د. المصطفى بلعوام - وقفة عابرة على "بوصلة في مهب الريح" قصة لعلي بنساعود

الجزء الأول:
عالم القاص علي بنساعود القصصي حفر دائب في استكشاف طبقات الذات الإنسانية، الظاهر منها والخفيّ فيها، وبكل تعقيداتها الشخصانية والموضوعية. وهو عالم يختلط فيه دائما البعد النفسي بالبعد الاجتماعي إلى حد يذوب فيه الحد الذي يعطي لكليهما استقلالية معناهما على حدة. فالقصة لديه غالبا ما تنهض على عرض"الحالة le cas"؛ والحالة تمثل في العرْض نقطة تفجيره للخلق الفني بمنأى عن كل إسقاط لمعرفة سيكلوجية ما وكذا خلق قصة إبداعية لحياة عرَض -Le récit de vie d’un symptôme-.ماذا يعني ذلك؟ وهل يمكن الحديث عن "حياة عرَض" دون معرفة سيكولوجية "علمية" مسبقة؟ وما العلاقة بالقصة القصيرة؟ وللجواب على هذه الأسئلة، يتعين علينا تعريف المفاهيم التي تكونها، بدءا من مفهومي القصة والعرَض.
في المتعارف عليه، تتكون القصة من حدث؛ ذاك الحدث الذي يعني اشتقاقا "الذي يأتي من"، وعليه، "يخرج من وضعية"، أي حادث يحدث ذو أهمية وضعية وغير معتاد. ويأخذ في القصة مواصفات وطرق علاجية فنية متعددة. بينما العَرَض يدل في الاشتقاق على الحادثة accident، أي كل ما "يعترض ويطرأ معا"، متميزا بالمظهرية والإزعاج؛ المظهرية بمعنى قابليته لأن يتحول لعَرْض يُتلمس بالنظر والمشاهدة؛ والإزعاج بمعنى أن عَرْضه معادل للضجر والقلق؛ كما الحال في قصة القاص عليبنساعود "بوصلة في مهب الريح"، التي تكتب حياة عَرَض (الكذب) يعرض ويستعرض مسرحيته وتطوره كلما تفاقم فيه الضجر والقلق.
للقصة والعرَض إذن أوجه تشابه، على الأقل، في "الحادث الذي يحدث"،مع فارق هش، يتمثل في أنه عام بالنسبة للقصة وغالبا ما يكون مفردا وغير مرتبط بجوانية ذاتٍ معينة، بينما هو في العرَض خاص ولا يأتي فرادى ومتعلق بجوانية ذاتٍ يشكل لها إزعاجا في وجودها، والذي يأخذ منه مصداقية وجوده. ومن هنا، وبهذا الحد الأدنى في التعريف، يتموقع القاص عليبنساعود بالعرَض في القصة؛ إذ يأتي إليه من موقع القاص لا أقل ولا أكثر، ليمارس عليه فنيته في كتابة حياته، وبالتالي، كتابة قصة إبداعية. وهو نوع من الكتابة التي قلما وجدت لها مثيلا، في حدود ما أعرف وما قرأت، علما مني أن هناك إبداعات كثيرة في القصة القصيرة التي تخصصت نوعا ما في كل ما يمت إلى السيكولوجيا عبر تدويرها وتدبيرها لشخصياتها القصصية.

الجزء الثاني
والفرق بينه وبين هذه الكتابات أنه يكتب حياة عرَض وليس نفسية شخصيات قصصية، وذلك بالتمييز بين العرَض والمرض وعلاقتهما بالمعرفة.
من موقع القاص يكتب عليبنساعود قصة العرَض حسبما يعطيه من مظهرية معمولة بجوانية ذات في حالة مأزمة. العَرض ولا شيء غير العَرض في ديناميته وصيرورته، بعيدا عن التصنيفات التي تحشره في مفاهيم إكلينيكية، مثل عصاب أو ذهان أو ما شابه ذلك، والتي تدور كلها حول مفهوم "المرض". الشيء الذي يعني:
- لا يهمه إلى، حد ما، المرض في ذاته والمعرفة المكونة حوله من طرف المختصين، وإنما المرض في معناه الأول المرتبط بالذات قبل كل شيء: "كل ما خرج بالكائن الحي عن حد الصحة والاعتدال من علة أو نفاق أو تقصير في أمر..." بمعنى أن له بعدا جوانيا في ذاتية الكائن الحية، جسدا ونفسا. إنه العرَض الحدث-الحادثة وتبعاتها في تكوين حياة تتشكل منها وحولها.
- علاوة على ذلك، يركز على معرفة الذات بعرَضها ويجعل منها عالم قصصه ولا ينهض على معرفة المختص في "الأمراض" والتشخيص لها كخلفية تؤطّر مصداقية ما تأتي به وتقوله في "فنية كتابة حياة عرَض"، وإلا فالأصل أليق من النسخة.
كيف نقف بشكل عابر على قصة "بوصلة في مهب الريح" وفق التقديم أعلاه؟

الجزء الثالث أو شهرزاد الصغيرة
تبدأ في العمق قصة "بوصلة في مهب الريح" بعَرَض في حالة كمون بصيغة سؤال: هل صحيح أنكم تربون تمساحا في حوض الاستحمام بالبيت؟ وهو في حالة كمون لا يشي بحقيقته بالتأكيد ولكن بسؤال ينتظر جوابا على أن ثمة شيء ما "ليس على ما يرام"(تعريف لاكان للعرض)؛ وهذا الشيء المجهول الهوية، الذي لا يُبحث فيه عن سببه ولكن عن حقيقة وجوده في واقعيته، يأتي من وراء قصة تمساح تبلبل الزملاء بالقسم وتشغلهم عن الدراسة، حتى أنه لم يعد أي موضوع يشغلهم غير موضوعه. العَرض يبدأ بقصة والقصة تتنامى بمحتويات متعددة لتصبح هي ذاتها العَرض. إنه من الأول اشتباك بالآخر بأوجهه المتعددة المرتبطة بموقعه في العلاقة معه؛ وهنا، نجده يستحضر المعلمة والأم كل حسب خطابه. فالمعلمة ترى في القصة مصدر إزعاج، والأم دلالة تأكيد على العقوق، وفي خطابيهما تحتل صاحبة القصة موقع الموجود بالإقصاء بحيث لا وجود له إلا بالسالب في وجوده الذي يقصيه. ومن هذا الموقع السالب، سيصبح العَرض قضية وجود وحياة أخرى عبر القصص وبالقصص التي تخلقها، وانطلاقا من نقطة مفصلية بينها وبين القصص: "إنني أهوى الكذب، وشغوفة به، وباختراع المغامرات، واختلاق القصص.." وما معنى أن تهوى الكذب وشغوفة به؟ في الصيغة، يبدو أنه صيغة للوجود une modalité d’être، وأنه غاية في حد ذاته بخلقه للمغامرات والقصص لا يخضع لمعيار الواقع: "الإخبار عن الشيء، على خلاف الواقع" (الجرجاني)؛ نوع من l’auto-fictionالذي ينبني على واقعه باللعب على كائنات من كلام، أو قل "شهرزاد الصغيرة" بخاصية اللذة في الحكي أكثر منه من المحكي، شارحة، كما هو حال القاص مع قصصه، كيفية إبداع القصة الكذب: "وأكون في غاية السرور والانشراح حين أبيض كذبة، وأحضنها بين جوانحي حتى تفقس" (عملية اختمار وانتظار)؛ "وتدب بين أصدقائي ومعارفي فينمو لها جناحان، وتحلق بعيونهم نحو الأعالي" ( متابعة مفعولها في الآخر/المتلقي)؛ "ويبدو لي الاهتمام والمفاجأة على عيونهم فيصدقون ما أريد! حينها، أقودهم على متن قوارب الخيال، متلذذة بالسيطرة عليهم."(من اللذة في الحكي إلى اللذة بالسيطرة عن طريق الخيال.)

الجزء الأخير أو شهرزاد الصغيرة
لكن ذا مشروط بمعادل الإقناع والتجديد: "وكلما حكيت، أتذكر أنني أكذب، فأخاف أن يكتشفوا أمري، وينفضوا من حولي، لذلك أحرص على تجديد أكاذيبي وتلميعها وأحاول أن تكون مقنعة."
إنها لا تبحث عن قول الواقع أو حقيقة الأشياء، بل تجري وراء حقيقتها هي فيما تقوله بقصصها وحقيقة قصصها دون حكم قيمة عليها في تزييفها أو لا للواقع. غير أنها في لحظة ما حين يبلغ الشيء حده وينقلب إلى ضده ستجد نفسها في مفترق الطرق بين العرَضي العارض والضروري. وتلك هي نقطة التحول التي سينزلق فيها العَرضي العارض contingent، إلى العَرَضي بالضرورة nécéssaire
-العرضي العارض: "إنني لم أقرر أن أكذب"
العرَضي بالضرورة: "وجدت نفسي مضطرة لإطلاق كذبتي تلك."
لماذا؟ لأن الشيء بلغ حده حين تحولت "المبالغة" من زمامها، وأضحت تفقد بوصلة السيطرة والحكي: "والحقيقة، أنني وجدت نفسي مضطرة لإطلاق كذبتي تلك، عندما بالغ زملائي وزميلاتي في التفاخر بما يملكونه من كلاب وقطط.." الكل "يكذب" والمؤشر يكمن في حقيقة هي نفسها عرضية بمعنى عارض تشي بشكل أو بآخر بمستواهم الاجتماعي في المدرسة: "كيف تسمح لك نفسك بالكذب، ونحن بالكاد نكتري غرفة مع جيران نتقاسم معهم المرحاض..." إنه الكذب في المزاد المدرسي/الاجتماعي بين الزملاء والزميلات والذي عندما بلغ حده/بالغوا انقلب إلى ضده بتهديد كينونة شهرزاد الصغيرة التي لا توجود ولا تحيا إلا من خلال الحكي:"إن بلغني أنك كذبت مرة أخرى، سأبتر لسانك من جذوره!" فشهرزاد الصغيرة دون لسان موت للكلام ولحقيقتها فيه والحقيقة التي تربطها به: أعجوبة خرساء. إنها لا تكذب، فقط تقول حقيقتها على أعتاب فقدانها فعل الكلام (اللسان) لما تصبح قصصها حياة عَرَض يبحث عن حقيقته: "أنا لم أكذب حتى وإن كذبت، فقد قلت بعض الحقيقة .." لهذا، فمحنتها ليست في أن تجد بوصلتها في مهب الريح: " وهل تلك المرأة أمي الحقيقية أم أمي بالتبني؟"، ولكن في التأكد من عدم فقدانها لها حتى لا تفقد وجودها: " كل ما أعرفه هو أنني كل ما استيقظت، أتفقد لساني.."

1727653036671.png



للتحليل قصة أخرى..

___________
* من فاعلية "قصة الشهر/ شتنبر 2024" ضمن فقرات مجموعة"واحة القصة القصيرة" على الفيسبوك، تحت إشراف الأستاذة:(منال خطاب) وإدارة المايسترو الأديب: محسن الطوخي.

_____





د

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى