عبدالله الميّالي - الإيحاءات السياسية في رواية (الزمن الحديدي) لعبد الهادي الفرطوسي*

صدرت رواية (الزمن الحديدي) للروائي عبد الهادي أحمد الفرطوسي، في عام 2001 عن دار نشر إبداع في النجف، وتقع هذه الرواية القصيرة في 91 صفحة من الحجم المتوسط، وتتألف من خمسة أقسام مرقمة وغير معنونة. وهي من روايات الخيال العلمي التي عُرف بها الفرطوسي. فقد أصدر الفرطوسي أربع روايات أخرى تنتمي لهذا اللون الأدبي، وهي: (الكون السالب) صدرت في عام 1990، (الرجل الآتي) صدرت في عام 2000، (ضوع الكبريت) صدرت في عام 2002 ، (الأرض الجوفاء) صدرت في عام 2003.
ملخص الرواية
الرواية تحكي قصة تجربة الفنان (جودة الساير) بتجميده في مختبر الرازي في عام 1985 لاختراق الزمن نحو المستقبل. وجاءت هذه القصة من خلال المذكرات التي تركتها الممرضة (سلوى فتاح) بعد وفاتها، وهي ممرضة تعمل في مركز الرازي للبحوث الطبية، ولديها موهبة في التخاطر وقراءة الأفكار (الباراسايكولوجي) . وبعد يوم من العملية يستيقظ (جودة الساير) ليجد نفسه في العام 2385 وهذا يعني اختراق الزمن لأربعمائة عام، وهنا يجد البطل نفسه في عالَم جديد ومختلف جداً عن عالمه السابق قبل عملية التجميد، يُسمى هذا العالَم (عصر العلم والازدهار الحضاري) حيث الأولوية فيه تكون للآلة والكمبيوتر والتكنلوجيا على حساب الإنسان الذي تحوّل إلى (فئران تجارب). ويسيطر على هذا العالَم مجلس مؤلف من مِئة شخصية علمية يُدعى (المجلس العلمي الأعلى)، ويحكم هذا المجلس (العقل الأكبر) الذي له كلمة الفصل في القرارات والأوامر. وهذا العالَم لم يألفه البطل ولم ينسجم أو يتفاعل معه بصورة إيجابية. ثم تتوالي الأحداث والمشاهد في الرواية التي تكشف عن هواجس وانفعالات (جودة الساير) في عالمه الجديد ومحاولته الهرب إلى عالَم آخر هو عالَم (التخلفيين) الذي هو على النقيض من العالَم السابق، حيث بدائية العيش في الكهوف والمغارات والطبيعة. وهذا العالَم هو الآخر لم ينسجم معه البطل، فتركه ليشارك في حركة تصحيح لعالَم الآلة يقودها الدكتور (عاطف) أحد القياديين في مركز الرازي، ولكن تفشل حركة التصحيح ويُقبض على الدكتور عاطف، كما يقبض على جودة الساير ويُسجن في صندوق خاص يشبه التابوت بانتظار مصيره.
عوالِم الرواية
أفرزت الرواية ثلاثة عوالم مختلفة ومتباينة، ولكل عالَم ثقافته وفلسفته الخاصة، وهي:
1ــــ عالَم (الازدهار العلمي الحضاري) أو عالَم الآلة والتكنولوجيا. وهو العالَم الذي مسخ شخصية الإنسان وحوّله إلى (فئران تجارب) بحسب الرواية، وجرّده من مشاعر الحب والعاطفة والرغبة والغريزة وهي من طبيعة الإنسان. ويمثل هذا العالَم في الرواية، العقل الأكبر والمجلس العلمي الأعلى ورئيسه دكتور (مشين)، الذي يرمز اسمه إلى الآلة (machine).
