تماضر كريم - الفزعة الأدبية...

يأتي مصطلح الفزعة على ألسنة الكثيرين كدلالة على الولاء والمساندة سواء كانت تلك المساعدة معنوية أو جسدية، الفزعة في معناها الدارج لا تخضع لمفهومي الحق والباطل، أي إن دوافعها غالباً التعصب لأشخاص نحبهم أو على أقل تقدير تربطنا بهم صلات قرابة أو صداقة. هكذا ببساطة ننحاز لمن نحبّهم ونهرع لمدّ العون لهم، ولأقصى الدرجات التي تعمينا غالباً عن شروط الحكمة. يحصل هذا في مواقف حياتية، مشاكل ومواقف، أزمات ومِحن، فنحن تحرّكنا العواطف أكثر ممّا يفعل العقل، وهذه إحدى مشاكلنا النفسية التي لم تفلح الثقافة -ومهما بلغت مدياتها- في تهذيبها أو ايجاد حلٍ لها، إن (الفزعة) وهذا موضوعي هنا، وجدتْ طريقها إلى عالم الأدب، فبرزت لدينا ظاهرة الفزعة الأدبية، وتكوّنت بيننا طبقة أدباء وجمهور الفزعة، وهي ظاهرة لا تختلف كثيرا عن النوع الأول، فهي لا تعبأ بشروط الفن، واعتبارات النقد الرصين كمعايير لتحليل النصوص. والتفاعل معها والتعاطي مع تفاصيلها، ولا تلتمس الموضوعية في جميع طروحاتها وتقوم على الشللية التي باتت سمةً للأدب.
حضرتُ قبل فترة جلسةً أدبية لأحد الكتاب، وفي حالة لا تتكرر كثيراً وجدتُ القاعة ممتلئة عن آخرها، وكانت جميع الطروحات أو الدراسات أو الآراء النقدية تمجّد بالضيف المدعو، مبتعدةً عن عمق التحليل والموضوعية. عندما سألت الروائي إلى جانبي عن رأيه في الجلسة، قال لي إنها في الحقيقة ليست جلسة، إنما ( عرّيس وربعه يزفونه)! مع إنه أبدى إعجابه بالضيف، ككاتب له بصمة جيدة، لكنه أبدى استغرابه من دراسات سطحية قوامها المديح والثناء عوضاً عن الدراسة الرصينة. وفي الحقيقة أن تلك الجلسة وسواها لم تكن سوى فزعة أدبية قام بها أصدقاء لمساندة صديقهم، هذا ينطبق على الحاضرين أيضا، الذين أتوا لمساندة زميلهم ولتكثير العدد. إن الكثيرين ممن يحضرون غير معنيين بما يقال في الجلسات، بل إن بعضهم لا يكترث فيشغل نفسه بهاتفه أو بحديث جانبي مع زميله، كما إن الدراسات هي في الغالب تطييب خاطر لأنها أيضا تقع تحت طائل أدب الفزعة. إن ما يحصل واقعاً، يحصل بذات الطريقة الكترونياً على صفحات الفيسبوك، حيث بسهولة يتم ملاحظة الإنحياز التام للأديب ممن هم حواليه، بصرف النظر عن جودة ما يكتبه وجماله الفني. قد ينظر البعض لهذه الظاهرة بحسن نية ولا مبالاة زاعمين أنها تشجيع معنوي مطلوب، لكنه من منظور فني موضوعي أمر خطير جداً، لأنه يعمل على تزييف الأدب، وخلط المعايير الفنية الجمالية وخلق نماذج أدبية من وهم، وهذا كلّه يسحق الذوق العام ويتسبب في تراجع الأدب، أو انحداره وتحويله إلى مسخ، لن يعترف به العالم من حولنا.
إن رفع الخطاب الأدبي نحو الموضوعية، وتخطي ظاهرة التعصب والانحياز الأدبيين ليس أمراً سهلاً، لأن هذه الظاهرة ترتبط بعوامل نفسية متأصلة، قوامها بيئة اجتماعية ترسخ عادات الإنحياز العاطفي، والحياد عن الموضوعية، ولكي نتخلص من هذه الظاهرة ينبغي ترسيخ مفاهيم علمية رصينة في العملية الثقافية برمتها، وقبل ذلك ينبغي أولاً مواجهة حقيقة أننا لازلنا في مرحلة ما قبل الأدب، وهذا يشبه درجة ما دون الصفر، هذا لا يعني أننا لا نملك أدباء جيدين، بل إن الأدوات تكاد تكون كلّها مكتملة، من أدباء ونقّاد وناشرين ومكتبات وحتى جمهور، لكن هذا يشبه أننا نملك كل مكوّنات طبخة معتبرة، لكننا لم نصل بعد إلى مرحلة إتقانها.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى