عبد المتعال الصعيدي - آثار من أولية الشعر.. في الشعر الجاهلي

ظهرت في عصرنا دعوى عريضة، يذهب أصحابها إلى إنكار صحة الشعر الجاهلي، وكان من أكبر ما قامت عليه تلك الدعوى أن هذا الشعر على حسب ما روي لنا يخالف سنة النشوء والارتقاء فيظهر أول ما يظهر بالغاً غاية الكمال، لا شئ ينقصه من جهة الوزن، ولا من جهة القافية، ولا من جهة اللفظ، ولا من جهة المعنى، ومثل هذا لا يمكن قبوله، لأن سنة النشوء والارتقاء من السنن الطبيعية التي لا يشذ شيء عن حكمها، ويجب إنكار ما يأتي على خلاف مقتضاها

فإذا قيل لهؤلاء الناس أن هذا الشعر الجاهلي كان قبله شعر قديم لم يصل إلينا، وقد مر هذا الشعر القديم في أطوار تدرج فيها على سنة النشوء والارتقاء، حتى وصل إلى هذا الشعر الجاهلي فجرى أمره على تلك السنة أيضا، ولم يكن فيه شذوذ عنها، يتخذ ذريعة الى إنكار صحته، والطعن في نسبته إلى عصره

إذا قيل لهم هذا قالوا أن هذا الشعر القديم حديث خرافة أيضا، لأنه لو صح وجوده لكانت له آثار ولو قليلة في الشعر الجاهلي، ولم ينقطع أثره هكذا مرة واحدة، لأن هذا يخالف سنة النشوء والارتقاء أيضاً، فهي كما تقضي بالتدرج من غير الأصلح إلى الأصلح، تقضي ببقاء آثار قديمة فيما تتدرج اليه، لتكون شاهدة بهذا التدرج، وهي المعروفة في مذهب النشوء والارتقاء باسم الأعضاء الأثرية

ولاشك أن هذا اعتراض له قيمته، لأنه يقوم على شاهد من العلم، فلا يقوم في وجهه إلا شاهد يعتمد على العلم كما يعتمد ويتفق مع ما يقضي به مذهب النشوء والارتقاء من سنة التدرج ولا يكفي في إثبات ذلك الشعر القديم الإشارة إليه في مثل قول امرئ القيس:

عُوجَا على الطَّل المحيل لأننا ... نبكي الديار كما بكى ابنِ خذامِ

وقول عنترة:

هل غادرَ الشعراءُ من مُترَدَّمِ ... أم هل عرفتَ الدار بعد توُّهمِ

وقول زهير: ما أُرانا نقول إلا مُعاراً ... أو معاداً من لفظنا مَكرُورا

لأنه لا قيمة لهذه النصوص إذا لم يوجد في الشعر الجاهلي آثار من ذلك الشعر القديم تشهد بوجوده، وتبين بعضاً من حاله قبل أن يصل إلى طور الشعر الجاهلي، لأنه لا يعقل أن يطفر الشعراء كلهم إلى هذا الطور كما طفر مهلهل وامرؤ القيس وغيرهما من القدماء، ولا يوجد بينهم متخلفون قد تبثوا بشيء مما كان عليه الشعر قبل هذا الطور

فذلك الشعر القديم لابد أنه لم يكن مستقيم الوزن، ولم يكن يجري على هذه البحور التي يجري عليها الشعر الجاهلي، فأين أثر ذلك في هذا الشعر؟

وهو أيضاً لابد أن يكون مضطرب القافية، لا يجري فيها على سنن مطرد، ولا يتأنق فيها كما تأنق الشعراء الجاهليون، فأين اثر ذلك في شعرهم؟

فإذا كان ذلك الشعر قد وجد حقاً، فانه لابد أن يبقى اثر من فساد وزنه وقافيته في الشعر الجاهلي، حتى يكون دليلاً ناطقاً بأنه درج على سنة الدرج، ويكون لوجوده فيه دلالة الأعضاء الأثرية على أصلها، وهي دلالة لا تقبل شكا، ولا يمكن أن يجادل فيها أولئك الذين ينكرون صحة الشعر الجاهلي.

وقد عثرت على بعض من هذه الآثار في هذه الأيام، ولا أنكر أنها في كتب متداولة بين الناس، ولكنهم يمرون عليها ولا يعرفون قيمة دلالتها، ولا يلتفتون إلى أنها آثار من ذلك الشعر القديم الذي انطوى عنا خبره، ولا يدركون أن منزلتها في الدلالة على ذلك الشعر، كمنزلة تلك الآثار المطوية في بطون الأرض، في دلالتها على تاريخ آبائنا الأقدمين.

وممن وجد في شعره بعض هذه الآثار عبيد بن الأبرص، وهو شاعر قديم معاصر لمهلهل وامرئ القيس، وقد روي صاحب الأغاني عن محمد بن سلام أنه قال:

عبيد بن الأبرص قديم الذكر، عظيم الشهرة، وشعره مضطرب ذاهب لا أعرف له إلا قوله:

أفقرَ من أهله مَلْحوبُ

ولا أدري له ما بعد ذلك

وهذه القصيدة التي ذكرها ابن سلام أشهر قصائد عبيد ابن الأبرص، ولكنها مع هذا مضطربة الوزن، مختلة القافية، ولا يزال علماء العروض مختلفين في أمرها، فمن قائل أنها من البسيط، ومن قائل أنها من الرجز، ومن قائل أنها خليط منهما، وذلك أنك تراه يقول في مطلعها:

أقفر من أهله ملحوبُ ... فالْقُطَّيِبَّاتُ فالذّنُوبُ

وهذا من مخلع البسيط، ثم تراه يقول:

أفلحْ بما شئت فقد يُدرَكُ بالض ... عفِ وقد يُخْدَعُ الأريبُ

وشطره الأول من الرجز، وشطره الثاني من مخلع البسيط

ثم يقول بعد هذا في اختلال وزن واضطراب قافية:

لا يعظ الناسُ من لا يعظ الدّ ... هْرُ ولا ينفع التَّلْبِيبُ

إلا سَجِيّاتُ ما لقلوبِ ... وكم يصيرَنَّ شائنا حبيبُ

وقد ذكر ابن رشيق أن هذه القصيدة كادت تكون كلاما غير موزون بعلة ولا غيرها، حتى قال بعض الناس: أنها خطبة ارتجلها، فاتزن له أكثرها

والحق عندي أن هذه القصيدة تمثل أولية الشعر العربي خير تمثيل، وتبين أنه لم يكن له أوزان محدودة يتقيد بها، ولا بحور متميزة لا يتعدادها، ولا تجري فيه الحركات والسكنات على لحن مطرد، لا يتغير ولا يتبدل في القصيدة الواحدة، وإن عبيدا في هذا يمثل بين شعراء عصره حال الشاعر المتخلف، لأنه لم يتهيأ له من أسباب النهوض ما تهيأ لهم، فجرى في شعره مجراه الأول، ولم يعبأ بما تقيد به شعراء عصره في أمر الوزن

ومما يروى لعبيد أيضاً من الشعر المختل الوزن قوله:

هي الخمر تكني الطَّلاَ ... كما الذئب يكنى أبا جعده

ومما وقع من هذا الشعر قول علقمة الفحل، وهو شاعر قديم

دافعت عنه بشعري إذا ... كان في الغد أجحد

فكان فيه ما أتاك وفي ... تسعين أسرى مقرنين في صفد

دافع قومي في الكسر إذ ... طار بإظهار الظباة وقد

فأصبحوا عند جفنة في الأغ ... لال منهم والحديد عقد

إذ مجنب في المجنبين وفي ... النكهة عن باد ورشد

فهذه القطعة مما أدخل في جملة شعر علقمة، وهي مختلة الوزن حتى قال بعضهم إنها ليست بشعر

وأما القافية فإنها لدقتها كانت أحكامها تخفي على كثير من الشعراء الجاهليين، فبقي فيها كثير من آثار أولية الشعر كالإقواء والسناد وغيرهما من عيوب القافية، حتى قيل أن الإقواء كان مذهب العرب في شعرهم، ومن ذلك قول امرئ القيس:

أحنظلُ لو حامِيتمُ وصبرتُمُ ... لأثنيتُ خيراً صالحاً ولأرْضاني

ثياب بني عوف طُهارًى نقيَّة ... وأوجههم عند المشاهد غرانُ

عُوَيْرٌ ومن مثل العوير ورهه ... وأَسْعَدَ في ليل البلابل صفوانُ

فقد أصبحوا والله أصفاهم به ... أبَرَّ بأيمان وأوْفَي بجيرانِ

وكذلك كان النابغة الذيباني يقوى في شعره - وهو من متأخري شعراء العصر الجاهلي - وكان لا يعرف أن الإقواء من عيوب القافية، ومن إقوائه قوله في داليته:

أَمِنَ مَيَّة رائحٌ أو مُغْتَدٍ ... عجلانَ ذا زادٍ وغير مُزَوَّدِ

زعم البوارحُ أن رحلتنا غداً ... وبذاك خيرنا الغرابُ الأسودُ

وقوله أيضاً:

سقط النصيفُ ولم ترد إسقاطه ... فتناولته واتقتنا باليدِ

بمُخَضَّب رخْص كأن بَنانه ... عَنَمٌ يكاد من اللطافة يُعْقَدُ

فلما ظهر الإسلام نهض العرب ورق وجدانهم، ولطف ذوقهم، فعرفوا هذه العيوب وتجنبوها، وافتخروا بذلك على الشعراء قبلهم، كما قال ذو الرمة:

وشعرٍ قد أَرْقتُ له طريفٍ ... أجانبه المُسَانَدَ والمحالا

وقال جرير:

فلا إقواء إذ مَرِسَ القوافي ... بأفواه الرواة ولا سِنَادا

وبهذا استقامت قوافي الشعر، واتسقت أوزانه، بعد أن مر في تلك الاطوار، ولم يشذ في ذلك عن سنة النشوء والارتقاء

عبد المتعال الصعيدي


مجلة الرسالة - العدد 454
بتاريخ: 16 - 03 - 1942

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى