النفس الإنسانية
تستعد النفس الإنسانية قوتها من النفس الكلية؛ ومراتب النفوس ثلاثة أنواع: منها مرتبة الأنفس الإنسانية، ومنها ما فوقها وما دونها. والمعروف من هذه النفوس خمس، فالتي فوقها اثنتان: رتبة الملكية، ورتبة القدسية، فرتبة الملكية هي رتبة الحكمة، ورتبة القدسية هي رتبة النبوة. والتي دونها اثنتان: النفس الحيوانية والنفس النباتية
ومن الأخلاق والقوى ما ينسب إلى النفس النباتية الشهوانية، ومنا ما ينسب إلى الحيوانية الغضبية، ومنها ما ينسب إلى النفس الإنسانية الناطقة، ومنها ما ينسب إلى النفس العاقلة الحكيمة، ومنها ما ينسب إلى القدسية. فالمنسوب إلى النباتية: الغذاء، والرغبة في المشروبات، والحرص في طلب الشهوات. والمنسوب إلى الحيوانية الغضبية: الشهوة الجنسية، والانتقام، وشهوة الرئاسة، وكل الغرائز الشهوانية، والمحافظة على بقاء النوع؛ ويشترك في هذه الحيوان والإنسان. والمنسوب إلى النفس الناطقة: شهوة العلم والمعرفة، والعز والرفعة. والمنسوب إلى الملكية والقدسية: شهوة التقرب لربها والزلفى لديه. والسبب في وجود هذه الغرائز بنفوسنا أنه يوجد في المعلول دائماً شيء من العلة، فإن انعدم في المعلول سبب أو غير ذلك فهي كما في الحيوان والنبات؛ والله الذي هو علة الوجود حي باق لا يعرض له الفناء، ولهذا صارت الموجودات محبة للبقاء كارهة للفناء؛ ولهذه فالسعادة هي أن يبقى كل موجود أطول ما يمكن على أفضل حالاته وأتم غاياته لا ينقصه شئ؛ حتى يكون شبيهاً بالإله
الفضيلة
إذا ظهرت من الطبيعة هذه الشهوات المركزة في الجبلة، وكانت على ما ينبغي في الوقت الذي ينبغي من أجل ما ينبغي سميت خيراً؛ ومتى كانت بخلافه سميت شرا. وإذا فع الإنسان ذلك باختياره وإرادته على ما ينبغي بمقدار ما ينبغي، من أجل ما ينبغي، كان صاحبه محموداً؛ ومتى كان بخلاف ذلك كان سفيهاً جاهلا وكل نفس خادمة للنفس التي أعلى منها، وصلاحها في امتثالها لأوامرها
قوى النفس
وللنفس الإنسانية قوى كثيرة تساعدها على أن تصير عقلا بالفعل، وأفضلها القوى المفكرة لأنها تؤدي إلى المعرفة، والمعرفة لباب حياة النفس. ونفس الطفل في أولها صحيفة بيضاء لم ينقش عليها شيء، وكل ما تحمله إليها الحواس الخمس تتناوله القوة المتخيلة وتجمعه، ومجرى هذه القوة مقدم الدماغ، ثم تدفعه إلى القوة المفكرة ومسكنها وسط الدماغ، وهي تميز بعضه من بعض وتعرف الحق والباطل، ثم تؤديه إلى الحافظة التي مجراها مؤخر الدماغ. والقوة الناطقة تعبر عما في النفس بالألفاظ للسامعين، أو تقيدها بصناعة الكتابة، فيكون للنفس خمس حواس باطنة تقابل الخمس الظاهرة
الموت والحياة
الإنسان مكون من جسم ونفس روحاني، والجسم يريد البقاء في الدنيا، والنفس الروحانية تريد الرحيل إلى الآخرة؛ وعلى هذا فالموت والحياة نوعان: جسدي ونفساني، والحياة الجسدية ليست شيئا سوى استعمال النفس الجسد، والموت الجسدي ليس شيئاً سوى تركها استعماله؛ كما أن اليقظة ليست شيئاً سوى استعمال النفس الحواس، وليس النوم شيئاً سوى تركها استعمالها، أما النفس فحياتها ذاتية لها، وذلك أنها بجوهرها حية بالفعل علامة بالقوة فعالة في الأجسام والأشكال، وموتها هو جهالتها بجوهرها وغفلتها عن معرفة ذاتها، وذلك عارض لها من شدة استغراقها في بحر الهيولي، فكما أن ولادة الطفل ليست شيئاً سوى خروجه من الرحم، فكذلك ولادة النفس ليست شيئاً سوى مفارقة النفس إياه، والنفس لا تعرف السعادة إلا بعد ما تفارق الجسم، وعلى ذلك فالموت حكمة لأنه سبب لحياة الأبد
وبعد مفارقة النفس الجسد تبقى الشقية هائمة بهمومها معذبة دون فلك القمر، سائحة في بحر الهيولي، هاوية في عالم الكون والفساد مع أبناء جنسها من الأمم الخالية إخوان الشياطين وجنود إبليس أجمعين: (كلما دخلت أمة لعنت أختها) وهذه هي جهنم عند أخوان الصفاء، ونراهم يتابعون فلاسفة اليونان والمسلمين في قولهم يحشر الأرواح دون الأجسام، وإن العذاب عذاب الروح لا الجسد. ولقد رد عليهم الغزالي في تهافت الفلسفة رداً لا باس به
أما النفوس الخيرة عند أخوان الصفاء فتصعد إلى عالم الأفلاك وتصير ملائكة بالفعل، وهذه هي الجنة عندهم؛ والثواب هنا ثواب روحي لا جسدي. ولقد فصل الفارابي هذه النظرية في مدنيته الفاضلة ووضحها ابن سينا في النجاة والشقاء
خلود النفس
يعتقد إخوان الصفاء اعتقاداً جازماً الأجساد حبس للنفوس أو حجاب لها أو صراط أو برزخ، والنفوس تعلم تمام العلم بأن لها وجوداً آخر خيراً وأبقى وألذ وأحسن من هذا الوجود والبقاء الذي مع الجسد، فإذا استتمت الأنفس الجزئية وكملت صورتها ومعارفها، واستيقظت من هذه الغفلة وأحست بغربتها في هذا العالم الجسماني وأنها في أسر الطبيعة تائهة في بحر الهيولى، وعرفت فضيلة جوهرها ونظرت إلى عالمها، وشاهدت تلك الصور الروحانية المفارقة للمادة، إذا أدركت هذا كله هانت عليها مفارقة الجسد وسمحت بإتلافه وفي هذا سعادتها
وموت النفس هو جهلها بجوهرها وغفلتها عن معرفة ذاتها، والنفوس السعيدة هي التي قطعت أيام الحياة الدنيا بالأعمال الصالحة وسارت سيرة عادلة، وتخلقت بأخلاق جميلة، وبحثت عن حقائق المعقولات وأحكمتها؛ فإذا ما بلغت آخر العمر اشتاقت إلى مفارقة هذه الحياة، فلو لم يكن الموت لما أمكنها الصعود إلى ملكوت السماء ولا الوصول إلى الجنة
وعلى العكس من ذلك نفوس الأشقياء، فإنها بما اعتادته من لذات هذه المحسوسات، وقد منعت الوصول إليها والعودة للجسم نقول: (يا ليتنا نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل) وتبقى متألمة بذاتها معذبة من سوء عاداتها دون فلك القمر
وعلى هذا فالنفوس البشرية الخيرة ملائكة بالقوة، فإذا فارقت أجسادها كانت ملائكة بالفعل. والنفوس الشريرة شياطين بالقوة فإذا فارقت أجسادها كانت شياطين بالفعل
أما يوم القيامة ونهاية العالم فيكون بمفارقة النفس الكلية للعالم ورجوعها إلى الله
الله والعالم لما كان الله تام الوجود كامل الفضائل عالماً بالكائنات قبل كونها، قادراً على إيجادها متى شاء، لم يكن من الحكمة أن يحبس تلك الفضائل في ذاته فلا يجود بها ويفيضها؛ فإذا بواجب الوجود قد أفاض الجود والفضائل منه كما يفيض النور والضياء من عين الشمس. والله سبحانه لا يباشر الأفعال بذاته، بل يقتصر على الأعمال الكلية، أما التفصيلات فيدعها لملائكته الموكلين (وما أمْرُنا إلا واحدةٌ كلمحٍ البصر)، ويقول تعال كذلك: (وما خلْقُكُم ولا بعْثُكُم إلا كنفْس واحدة). ونسبة الأفعال التي تجري على أيدي عباده إلى الباري سبحانه كنسبة أفعال الملوك إذا قيل بني فلان الملك مدينة كذا، وحفر نهر كذا، فهؤلاء الملوك قد أمروا فقط، أما مباشرة العمل فتركت لغيرهم
وعلم الله تعالى محيط بما يحوي العقل من المعقولات، والفعل محيط بما تحوى النفس الكلية من الصور، والنفس محيطة بما تحوى الطبيعة من الكائنات، والطبيعة محيطة بما تحوى الهيولي من المصنوعات
تأثير أخوان الصفا
قد بينا سابقاً تلك الدعاية المنظمة التي قام بها أخوان الصفا لحمل الناس على الدخول في مذهبهم، وقد أدى نشر هذه الرسائل الآنفة الذكر إلى نشر الفلسفة ومبادئها، واشتغال الناس بها؛ إذ كتبوها بلغة سهلة تناسب عقلية الجمهور، ومزجوها بالدين مقتبسين كثيراً من آي القرآن الكريم حتى لا ينفرون منها، ووضعوا فيها مبادئ عامة من كل فن، فكانت من الوجهة العلمية موسوعة احتذى حذوها كثير من المؤلفين فيما بعد
وقد حملت الرسائل على رجال الدين والفقه، وأدى ذلك إلى اشتغال كثير من هؤلاء بالرد عليهم وتكفيرهم كابن تيمية وابن حجر وغيرهما. ثم أن رسائل إخوان الصفا كانت أول محاولة للتوفيق بين الدين والفلسفة، تلك الخطة التي اقتفاها الفارابي وابن سينا وابن رشد فيما بعد، والتي تأثروا فيها بإخوان الصفا كما تأثر هؤلاء بالأفلاطونية الحديثة بعد أن تنصرت ونقلها السريان إلى لغتهم محاولين أن يتخذوا منها دعامة لتأييد مذاهبهم المتعددة. . .
والرسائل كانت دستورا لطائفة الإسماعيلية كما رأينا من قبل فيها رموز وإشارات واصطلاحات لا يعرفها إلا الأتباع المخلصون. على أن هناك طائفة ممن اشتهروا بالعلم والفلسفة قد تأثروا بهم ومنهم: أبو حيان التوحيدي، وقد عرفنا أنه كان الصلة بين جماعة البصرة وجماعة بغداد، وقد اتهم بالزندقة من أجل ذلك، حتى جاء في طبقات الشافعية ما يأتي: (زنادقة الإسلام ثلاثة: ابن الراوندي، وأبو حيان التوحيدي، وأبو العلاء المعري)، ومنهم يحيى بن عدي المترجم المشهور والذي كان أحد أعضاء فرقة بغداد، وقد نشرت له مجلة اللغات السامية الأمريكية كتاباً في تهذيب الأخلاق تشبه تعاليمه ما عند أخوان الصفا في كثير من الموضوعات: ومنهم كذلك جماعة بغداد ورئيسهم السجستاني أبو سليمان وقد رأينا كيف أن أبا حيان قد اخذ رسائل إخوان الصفا وعرضها عليه؛ وعرفنا ما قاله أبو العلاء المعري فيهم عند مغادرته بغداد وكيف سماهم إخوان الصفا
نعم أن الغزالي يعرض بفلسفة أخوان الصفا، ويعدها فلسفة العامة من الناس، بيد أنه لا يتحرج من الاقتباس منها، وهو مدين لفلسفتهم بأكثر مما يعترف
(بيروت)
عمر الدسوقي
مجلة الرسالة - العدد 454
بتاريخ: 16 - 03 - 1942
تستعد النفس الإنسانية قوتها من النفس الكلية؛ ومراتب النفوس ثلاثة أنواع: منها مرتبة الأنفس الإنسانية، ومنها ما فوقها وما دونها. والمعروف من هذه النفوس خمس، فالتي فوقها اثنتان: رتبة الملكية، ورتبة القدسية، فرتبة الملكية هي رتبة الحكمة، ورتبة القدسية هي رتبة النبوة. والتي دونها اثنتان: النفس الحيوانية والنفس النباتية
ومن الأخلاق والقوى ما ينسب إلى النفس النباتية الشهوانية، ومنا ما ينسب إلى الحيوانية الغضبية، ومنها ما ينسب إلى النفس الإنسانية الناطقة، ومنها ما ينسب إلى النفس العاقلة الحكيمة، ومنها ما ينسب إلى القدسية. فالمنسوب إلى النباتية: الغذاء، والرغبة في المشروبات، والحرص في طلب الشهوات. والمنسوب إلى الحيوانية الغضبية: الشهوة الجنسية، والانتقام، وشهوة الرئاسة، وكل الغرائز الشهوانية، والمحافظة على بقاء النوع؛ ويشترك في هذه الحيوان والإنسان. والمنسوب إلى النفس الناطقة: شهوة العلم والمعرفة، والعز والرفعة. والمنسوب إلى الملكية والقدسية: شهوة التقرب لربها والزلفى لديه. والسبب في وجود هذه الغرائز بنفوسنا أنه يوجد في المعلول دائماً شيء من العلة، فإن انعدم في المعلول سبب أو غير ذلك فهي كما في الحيوان والنبات؛ والله الذي هو علة الوجود حي باق لا يعرض له الفناء، ولهذا صارت الموجودات محبة للبقاء كارهة للفناء؛ ولهذه فالسعادة هي أن يبقى كل موجود أطول ما يمكن على أفضل حالاته وأتم غاياته لا ينقصه شئ؛ حتى يكون شبيهاً بالإله
الفضيلة
إذا ظهرت من الطبيعة هذه الشهوات المركزة في الجبلة، وكانت على ما ينبغي في الوقت الذي ينبغي من أجل ما ينبغي سميت خيراً؛ ومتى كانت بخلافه سميت شرا. وإذا فع الإنسان ذلك باختياره وإرادته على ما ينبغي بمقدار ما ينبغي، من أجل ما ينبغي، كان صاحبه محموداً؛ ومتى كان بخلاف ذلك كان سفيهاً جاهلا وكل نفس خادمة للنفس التي أعلى منها، وصلاحها في امتثالها لأوامرها
قوى النفس
وللنفس الإنسانية قوى كثيرة تساعدها على أن تصير عقلا بالفعل، وأفضلها القوى المفكرة لأنها تؤدي إلى المعرفة، والمعرفة لباب حياة النفس. ونفس الطفل في أولها صحيفة بيضاء لم ينقش عليها شيء، وكل ما تحمله إليها الحواس الخمس تتناوله القوة المتخيلة وتجمعه، ومجرى هذه القوة مقدم الدماغ، ثم تدفعه إلى القوة المفكرة ومسكنها وسط الدماغ، وهي تميز بعضه من بعض وتعرف الحق والباطل، ثم تؤديه إلى الحافظة التي مجراها مؤخر الدماغ. والقوة الناطقة تعبر عما في النفس بالألفاظ للسامعين، أو تقيدها بصناعة الكتابة، فيكون للنفس خمس حواس باطنة تقابل الخمس الظاهرة
الموت والحياة
الإنسان مكون من جسم ونفس روحاني، والجسم يريد البقاء في الدنيا، والنفس الروحانية تريد الرحيل إلى الآخرة؛ وعلى هذا فالموت والحياة نوعان: جسدي ونفساني، والحياة الجسدية ليست شيئا سوى استعمال النفس الجسد، والموت الجسدي ليس شيئاً سوى تركها استعماله؛ كما أن اليقظة ليست شيئاً سوى استعمال النفس الحواس، وليس النوم شيئاً سوى تركها استعمالها، أما النفس فحياتها ذاتية لها، وذلك أنها بجوهرها حية بالفعل علامة بالقوة فعالة في الأجسام والأشكال، وموتها هو جهالتها بجوهرها وغفلتها عن معرفة ذاتها، وذلك عارض لها من شدة استغراقها في بحر الهيولي، فكما أن ولادة الطفل ليست شيئاً سوى خروجه من الرحم، فكذلك ولادة النفس ليست شيئاً سوى مفارقة النفس إياه، والنفس لا تعرف السعادة إلا بعد ما تفارق الجسم، وعلى ذلك فالموت حكمة لأنه سبب لحياة الأبد
وبعد مفارقة النفس الجسد تبقى الشقية هائمة بهمومها معذبة دون فلك القمر، سائحة في بحر الهيولي، هاوية في عالم الكون والفساد مع أبناء جنسها من الأمم الخالية إخوان الشياطين وجنود إبليس أجمعين: (كلما دخلت أمة لعنت أختها) وهذه هي جهنم عند أخوان الصفاء، ونراهم يتابعون فلاسفة اليونان والمسلمين في قولهم يحشر الأرواح دون الأجسام، وإن العذاب عذاب الروح لا الجسد. ولقد رد عليهم الغزالي في تهافت الفلسفة رداً لا باس به
أما النفوس الخيرة عند أخوان الصفاء فتصعد إلى عالم الأفلاك وتصير ملائكة بالفعل، وهذه هي الجنة عندهم؛ والثواب هنا ثواب روحي لا جسدي. ولقد فصل الفارابي هذه النظرية في مدنيته الفاضلة ووضحها ابن سينا في النجاة والشقاء
خلود النفس
يعتقد إخوان الصفاء اعتقاداً جازماً الأجساد حبس للنفوس أو حجاب لها أو صراط أو برزخ، والنفوس تعلم تمام العلم بأن لها وجوداً آخر خيراً وأبقى وألذ وأحسن من هذا الوجود والبقاء الذي مع الجسد، فإذا استتمت الأنفس الجزئية وكملت صورتها ومعارفها، واستيقظت من هذه الغفلة وأحست بغربتها في هذا العالم الجسماني وأنها في أسر الطبيعة تائهة في بحر الهيولى، وعرفت فضيلة جوهرها ونظرت إلى عالمها، وشاهدت تلك الصور الروحانية المفارقة للمادة، إذا أدركت هذا كله هانت عليها مفارقة الجسد وسمحت بإتلافه وفي هذا سعادتها
وموت النفس هو جهلها بجوهرها وغفلتها عن معرفة ذاتها، والنفوس السعيدة هي التي قطعت أيام الحياة الدنيا بالأعمال الصالحة وسارت سيرة عادلة، وتخلقت بأخلاق جميلة، وبحثت عن حقائق المعقولات وأحكمتها؛ فإذا ما بلغت آخر العمر اشتاقت إلى مفارقة هذه الحياة، فلو لم يكن الموت لما أمكنها الصعود إلى ملكوت السماء ولا الوصول إلى الجنة
وعلى العكس من ذلك نفوس الأشقياء، فإنها بما اعتادته من لذات هذه المحسوسات، وقد منعت الوصول إليها والعودة للجسم نقول: (يا ليتنا نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل) وتبقى متألمة بذاتها معذبة من سوء عاداتها دون فلك القمر
وعلى هذا فالنفوس البشرية الخيرة ملائكة بالقوة، فإذا فارقت أجسادها كانت ملائكة بالفعل. والنفوس الشريرة شياطين بالقوة فإذا فارقت أجسادها كانت شياطين بالفعل
أما يوم القيامة ونهاية العالم فيكون بمفارقة النفس الكلية للعالم ورجوعها إلى الله
الله والعالم لما كان الله تام الوجود كامل الفضائل عالماً بالكائنات قبل كونها، قادراً على إيجادها متى شاء، لم يكن من الحكمة أن يحبس تلك الفضائل في ذاته فلا يجود بها ويفيضها؛ فإذا بواجب الوجود قد أفاض الجود والفضائل منه كما يفيض النور والضياء من عين الشمس. والله سبحانه لا يباشر الأفعال بذاته، بل يقتصر على الأعمال الكلية، أما التفصيلات فيدعها لملائكته الموكلين (وما أمْرُنا إلا واحدةٌ كلمحٍ البصر)، ويقول تعال كذلك: (وما خلْقُكُم ولا بعْثُكُم إلا كنفْس واحدة). ونسبة الأفعال التي تجري على أيدي عباده إلى الباري سبحانه كنسبة أفعال الملوك إذا قيل بني فلان الملك مدينة كذا، وحفر نهر كذا، فهؤلاء الملوك قد أمروا فقط، أما مباشرة العمل فتركت لغيرهم
وعلم الله تعالى محيط بما يحوي العقل من المعقولات، والفعل محيط بما تحوى النفس الكلية من الصور، والنفس محيطة بما تحوى الطبيعة من الكائنات، والطبيعة محيطة بما تحوى الهيولي من المصنوعات
تأثير أخوان الصفا
قد بينا سابقاً تلك الدعاية المنظمة التي قام بها أخوان الصفا لحمل الناس على الدخول في مذهبهم، وقد أدى نشر هذه الرسائل الآنفة الذكر إلى نشر الفلسفة ومبادئها، واشتغال الناس بها؛ إذ كتبوها بلغة سهلة تناسب عقلية الجمهور، ومزجوها بالدين مقتبسين كثيراً من آي القرآن الكريم حتى لا ينفرون منها، ووضعوا فيها مبادئ عامة من كل فن، فكانت من الوجهة العلمية موسوعة احتذى حذوها كثير من المؤلفين فيما بعد
وقد حملت الرسائل على رجال الدين والفقه، وأدى ذلك إلى اشتغال كثير من هؤلاء بالرد عليهم وتكفيرهم كابن تيمية وابن حجر وغيرهما. ثم أن رسائل إخوان الصفا كانت أول محاولة للتوفيق بين الدين والفلسفة، تلك الخطة التي اقتفاها الفارابي وابن سينا وابن رشد فيما بعد، والتي تأثروا فيها بإخوان الصفا كما تأثر هؤلاء بالأفلاطونية الحديثة بعد أن تنصرت ونقلها السريان إلى لغتهم محاولين أن يتخذوا منها دعامة لتأييد مذاهبهم المتعددة. . .
والرسائل كانت دستورا لطائفة الإسماعيلية كما رأينا من قبل فيها رموز وإشارات واصطلاحات لا يعرفها إلا الأتباع المخلصون. على أن هناك طائفة ممن اشتهروا بالعلم والفلسفة قد تأثروا بهم ومنهم: أبو حيان التوحيدي، وقد عرفنا أنه كان الصلة بين جماعة البصرة وجماعة بغداد، وقد اتهم بالزندقة من أجل ذلك، حتى جاء في طبقات الشافعية ما يأتي: (زنادقة الإسلام ثلاثة: ابن الراوندي، وأبو حيان التوحيدي، وأبو العلاء المعري)، ومنهم يحيى بن عدي المترجم المشهور والذي كان أحد أعضاء فرقة بغداد، وقد نشرت له مجلة اللغات السامية الأمريكية كتاباً في تهذيب الأخلاق تشبه تعاليمه ما عند أخوان الصفا في كثير من الموضوعات: ومنهم كذلك جماعة بغداد ورئيسهم السجستاني أبو سليمان وقد رأينا كيف أن أبا حيان قد اخذ رسائل إخوان الصفا وعرضها عليه؛ وعرفنا ما قاله أبو العلاء المعري فيهم عند مغادرته بغداد وكيف سماهم إخوان الصفا
نعم أن الغزالي يعرض بفلسفة أخوان الصفا، ويعدها فلسفة العامة من الناس، بيد أنه لا يتحرج من الاقتباس منها، وهو مدين لفلسفتهم بأكثر مما يعترف
(بيروت)
عمر الدسوقي
مجلة الرسالة - العدد 454
بتاريخ: 16 - 03 - 1942