2ــــ عالَم (التخلفيين) أو العالَم البدائي. وهم بحسب الرواية: "البقية الباقية من الناس الذين رفضوا التكيّف مع متطلبات العصر. وقاوموا إرادة العقل الأكبر. وبعد شن حملة تأديبية عليهم. هربوا إلى جبال الهملايا. واعتصموا هناك. وما يزالون يعيشون حياة بدائية متخلفة" ص48 . ويمثل هذا العالَم في الرواية، أولئك الذين هربوا من سطوة عالَم (الازدهار العلمي الحضاري) فسكنوا جبال وسفوح الهملايا.
3ــــ عالَم (أبناء الأرحام) وهو عالَم وسطي بين العالَم الأول والثاني. أي هو العالَم الذي يحترم الإنسان ومشاعره وعاطفته وغريزته من جهة، ويستفيد من تطورات العصر التكنولوجية من جهة أخرى. "أصحاب العقل الأكبر يتصورون أنهم أحدثوا تغييرات جذرية في الإنسان. إنهم لم يغيروا غير القشرة الخارجية. انظروا إلى هؤلاء الناس كيف أعادتهم هذه القصبة إلى حال أجدادهم القدامى. الإنسان هو الإنسان." ص58 .
التحليل الفني للرواية
1ــــ جاءت الرواية حسب المبنى الميتاسردي المتمثل بمذكرات (سلوى فتاح) وهي تروي قصة (جودة الساير) وتجربته المثيرة في مختبر الرازي للأبحاث الطبية. وهذا يعني أن مذكرات (سلوى فتاح) هي الإطار العام للرواية، وقصة (جودة الساير) هي المتضمنة والمنبثقة منها.
2ــــجاء السرد في الرواية من قبل ساردين اثنين، ليس للمؤلف/الراوي العليم فيها نصيب كما هو الشائع في الروايات. السارد الأول: الصحفي الذي استهلت به الرواية بما يقرب من صفحتين ونصف فقط، ثم يتنحى جانباً ويسمح للسارد الثاني: وهو بطل الرواية ومحورها (جودت الساير) ليتولى بقية السرد إلى النهاية.
3ــــ استخدم الكاتب تقنية السرد الدائري (الاسترجاع ثم الاستباق ثم الاسترجاع) فتنتهي الرواية من حيث بدأت. تبدأ الرواية بحضور الصحفي لجنازة (سلوى فتاح) وعثوره على مذكراتها "كنت أتوقع أني سأكون الصحفي الوحيد الذي يحضر جنازة سلوى فتاح، وستكون كل الوثائق في حوزتي وحدي" ص3. وتنتهي بوصية (جودة الساير) لها: "هذه قصتي يا سلوى فتاح انقليها إلى أهل زمانك" ص91. يضاف إلى ذلك وجود صيغة الاستذكار أيضاً، كما في هذا المورد: "قبل أربعمائة عام صدرت كتب الأستاذ تونغ تحمل أفكاراً علمية جديدة عن الطاقات المندثرة في الإنسان وإمكانية إحيائها والاستفادة منها في الحياة العملية .. كان آباؤنا قد جعلوا من نظرية الأستاذ تونغ منطلقاً لهم في تطوير القدرات الإنسانية وإحياء ما اندثر من طاقات لمواجهة الطبيعة القاسية وتطويعها" ص69.
4ــــ هذه الرواية كما قلنا تنتمي لروايات (الخيال العلمي) التي أسس لها الروائي الفرنسي جول فيرن (ت 1905) والذي يعد أحد أهم روّاد هذا النوع الروائي برواياته المتعددة، ومنها: (عشرون ألف فرسخ تحت الماء) و(حول العالم في 80 يوماً) و(رحلة على متن منطاد) و(في العام 2889) و(من الأرض إلى القمر) وروايات أخرى من هذا الباب. جول فيرن أسس لرواية جديدة مقارنة بروايات القرن التاسع عشر التقليدية (تحاور مجهولاً متعدد الأبعاد، وآمن بسلطة العلم، واشتق منها "إيديولوجيا علمية" وثوقية، تنطق الماضي، وتستدعي المستقبل، حرر الزمن من مكانه وحرر المكان من زمنه، مطمئناً إلى وسائل تقنية تتضمن السفينة والمنطاد والقطار والغواصة. عمد إلى مجاز الرحلة الذي يجسد المسافة بين مكانين، وبين عالم مرئي معروف وآخر محتجب ومجهول.) [1] . وهنا تأتي رواية (الزمن الحديدي) لتذكرنا بتلك الروايات العلمية لجول فيرن، كما تذكرنا برواية (رجل تحت الصفر) للكاتب المصري مصطفى محمود، في اختراق الزمن، حيث الاستباق الزمني إلى عام 2067 .
5ــــ في رواية (الزمن الحديدي) نجد أن زمن الرواية يتناوب بين زمن حاضر (عام 1985) وبين زمن المستقبل (عام 2385) والفرق بينهما أربعمائة عام. والزمن الثاني هو الأكثر حضوراً لكونه هو محور الرواية ومقصديتها حيث يشتبك الواقعي باللاواقعي، والحاضر بالمستقبل.
6ــــ يتناوب الفضاء الروائي ما بين بقعة غير محددة في غرب أوربا، فهناك يتموضع مركز الرازي للأبحاث الطبية، إلى جبال الهملايا في شرق آسيا حيث يعيش مجتمع (التخلفيين). ويبدو وجود التناص المكاني غير المباشر مع عنوان رواية عبد الرحمن منيف (شرق المتوسط). وهذه إشارة لها دلالتها. فالكاتب أراد نفي المكان من خارطة الشرق الأوسط، ولكنه أثبته من خلال التناص غير المباشر مع عنوان (شرق المتوسط) وهذه مخاتلة بارعة تُسجل للكاتب.
7ــــ عنوان الرواية (الزمن الحديدي) يومئ الكاتب من خلاله إلى القبضة الحديدية والشدّة والصرامة التي تنتهجها الأنظمة الشمولية المستبدة. لم يهتم الكاتب بتصوير شخصيات الرواية والمكان كثيراً. ربما لخصوصية الرواية في انتمائها للخيال العلمي.

البعد السياسي في الرواية
على رأي الناقد علي حرب: (مكمن السر في النص، أنه يخفي إستراتيجيته ولا يفضي بكل مدلولاته .. ثمة نصوص لا تستنفد قراءتها. وهذه خاصية النص القوي، إنه لا يقول الحقيقة .. وقارئ النص هو الذي يُحسن رؤية ما لا يُرى بصرف المعنى أو استنطاق الصمت أو ملء الفراغات أو تشخيص العوارض أو اختراق الطبقات..) [2]
ذكرنا أن رواية (الزمن الحديدي) تنتمي إلى أدب الخيال العلمي، إلا أن الكاتب ضمّنها إشارات وإيماءات وإيحاءات ذات أبعاد سياسية تركها للقارئ والمتلقي أن يكتشفها باستنطاق النص وقراءة ما بين السطور. ولا ننسى أن الكاتب أصدر روايته هذه في عام 2001 في ظل نظام شمولي يحكم العراق بقبضة من حديد، فلا يستطيع الكاتب أن يكتب بحرية إلا من خلال تلك الإيماءات المشفّرة. وسبق أن ذكرنا أن عالَم (الازدهار الحضاري) يحكمه المجلس الأعلى، فيمكن أن نشبّه هذا المجلس بالحكومة، وذكرنا أن هذا المجلس يتحكم به العقل الأكبر بصرامة، فيمكن أن نشبّه هذا العقل بالزعيم الشمولي المستبد، عندئذ يصبح من السهل فك تلك الشفرات الواردة في الرواية والتي نوجزها بما يلي:
1ــــ "ــــ المجلس الأعلى لا يوافق ولا يرفض. إن ذلك من صلاحية العقل الأكبر.
– وما هي مهمات المجلس الأعلى إذاً؟.
ــــ إنه ينفذ أوامر العقل الأكبر فقط." ص43. .
واضح من النص أن كلمة الفصل هي للعقل الأكبر، أي (الزعيم الشمولي) ، ومهام المجلس الأعلى (الحكومة) هي تنفيذ الأوامر على قاعدة (نفّذ ولا تناقش).
2ــــ "– مضيفتنا تضطهدنا. يا دكتور عاطف.
ــــ إنها التعليمات الصارمة يا سيدتي.
ــــ ولماذا تضعون هذه القيود الصارمة علينا؟
ــــ المسألة أصعب مما تتصورين." ص52 .
فإذا عرفنا أن المضيفة هي عين من عيون التلصص، أو هي مخبر سرّي تعمل لصالح النظام (العقل الأكبر/الزعيم) سينكشف النص أمام القارئ، كما جاء على لسان دكتور عاطف: "لا تخبروا أحداً عمّا دار بيننا. وخاصة مضيفتكم. إنها عين من عيون العقل الأكبر" ص54 .
3ــــ "أيضحك الناس في زمن العلم والازدهار الحضاري!!" ص25 .
بما أن الكاتب قد رمز للنظام الشمولي المستبد بـ(زمن العلم والازدهار الحضاري) فهو يسخر أن يجد من يضحك أو يبتسم في حكم هكذا نظام يكتم الأنفاس ويُحاسب على كل شاردة وواردة.
4ــــ "طالعتنا جريدة الصباح بالنبأ العظيم (ردّة إلى عصور التخلف) كان هذا عنوان الخبر الذي نشرته الصباح .. همس في أذني الأستاذ تونغ:
ــــ أتعرف محرر الجريدة؟
ــــ لا أعرفه.
ــــ إنه العقل الأكبر عينه" ص58 – 59 .
واضح أن الإشارة إلى الجريدة هو إشارة إلى الإعلام، والإعلام في الأنظمة الشمولية المستبدة يتحكم به رأس النظام ومن يخوّلهم بذلك من الطبقة المحيطة به.
5ــــ "ــــ لم أجد في الصندوق الذي تسمينه المكتبة كتباً للشعر والقصة والرواية ..
ــــ الأمور التي طلبتها لا وجود لها في عصرنا. لقد انقرضت منذ مئات السنين. فالعقل الأكبر لا يشجع على ممارستها .. إنها توجيهات العقل الأكبر. وتعليماته لا تقبل الخطأ أبداً.
ــــ فهي ضمن الممنوعات إذاً؟
ــــ نعم." ص47 .
النص يلمح إلى صورة من صور الكبت التي يعاني منها المثقف والأديب الحُر في مجتمع النظام الشمولي المستبد، حيث تصادر الكتب والمؤلفات التي تخالف الخط الفكري والأيديولوجي لذلك النظام، وحتى لو كانت هذا المؤلفات هي مؤلفات أدبية كالشعر والقصة والرواية فهي تدخل ضمن قائمة الممنوعات، فضلاً عن الكتب السياسية المخالفة التي عقوبتها لا تحتاج لبيان.
6ــــ "ــــ مجلسكم الأعلى يتكون من مائة عالِم كما تقولون فما هي الإضافات العلمية التي قدمها هؤلاء العلماء؟
ــــ كل ما قدمناه هو تنفيذ توجيهات العقل الأكبر في كافة الميادين.
ــــ والعقل الأكبر ما الذي أضافه على الصعيد النظري؟
أطرق الدكتور عاطف طويلاً. ولم يجب. فعقب الأستاذ العجوز تونغ:
ــــ إن اعتمادكم على العقل الأكبر في تفكيركم قد بلّد أذهانكم وصيّركم أدوات منفذة فقط. عاجزين عن الابتكار والاكتشاف." ص53 .
يشير النص إلى رضوخ المجلس الأعلى وتحوّله إلى أداة طيعة لتنفيذ القرارات والتوجيهات الصادرة من العقل الأكبر. وفي ذلك تلميح للنظام الشمولي المستبد الذي يحكم قبضته الحديدية على كل مفاصل الدولة.
7ــــ "– أجد نفسي محاصراً من قبل هؤلاء الناس وما زلت انتظر اللحظة المناسبة للتغير .. والحقيقة أني بين آونة وأخرى، تحدثني نفسي أن ألجأ إليهم" ص45 .
نص يكشف عن وجود استبداد في النظام الذي يحكمه العقل الأكبر (الزعيم الشمولي) مما يجعل أحد القيادات البارزة فيه، وهو الدكتور عاطف يعمل على إحداث تغيير في هذا النظام، وللحفاظ على حياته يفكر بطلب اللجوء إلى جبال الهملايا. غير أن دكتور عاطف يستمر بنهجه الإصلاحي وهو في قلب النظام: "الدكتور عاطف يغذي روح التحدي بين الناس ويحاول أن يكشف عيوب العقل الأكبر بين صفوفهم" ص79 .
8ــــ "– ألاحظ أن الدكتور عاطف، منذ أكثر من أسبوع، يخطط لشيء ما. إنه يتصل بالكثير من الناس .. أتوقع أن له خططاً أخرى لم أستطع اكتشافها. ربما يهدف إلى احتلال المجلس الأعلى بتعاونه مع الجماهير.." ص84 .
من الواضح تركيز الرواية على شخصية الدكتور عاطف ليمثل دور المعارضة لسلطة العقل الأكبر، أي بمعنى العمل على تغيير ذلك النظام (الشمولي المستبد) من الداخل، فالدكتور عاطف كما وصفته الرواية في مورد آخر: "العقل المدبر للثورة الجديدة اليوم" ص85 . ولكن حركة الدكتور عاطف الإصلاحية تفشل، ويُعتقل: "العقل الأكبر تنبه للخطط في اللحظة الأخيرة. فأمر باعتقال الدكتور عاطف والمتعاونين معه." ص89 . النص صريح بإشاراته ذات البعد السياسي المتعلق بتمرد يقوده أحد القادة لغرض الإصلاح في نظام مستبد (حديدي) ولكنه يفشل في حركته فيُعتقل، وإلى هنا سكتت الرواية عن باقي التفاصيل المتعلقة بمصير الدكتور عاطف، غير أن القارئ يعرفها طبعاً، فمصير قادة الانقلاب والتمرد ضد النظام الشمولي المستبد هو الإعدام.
9ــــ "قوات المجلس الأعلى ازدادت ضراوة. فصارت تداهم المنازل التي تسمع منها الشبابات" ص79 .
في الأنظمة الشمولية المستبدة، ولكونها تعيش هاجس الخوف من الجماهير، لا تتوانى القوات الأمنية من مداهمة بيوت المواطنين لأدنى اشتباه أو بلاغ أو وشاية، حتى لو كان البلاغ كاذب.
10ــــ "– في الغد يحتفلون بعيدهم الأكبر.
ــــ أي عيد؟
ــــ إنه الذكرى المائة والخمسون لصناعة العقل الأكبر. تلك هي سُنّة ساروا عليها منذ قرن ونصف. يتجمع الملايين في الساحة الكبرى، أمام مقر المجلس الأعلى، وتتلى عليهم الخطب الطويلة التي تعدد منجزات العقل الأكبر في خدمة الحضارة." ص83 – 84 .
يلمح الكاتب في هذا النص إلى الاحتفالات والمناسبات التي تقيمها وتحييها الأنظمة الشمولية المستبدة، حيث يتم حشد الناس قسراً في ساحة خاصة للاحتفال، وتلقى عليهم خطب ممجوجة ومكررة للتمجيد بالزعيم الطاغية وعنترياته التي لا آخر لها.
11ــــ "الحفلة الجماعية لم تدم طويلاً .. فقد فاجأنا رجال العقل الأكبر. أمروني بمرافقتهم. وطالبوا الآخرين بالانصراف. تعالت أصوات الجماهير غاضبة. لقد رفضوا الانصياع لرجال العقل الأكبر. وطالبوهم بإطلاق سراحي. بل رأيت البعض من الجماهير يتقدم نحو قوات السلطة ويحاول أن يخلصني من أيديهم. بدأ الشجار بين الطرفين. ثم انطلق في الحديقة دوي قنبلة تنفجر. وتعالى دخان كثيف. كانت قنبلة مسيلة للدموع.."ص62 .
رغم القبضة الحديدية للنظام الشمولي المستبد، إلا أننا نجد بين الفينة والأخرى تمرد الجماهير وانتفاضتهم عليه. ويواجه هذا التمرد كما هو معروف بالقوة والعنف المفرط. والنص يلمح إلى ذلك بإشارة مقتضبة يفهمها القارئ الواعي.
12ــــ "وجدت اثنان من القوات التابعة للمجلس الأعلى بانتظاري. ألقيا القبض عليّ ونقلاني إلى مقر المجلس. بعد تحقيق سريع أمر المحقق بإيداعي السجن .. ورافقني شاب من قواتهم إلى قاعة السجن .. وصلنا قاعة متوسطة الحجم فأخبرني أن هذه القاعة هي السجن. كانت القاعة مليئة بصناديق مستطيلة ترتفع إلى السقف. قدمني الشاب إلى رجلين آخرين .. جرّدني الرجلان من ملابسي وأحضرا أنابيب مطاطية ذات رؤوس زجاجية مدببة. وحين سألت عن سبب ذلك. أجابني أحدهم: ــــ من الآن. سيكون غذاؤك عن طريق الدم. وتقضي حاجتك عن طريق هذه الأنابيب. حتى تخرج من السجن .. وغرقت في ظلام داكن وصمت ثقيل." ص87.
كأن الكاتب في هذا النص يومئ إلى أحد سجون ومعتقلات الأنظمة الشمولية المستبدة، حيث يواجه المعتقل الجلاوزة بهراواتهم المدببة التي تنهش جسده بين الحين والآخر كوجبات طعام مغمسة بالدم.
من كل ما سبق يتضح لنا أن تلميحات وإشارات وإيماءات الروائي الفرطوسي بما في ذلك العنوان (الزمن الحديدي)، لم تكن اعتباطية أو جاءت عفو الخاطر، بل كانت عن قصدية واضحة واختيار مدروس، لبث رسالة مشفرة في روايته التي ظاهرها أدب الخيال العلمي وباطنها نقد سياسي للنظام الشمولي المستبد. ومن الواضح أن الكاتب قد لجأ إلى هذا الأسلوب السردي في المواراة والتخفي، وعدم كشف روايته بشكل مباشر، هو للتخلص من سلطة الرقيب الثقافي والأمني معاً، في ظل نظام مهيمن يمارس البطش والقمع ضد من يتبنّون الآراء المخالفة. وقد نجح الكاتب بتميّز واقتدار في تجاوز تلك المحنة.

الإحالات:
*عبد الهادي الفرطوسي: روائي وناقد وشاعر من النجف/العراق. وُلد في عام 1946 وتوفي في عام 2016 .
1ــــ فيصل دراج، الجنس الروائي وشروطه الاجتماعية، مجلة قلمون للدراسات والأبحاث الفكرية، ص224، العدد الثامن، نيسان/أبريل 2019 .
2ــــ علي حرب، نقد النص، ص18 ، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء – 2005 .


عبدالله الميّالي
ناقد من العراق



1726255511898.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى