د. أحمد الحطاب - وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا…

عنوان هذه المقالة هو الجزء الأول من الآية رقم 31 من سورة البقرة. تعالوا نُحلِّل ونُشرِّح هذا الجزء من الآية الكريمة انطلاقا من ما وهبه ويسَّره الله، سبحانه وتعالى، لنا من عقلٍ.

"وَعَلَّمَ" تقتضي أن يكونَ هناك مُعلِّمٌ يصدر عنه تعليمٌ. وتقتضي، كذلك، أن يكونَ هناك مُتعلِّمٌ له القدرة على أن يتعلَّمَ أو له قدرة التَّعلُّم. والتَّعليم لا معنى له بدون معرفةٍ أو سلوك يُبلِّغهما المُعلِّم للمُتعلِّم. والتَّعلُّم هو استعداد المتعلِّم لاستقبال المعرفةَ أو السلوك الصادرين عن المعلِّم. المعلِّم يعرف. وهذا شيءٌ طبيعي بالنسبة لله، سبحانه وتعالى، لأنه هو خالِق الكون بما في ذلك الأرض التي هي مكان عيش وحياة الإنسان. ولمزيد من التَّوضيح، أدعو القارئ للإطلاع على مقالة نشرتُها على صفحتي بتاريخ 2 مايو 2024 تحت عنوان : "لا يعرف الكونَ معرفةً دقيقةً إلا خالِقُه". والمتعلِّم يسعى إلى التَّعلُّم لأنه لا يعرف، مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى : "عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ" (العلق، 5). "مَا لَمْ يَعْلَمْ" يعني ما لم يعرف.

"آدَمَ"، في هذه الآية هو المُتعلِّم والله، سبحانه وتعالى، هو المعلِّم. وكما سبق الذكرُ، التَّعليم بدون معرفة أو سلوك لا معنى له. فماذا علَّم المُعلِّم الذي هو الله للمتعلِّم الذي هو آدم؟ علَّمَه "الْأَسْمَاءَ". إذن الأسماء هي المعرفة التي بلَّغها المُعلِّم، الله، للمُتعلِّم آدم. لكن الله، سبحانه وتعالى، يقول "الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا". وهنا، يتدخَّلُ العقل البشري ويطرحُ سؤالين من الأهمِّية بمكان. السؤال الأول: "هل الله، سبحانه وتعالى، علَّمَ آدم فقط الأسماء التي سيحتاجها في حياته اليومية وفي عصره"؟ السؤال الثاني : "أم الله، سبحانه وتعالى، علَّم آدم جميع ما في الكون من أسماء"؟
قبل الجواب على هذين السؤالين، من الضروري إثارة الانتباه إلى أن كلَّ اسمٍ يقابله مُسمَّى. الاسم فكرةٌ أو شيءٌ معنوي يحتفظ به الإنسان في عقله أو في ذاكرته. وكلما فكَّر العقل في هذا الاسم، كلما استحضِر المسمَّى الذي يقابله. والمُسمَّى يمكن أن يكونَ مادياً، أي ملموسا concret. كما يمكن أن يكونَ معنويا، أي غير ملموس، أو بعبارة أخرى، لا يوجد إلا على المستوى العقلي أو الذهني mental.

والمسمَّى، كيفما كان، مادِّياً أو معنوياً، فإنه ينصهر مع الاسم، على المستوى الذهني، ليُشكِّلَ وحدةً معرفيةً يُرسِّخها العقلُ في الذاكرة. فعندما نقول أو نقرأ مثلاً كلمةَ "أسد"، نستحضر أنه حيوان ثم نستحضر شكلَه و وجهَه ثمَّ نستحضر أنه وحشي sauvage وشَرِس féroce ومفترس prédateur… وهنا، لا بدَّ من إثارة الانتباه أن العقلَ البشري، بفضل ما قام به من دراسات وأبحاث، صنَّف الأسودَ إلى عِدَّة أنواع classification des lions en plusieurs espèces. وكلُّ نوعٍ من الأسود ينفرد بأوصافٍ وخاصِّيات caractéristiques et propriétés لا توجد عند الأنواع الأخرى…

أما إذا كان المسمَّى معنويا، فالأمور تتعقَّد نظرا لكون إِدراكِ المسمَّى قد يختلف من شخصٍ إلى آخر. مثلاً، إذا قلنا أو قرأنا كلمةَ "طيب"، فهل الأمر يتعلَّق بالرَّوائح odeurs أم بطيبوبة القلب والأخلاق؟ في كلتي الحالتين، العقل البشري صنَّفَ الرَّوائحَ الطيبة والكريهة إلى عدَّة أنواع، كما صنَّفَ الناسَ الطيبين إلى عدَّة أصناف. فالذي لا يُسيء للناس طيب، والذي لا يكذب طيب والمُتصدِّق طيب، والمحسن طيب… فالسياق الذي تجيء فيه الكلمات، داخلَ الجُمل، هو الذي يوضِّح معناها. إذن الكلمات وحدها قد لا تعني أي شيء أو تحتمل معاني مختلفة بالنسبة للعقل البشري. وهذا هو الواقع إذ عندما نفتح المعاجم أو القواميس، نجد أن الكلمة الواحدة لها عدَّة معاني، وبالتالي وكما سبق الذكرُ، السياق هو الذي يفصل في معاني الكلمات.

بعد هذه التَّوضيحات الضرورية والمُهمَّة، يتَّضح لنا أن الكلمات وحدها، مهما تعدَّدت ومهما اختلفت حروفُها قد لا تعني أي شيءٍ بالنسبة للعقل البشري. وحتى يستوعبَها هذا العقل، لا بد من إدراجِها في سياقٍ معيَّن على شكل جُملٍ فعلية أو جُملٍ اسمية.

وهذا هو ما سيقودُنا لاختيارِ أحد السؤالين، المشار إليهما أعلاه واللذين هما :

1."هل الله، سبحانه وتعالى، علَّمَ آدم فقط الأسماءَ التي سيحتاجها في حياته اليومية وفي عصره"؟

2."أم الله، سبحانه وتعالى، علَّم آدم جميعَ ما في الكون من أسماء بما في ذلك الأسماء الناتجة عن تطوُّر الفكر البشري"؟

قبل الفصل بين هذين السؤالين، أذكِّر بأن اللهَ، سبحانه وتعالى، أمرَ عبادَه بتَدَبُّرِ آيات القرآن الكريم. وتدبُّرُ آيات هذا القرآن يتطلَّب استعمالَ العقل الذي هو هِبة ونِعمة من الهِبات والنِِّعَم التي وهبَها الله، سبحانه وتعالى، للبشر وأنعم بها عليهم. والتَّدبُّر يتطلَّب منا :

أولا، الوقوف عند كل كلمة وردت في كتاب الله.

ثانيا، تحديد السياق الذي جاءت فيه.

ثالثا، التَّأكُّد هل نفس الكلمة وردت في آياتٍ أخرى.

رابعا، مقارنة السياقات بالنسبة لجميع الآيات التي وردت فيها نفس الكلمة. وفي غالب الأحيان، السياقات تكون مختلفة لأن نفس الكلمة، المستعمَلَة في عدَّة آياتٍ، قد تكون لها معاني مختلفة. لماذا؟

لأن اللهَ، سبحانه وتعالى، شديدُ الدقَّة في إبداعِ آيات القرآن الكريم. فكل كلمة تستوجب من القارئ أن يقفَ عندها ويتأمَّل في سياقها، مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى : "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِير" (هود، 1).

"أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ…"، أي تمَّ إبداعُها بإحكام وإتقان ودقة. "…ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ"، أي تمَّ تِبيانُها وتوضيحها منه، سبحانه وتعالى، البصير والشامل الكونَ بعلمه الواسع، ماضياً، حاضراً ومستقبلاً، العلم الذي لا ينضب. لماذا استشهدتُ بهذه الآية الكريمة؟

استشهدتُ بها لأن كلامَ الله في القرآن الكريم مُحْكَمٌ ومُتْقَنٌ وينطلق من الواقع. فضلاً على أن اللهَ، سبحانه وتعالى، كامل الصفات. وبعبارة أخرى، ما دام كلام الله مُحْكَماً ومُتقناً، لا يمكن أن يكونَ فيه تناقضٌ. بمعنى أنه إذا علَّم اللهُ، سبحانه وتعالى، آدمَ كلَّ ما في الكون من أسماء، فلماذا سيستمرُّ في تعليم الأنسان طبقا لِما جاء في الآية رقم 5 من سورة العلق.
بعد هذه التَّوضيحات، وسعياً إلى الفصل بين السؤالين المُشار إليهما أعلاه، العقل والمنطق البشريان يقولان بأن اللهَ، سبحانه وتعالى، علَّم آدمَ، فقط، الأسماء التي سيحتاجها في ممارسة حياته اليومية، أي كلَّ الأسماء التي ستُمكِّنه من التَّصرُّف في وسط عيشِه. لماذا؟
لقد سبق أن قلتُ، أعلاه، أن كلَّ اسمٍ يقابلُه مُسمَّى. فإذا علَّم الله آدمَ كلَّ ما في الكون من أسماء ماضيا وحاضرا ومستقبلا، فمن المؤكد أن آدمَ سيجد نفسَه، في حياتِه اليومية، أمام كثيرٍ من الأسماء بدون مسميات.

وما يُعزِّز هذا الاختيارَ، هو أن القرآن الكريم فيه، على الأقل، آيتان تسيران في نفس الاتجاه. في الآية الأولى رقم 5 من سورة العلق، المشار إليها أعلاه، يقول، سبحانه وتعالى : "عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ". والمُلاحظ أن اللهَ، عزَّ وجلَّ، يتحدَّث عن الإنسان وليس عن آدم. والملاحظ، كذلك، أن جلَّ الآيات التي وردت فيها كلمةُ "إنسان" لها علاقة بتصرُّف الإنسان وبسلوكه وهو يُمارس حياتَه اليومية. والحياة اليومية، بالنسبة للإنسان، هي الحياة داخلَ المجتمعات. وبنو آدم سمَّاهم الله، سبحانه وتعالى، ناسا (جمع إنسان) عندما أصبحوا يعيشون في مجتمعات منظَّمة.
أما الآية الثانية، فهي آية الكُرسي رقم 255 من سورة البقرة. يقول، سبحانه وتعالى : "اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ…وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ…"

فإذا تمعَّنا في الآيتين رقم 5 من سورة العلق ورقم 255 من سورة البقرة، فإن اللهَ، سبحانه وتعالى، لا يمكن، كما سبق الذكرُ، أن يتناقضَ مع نفسِه بتعليمه آدمَ "الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا"، وهو يقول في آية الكرسي أنه يهب العلمَ للبشر حين ومتى يشاء. وهذا هو ما نلاحظه عبر تاريخ البشرية إذ أن تطوُّرَها الفكري لم يتم دفعَةً واحدةً. بل استغرق قرونا إن لم نقل مئات آلافَ السنين.

إذن، اللهُ، سبحانه وتعالى، علَّم ويُعلِّم وسيُعلِّم الإنسانَ ما لم يعلم إلى أن يَرثَ الله الأرضَ ومَن عليها. والدليل على ذلك أن فعلَ "علَّمَ" جاء في القرآن الكريم، ثارةً، في صيغة الماضي، وثارةً أخرى، في صيغة المضارع. صيغة الماضي تتلاءم مع ما جاء في الآية الكريمة رقم 85 ،من سورة الإسراء التي نصُّها : "وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ…وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا". بينما صيغة المضارع (حدوثُ الشيء في الحاضر والمستقبل) تتلاءَم مع الآية رقم 151 من سورة البقرة التي نصُّها : "كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ". "وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ"، الكلام، هنا، موجَّهٌ للمشركين. والمقصود، هنا، هو يُعلِّمكم القرآن، في زمان حاضركم. أما الحِكمة، فتعليمُها للناس لا يتوقَّف ولن يتوقف. "وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ"، أي الأشياء التي لم يسبق لكم علمٌ بها.

لهذا، فحينما قال، سبحانه وتعالى : "وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا…" فالأمر يتعلَّق، منطِقياً، ب"كل" الأسماء التي كانت سائدةً في تلك الفترة من الزمان، أي الأسماء التي سيجد لها آدمُ مسمياتٍ في واقع عيشِه اليومي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى