مصطفى نصر - المصوراتية والحلاقين...

لا أحب دخول محلات المصوراتية والحلاقين، فجدران دكان الحلاق محاطة بالمرايات من كل جانب، والمصوراتي يجعلني أتابع صورتي بعد أن يصورها؛ وأنا لا أحب أن أشاهد نفسي. وسأتحدث – هنا - عن المصوراتية الذين قابلتهم في حياتي، سأبدأ بالمصوراتية لأن تعاملي معهم قليل جدا، فأنا لا أذهب للمصوراتي إلا للضرورة القصوى؛ إستخراج إستمارة لابد لها من صورة أو كارنيه، خاصة كارنيه مكتبة البلدية الذي كنت أحرص على إستخراجه طوال السنوات الماضية. وكنت أبحث بين أصدقائي عن الصور التي سبق أن أهديتها لهم. وحدث أن أجرت الأديبة والصحفية سعاد سليمان حديثا معي، وطلبت صورة، فقدمت إليها واحدة كانت معــــــي في المحفظة، لم تعجبها، فوعدت بأن أرسل إليها صورة أخرى ولم أفعل، فإتصلت بي في المنزل حيث لم أكن موجودا وطلبت الصورة بإلحاح شديد، لأن الموضوع لابد أن يصل جريدة " القاهرة " اليوم، وإقترحتْ أن أرسل الصورة إليها عن طريق سائق السوبر جيت مــــــن الإسكندرية إلى القاهرة، فإتصلت بإبني في عمله، وجاء مسرعا، وأخذ الصورة وأرسلها إليها عن طريق السوبر جيت. ونشرت سعاد سليمان الموضوع بالصورة التي سبق أن رفضتها.
وكان الناشرون يطلبون مني صورا لنشرها في آخر الكتاب، فلا أجد، فأبحث بين الصور الجماعية وأقص منها صورة لي؛ تصلح لأن تكون في ظهر الكتاب.
وعندما حصلت على الجائزة الأولى في الرواية، وذهبت إلى نادي القصة بالقاهرة لإستلام الجائزة، جاءني شاب وقال لي: لقد إلتقطت لك صورتين، واحدة وأنت تتسلم الجائزة من الأستاذ ثروت أباظة، والأخرى وأنت تزيل الستار عن لوحة الشرف مع الأستاذ ثروت أباظة.
فقلت له: لكنني لا أريدهما.
فشرد الشاب قليلا ومشي من أمامي، ثم عاد ومعه آخر أكبر منه، قال في حدة: أنت ليه مش عايز الصورة؟!
قلت: مش عايزها.
وإنتهى الموقف بأن دفعت لهم مبلغا صغيرا مقابل النيجاتيف. وأعطاني إيصالا قائلا : لو عايز الصورة ستجدها في الأستوديو. ولم أذهب لإستلامها.
هذا ما أستطيع قوله بخصوص المصوراتية لكن الحلاقين لي معهم شأن آخر.
أنا والحلاقين
ألحت أمي عليّ – وأنا صغير - بأن أذهب لأحلق شعري الذي طال، وشعري عندما يكبر يصبح مشكلة، فيمتزج بعضه ببعض ويصعب تمشيطه. وذهبت إلى حلاق قريب جدا من بيتنا، كان دكانه مواجها لمسجد سلطان الشهير بالإسكندرية. وبعد أن إنتهى صبي الحلاق من حلق شعري لم يجد فوطة يمسح بها وجهي، فأمسك بطرف جلبابي ورفعه، فإذ بي بلا سروال داخلي، وأسرعت إلى الشارع خجلا.
ومرة أخرى ذهبت إلى دكان حلاق مواجها لمكتب بريد راغب باشا، كان إسمه عبد المنعم إبراهيم، وكان قريب الشبه بعبد المنعم إبراهيم الممثل، ووقفت على عتبة دكانه، فنظر الحلاق إلى لا أذكر جيدا ماذا كنت أرتدي، قد أكون مرتديا قفطانا، ولعلي كنت حافيا، فقد صاح الحلاق في ضيق: إمشي يا ولد.
ومشيت خجلا.
هذان الحادثان جعلاني أكره دخول محلات الحلاقين.
وبعد أن ماتت أمي عام 1955 إنتقلنا إلى بيت جدتي في حي غربال، وهناك ذهبت إلى خلف الله أشهر حلاق هناك، كان عجوزا ويقوم بالحلاقة وختان الأولاد والتغيير على الجروح وعلاج الأمراض البسيطة. كان مشهورا بطقوس يفعلها عند الحلاقة للأطفال، فقد وضع البودرة في قفاي، ثم نفخ فيه عابسا وصاح: أنت إبن مين؟ فأجبته في خوف. ثم سألني: إتطاهرت والا لسه؟ فقلت: " إتطاهرت ". فإزداد عبوس وجهه، فقد كان يأمل بأن يقوم بعملية الختان التي يحصل منها على مبلغ كبير.
وجاء إلى بيتنا ساعي في مدرسة يجيد عملية الحلاقة، كان يصيح وهو داخل البيت حاملا حقيبته الجلدية؛ ليخلو له الطريق. فيحلق لأبي ثم يحلق لي ولأخوتي الثلاثة، وكان أخي الصغير ينطق إسمه (عبد الرحمن) بـ (الحمار)، وكان يتحدث طوال الوقت ذاكرا أخبار المدرسين والمدرسات في المدرسة التي يعمل بها، وأخبار الذين يجالسونه على القهوة.
وعندما كبرت واظبت على الذهاب إلى حلاق إفتتح محلا جديدا في الشارع العمومي، كان قصيرا وبعينين صغيرتين للغاية، وكان قليل الكلام - على عكس معظم الحلاقين - يأتي إليه شيخ نظره ضعيف جدا، يعمل زبالا، فيغطي لحيته بقطعة قماش لكي لا تتسخ من الزبالة، وذاع صيته في الحي، فكان يرتدي عباءة سوداء فوق جلبابه البني، وطاقية خضراء، ويمسك عصا ذات مقبض فضي، ويسير معه أتباعه، فيحضرون حلقات الذكر التي كانت تقام كثيرا في الحي، وأسس هناك مكتبه الزينبي (نسبة إلى السيدة زينب)، وضم إليه عددا كبيرا من شباب الحي كانوا يطيعونه ويمتثلون لأوامره، فيعاقب المخطئ منهم بدفع غرامة، توضع في صندوق بقهوة أبو دومة (أقدم قهوة في الحي) أو يأمر المخطئ بأن يصلي العشاء في مسجد سيدي الزهري المواجه للإستاد، فهو بعيد جدا عن حينا.
كان هذا الشيخ يقضي أوقات فراغه في دكان الحلاق، ويجالسه بعض أتباعه، وفي مرة سمعته ينصح الشبان بعدم الخروج من البيت في يوم شم النسيم لأنه سمي بهذا الإسم لأن المسيحيين واليهود شموا نفسهم عندما مات النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) في ذلك اليوم، فقال له شاب لكن أنا عايز أتفرج على الماتش في ذلك اليوم (وكانت التليفزيونات في الحي عزيزة وقليلة، فيذهب الشباب إلى شارع إيزيس ويشاهدون ماتشات الكرة في المقاهي الكثيرة هناك) فقال له الشيخ: روح إتفرج على الماتش بس ألبس بيجامة علشان تبقى نيتك للماتش بس..
فصحت فيه من مكاني: من أخبرك بهذا؟
وكأنني فجرت قنبلة في حيز الدكان الضيق، فتابعني الشيخ - الذي يقدسونه هناك - في دهشة شديدة، ولم يتحدث، بينما نظر إليَّ الباقي وكأنهم أمام مجنون، فمن الذي يستطيع مخالفة هذا القطب في أمور الدين؟! أما الحلاق فقد أمسك بمقصه وتوقف عن إكمال الحلاقة لزبونه الذي يحني له رأسه.
قال الشيخ بعد أن أفاق: قرأت هذا في كتاب " البيان والتبيين".
رأيت الشيخ كثيرا في رفقة رجل يسكن الحي، ويعمل ساعيا في مكتبة البلدية، فقد رأيته كثيرا هناك، لاشك أن هذا الرجل يستعير للشيخ كتبا من المكتبة) قلت
- البيان والتبيين للجاحظ؟!، وما شأن الجاحظ بهذه الأمور؟
كان الحلاق يشير لي من خلف الشيخ لأن أواصل مناقشته ولا أخافه.
وعندما ضاق الشيخ بي، سألني: أنت إبن مين؟
فقلت له، فصاح: أنت قريبي.
الغريب أن هذا الشيخ قد أذاع في كل مكان في الحي بأنه علمني الكتابة، وأنني أحد تلاميذه.
**
مجنون فريد شوقي
بعد أن صرت شابا؛ أخذني صديق إلى دكان حلاق قد إفتتح حديثا في شارع متفرع من شارع إيزيس، أكبر شارع في حينا.
كان الحلاق شابا متدينا وطيبا للغاية، ظللت أحلق عنده إلى أن مات، وكانت زوجته تعد لنا طعاما مكونا من (الحلويات) – وهى جزء من معدة البقرة أو الجاموسة – والكوسة وجوزة الطيب، وتضعها في بورمة وتسويها في الفرن. وكنت أذهب إلى دكانه بعد أن أعود من عملي، ويأتي صديقي الذي عرفني به، ونلتهم البورمة، ثم يدفع كل منا ما يخصه من ثمنها.
كان يأتي إلى دكان الحلاق صديق له إسمه مجدي ،.كنت أعرفه من قبل أن أراه في دكان الحلاق.أعرف أنه طالب في كلية التجارة، وأنه متقدم جدا في الدراسة؛ لدرجة إنه يلخص الدروس ويبيعها للطلبة ليستطيع أن ينفق على نفسه، فقد كان والده - الذي يبدو أقل من عمره بكثير - لا يعطيه إلا القليل وبصعوبة شديدة .
ماتت أم مجدي منذ سنوات قليلة وتركته هو وأخته عزيزة، وتركهما الرجل أيضا، فهو يأتي إلى البيت في آخر الليل، لا يحدث أحدا، ينام دون كلمة واحدة لأحد. بعد أن يخرج من عمله؛ يذهب إلى نادي الإتحاد السكندري، يساعد في تدريب الأشبال، وأحيانا يساعد في المسائل الإدارية. ومجدي غير راضي عن تصرفات والده، فهي لا تليق برجل في مثل هذا العمر، لكن الرجل كان رده قاسيا على إعتراضه، فقد أمسك برقبة إبنه وطرده من البيت. وظل لدي زميل له في الكلية لشهور عديدة، إلى أن ذهبت عزيزة – أخته – إليه وأعادته إلى البيت، وعندما عاد الرجل متأخرا – ككل ليلة . ورآه أمامه، لم يحييه ولم يعترض على عودته، وعادت الأشياء كما كانت .
الحي كله يذكر نوادر مجدي بكثير من الدهشة والضحك. فهو يسير أمامنا في عصبية، يدخل بيته القديم، لا يحيي أحد وكأنه لا يرانا. ومن أشهر نوادره ما فعله مع صابر المسيحي الذي كان يقف خلف البيت ليبيع القصب، فيجتمع أولاد الحي حوله، يلعبون بالقصب، من يستطيع كسره على ركبته أو قصبة رجله من أول مرة، أو يضعون قطعة القصب على الأرض ويرشقون العملة المعدنية فيها، ثم يمصون القصب بعد ذلك، كانوا يحدثون جلبة خلف نافذة حجرته التي يذاكر فيها .
كان يجلس فوق مكتبه يذاكر، وأخته في الصالة تحيك الملابس، ووالده في نادي الإتحاد السكندري، حيث يذهب كل يوم. وإذ بأوراق أعواد القصب تتحرك خلف النافذة الكبيرة ذات الشراعة العالية. فترفرف في الهواء وتصنع خيالات مع ضوء المصباح في الحجرة. وخرج مجدي من باب الشقة ببجامته حافيا، وجري خلف صابر المسيحي، ثم عاد إلى البيت، قال في صوت مرتفع: زعازيع القصب حاتجنني من وراء الشباك .
وشاهدته في سينما ركس، يضع ساقيه الطويلتين فوق مسند المقعد الأمامي وهو يتحدث عن السينما ويقول: إن صلاح ذو الفقار قد فرضوه علينا في فيلم " عيون سهرانة "
وعلمت بعد ذلك إنه تخرج في كلية التجارة بتقدير ممتاز، وعمل في الجهازالمركزي للمحاسبات، يفتش الآن على حسابات الهيئات الحكومية والشركات
رأيته في دكان الحلاق– صديقه –، حدثته في إستحياء عن السينما، فامتحنني، سألني عن أول فيلم أخرجه كمال الشيخ وأول فيلم أخرجه صلاح أبوسيف.. الخ . وبعد أن أقتنع بأنني أصلح للحديث معه، سألني: من أهم ممثل في تاريخ السينما المصرية؟ قلت : زكي رستم . فقال في إستخفاف: لا ، فريد شوقي . وأخذ يحدثني عن فريد شوقي بحماس شديد وعلمت بعد ذلك إنه أستطاع الوصول إلى فريد شوقي، وعندما وجده مجنونا به رحب به وقربه منه وأنه الآن يساعده في حساباته؛ خاصة مع الضرائب، وكان فريد شوقي يقدمه لمعارفه على أنه مجنون فريد شوقي .وحكى لي عن إكتشافه لسرقة كبيرة في سنترال مرسى مطروح، فأبلغ عن ذلك، وبالتنسيق مع الشرطة عينوا أحد رجال المباحث ساعيا في السنترال، فقام بكشف اللصوص، وطريقة سرقتهم، وقد هدده بعضهم بالقتل، وطاردوه، لكنه لم يخف منهم
وقد تحدث عن ذلك في جلسة مع فريد شوقي، وإتفقوا على أن يسجلوا ما حدث في مسلسل تليفزيوني، وأن يقوم فريد شوقي بدور رجل المباحث الذي عمل ساعيا لكشف المخطط، لكن فريد شوقي مات فجأة، ولم يحدث ما أرادوا..
قال لي الحلاق في غيابه. بأنهما كانا يدخلان السينما مع مجموعة من شباب الحي، وكان في كل مرة يتشاجر مع الناس، وقد تسبب مرة في أنهم أخذوا علقة ساخنة من عمال مطعم مشهور في المنشية إسمه أبو غريب.
كنا نجلس في دكان الحلاق أنا ومجدي وصديقي حسن الذي يعمل في مصنع ليفي للسجاد – التابع الآن لمصنع سجاد دمنهور – أحسست بأن مجدي مازال يعاني مما حدث له في حياته، موت أمه وهو صغير، وإهتمام والده بالكرة في نادي الاتحاد السكندري، وعدم إهتمامه به وبأخته عزيزة التي تزوجت، وتعيش بعيدا عن الإسكندرية، مازال مجدي يشكو من الوحدة، فيأتي من بيته في سبورتنج ليجالسنا في دكان الحلاق.
وزار مجدي حسن في مصنع ليفي، فأعجب بفتاة هناك وخطبها. وكان يتحدث عنها بحماس شديد، ويذكر مزاياها ، وكنت أسمع دون تعليق، لكن حسنا كان يناقشة ويعارضه أحيانا في مواضيع تتعلق بالخطوبة، وصديقنا الحلاق منشغل بالحلاقة للزبون فلا يعلق بشيء. لكنه في مرة كان يحلق لمجدي شعره، وأراد أن يتحدث ويسلي الزبون، فسأله عن فتاته، وأبدى رأيه في المواضيع التي سبق أن سمعها ومجدي وحسن يتناقشان فيها. فغضب مجدي، وترك الفتاة ، فكيف يتدخل حلاق في شئونه الخاصة. وإختفي، لم يعد يذهب إلى دكان الحلاق الذي كان صديقه. وفوجئت به رئيس مجموعة الجهاز المركزي المحاسبات التي تراجع الحسابات في شركتنا .وجلست معه نتذكر جلساتنا في دكان الحلاق .
**
ومات صديقي الحلاق الذي كان مثالا صادقا لحسن الخلق، وظللت بلا حلاق، إلى أن شكوت لصديق لي بإدارة التدريب بشركتنا (وإدارات التدريب في كل شركات مصر تقريبا، عبارة عن مخزن يخزنون فيه الموظفين المغضوب عليهم، كانوا يشغلون حجرات فوق سطح الإدارة، يجلسون فيها بلا عمل) فأمسك صديقي بسماعة التليفون وطلب حلاقا وقال لي: لو أردت بائع مخدرات ممكن أن أطلبه لك بالتليفون. (فالشركة كان بها باعة اللحم والحمام والدواجن، والملابس والساعات والمخدرات أيضا) وبعد لحظات جاء عامل من عمال الشركة، ممسكا بلفة ورق كبيرة، أتضح أن بداخلها آلات الحلاقة. وحلق لي شعري.
وظللت هكذا أحلق شعري في الشركة، في الصيف أجلس فوق مقعد على السطح، وفي الشتاء أدخل حجرة من حجرات التدريب. وكنت مرتاحا لهؤلاء الحلاقين، فهم لا يستخدمون المرايات، ومقلين في الحديث. وفي كل مرة أحلق فيها شعري تغضب زوجتي. وتقول لي: حد يعمل في شعره كده. ومن الأشياء التي حزنت عليها بعد خروجي من العمل هم الحلاقين الذين كنت أرتاح معهم.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى