، في نظر كثيرٍ من المسلمين، كافرٌ أو مُشرِكٌ. والله، سبحانه وتعالى يقول : "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (البقرة، 62).
4.رجمُ الزاني والزانية والله، سبحانه وتعالى يقول :"الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ (النور، 2). قد يقول قائلٌ إنها سُنَّةٌ نبوية. أقول : فهل يُعقلُ أن يُخالفَ الرسولُ أوامرَ الله؟ فحينما يختار الله، سبحانه وتعالى، بشراً لتبليغ رسالة من رسالاتِه إلى الناس، فإنه يعلم علمَ اليقين أن هذا البشرَ صالحٌ لهذا التبليغ. فمن المستحيل أن لا يؤدِّيَ، على أحسن وجهٍ، الرسولُ المختارُ ما كلَّفه الله بتبليغه إلى الناس.
هذه ليست إلا بعض الاختلافات التي تتنافى مع الإسلام المنصوص عليه في القرآن الكريم. وغيرها كثير من قبيل قتل المرتد وتارك الصلاة بينما في القرآن الكريم ليس فيه ولو آية واحدة تأمر بقتل المرتد. بل القرآن الكريم لا يتحدَّث عن الصلاة الحركية بالتَّفصيل ولا عن أوقاتها ولا عن عدد ركعاتها ولا عن عددها في اليوم الواحد. قد يقول قائل إنها سنة نبوية. أقول : الرسول يَُبلِّغ ما هو مشُارٌ إليه في القرآن الكريم. ولا يمكن، على الإطلاق، أن يًضيفَ شيئا من عندِه. الصلاة الحركية متوارثة عبر الأجيال منذ عهد أبراهيم عليه السلام.
ما أختم به هذه المقالة، هو أن الدينَ، إن أراد الله، سبحانه وتعالى، أن يكونَ نِبراسا للمسلمين ليرقوا، بفضله، إلى درجة "البلدان العظيمة"، فالأغلبية الساحقة من المسلمين، صنعوا لهم علماءُ وفقهاءُ الدين ديناً موازيا، يُخالف، في جل أطوارِه، الدينَ المنصوصَ عليه في القرآن الكريم.