إذا كان الفن رسالة تحوي عددا لا يحصى من الأسئلة المهمة التى تجوس فى خلجات الانسان بحثا عن ماهية الوجود وسر الحياة وتفرد الذات فالنص الأدبى يخلق ذلك المعادل الموضوعى عن واقع الانسان وعلاقته بذاته وبعالمه وهو ليس معنيا بالاجابة بقدر ما هو معني بالسؤال والاحتواء والتشكيل الفنى الجديد والجيد الذى يتميز بقدرته على اختراق الوجود بحثا عن إجابة.
رواية عائشة الخياطة (1) تمتص هذا الوعي الجمعي بحكاياته الشعبية وخرافاته القديمة وأحلامه وأوهامه وكوابيسه وأسئلته التى لا تجد جوابا وشخوصه المدفوعين بحمى الكشف ورغبة الوصول .. وشخوص أخرى ذات قدرات خاصة هم حملة الأسرار كأبناء الآلهة القدماء فى الأساطير الإغريقية والفرعونية حطوا على أرض السكاكرة المكان الخاص / الأسطورى "كما قشرت السكاكرة عشب قدميها فكان الكون" ص 108.
إذن ثمة وجود خاص لقريته / السكاكرة فهى أول القرى التى أبدعها زارعو القرى " لهذا فإن إبداعا أشد تميزا ـ كوجود السكاكرة ـ لا بد أن تتبعه فترة راحة .. وهم فى راحتهم يدخلون إلى سراديب اليوم السابع ويتدفقون عرقا ويغيبون فى الضباب وتمضى فترات طويلة من الراحة ثم يعودون لاستئناف زراعة القرى أو مهام أخرى جديدة " ص117.
كأبناء آلهة من حواليهم تنتشر الشخوص العادية / النمطية الساعية لكشف المستور ومعرفة الأسرار رغبة فى الوصول لكينونة الوجود الخاص بهم فهم يسعون لمعرفة حكاية عائشة الخياطة فيتعثرون فى فاطمة السبعة أمها وفى شلبية وحبيبة وحنونة وست الدار وهؤلاء من ذوى القدرات الخارقة يرون الكافورة تسقط فجأة ثم تنهض والمحشى ينضج على كوانين النار فى بيت حبيبة ولا أثر له حينئذ يكتشفون أنهم عند أول طريق المعرفة يحومون كالفراش حول النار .
ولأن الأسطورة حاولت أن تجسد الوعى لدى الإنسان الأول تجاه الكون لتعكس رغبتهم فى اختراق السر والمعرفة فهى حسب تعريفها الوظيفى لفراس السواح " هى قصة تعليلية تفسر الأبطال والمعتقدات وغيرها وغرضها تفسير وجود العالم والحياة والموت والإنسان والوحوش والطقوس المقدسة والعادات وما إلى ذلك من الظواهر الغامضة" ( 2) .
أيضا تولدت الخرافات والحكايات الشعبية بعدما عرف الإنسان الإستقرار والتجمع وظهرت القوانين وتشكل الوعى الجمعى فتحدد الزمان وتعين المكان وتبلورت الحكايات حاملة معان أخرى أقرب للإدراك كما جاء فى رواية (عائشة الخياطة) وهو تنمية تلك الحكايات بل وتوليدها / خلقها .
فهل توقف الكاتب عند استعراض حكايات الجن والعفاريت وتصوير خوارقهم بينما الإنسان يقف مصابا بالدهشة والارتباك .
إنه تجاوز تلك النظرة التقليدية للموروث الشعبى بل قام باختراقه بشخوص كفاطمة السبعة المولودة لخلاصة سبع عائلات من الجن والإنس هى خلاصة الغناء وروح المكان المحتشد بالغموض والخرافة وإليها تنتسب عائشة الخياطة مع إحاطة مولدها بالغموض وتعدد الحكايات حولها وعدم تحديد من تكون أمها أهى حبيبة أم شلبية أم حنونة أم فاطمة السبعة وانتقالها / ولا أقول موتها ، حين تتحول إلى هشيم / كعالم الجن الذى يموت محترقا ومتحولا إلى رماد ثم حلولها فى عائشة جديدة يجعل منها شخصية أسطورية .. وامتلاك شخوص كشلبية وعائشة وحبيبة والعم حفنى وعثمان النجار لقدرات خاصة / خارقة أليس هو الآخر تكوينا أسطوريا يقترب من أبناء الآلهة فى الأساطير القديمة ، الذين هبطوا ليعيشوا بين الناس وليس بينهم وبين الآلهة حجاب . ولا فارق بين العوالم السفلية والأرضية .. الكاتب فى الرواية يعيد انتاج الحكايات الشعبية والأسطورية روائيا مشكلا أسطورته الخاصة لقريته ذات الطابع والقدرات الخاصة أيضا من خلال شخوصها وأشجارها ومائها وحكاياتها وعوالمها الغرائبية / العجيبة فى بناء روائى متميز .
البناء الفنى :
اتخذ الكاتب فى بناء روايته ثلاث مستويات سردية متداخلة ومتجادلة تنهض بتشكيل الرواية ويتبلور خلالها الوعى الشعبى والأسطورى والرؤية الكونية .
أولا ـ سرد واقع السكاكرة فى حالاتها الطقسية ومواسم الحصاد وتزاوج الكائنات والأفراح وتجمع الصحبة الليلية للسمر من خلال مجموعة شخوص نمطية هى شكرى وحنكش وسعيد المتوكل والرمح والشيخ عباس وأهالى السكاكرة الذين يتحلقون حول من يفتح باب الحكايات ولأنها شخوص يؤرقها السؤال تبحث دوما عن الحقيقة وتناقش أصل ووجود الحكاية الشعبية وتحاول كشف الغموض والإلغاز الملتبس حولها للوصول إلى ماهية المكان وشخوصه الأسطورية كعائشة الخياطة وغيرها .
هؤلاء الشخوص يتوسلون بآخرين ذوي مكانة خاصة لأنهم يمثلون أصل القرية وحملة تاريخها ودائرة معارفها وسرها المكنون كالعم حفنى وعثمان النجار وشلبية لذلك تتكرر لقاءاتهم الليلية ، خلاصا من وحشة الظلام وضيق النفس يبتغون تسلية لياليهم الرتيبة وحياتهم الغامضة فيواجهون الحكايات والخوارق ويعودون دوما برغبة أشد .
تدل تلك الشخوص برغائبها الغامضة على محاولاتها الدائبة فى اختراق ما وراء الواقعى ويمثلون بلقاءاتهم وأحاديثهم نبض القرية على المستوى الواقعى عاكسين مكنون الوعى القروى وولعه بعوالمه الغرائبية مشاركين بذلك فى تنمية هذا الوعي وأيضا فى خلق وحدات سردية تهاجم الشخوص الأخرى ذات الوجود الأسطوري والشعبى وتحوم حولهم دون الوصول . وهى فى ذات الوقت شخوص تعمل فى الرواية كأدوات فنية تفتح مجال الإلغاز والتشويق وتفعيل السرد وبلورة صورة تلك المجتمعات القروية الآخذة فى الزوال مؤكدة ـ من خلال رؤية الراوى ـ أن سعيها وسؤالها عن هذا الغموض يقودها إلى أسرار عجائبية أخرى تستحق الاهتمام والاحتمال من أجل الوصول إلى المعرفة وفك شفرات حياة القرية بكل أبعادها الأسطورية . يرون الكافورة تسقط فجأة أثناء التفافهم حول شلبية أمام حقل الذرة لتفسر لهم طلاسم نسب عائشة الخياطة والقطة السوداء ومروقها من جدار بيت عائشة فيفرون هلعا بينما سعيد المتوكل يشاهد الأغرب نهوض الكافورة مرة أخرى وهم بسؤالهم وعدم تصديقهم للوجود الأسطوري لعائشة الذى ترويه شلبية والعم حفنى تصعقهم رؤية الكافورة ومشاهدة سعيد المتوكل فلا يصدقهم الشيخ عباس ويلح فى سؤال شلبية فى موضع آخر، يشاهد بعينه مرة أخرى سقوط ونهوض الكافورة فتصيبه حمى الرؤية ويعالجه عثمان النجار برقية شعبية هو وحده الحامل لأسرارها " قال عمك عثمان النجار : السبع كلمات المنجيات التامة والكاملة . فنسى عمك عباس ما حدث له وذهبت عنه الحمى إلى بلادها " ص93 .
حتى عائشة تتوقف أمام موت الرمح وهي ذات علم بالعوالم السفلية ومن حملة الأسرار أمام علم ومعرفة عثمان النجار شاهدة بقدراته الأكبر منها .
وهذا المستوى السردي يمثل الشريحة الأكبر من الرواية ويخلق جدلا يتجاوب ويقترب أحيانا من واقعية حياة القرية فى حركتها ومراسم طقوسها حتى يكاد الراوي أن يختفى تاركا مساحات للحوار ولتبادل وجهة النظر بين شخوصه مما يمنحهم حرية التواجد والتحقق . شخوص الرواية تتنوع حسب مستوى قربها أو بعدها عن العوالم الخفية للقرية فشخوص المستوى السردى الأول تقف عند تخوم هذا العالم يصدمها وعي أكبر من قدراتها وطاقاتها الإدراكية فلا تملك إلا أن تصدق ما رأت وإن تنافى هذا مع التموضعات الواقعية وهذا ما يرسبه ويؤكده الفكر الأسطوري .
وشخوص أخرى ذات حياة خاصة وقدرات خارقة تتبلور فى عائشة الخياطة وفاطمة السبعة والعم حفنى وعثمان النجار وشلبية وحبيبة وحنونة هؤلاء يقومون بخلق الأسطورة الروائية ويشكلون سياقا سرديا آخر .
ثانيا ـ خلق الأسطورة وتوليد الحكايات الشعبية وحكايات الجن ويتم فى هذا السياق السردى المزج بين عالم الجن وعالم الإنس بين الواقع والخفى ـ الإدراك وعالم الأسرار وبين الشخوص فى السياق الأول والشخوص الأخرى ذات القدرات الخاصة .
فاطمة السبعة جاءت تتويجا لهذا التزاوج بين عالمين فأمها من خلاصة ثلاث عائلات من الإنس / المغنيين ووالدها الجنى الأحمر الذى هام بأمها حبا من خلاصة تزاوج ثلاث عائلات من الجن الأحمر والأسود / المغنيين أيضا .
وبمولد أم فاطمة ـ ماتت عائلات الإنس .
وبمولد الجنى الأحمر ـ ماتت عائلات الجن .
تلك الملامح فى التزاوج تعكس وعيا أسطوريا نفاذا .
" وفى إحدى المرات كان الحيض قد أتى أم فاطمة فذهبت لتستحم وهناك ظهر لها الجنى وأخذ ملابسها فغنت له فحن وأعطاها ملا بسها من الماء وعادت معه إلى الخارجة عشقها الجنى أكثر من الأول وإن كانت مازالت تخافه ، فظهرت أغانى الهجر والعشق والصد واللوعة والحب " ص41 . واتفاقهما على الزواج كان بشروط أربع : منها أن يغنى كل واحد منهما للآخر ألف ليلة والأحسن غناء تكون العصمة فى يده وكسبت أم فاطمة الرهان .. من يحمل كل تلك الأسرار ويحكيها هو العم حفنى فى ليلة ممطرة سمع فيها أهل السكاكرة غناء فاطمة السبعة حيث تراقصت جدران السكاكرة وكل موجوداتها . وبنفس هذا الطقس تولد عائشة الخياطة آخذة رقبة فاطمة السبعة فى إطار عجائبى فريد لم يرد من قبل " فقامت فاطمة واستحمت هى والمولودة ثم أمسكت السكين وفصلت رأس الطفلة عن جسدها والرقبة عن الرأس ووضعتهما جانبا ثم أشارت لحبيبة لتكمل ، فقامت حبيبة بفصل رأس فاطمة عن رقبتها ثم عن صدرها ثم أبدلت الرقبتين معا " ص46 .
وما كل تلك الأفعال الأسطورية إلا لكى يتبقى الغناء ويمتد فى ربوع وبين جدران السكاكرة لأنه يمثل امتداداً للحياة ولخصوبتها كما نلاحظ ذلك عندما غنت عائشة فى موسم الحصاد زادت الغلال وفاضت . ثمة علاقة روحية بين الغناء وصفاء الروح وتجليها بين الأسطورة وحياة القرية ، فبدون هذا الغموض الذى يكتنف الشخوص ويتولد فى الحكايات ليس ثمة خصوصية أو تميز . لهذا تلتحف عائشة بالأستاذ أحمد وتتوحد معه عبر مستوى لغوى يصل إلى درجة الحلول والتماهى الصوفى حيث أن الأستاذ هو الموكل بحمل الرسائل وتوصيلها بعد عائشة وإبلاغها للناس ( ربما يكون ذلك الإبلاغ على المستوى الدلالى يمثل سرد الكاتب لروايته تلك عن عائشة ووجودها الأسطورى المتضمن حياة قريته بكل أسرارها وشخوصها ) وعلى مستوى الحكاية التعليلية تتخلق أسطورة البرتقال بدمه نتاجا لاقتتال الجنى المارق الطامع فى فاطمة السبعة مع والدها الجنى الأحمر وتنتهى المعركة بقتل الأخير فتتشرب أشجار البرتقال دمه وفى العام التالى تثمر برتقالا بدمه .. وتتزوج حبيبة بالرمح بعد زمن طويل ـ من السيطرة عليه بقوتها الخفية ـ تحت الماء فى إشارة إلى حدوث طوفان إذا تم ذلك فى عالم الإنس والرمح برغبته فى الاقتران / الزواج بحبيبة يمثل اختراقا غير شرعى لا يرضى به آل العالم السفلى / لذلك تجده السكاكرة غريقا فى الترعة صباح اليوم التالى الذى حددته حبيبة موعدا للزواج وبعد تسعة أيام من الاتفاق الأول بينهم ويعلم بذلك عثمان النجار مسبقا ويلوح به العم حفنى فى نصائحه للرمح بعدم النوم منفردا .. ولكن إذا كان واحدا من الإنس قد أخذه آل العالم السفلى فسوف يصعد من عندهم واحد إلى عالم الإنس .. تلك الأفعال الأسطورية مرتبطة بالوعى الشعبى وخاضعة لأعرافه المنظمة له ـ حسب رؤية الراوى ـ ثمة خيال أسطورى مقنن يخضع للإدراك الإنسانى أو يحاول العقل تقنينه وإسقاطه على الواقع حتى يتهشم الحاجز الوهمى بين الواقعى والأسطورى فى الرواية .
ـ الحلول .
الحلول من أصل المعتقدات الصوفية الذى من شأنه حلول المريد فى مريده .
استطاع الكاتب أن يوظف ذلك المعتقد فى روايته بطرائق متنوعة تحمل سماته الأسطورية . هناك حلول كامل لكافة الخصائص كتذويب الرماد الناتج عن احتراق جثة عائشة فى الشربات لتشربه (عائشة أخرى) صغيرة فى آخر الرواية ويستمر الغناء / المعادل الدلالى لاستمرار خصوبة وتميز المكان .
وثمة حلول جزئى مثل إبدال رقبة فاطمة السبعة برقبة عائشة التى ولدت خرساء لأبيها الجنى المارق الذى فقد صوته فى معركته الدامية السالفة مع والد فاطمة .
حلول آخر رؤيوى تعيشه عائشة مع الأستاذ أحمد عبر لغة شعرية / صوفية " أنا وأحمد مجمرة من العشق وحب الحياة كماء فى ماء ، لا تعرف الأجزاء ولا تعود كما كانت من قبل الامتزاج إلا أن يعلو ويصعد ويحتد ويفيض ونظل نجرى فى أبعاضنا ونحن واحد مكتمل هكذا هكذا " ص105 . واعتماد الكاتب على تقنية الحلول التى تؤدى على المستوى الدلالى فى الرواية لاستمرارتوليد الأبطال الأسطوريين وتوليد الحكايات الخاصة بهم فى لحم وجسد القرية . والكاتب فى هذا يتجاور مع الراوى الشعبى مدافعا عن بيئته حاملا تراثها وثقافتها الشعبية ، قائما على توصيل الرسائل محافظا على السر والخصوصية والعمل على انتقالها للأجيال القادمة . وعبر مستوى دلالى أبعد يعنى الكتابة عن تلك المجتمعات الزراعية الآخذة فى الزوال تحت وطأة التلفزة والثقافة الواردة .
مستويات اللغة :
جاءت اللغة فى عائشة الخياطة ذات مستويات متنوعة فى معظم أجزائها ، ذات سمت شعرى يعتمد على المجازى والكنائى ليتمكن من احتواء الغموض الذى يكتنف عالم الرواية يدفع بالأبعاد الدلالية إلى ساحات التحقق .
1 ـ لغة شعرية تعتمد على المجاز :
وتعمل على تشعير القرية بكائناتها ومفردات عالمها من إنسان وحيوان ونبات وطير وموجودات غير حية تبث الحياة فى روحها فهى تسمع وتنعتش وتشارك فى القول والفعل " كان المساء يقف على الأبواب متسولا ينتظر الدخول والشمس تجرى كأنما أصابها جن وتنزف على هامات النخيل والغروب امرأة لعوب ، تطل برأسها ساحبة ذيلها ، ليل طويل يتلصص ليغطى كل شئ " ص94 . وتشكل تلك اللغة معظم الوحدات السردية وتخدم السياق السردى المهتم بتوليد الأسطورة وحكايات الجن وتغوص فى أعماق المجهول والشخوص وتكني ما خفي فى المناطق الشعورية الغائرة لهم حيث يصبح الإفصاح صعبا والاختراق محفوفا بحدوث الخوارق .
2 ـ لغة الحوار :
جاءت كلغة ثالثة تمزج بين الثقافة الشعبية للشخصيات بعبارات ومفردات عامية قريبة من الوجدان القروى وبين الآداء الفصيح . تلك اللغة الحوارية تميزت بقدرتها على عكس ثقافة الشخوص مثل (شكرى) و(حنكش) وغيرهم وبلورة ما يموج بعوالمهم الداخلية نفسيا .
" ـ أنت كاذب وابن كلب وطول عمرك بياع كلام وفضايح .
ـ يا بني آدم أنا شفتها بعينى .
ـ يا حبيبى لنا أرض ذرة هناك . أنا كنت من ساعة هناك وكل شئ فى هذا الكلام حصل حق حقانى " . ص 75
وتعمل تلك اللغة الحوارية خلال السياق السردى الأول المصاحب للشخوص الراغبة فى كشف شفرات البنية الأسطورية .
3 ـ اللغة الشعرية ذات الطابع الأسطورى :
وهذا المستوى من اللغة تحقق فى المقاطع السردية التى شكلت السياق الخاص بالحلول حيث امتزجت بلغة صوفية غاصت فى كيفية تشكل السكاكرة وطلوعها للحياة وفى مكنونات الذات عند عائشة الخياطة فى الفصل ( 13 ) الخاص بها ، حيث امتزجت وحلت روح الأستاذ أحمد وحلَّ بها وتولت خلاله وجهة نظر السارد وسردت ما خفى عن القوى المحركة / الغيبية للرجال زارعى القرى .. تقول عن شلبية " داخلها مناطق مظلمة كالأيام السابقة على ظهور السكاكرة حيث كان الظلام والمطر هما المسيطران . ولقد رأيت فى رحلتى كل الآلام وأوجاع المحبين واعترفت وشربت حتى تعبت وتعبت منى البحار والأنهار والآبار ، فرددت وراءهم وِرد الشكر " العفو والرضا لأننى لا أملك إلا أن أرضى وكما تعلمون ضعفى فى التوجه إليه بالشكر . فمن أنا حتى أشكر ؟ " . " ص101 .
تلك اللغة على قدر وضوحها تعكس عبر مستوياتها المتعددة كثافة الشعر وسلاسة السرد . كأنها لغة صهرها الوعى الجمعى وأدخلها فى مجمرة العشق فطلعت صافية شفيفة رائقة وقادرة على البث .
وبعد ،
إن تجربة صلاح والى فى عائشة الخياطة تمثل طرحا فريدا ومتميزا لخصوصية المكان والشخوص والعوالم العجائبية القارة فى وعى القرية . عبر لغة تميزت فى تعدد مستوياتها الشعرية والحوارية . لذلك جاءت ثرية متفجرة ودالة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامـش
1 ـ رواية عائشة الخياطة ـ صلاح والى ـ إبداع الشباب مهرجان القراءة للجميع هيئة الكتاب 2001
2 ـ الأسطورة ـ فجر الابداع الإنسانى د / كارم محمود عزيز ـ هيئة قصور الثقافة سلسلة مكتبة الدراسات الشعبية 2002
العربي عبدالوهاب
رواية عائشة الخياطة (1) تمتص هذا الوعي الجمعي بحكاياته الشعبية وخرافاته القديمة وأحلامه وأوهامه وكوابيسه وأسئلته التى لا تجد جوابا وشخوصه المدفوعين بحمى الكشف ورغبة الوصول .. وشخوص أخرى ذات قدرات خاصة هم حملة الأسرار كأبناء الآلهة القدماء فى الأساطير الإغريقية والفرعونية حطوا على أرض السكاكرة المكان الخاص / الأسطورى "كما قشرت السكاكرة عشب قدميها فكان الكون" ص 108.
إذن ثمة وجود خاص لقريته / السكاكرة فهى أول القرى التى أبدعها زارعو القرى " لهذا فإن إبداعا أشد تميزا ـ كوجود السكاكرة ـ لا بد أن تتبعه فترة راحة .. وهم فى راحتهم يدخلون إلى سراديب اليوم السابع ويتدفقون عرقا ويغيبون فى الضباب وتمضى فترات طويلة من الراحة ثم يعودون لاستئناف زراعة القرى أو مهام أخرى جديدة " ص117.
كأبناء آلهة من حواليهم تنتشر الشخوص العادية / النمطية الساعية لكشف المستور ومعرفة الأسرار رغبة فى الوصول لكينونة الوجود الخاص بهم فهم يسعون لمعرفة حكاية عائشة الخياطة فيتعثرون فى فاطمة السبعة أمها وفى شلبية وحبيبة وحنونة وست الدار وهؤلاء من ذوى القدرات الخارقة يرون الكافورة تسقط فجأة ثم تنهض والمحشى ينضج على كوانين النار فى بيت حبيبة ولا أثر له حينئذ يكتشفون أنهم عند أول طريق المعرفة يحومون كالفراش حول النار .
ولأن الأسطورة حاولت أن تجسد الوعى لدى الإنسان الأول تجاه الكون لتعكس رغبتهم فى اختراق السر والمعرفة فهى حسب تعريفها الوظيفى لفراس السواح " هى قصة تعليلية تفسر الأبطال والمعتقدات وغيرها وغرضها تفسير وجود العالم والحياة والموت والإنسان والوحوش والطقوس المقدسة والعادات وما إلى ذلك من الظواهر الغامضة" ( 2) .
أيضا تولدت الخرافات والحكايات الشعبية بعدما عرف الإنسان الإستقرار والتجمع وظهرت القوانين وتشكل الوعى الجمعى فتحدد الزمان وتعين المكان وتبلورت الحكايات حاملة معان أخرى أقرب للإدراك كما جاء فى رواية (عائشة الخياطة) وهو تنمية تلك الحكايات بل وتوليدها / خلقها .
فهل توقف الكاتب عند استعراض حكايات الجن والعفاريت وتصوير خوارقهم بينما الإنسان يقف مصابا بالدهشة والارتباك .
إنه تجاوز تلك النظرة التقليدية للموروث الشعبى بل قام باختراقه بشخوص كفاطمة السبعة المولودة لخلاصة سبع عائلات من الجن والإنس هى خلاصة الغناء وروح المكان المحتشد بالغموض والخرافة وإليها تنتسب عائشة الخياطة مع إحاطة مولدها بالغموض وتعدد الحكايات حولها وعدم تحديد من تكون أمها أهى حبيبة أم شلبية أم حنونة أم فاطمة السبعة وانتقالها / ولا أقول موتها ، حين تتحول إلى هشيم / كعالم الجن الذى يموت محترقا ومتحولا إلى رماد ثم حلولها فى عائشة جديدة يجعل منها شخصية أسطورية .. وامتلاك شخوص كشلبية وعائشة وحبيبة والعم حفنى وعثمان النجار لقدرات خاصة / خارقة أليس هو الآخر تكوينا أسطوريا يقترب من أبناء الآلهة فى الأساطير القديمة ، الذين هبطوا ليعيشوا بين الناس وليس بينهم وبين الآلهة حجاب . ولا فارق بين العوالم السفلية والأرضية .. الكاتب فى الرواية يعيد انتاج الحكايات الشعبية والأسطورية روائيا مشكلا أسطورته الخاصة لقريته ذات الطابع والقدرات الخاصة أيضا من خلال شخوصها وأشجارها ومائها وحكاياتها وعوالمها الغرائبية / العجيبة فى بناء روائى متميز .
البناء الفنى :
اتخذ الكاتب فى بناء روايته ثلاث مستويات سردية متداخلة ومتجادلة تنهض بتشكيل الرواية ويتبلور خلالها الوعى الشعبى والأسطورى والرؤية الكونية .
أولا ـ سرد واقع السكاكرة فى حالاتها الطقسية ومواسم الحصاد وتزاوج الكائنات والأفراح وتجمع الصحبة الليلية للسمر من خلال مجموعة شخوص نمطية هى شكرى وحنكش وسعيد المتوكل والرمح والشيخ عباس وأهالى السكاكرة الذين يتحلقون حول من يفتح باب الحكايات ولأنها شخوص يؤرقها السؤال تبحث دوما عن الحقيقة وتناقش أصل ووجود الحكاية الشعبية وتحاول كشف الغموض والإلغاز الملتبس حولها للوصول إلى ماهية المكان وشخوصه الأسطورية كعائشة الخياطة وغيرها .
هؤلاء الشخوص يتوسلون بآخرين ذوي مكانة خاصة لأنهم يمثلون أصل القرية وحملة تاريخها ودائرة معارفها وسرها المكنون كالعم حفنى وعثمان النجار وشلبية لذلك تتكرر لقاءاتهم الليلية ، خلاصا من وحشة الظلام وضيق النفس يبتغون تسلية لياليهم الرتيبة وحياتهم الغامضة فيواجهون الحكايات والخوارق ويعودون دوما برغبة أشد .
تدل تلك الشخوص برغائبها الغامضة على محاولاتها الدائبة فى اختراق ما وراء الواقعى ويمثلون بلقاءاتهم وأحاديثهم نبض القرية على المستوى الواقعى عاكسين مكنون الوعى القروى وولعه بعوالمه الغرائبية مشاركين بذلك فى تنمية هذا الوعي وأيضا فى خلق وحدات سردية تهاجم الشخوص الأخرى ذات الوجود الأسطوري والشعبى وتحوم حولهم دون الوصول . وهى فى ذات الوقت شخوص تعمل فى الرواية كأدوات فنية تفتح مجال الإلغاز والتشويق وتفعيل السرد وبلورة صورة تلك المجتمعات القروية الآخذة فى الزوال مؤكدة ـ من خلال رؤية الراوى ـ أن سعيها وسؤالها عن هذا الغموض يقودها إلى أسرار عجائبية أخرى تستحق الاهتمام والاحتمال من أجل الوصول إلى المعرفة وفك شفرات حياة القرية بكل أبعادها الأسطورية . يرون الكافورة تسقط فجأة أثناء التفافهم حول شلبية أمام حقل الذرة لتفسر لهم طلاسم نسب عائشة الخياطة والقطة السوداء ومروقها من جدار بيت عائشة فيفرون هلعا بينما سعيد المتوكل يشاهد الأغرب نهوض الكافورة مرة أخرى وهم بسؤالهم وعدم تصديقهم للوجود الأسطوري لعائشة الذى ترويه شلبية والعم حفنى تصعقهم رؤية الكافورة ومشاهدة سعيد المتوكل فلا يصدقهم الشيخ عباس ويلح فى سؤال شلبية فى موضع آخر، يشاهد بعينه مرة أخرى سقوط ونهوض الكافورة فتصيبه حمى الرؤية ويعالجه عثمان النجار برقية شعبية هو وحده الحامل لأسرارها " قال عمك عثمان النجار : السبع كلمات المنجيات التامة والكاملة . فنسى عمك عباس ما حدث له وذهبت عنه الحمى إلى بلادها " ص93 .
حتى عائشة تتوقف أمام موت الرمح وهي ذات علم بالعوالم السفلية ومن حملة الأسرار أمام علم ومعرفة عثمان النجار شاهدة بقدراته الأكبر منها .
وهذا المستوى السردي يمثل الشريحة الأكبر من الرواية ويخلق جدلا يتجاوب ويقترب أحيانا من واقعية حياة القرية فى حركتها ومراسم طقوسها حتى يكاد الراوي أن يختفى تاركا مساحات للحوار ولتبادل وجهة النظر بين شخوصه مما يمنحهم حرية التواجد والتحقق . شخوص الرواية تتنوع حسب مستوى قربها أو بعدها عن العوالم الخفية للقرية فشخوص المستوى السردى الأول تقف عند تخوم هذا العالم يصدمها وعي أكبر من قدراتها وطاقاتها الإدراكية فلا تملك إلا أن تصدق ما رأت وإن تنافى هذا مع التموضعات الواقعية وهذا ما يرسبه ويؤكده الفكر الأسطوري .
وشخوص أخرى ذات حياة خاصة وقدرات خارقة تتبلور فى عائشة الخياطة وفاطمة السبعة والعم حفنى وعثمان النجار وشلبية وحبيبة وحنونة هؤلاء يقومون بخلق الأسطورة الروائية ويشكلون سياقا سرديا آخر .
ثانيا ـ خلق الأسطورة وتوليد الحكايات الشعبية وحكايات الجن ويتم فى هذا السياق السردى المزج بين عالم الجن وعالم الإنس بين الواقع والخفى ـ الإدراك وعالم الأسرار وبين الشخوص فى السياق الأول والشخوص الأخرى ذات القدرات الخاصة .
فاطمة السبعة جاءت تتويجا لهذا التزاوج بين عالمين فأمها من خلاصة ثلاث عائلات من الإنس / المغنيين ووالدها الجنى الأحمر الذى هام بأمها حبا من خلاصة تزاوج ثلاث عائلات من الجن الأحمر والأسود / المغنيين أيضا .
وبمولد أم فاطمة ـ ماتت عائلات الإنس .
وبمولد الجنى الأحمر ـ ماتت عائلات الجن .
تلك الملامح فى التزاوج تعكس وعيا أسطوريا نفاذا .
" وفى إحدى المرات كان الحيض قد أتى أم فاطمة فذهبت لتستحم وهناك ظهر لها الجنى وأخذ ملابسها فغنت له فحن وأعطاها ملا بسها من الماء وعادت معه إلى الخارجة عشقها الجنى أكثر من الأول وإن كانت مازالت تخافه ، فظهرت أغانى الهجر والعشق والصد واللوعة والحب " ص41 . واتفاقهما على الزواج كان بشروط أربع : منها أن يغنى كل واحد منهما للآخر ألف ليلة والأحسن غناء تكون العصمة فى يده وكسبت أم فاطمة الرهان .. من يحمل كل تلك الأسرار ويحكيها هو العم حفنى فى ليلة ممطرة سمع فيها أهل السكاكرة غناء فاطمة السبعة حيث تراقصت جدران السكاكرة وكل موجوداتها . وبنفس هذا الطقس تولد عائشة الخياطة آخذة رقبة فاطمة السبعة فى إطار عجائبى فريد لم يرد من قبل " فقامت فاطمة واستحمت هى والمولودة ثم أمسكت السكين وفصلت رأس الطفلة عن جسدها والرقبة عن الرأس ووضعتهما جانبا ثم أشارت لحبيبة لتكمل ، فقامت حبيبة بفصل رأس فاطمة عن رقبتها ثم عن صدرها ثم أبدلت الرقبتين معا " ص46 .
وما كل تلك الأفعال الأسطورية إلا لكى يتبقى الغناء ويمتد فى ربوع وبين جدران السكاكرة لأنه يمثل امتداداً للحياة ولخصوبتها كما نلاحظ ذلك عندما غنت عائشة فى موسم الحصاد زادت الغلال وفاضت . ثمة علاقة روحية بين الغناء وصفاء الروح وتجليها بين الأسطورة وحياة القرية ، فبدون هذا الغموض الذى يكتنف الشخوص ويتولد فى الحكايات ليس ثمة خصوصية أو تميز . لهذا تلتحف عائشة بالأستاذ أحمد وتتوحد معه عبر مستوى لغوى يصل إلى درجة الحلول والتماهى الصوفى حيث أن الأستاذ هو الموكل بحمل الرسائل وتوصيلها بعد عائشة وإبلاغها للناس ( ربما يكون ذلك الإبلاغ على المستوى الدلالى يمثل سرد الكاتب لروايته تلك عن عائشة ووجودها الأسطورى المتضمن حياة قريته بكل أسرارها وشخوصها ) وعلى مستوى الحكاية التعليلية تتخلق أسطورة البرتقال بدمه نتاجا لاقتتال الجنى المارق الطامع فى فاطمة السبعة مع والدها الجنى الأحمر وتنتهى المعركة بقتل الأخير فتتشرب أشجار البرتقال دمه وفى العام التالى تثمر برتقالا بدمه .. وتتزوج حبيبة بالرمح بعد زمن طويل ـ من السيطرة عليه بقوتها الخفية ـ تحت الماء فى إشارة إلى حدوث طوفان إذا تم ذلك فى عالم الإنس والرمح برغبته فى الاقتران / الزواج بحبيبة يمثل اختراقا غير شرعى لا يرضى به آل العالم السفلى / لذلك تجده السكاكرة غريقا فى الترعة صباح اليوم التالى الذى حددته حبيبة موعدا للزواج وبعد تسعة أيام من الاتفاق الأول بينهم ويعلم بذلك عثمان النجار مسبقا ويلوح به العم حفنى فى نصائحه للرمح بعدم النوم منفردا .. ولكن إذا كان واحدا من الإنس قد أخذه آل العالم السفلى فسوف يصعد من عندهم واحد إلى عالم الإنس .. تلك الأفعال الأسطورية مرتبطة بالوعى الشعبى وخاضعة لأعرافه المنظمة له ـ حسب رؤية الراوى ـ ثمة خيال أسطورى مقنن يخضع للإدراك الإنسانى أو يحاول العقل تقنينه وإسقاطه على الواقع حتى يتهشم الحاجز الوهمى بين الواقعى والأسطورى فى الرواية .
ـ الحلول .
الحلول من أصل المعتقدات الصوفية الذى من شأنه حلول المريد فى مريده .
استطاع الكاتب أن يوظف ذلك المعتقد فى روايته بطرائق متنوعة تحمل سماته الأسطورية . هناك حلول كامل لكافة الخصائص كتذويب الرماد الناتج عن احتراق جثة عائشة فى الشربات لتشربه (عائشة أخرى) صغيرة فى آخر الرواية ويستمر الغناء / المعادل الدلالى لاستمرار خصوبة وتميز المكان .
وثمة حلول جزئى مثل إبدال رقبة فاطمة السبعة برقبة عائشة التى ولدت خرساء لأبيها الجنى المارق الذى فقد صوته فى معركته الدامية السالفة مع والد فاطمة .
حلول آخر رؤيوى تعيشه عائشة مع الأستاذ أحمد عبر لغة شعرية / صوفية " أنا وأحمد مجمرة من العشق وحب الحياة كماء فى ماء ، لا تعرف الأجزاء ولا تعود كما كانت من قبل الامتزاج إلا أن يعلو ويصعد ويحتد ويفيض ونظل نجرى فى أبعاضنا ونحن واحد مكتمل هكذا هكذا " ص105 . واعتماد الكاتب على تقنية الحلول التى تؤدى على المستوى الدلالى فى الرواية لاستمرارتوليد الأبطال الأسطوريين وتوليد الحكايات الخاصة بهم فى لحم وجسد القرية . والكاتب فى هذا يتجاور مع الراوى الشعبى مدافعا عن بيئته حاملا تراثها وثقافتها الشعبية ، قائما على توصيل الرسائل محافظا على السر والخصوصية والعمل على انتقالها للأجيال القادمة . وعبر مستوى دلالى أبعد يعنى الكتابة عن تلك المجتمعات الزراعية الآخذة فى الزوال تحت وطأة التلفزة والثقافة الواردة .
مستويات اللغة :
جاءت اللغة فى عائشة الخياطة ذات مستويات متنوعة فى معظم أجزائها ، ذات سمت شعرى يعتمد على المجازى والكنائى ليتمكن من احتواء الغموض الذى يكتنف عالم الرواية يدفع بالأبعاد الدلالية إلى ساحات التحقق .
1 ـ لغة شعرية تعتمد على المجاز :
وتعمل على تشعير القرية بكائناتها ومفردات عالمها من إنسان وحيوان ونبات وطير وموجودات غير حية تبث الحياة فى روحها فهى تسمع وتنعتش وتشارك فى القول والفعل " كان المساء يقف على الأبواب متسولا ينتظر الدخول والشمس تجرى كأنما أصابها جن وتنزف على هامات النخيل والغروب امرأة لعوب ، تطل برأسها ساحبة ذيلها ، ليل طويل يتلصص ليغطى كل شئ " ص94 . وتشكل تلك اللغة معظم الوحدات السردية وتخدم السياق السردى المهتم بتوليد الأسطورة وحكايات الجن وتغوص فى أعماق المجهول والشخوص وتكني ما خفي فى المناطق الشعورية الغائرة لهم حيث يصبح الإفصاح صعبا والاختراق محفوفا بحدوث الخوارق .
2 ـ لغة الحوار :
جاءت كلغة ثالثة تمزج بين الثقافة الشعبية للشخصيات بعبارات ومفردات عامية قريبة من الوجدان القروى وبين الآداء الفصيح . تلك اللغة الحوارية تميزت بقدرتها على عكس ثقافة الشخوص مثل (شكرى) و(حنكش) وغيرهم وبلورة ما يموج بعوالمهم الداخلية نفسيا .
" ـ أنت كاذب وابن كلب وطول عمرك بياع كلام وفضايح .
ـ يا بني آدم أنا شفتها بعينى .
ـ يا حبيبى لنا أرض ذرة هناك . أنا كنت من ساعة هناك وكل شئ فى هذا الكلام حصل حق حقانى " . ص 75
وتعمل تلك اللغة الحوارية خلال السياق السردى الأول المصاحب للشخوص الراغبة فى كشف شفرات البنية الأسطورية .
3 ـ اللغة الشعرية ذات الطابع الأسطورى :
وهذا المستوى من اللغة تحقق فى المقاطع السردية التى شكلت السياق الخاص بالحلول حيث امتزجت بلغة صوفية غاصت فى كيفية تشكل السكاكرة وطلوعها للحياة وفى مكنونات الذات عند عائشة الخياطة فى الفصل ( 13 ) الخاص بها ، حيث امتزجت وحلت روح الأستاذ أحمد وحلَّ بها وتولت خلاله وجهة نظر السارد وسردت ما خفى عن القوى المحركة / الغيبية للرجال زارعى القرى .. تقول عن شلبية " داخلها مناطق مظلمة كالأيام السابقة على ظهور السكاكرة حيث كان الظلام والمطر هما المسيطران . ولقد رأيت فى رحلتى كل الآلام وأوجاع المحبين واعترفت وشربت حتى تعبت وتعبت منى البحار والأنهار والآبار ، فرددت وراءهم وِرد الشكر " العفو والرضا لأننى لا أملك إلا أن أرضى وكما تعلمون ضعفى فى التوجه إليه بالشكر . فمن أنا حتى أشكر ؟ " . " ص101 .
تلك اللغة على قدر وضوحها تعكس عبر مستوياتها المتعددة كثافة الشعر وسلاسة السرد . كأنها لغة صهرها الوعى الجمعى وأدخلها فى مجمرة العشق فطلعت صافية شفيفة رائقة وقادرة على البث .
وبعد ،
إن تجربة صلاح والى فى عائشة الخياطة تمثل طرحا فريدا ومتميزا لخصوصية المكان والشخوص والعوالم العجائبية القارة فى وعى القرية . عبر لغة تميزت فى تعدد مستوياتها الشعرية والحوارية . لذلك جاءت ثرية متفجرة ودالة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامـش
1 ـ رواية عائشة الخياطة ـ صلاح والى ـ إبداع الشباب مهرجان القراءة للجميع هيئة الكتاب 2001
2 ـ الأسطورة ـ فجر الابداع الإنسانى د / كارم محمود عزيز ـ هيئة قصور الثقافة سلسلة مكتبة الدراسات الشعبية 2002
العربي عبدالوهاب