د. محمد عبدالله القواسمة - حول إعادة الطبع وإعادة الكتابة...

يُقابل الأديب عادة صدور عمله سواء أكان شعرًا أم نثرًا بفرح غامر؛ فقد قدّم للحياة نصًا سيبقى حتى بعد موته. لكن، أحيانًا، يحدث ما يعكر فرحته حين يعثر على خطأ في النحو، أو الصرف، أو الإملاء، أو في الصياغة، أو حين يجد أخطاء تمس ما بات يخالف ما توصل إليه من حقائق وأفكار. إنه في كلتا الحالتين لا يستطيع أن يُغيّر في كتابه بعد صدوره حرفًا أو كلمة؛ فما كتبه لن يزول، كما الرصاصة لن تعود إلى البندقية بعد انطلاقها.

من السهل أن يتغاضى الأديب عن الأخطاء، التي وقع فيها في جملة أو تركيب أو كلمة لا تغير المعنى، أو تحرفه إلى غير ما يريده. لكن المشكلة إذا كانت الأخطاء تتجاوز ذلك إلى بنية النص الفكرية أو الفنية. ففي هذه الحالة قد يفكر الأديب في إصدار العمل في طبعة أخرى، يصحح فيها ما اقترفه من أخطاء تحت مسمى طبعة ثانية، أو طبعة ثانية مزيدة ومنقحة.

لعل لجوء الكاتب إلى إجراء تغييرات على عمله في طبعة أخرى يعود إلى الطبيعة البشرية، التي تسعى نحو الكمال دون أن تدركه؛ فالإنسان بطبعه، وبخاصة الأديب أو الكاتب يدرك وجود كلمات وجمل وتراكيب وأفكار أجمل وأفضل وأقوى، مما جاء في مؤلفه. فيُنسب إلى العماد الأصفهاني قوله:" إني رأيت أنه لا يكتب إنسان كتابًا في يومه إلا قال في غدِه: لو غُيِّر هذا لكان أحسن، ولو زيد كذا لكان يُستحسن، ولو قُدِّم هذا لكان أفضل، ولو ترك هذا لكان أجمل. وهذا من أعظم العبر، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر"
وقد يلجأ الأديب إلى إعادة كتابة عمله إذا اكتشف كثرة الأخطاء التي يتعذر معها الفهم، أو أحس بضعف العمل عامة، أو عدم اتساقه مع مؤلفاته السابقة. ويحضرنا هنا إعادة الأديب إدوار الخراط كتابة روايته "محطة السكة الحديد" ربما لأنه أحس فيها ضعفًا، أو أنها دون أعماله الروائية السابقة.

لا أجد في إعادة الطبع أو إعادة الكتابة لأي عمل من الأعمال الأدبية والفكرية خداعًا او خيانة للنص الأول، كما قد يتبادر إلى بعض النقاد والأدباء، وإنما إثراء له، وإضاءة لحياة مؤلفه، وبيان تطوره الفكري. ولكن من الأفضل إذا ما قرر الأديب أن يعيد طباعة عمله في طبعة أخرى أن يقتصر التغيير على تصحيح الأخطاء الطباعية واللغوية، التي لا تؤثر في تغيير معاني العمل وأفكاره وتوجهاته. وهذا ما فعلته في الطبعة الثانية لكلتا روايتي: "أصوات في المخيم"، و"الحب ينتهي في إيلات". وكذلك فعل طه حسين عندما أصدر الطبعة الثانية من كتابه "في الشعر الجاهلي" فقد غير حتى في العنوان، فجعله "الأدب الجاهلي".

وقد رأينا بعض الأدباء لا يغيرون في أعمالهم عند طباعتها، ويتركونها كما انبعثت من أذهانهم أول مرة. فهذا الروائي الأمريكي فيليب روث، الذي أعلن اعتزاله عن الكتابة يجيب أحد الصحفيين عندما سأله عما سيفعله بعد الاعتزال، بأنه سيراجع مؤلفاته السابقة دون أن يُغيّر فيها حرفًا واحدًا.

وهذا الشاعر موسى حوامدة يصدر هذا العام الطبعة الثانية من ديوانه الأول "شغب"، الذي صدر في طبعته الأولى عام 1988م دون أن يُغير أو يبدل أو يعيد تحرير ما جاء فيه على ضوء ملاحظات النقاد، وعلى ضوء اتساع أفقه وتجربته. لقد اكتفى - كما ذكر في المقدمة - بأن ترك القصائد كما كتبت أول مرة؛ لتشهد بصدق على بداياته الشعرية، بما فيها من عثرات واخطاء وما تتصف به من تسرع.

على كل حال، تظل الحقيقة ناصعة سواء أعاد الكاتب طباعة كتابه أم أعاد كتابته من جديد فإنه، أي الكاتب لا يقدر أن يطمس أو يغير ما جاء في الطبعة الأولى؛ فإنها صارت بين يدي المتلقي: القارئ أو الناقد، فهو الذي يرى فيها أو في أية طبعات أخر ما يرى. يفسر ويحلل ويقابل ويحكم؛ لأن كل ما يكتبه الأديب، كما يرى الناقد الفرنسي رولان بارت يرثه المتلقي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى